الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(القياس (3))
المقيس، وهل يُوصف بأنه من كلام العرب أوْ لَا
؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
لقد عرفنا -فيما سبق- أن القياس هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه، أو هو حمل فرع على أصل بعلة تقتضي إجراء حكم الأصل على الفرع، أو هو إلحاق الفرع بالأصل بجامع
…
إلى آخر هذه التعريفات التي اختلفت ألفاظها وتقاربت معانيها؛ كما عرفنا أن للقياس أربعة أركان، وهي: المقيس عليه، والمقيس، والحكم، والعلة الجامعة، وقد بدأ السيوطي فصل المقيس في كتاب (الاقتراح) بسؤال وهو: هل يوصف المقيس بأنه من كلام العرب أو لا؟.
وقد صرح ابن جني في (الخصائص) بأن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، ولم يصغ القضية على هيئة سؤال؛ أما السيوطي فقد بدأ الفصل بهذا السؤال: هل يوصف المقيس بأنه من كلام العرب؟
والذي دفع السيوطي إلى طرح هذا السؤال: أن المقيس يتنازعه أمران؛ لأنه قد صيغ في قوالب العرب، وجاء على نهج كلامهم، ونسج على منوالهم، ثم إن العرب لم تتكلم به؛ فإذا نظر إلى الأمر الأول قيل: إن المقيس يوصف بأنه من كلام العرب، وإذا نظر إلى الأمر الثاني قيل: إنه ليس من كلامهم، هذا هو مراد السيوطي من سؤاله.
وقد أجاب عنه بأن: المقيس يوصف بأنه من كلام العرب؛ إذ قال: قال المازني: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، ولنا وقفة مع السيوطي في نسبة هذا القول إلى المازني، وقد سبقه إلى ذلك ابن جني في (الخصائص) فقال:"نص أبو عثمان -أي: المازني- عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب". انتهى.
والحق أن أبا عثمان المازني مسبوق بهذا القول؛ إذ سبقه إليه الخليل وسيبويه، وذلك فيما أورده ابن جني من كلام المازني نفسه في كتاب (المنصف) وهو شرح لكتاب (التصنيف) للمازني؛ فقد قال ابن جني: "وكان أبو الحسن الأخفش يجيز أن تبني على ما بنت العرب وعلى أي مثال سألته، إذا قلت له: ابن لي من كذا
مثال كذا، وإن لم يكن من أمثلة العرب، ويقول: إنما سألتني أن أمثل لك؛ فمسألتك ليست بخطأ وتمثيلي عليها صواب، وكان الخليل وسيبويه يأبيان ذلك ويقولان: ما قيس على كلام العرب؛ فهو من كلامهم". انتهى.
ويتبين مما سبق: أن هذه العبارة صدرت أول ما صدرت عن شيخي العربية: الخليل، وسيبويه، وقد نقلها عنهما المازني؛ فنسبت إليه.
ونعود إلى الإجابة على سؤال (الاقتراح):
إن المقيس على كلام العرب يوصف بأنه من كلامهم حكمًا وعملًا وإن لم يرد ذلك عنهم بعينه ولا وفاه بألفاظه، وقد بين المازني الدليل على صحة هذا القول؛ قال ابن جني في (الخصائص): باب: في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب: "هذا موضع شريف وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه، والمنفعة به عامة، والتساند إليه مقوٍّ مجدٍ، وقد نص أبو عثمان عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؛ ألا ترى أنك لم تسمع ولا غيرك اسم كل فعل ولا مفعول؛ وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره؛ فإذا سمعت: قام زيد، أجزت: ظرف بشر، وكرم خالد؟! ". انتهى.
ومن المعلوم أن السيوطي قد اعتمد على كتاب (الخصائص) لابن جني؛ غير أنه قد اختصر الكلام اختصارًا غير مخل؛ فكلام ابن جني أكثر نفعًا وأتم فائدة، وبخاصة تلك الأمثلة التي ذكرها ولم يذكرها السيوطي في (الاقتراح)، وهي تدل على أن المقيس يوصف بأنه من كلام العرب، ويدل على ذلك أمور:
منها: إعراب بعض الكلمات غير العربية، ومن ذلك قول أبو علي الفارسي شيخ ابن جني:"إذا قلت: طاب الخشكنان؛ فهذا من كلام العرب؛ لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب" انتهى؛ فالخشكنان كلمة معربة، والمراد
بها: خالص دقيق الحنطة إذا عجن وملئ بالسكر واللوز وماء الورد وجمع وخبز، وهي كلمة غير عربية -كما سبق أن بينا- غير أنها سبقت بفعل فأعربت فاعلًا؛ فصار هذا الكلام عربيًّا منسوبًا إلى لغة العرب، وإن لم تنطق العرب به ولا فاهوا بهذه اللفظة؛ وإنما صار هذا الكلام عربيًّا لأنه قيس على كلام العرب وداخله الإعراب.
