الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما رجح ابن جني تعليل سيبويه في المسألة المذكورة جر الوجه تشبيهًا بجر الرجل في المثالين المذكورين ونحوهما؛ لأن لهذا الحمل مسوغًا قويًّا أشار إليه ابن جني بقوله: "وذلك أن الفروع إذا تمكنت قويت قوة تسوغ حمل الأصول عليها؛ وذلك لإرادتهم تثبيت الفرع والشهادة له بقوة الحكم". انتهى.
أما تعليل المبرد؛ فليس له هذه القوة؛ إذ جعل الشيء علة نفسه؛ فتسكين اللام في باب ضربتُ؛ لحركة الضمير، وحركة الضمير لسكون اللام؛ فقال عنه ابن جني: شنيع الظاهر والعذر فيه أضعف منه في مسألة (الكتاب).
تعارُضُ العلل
مادة هذه المسألة ملخصة عن باب أورده ابن جني في (الخصائص): بالعنوان نفسه، وقد ذكر فيه ابن جني أن الكلام في معنى تعارض العلل ضربان:
أحدهما: حكم يتجاذب وجوده وحصوله علتان فأكثر منهما.
والآخر: حكمان في شيء واحد مختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان.
فالأول سبق ذكره عن ابن جني وهو: جواز التعليل بعلتين، ومثل له فيما مثل بقلب الواو ياء في نحو "مسلمِيَّ"؛ لأمرين ذكرناهما هناك.
ومن الأمثلة التي ذكرها في باب تعارض العلل لهذا النوع أيضًا: رفع المبتدأ؛ فالبصريون يعتلون لرفعه بالابتداء، والكوفيون إما يرفعونه بالخبر الذي هو مرافعه؛ فالمبتدأ والخبر عندهم يترافعان؛ وإما بما يعود عليه من ذكره من الخبر على حسب مواقعه؛ وكذلك رفع الخبر، ورفع الفاعل ورفع ما أقيم مقامه، ورفع خبر "إنَّ" وأخواتها، وكذلك نصب ما انتصب، وجر ما انجر، وجزم ما
انجزم، مما يتجاذبه الخلاف في علله؛ فكل واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل. انتهى.
والثاني من ضربي تعارض العلل: كإعمال أهل الحجاز "ما" النافية تشبيهًا لها بـ"ليس"، أي لكونها مثلها لنفي الحال عند الإطلاق، وترك بني تميم إعمالها وإجرائهم إياها مجرى "هل" ونحوها مما لا يعمل؛ فكأن أهل الحجاز لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول "ليس" عليهما ونافية للحال نفيها إياها؛ أجروها في الرفع والنصب مجراها، وكأن بني تميم لما رأوها حرفًا داخلًا بمعناه -يعني: لمجرد إفادة معنى النفي- على الجملة المستقلة بنفسها، ومباشرة لكل واحد من جزئيها؛ كقولك: ما زيد أخوك، وما قام زيد، أجروها مجرى "هل"؛ ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفي دخول "هل عليها" للاستفهام؟! ولذلك كانت عند سيبويه لغة التميميين أقوى قياسًا من لغة الحجازيين. انتهى.
وابن جني يشير بذلك إلى قول سيبويه في (الكتاب): "هذا باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يصير إلى أصله: وذلك الحرف: "ما": تقول: ما عبدُ الله أخاك وما زيدٌ منطلقًا؛ وأما بنو تميم فيجرونها مجرى "أما" و"هل"، أي: لا يعملونها في شيء؛ وهو القياس لأنه ليس بفعل وليس "ما" كـ"ليس" ولا يكون فيها إضمار". انتهى.
يعني سيبويه: أن القياس في "ما" ألا تعمل؛ لعدم اختصاصها لأنها تدخل على الأسماء والأفعال؛ فشأنها شأن سائر الحروف غير المختصة؛ كـ"هل" و"إنما" وهمزة الاستفهام، وهي حرف؛ أما "ليس"؛ ففعل على الصحيح؛ فلا يكون فيها إضمار كـ"ليس"؛ أما "ليس"؛ فيضمر فيها، تقول: لست ولسنا وليسوا
…
إلخ؛ فمذهب التميميين فيها أقوى من مذهب أهل الحجاز الذين أعملوها حملًا
لها على "ليس" في المعنى؛ فإنها مثلها لنفي الحال عند الإطلاق، أي: عند عدم التقيد بزمن آخر غير الحال؛ ومع ذلك فهي عندهم أضعف من "ليس"؛ ولذلك لا يعملونها إلا بشروط، كما عرفت في دراستك إياها في علم النحو.
وكذلك "ليتما" وأصلها: "ليت"، وقد اتصلت بها "ما" الزائدة؛ فمن العرب من يلغيها عن العمل؛ إلحاقًا لها بأخواتها:"إنَّ، وأنَّ، وكأنَّ، ولعلَّ، ولكنَّ" إذا اتصلت بهن "ما" الزائدة؛ فإنها تكفهن عن العمل وتجعلهن حروف ابتداء وتهيئهن للدخول على الجمل الفعلية أيضًا بعد أن كن مختصات بالدخول على الجمل الاسمية، ومن كف "ليت" عن العمل بـ"ما" قال: لا تكون ليت في وجوب العمل بها أقوى من الفعل، وقد نرى الفعل إذا كف بـ"ما" زال عن عمله؛ وذلك كقولهم: قلما يقوم زيد؛ فـ"ما" دخلت على الفعل "قل" كافة له عن عمله.
