الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع
(الاحتجاج باللغات، وامتناع الأخذ عن أهل المدر، وكلام العربي المتنقل، وتداخل اللغات)
اللغات والاحتجاج بها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن علماء العربية لم يأخذوا عن جميع القبائل العربية، وإنما أخذوا عن القبائل التي سَلِمَ أهلها من الاختلاط بالأعاجم، وانحصرت هذه القبائل في ستّ وهي: قيس، وتميم، وأسد، وهذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين.
وقد اختلفت لغات هذه القبائل وتعدَّدت أوجه الاختلاف بينها:
فمنها: أن يكون الاختلاف في الحذف والإثبات، وذلك نحو: استحيت واستتحييت.
ومنها: أن يكون الاختلاف في الإمالة والتفخيم في مثل: قضى ورمى فبعضهم يفخم وبعضهم يُميل.
ومنها: أن يكون الاختلاف في صورة الجمع، فبعضهم يجمع لفظ أسير على أسرى، وبعضهم يجمعه على أُسارى.
ومنها: أن يكون الاختلاف في الإعراب وذلك نحو: ما زيد قائمًا، وبعضهم يقول: ما زيد قائم، برفع الجزأين.
وقد أفرد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: اختلاف اللغات وكلها حجة، وعليه عوَّل السيوطي في موضعين من كتابه (الاقتراح) أولهما هنا، والآخر في الكتاب السادس من (الاقتراح) المسألة الثانية، والمراد باللغات لغات القبائل المأخوذ عنها والمعتدّ بفصاحتها.
وبتأمّل ما ذكره ابن جني ونقله السيوطي يمكن تقسيم الاختلاف بين لغات العرب قسمين:
أحدهما: أن يكون الاختلاف بين لغتين متقاربتين يقبلهما القياس.
والآخر: أن يكون الاختلاف بين لغتين متباعدتين بأن تكون إحداهما قليلة جدًّا، والأخرى تكون كثيرة جدًّا، ولكلٍّ حكم.
أولًا: الاختلاف بين لغتين متقاربتين:
إن كان الاختلاف بين لغتين متقاربتين، وكان القياس يقبلهما، فقد بيَّن ابن جني الحكم في هذه الحالة فقال:"ليس لك أن تردَّ إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخيَّر إحداهما فتقويِّها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشدّ أُنسًا بها. فأما ردُّ إحداهما بالأخرى فلا". ومعنى ما قاله ابن جني: أن اللغتين المتقاربتين اللتين يقبلهما القياس يجب قبولهما، ولا يجوز ردُّ إحداهما بالأخرى مع اختيار واحدة منهما؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما في وقت واحد.
ونسوق هنا مثالين يدلَّان على هذه القاعدة:
المثال الأول: إعمال "ما" وإهمالُها، فللعرب في ذلك مذهبان:
أحدهما: إعمال ما عمل ليس فترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر خبرًا لها بشروط، وهي لغة الحجازيين؛ إذ يقولون: ما زيد قائمًا بنصب الخبر، والآخر إهمالها فتدخل على المبتدأ والخبر، فتفيد معنى النفي ولا تعمل شيئًا في المبتدأ والخبر وهي لغة بني تميم؛ إذ يقولون: ما زيد قائم بالرفع، واللغتان يقبلهما القياس؛ فقد عملها الحجازيون حملًا لها على ليس؛ لأن "ما" تشبه ليس في الجمود ونفي الحال، فلما أشبهت "ما""ليس" عملت عملها فرفعت الاسم ونصبت الخبر. وأهملها بنو تميم فلم تعمل عندهم شيئًا؛ لأنه قد فُقد منها شرط
العمل وهو الاختصاص، إذ تقرر أن غير المختص لا يعمل كحروف الاستفهام، فإنه يقع بعدها الاسم والفعل؛ فلا تختص بأحدهما دون الآخر.
وكذلك "ما" فإنها تدخل على الأسماء والأفعال، فالأصل ألا تعمل، ولذلك وصف سيبويه في (الكتاب) وصف إهمالها بأنه هو القياس فلما كانت اللغتان -لغة الإعمال ولغة الإهمال- متقاربتين؛ لم يجز ردُّ إحداهما بالأخرى، وإنما نقدم إحدى اللغتين على الأخرى، مع اعتقادنا أن اللغة الأخرى صحيحة فصيحة فنقول: إن لغة الحجازيين في إعمال "ما" هي المقدمة وهي العليا التي نزل بها القرآن الكريم قال تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) فـ"ما" في الآية الكريمة يقال: إنها نافية، وإنها بمعنى ليس، وتعمل عمل ليس، واسم الإشارة اسمها في محل رفع، و {بَشَرًا} خبرها منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. وقال عز وجل:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2) فـ"ما" هي ما النافية الحجازية التي تعمل عمل ليس، والضمير:{هُنَّ} في محل رفع؛ لأنه اسمها، وأمهاتي من:{أُمَّهَاتِهِمْ} ؛ لأنه جمع مؤنث سالم منصوب؛ لأنه خبرها، وعلامة نصبه الكسرة؛ لأن هذه العلامة هي العلامة التي تكون علامة لنصب جمع المذكر السالم. وأمهات مضاف وهم مضاف إليه.