ومنها: إجراء الكلمات الأعجمية مجرى العربية، فإن العرب قد أجرت الكلمات الأعجمية جرى كلامها العربي في الصرف والمنع من الصرف، وبيان ذلك ذكره ابن جني بقوله:"ما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها؛ ألا تراهم يصرفون في العلم نحو: آجر، وإبريسم، وفرند، وفيروزج، وجميع ما تدخله لام التعريف، وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو: الديباج، والفرند، والسهريز -وهو ضرب من التمر- والآجر، أشبه أصول كلام العرب -أعني: النكرات- فجرى في الصرف ومنعه مجراها". انتهى.
ومعنى ما ذكره ابن جني: أن العرب قد عاملت الأسماء الأعجمية معاملة الأسماء العربية في الصرف والمنع منه؛ فإذا كانت الكلمة الأعجمية علمًا تدخله اللام صرفته؛ لأنه يشبه النكرة.
ومنها: الاشتقاق من الأعجمي، فإن العرب قد اشتقت من بعض الكلمات الأعجمية، ومن ذلك: ما حكاه أبو علي عن ابن الأعرابي أنه قال: يقال درهمة الخُبَّازة أي: صارت كالدراهم؛ فاشتق من الدرهم -وهو اسم أعجمي.
وحكى أبو زيد: رجل مدرهم، أي: كثير الدراهم.
ومما اشتقته العرب من كلام العجم أيضًا: ما جاء في قول الراجز:
هل تعرف الدار لأم الخزرج
…
منها فظلت اليوم كالمزرج
أي: الذي شرب الزرجون، وهي الخمر؛ فاشتق المزرج من الزرجون، وهي كلمة أعجمية، وكان قياسه كما في (الخصائص): كالمزرجن؛ من حيث كانت النون في زرجون قياسها أن تكون أصلًا؛ إذ كانت بمنزلة السين من قربوسٍ؛ ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلَّطت فيه.
ووجه الاستدلال بهذه الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها: أن العرب قد أعربت غير العربي وأجرته مجرى الكلام العربي واشتقت منه؛ فدل ذلك كله على أن المقيس على كلام العرب يجوز وصفه بأنه من كلامهم، وقد قال أبو علي: لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبني بإلحاق اللام اسمًا وفعلًا وصفةً؛ لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرْجج أكرم من دخْلل، وضرْبب زيد عمرًا، ومررت برجل ضرْبب وكرْمم، ونحو ذلك. انتهى.
ومعنى هذا الكلام: أنه يجوز للمتكلم أن يصوغ أبنية بإلحاق اللام في آخر الكلمة، ومعنى الإلحاق ذكره ابن جني في (المنصف) فقال:"الإلحاق إنما هو: زيادة في الكلمة تبلغ بها زنة الملحق به؛ لضرب من التوسع في اللغة"، وقال في (المنصف) أيضًا:"لو اضطر شاعر الآن لجاز أن يبني من ضرب اسمًا وصفة وفعلًا وما شاء من ذلك فيقول: ضرْبب زيدٌ عمرًا، ومررت برجل ضرْبب، وضرْبب أفضل من خرْجج". انتهى.
وقال الرضي في شرحه على (الشافية): "ومعنى الإلحاق في الاسم والفعل: أن تزيد حرفًا أو حرفين على تركيب زيادة غير مطردة في إفادة معنى؛ ليصير ذلك التركيب بتلك الزيادة، مثل كلمة أخرى في عدد الحروف وحركاتها المعينة والسكنات، كل واحد في مثل مكانه في الملحق بها، وفي تصاريفها من الماضي والمضارع والأمر والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول إن كان الملحق به فعلًا
رباعيًّا، ومن التصغير والتكسير إن كان الملحق به اسمًا رباعيًّا لا خماسيًّا. وفائدة الإلحاق: أنه ربما يحتاج في تلك الكلمة إلى مثل ذلك التركيب في شعر أو سجع". انتهى.
فبالإلحاق إذًا تزداد العربية غنًى وثراءً، وتتمكن من الوفاء بحاجة الشاعر والناثر؛ فربما احتاج هذا أو ذاك إلى كلمة معينة تقيم للشعر بنيانه أو تحفظ للسجع كيانه؛ فيجد كل منهما في الإلحاق طلبته ويعثر فيه على بغيته.
وقد ذكر أبو علي الفارسي وأبو عثمان المازني وغيرهما: أن إلحاق المطرد الذي لا ينكسر إنما يكون موضعه من جهة اللام -أي: أن يكون موضع اللام من الثلاثة مكررًا للإلحاق- نحو: "جلْبب"؛ فالباء في آخره زائدة للإلحاق، وكذلك الجيم في "خرْجج"، واللام في "دخْلل"، والباء في "ضرْبب"؛ فهذه كلها زوائد للإلحاق بـ"فعلَلَ" ولا يلزم أن تكون لها معانٍ معروفة؛ وإنما ذلك تمرين للصرفيين إذا أرادوا بناء مثال على مثال؛ ولذلك قال الفارسي فيما نقله السيوطي: وكذلك يجوز أن تبني بإلحاق اللام ما شئت كقولك: خرْجج ودخْلل وضرْبب من خرج ودخل وضرب على مثال: شمْلل وسعْرر. انتهى.
