الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علة امتناع الأخذ عن أهل المدر
إن المراد بالمدر: المدن والحضر، وأصل المدر في اللغة قطع الطين، وسميت الحاضرة بذلك؛ لأن بيوتها ومبانيها تكون من المدر، وقد عرفنا أنه لم يؤخذ عن حضري قط؛ لأن الحاضرة محل اجتماع الناس من كل جانب واختلاط اللغات واختلال الألسنة، وأن ابن جني قد أفرد في (الخصائص) بابًا لعلة امتناع الأخذ عن أهل المدر، قال فيه:"علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل".
وفي ضوء ما ذكره ابن جني ونقله السيوطي، نعلم أن الحاضرة بذاتها ليست مانعة من الاحتجاج، وإنما امتنع الاحتجاج بكلام أهلها؛ لأنه يغلب عليهم الاحتكاك بغير العرب من الأمم، والاختلاط بالأعاجم، وفساد الألسنة، ومع أن العلماء قد نصُّوا على عدم الاحتجاج بكلام أهل المدر، نجد ابن جني قد بيَّن أن المعيار في الاحتجاج وعدمه ينحصر في أمر واحد، وهو الفصاحة بقاؤها أو عدمها، فمن بقيت فصاحته قُبلت لغته وإن كان من أهل المدر، ومن زالت عنه الفصاحة لم يُؤخذ بكلامه وإن كان من أهل الوبر. يقول ابن جني:"ولو عُلم أن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم؛ لوجب الأخذ عنهم كما يُؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاد عادة الفصاحة وانتشارها؛ لوجب رفض لغتها وترك تلقّي ما يَرِد عنها".
ومعنى ما ذكره ابن جني ونقله عنه السيوطي: أن الفصاحة الكاملة هي المعيار في قبول الكلام أو ردّه، والمقياس الذي يُعتمد عليه في الاحتجاج وتركه، فلو بقي
أهل مدينة على فصاحتهم وجب الأخذ عنهم والاحتجاج بكلامهم، ولو عرض لأهل البادية ما يقدح في فصاحتهم تعين ترك لغتهم وبطل الأخذ عنهم؛ لأن الحكم دائر مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجدت الفصاحة الكاملة والوثوق؛ صح الاحتجاج من كِلا الفريقين، ومتى انتفى ذلك انتفى الاحتجاج.
ومن هذا يتبين أن علماء العربية قد دقَّقوا النظر فيما يأخذون عنهم، فلم يأخذوا إلا عن قوم اطمأنوا إلى فصاحتهم، ووثقوا بصفاء لغتهم، وخلوص عربيتهم، ويدل على ذلك قول سيبويه في (الكتاب):"وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حرمل. يريد يا حرملة"، وقوله:"وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيته في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحد مات". انتهى.
ونلحظ في كلام سيبويه أنه ينقل عن الثقات من العرب، والثقات هم الذين لم يعرض لكلامهم ما يمنع من أخذه والاحتجاج به، ومن أجل ذلك وجدنا ابن جني لا يثق بكل أعرابي، وإن كان أكثر كلامه مقبولًا، لا سبيل إلى الطعن في فصاحته، بل يدعو إلى الاطمئنان إلى أن لغته ليس فيها ما يقدح في فصاحتها، أو ينال منها، أو يغضُّ من شأنها فيقول -رحمه الله تعالى-: لا نكاد نرى بدويًّا فصيحًا وإن نحن آنسنَا منه فصاحة في كلامه، لم نكد نعدم ما يفسد ذلك، ويقدح فيه، وينال ويغض منه". انتهى.
وقد استدلَّ ابن جني على فساد سليقة الأعراب في زمنه وقبل زمنه بأمور:
منها: أنه قد طرأ عليه أحد من يدَّعي الفصاحة البدوية فتلقى ابن جني أكثر كلامه بالقبول له، وميزه تمييزًا حَسُنَ في النفوس موقعه إلى أن وقع في كلامه ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، ولا ورد بمثله سماع.