وإنما قُدمت لغة الحجازيين؛ لكثرة استعمالها وشيوع المسموع بها؛ لأنه إذا تعارض قوَّة القياس وكثرة الاستعمال قُدِّم ما كَثُر استعماله، كما جاء في (الخصائص).
والمثال الثاني: حكم الاستثناء المنقطع، والمراد بالاستثناء المنقطع: هو ما كان المستثنى فيه من غير جنس المتستثنى منه، وذلك نحو: ما في الدار أحد إلا حمارًا، فحمارًا هو المستثنى وليس من جنس المستثنى منه، وللعرب في هذا النوع من الاستثناء مذهبان:
أحدهما: وجوب النصب وهي لغة الحجازيين، والإعراب على لغتهم ما: نافية. وفي الدار: جار ومجرور متعلق بمحذوف لأنه خبر مقدم للمبتدأ وهو "أحد" المرفوع. وإلا: أداة استثناء. وحمارًا: مستثنى مع أنه مستثنى منقطع إلا أنه عندهم منصوب على الاستثناء.
والآخر: جواز الإتباع بأن يكون المستثنى تابعًا للمستثنى منه؛ رفعًا أو نصبًا أو جرًّا، وهي لغة تميم، والإعراب عندهم. ما: نافية. وفي الدار: جار ومجرور خبر مقدم. وأحد: مبتدأ مؤخر. وإلا: أداة استثناء. وحمار: بالرفع بدل من أحد المستثنى منه المرفوع.
فالمستثنى هو تابع للمستثنى منه على البدلية ولكلٍّ وجهٌ، فقد أوجب الحجازيون النصب؛ لأنه لا يصح الإبدال فيه حقيقةً من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وقد قال سيبويه في (الكتاب):"وكرهوا أن يُبدلوا الآخر من الأول، فيصير كأنه من نوعه؛ فحُمِلَ على معنى: ولكنَّ، وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم". انتهى.
وأجاز بنو تميم الإتباعَ، والباعثُ عليه واحد من ثلاثة: إما الحمل على المعنى؛ لأن المقصود هو المستثنى فالقائل: ما في الدار أحد إلا حمار، بالرفع على لغة بني تميم، كأنه أراد: ما في الدار إلا حمار، وأُدخلت أحد توكيدًا، وإما أنهم جعلوا الحمار من جنس أحد على سبيل المجاز، وإما أنهم خلطوا من بعض ما يعقل بما لا يعقل فغلَّبوا مَن يعقل، فقالوا: ما فيها أحد. وهم يريدون من يعقل ومن لا يعقل ثم أبدلوا من أحد على هذا التأويل، واللغتان متقاربتان فلا يجوز ردُّ إحداهما بالأخرى؛ لأن سعة القياس تُبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم.
ثانيا: الاختلاف بين لغتين متباعدتين:
إن كان الاختلاف بين لغتين متباعدتين بأن كانت إحداهما كثيرة جدًّا، وكانت الأخرى قليلة جدًّا؛ فقد بين ابن جني حكم هذه الحالة بقوله:"تأخذ بأوسعهما روايةً، وأقواهما قياسًا" ومعنى ما قاله ابن جني أن اللغات القليلة لا يُقاس عليها، وإنما يقتصر فيها على المسموع، ولا يتجاوز. وقد أفرد ابن فارس في كتابه (الصاحبي) بابًا لهذه اللغات القليلة عنوانه: باب اللغات المذمومة، كما أفرد لها السيوطي النوع الحادي عشر في كتابه (المزهر)، عنوانه: معرفة الرديء المذموم من اللغات، وفي وصف هذه اللغات بأنها رديئة ومذمومة ما يدلُّ على أنها لا يُقاس عليها، وإنما يُكتفى فيها بما سمع عن العرب، فلا يجوز أن يقول قائل: أكرمتكش. بزيادة الشين بعد كاف الخطاب المنصوبة؛ قياسًا على مَن ألحقها بالمجرورة، فقال: مررت بكش؛ لأن هذه اللغة قليلة وتُسمى الكشكشة ولا يقاس عليها.
ونختم ببيان أمرين:
الأول: أن هذه اللغات القليلة يجب أن يقلَّ استعمالها، وأن يكثر استعمال ما هو شائع من اللغات إلا أن استعمال شيء من اللغات القليلة لا يُعَدُّ خطأً يُلام صاحبه عليه، ولا يقال: إن من استعملها قد أخطأ، وإنما يقال: إن مَن يستعمل هذه اللغات يكون مخطئًا لأجود اللغتين حين ترك القوي من اللغات واستعمل الضعيفَ، أو ترك الكثير واستعمل القليلَ.
والثاني: أنه لو اضطر شاعر فاستعمل شيئًا من هذه اللغات القليلة فإنه لا يكون ملومًا على استعماله، وكذلك لو ألجأ السجع أحد المتكلمين به إلى استعمال شيء من هذه اللغات فله ارتكاب ذلك بلا لَوْم ولا نسبة لخطأ ولا إنكار عليه في ذلك؛ لِمَا تقرر أن الضرورات تُبيح المحذورات.