ومثله "كثُرما" و"طالما"؛ فكما دخلت "ما" على الفعل نفسه فكفته عن العمل وهيأته لغير ما كان قبلها متقاضيًا له؛ كذلك تكون "ما" كافة لـ"ليت" عن عملها ومصيِّرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعًا بعدها.
وبعض العرب يجعل "ليتما" ناصبة للاسم رافعة للخبر من غير أن تكفها "ما" الزائدة عن العمل؛ إلحاقًا لها بحروف الجر التي تدخل عليها "ما" الزائدة فلا تكفها عن العمل، مثل: الباء؛ كقوله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النساء: 155)، و"عن"؛ كقوله تعالى:{عَمَّا قَلِيلٍ} (المؤمنون: 40)، و"من" كقوله تعالى:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} (نوح: 25) في قراءة غير أبي عمرو من السبعة، واللام؛ كقول الأعشى:
إلى ملكٍ خيرِ أربابه
…
فإنَّ لِما كلِّ شيءٍ قرارا
أي: فإن لكل شيء قرارًا.
وذكر ابن جني أن الفرق بين "ليت" وبين "كأنَّ ولعلَّ": أنها أشبه بالفعل منهما، وقال: ألا تراها مفردة وهما مركبتان؟! لأن الكاف زائدة واللام زائدة. انتهى.
وقال السيوطي: وفُرِّق بينها -أي: بين "ليت"- وبين أخواتها بأنها أشبه بالفعل في الإفراد وعدد الحروف. انتهى.
قال الإصباح: فإن "ليت" بوزن "ليس" بخلاف أخواتها. انتهى.
وابن جني إنما ذكر في (الخصائص) الفرق بينها وبين "كأنَّ ولعلَّ" كما أوضحنا قريبًا، والذي يطمئن إليه الضمير العلمي في هذه المسألة في ضوء ما ورد في (الكتاب) لشيخ النحاة سيبويه وغيره ممن تناولها بالبحث والدراسة أن "ليتما" يجوز كفها عن العمل بـ"ما" المتصلة بها وهذا الإلغاء حسن، ويجوز إعمالها واعتبار "ما" زائدة غير كافة، يعني: وهذا الإعمال أحسن.
وقد قال ابن يعيش في (شرح المفصل): "ومن ذلك: "ليتما" الإلغاء فيها حسن، والإعمال أحسن؛ لقوة شبهها بالفعل وعدم تغير معناها". انتهى.
وعكس ذلك الحكم ابن الحاجب في "كافيته" وسار شارحه الرضي على مذهبه؛ فقال ابن الحاجب فيها: "وتلحقها "ما" فتلغى على الأفصح"، وقال الرضي في (الشرح) شارحًا ذلك:"إذا دخلت "ما" على "ليت"؛ جاز أن تعمل وأن تلغى، وروي قوله -أي: قول النابغة-:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتِنا ونصفه فقَدِ
رفعًا ونصبًا، يعني: برفع الحمام على إهمال "ليتما" ونصبه على إعمالها، ولم يسمع الإلغاء والإعمال عن العرب إلا مع "ليتما".
ونتابع مع الرضي شرحه؛ فنجده يقول: والإلغاء أكثر؛ لأنها تخرج بما عن الاختصاص بالجملة الاسمية؛ فالأولى ألا تعمل". انتهى.
ولم يذكر الرضي شاهدًا واحدًا على دخول "ليتما" على الجملة الفعلية؛ بل قال أبو حيان في (ارتشاف الضرب): "وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز كف "ما" لـ"ليت" ولا لـ"لعل"؛ بل يجب إعمالهما؛ فتقول: ليتما زيدًا قائم، ولعلما بكرًا قادم". انتهى.
قال ابن عصفور في (شرح الجمل): "وأما الفراء؛ فزعم أن "ليت" قوي شبهها بالفعل؛ لكونها على مثال من أمثلة الفعل؛ ألا ترى أنها على وزن علْم المخفف من علِم". انتهى.
وإنما كان لـ"ليتما" هذه المكانة مع ما ذكره ابن جني أنَّ أخواتها ورد في فصيح الكلام: وهو القرآن الكريم وبعده كلام العرب، ورد زوال اختصاصها بالدخول على الجمل الاسمية، ودخلت في هذا الكلام الفصيح على الجمل الفعلية؛ قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 38) وقال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون: 115) وقال عز من قائل: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (الأنفال: 6) وقال امرؤ القيس:
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثَّل
…
وقد يدرك المجدَ المؤثَّلَ أمثالي
فأولى "لكنما" الفعل، والمجد المؤثل: هو المجد الثابت الموطد، وقال الفرزدق:
أعد نظرًا يا عبد قيس لعلما
…
أضاءت لك النارُ الحمارَ المقيَّدا
فأولى "لعلما" الفعل.
قال ابن عصفور في المصدر السابق بعد إيراده الشواهد القرآنية والشعرية السابقة التي زال فيها من الأحرف الخمسة المذكورة اختصاصها: "وأما "ليتما"؛ فلم تولها العرب الفعل قط؛ لا يحفظ من كلامهم: ليتما يقوم زيد". انتهى.