ومعنى شملل: أسرع وشمر، وسعرر بالعين المهملة من قولهم: سعرر الشيء فتسعرر، أي: دحرجه فتدحرج واستدار.
وكما أن أبا علي الفارسي قد ذهب إلى أن ما قيس على كلام العرب: فهو من كلامهم؛ فإن تلميذه ابن جني قد وافقه في هذا الأمر -كما سبق- وزاد أمثلة لم يذكرها شيخه، وقد نقل السيوطي بعضها، وننقل هنا كلام ابن جني كاملًا؛ إذ إن فيه دلالة واضحة على مذهبه فقد قال رحمه الله في (الخصائص): "ومما يدلك على أن ما قيس على كلام العرب فإنه من كلامها: أنك لو مررت على
قوم يتلاقون بينهم مسائل أبنية التصريف -أي: يلقي بعضهم على بعض أسئلة عن هذه الأبنية- نحو قولهم في مثال: صمحْمَح، ومن الضرب: ضربْرَب، ومن القتل: قتلْتَل، ومن الأكل: أكلْكَل، ومن الشرب: شربْرَب، ومن الخروج: خرجْرَج، ومن الدخول: دخلْخَل، ومن مثل سفرجل من جعفر: جعفرَر
…
ونحو ذلك؛ فقال لك قائل: بأي لغة يتكلم هؤلاء؟ لم تجد بدًّا من أن تقول بالعربية وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه الحروف". انتهى.
وذكر ابن جني في (الخصائص): أن الأصمعي قال له الخليل: إن رجلًا أنشده:
ترافع العز بنا فارفنْعَعا
فقال الخليل للمنشد: هذا لا يكون! فتعجب الأصمعي وقال للخليل: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تقاعس العز بنا فاقعنْسَسا
يعني: أن المنشد قد قاس إنشاده وبنى "فارفنععا" على قول العجاج في أرجوزته: "فاقعنسسا"؛ فلم منعته؟ قال ابن جني موضحًا ظاهر ما تدل عليه هذه القصة: فهذا يدل -يعني بظاهره- على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم؛ ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيد قومه وكاشف قناع القياس في علمه؛ كيف منع من هذا؟! ولو كان ما قاله أبو عثمان يعني قوله: ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، وصحيحًا ومذهبًا مرضيًّا لما أباه الخليل ولا منع منه.
وقد أجاب ابن جني عن هذا بعدة أوجه، وخلاصة هذه الأوجه: أن الأمر ليس كما يظهر منه؛ فالأصمعي لم يقف على القصة بحذافيرها؛ فهو ليس ممن ينشط للمقاييس ولا لحكاية التعليل ومعروف بقلة انبعاثه في النظر، وتوفره على ما يُروى ويُحفظ، فمن الجائز أن الخليل قد أمسك عن شرح الحال له لمعرفته بهذه
الصفات فيه، أو أن الخليل أنكر ذلك لأنه في ما لامه حرف حلقي والعرب لم تبنِ المثال مما لامه حرف حلق، خصوصًا وحرف الحلق فيه متكرر، وذلك مستنكر عندهم مستثقل؛ وإنما استنكر العرب ذلك لتوالي العينين، وفي تواليهما من التنافر والثقل ما لا يخفى؛ فالثقل هو المانع، لا ما قد يقال من القياس، وقد اكتفى السيوطي بإيراد الجواب الأخير في (الاقتراح)، ولم يذكر غيره مما ذكره ابن جني؛ لأن هذا الوجه -كما وصفه ابن جني- هو ألطف من جميع ما جرى ذكره من أجوبة وأصنعه، أي: أقربه إلى قواعد الصنعة وأصولها.
ونختم الحديث بما ذكره ابن جني من أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، نحو قولك في بناء مثل جعفر من ضرب: ضرْبَب، وهذا من كلام العرب، ولو بنيت مثله ضيْرَب، أو ضوْرَب، أو ضرْوَب
…
أو نحو ذلك؛ لم يعتقد من كلام العرب؛ لأنه قياس على الأقل استعمالًا والأضعف قياسًا.
ومعنى ما قاله ابن جني أن قولك: ضرْبَب -الملحق بجعفر- معدود من كلام العرب لكثرته في كلامهم؛ لأن الإلحاق المطرد يكون بتكرير اللام، أما الإلحاق بغير تكرير اللام كزيادة الياء في قولك: ضيْرَب أو زيادة الواو في قولك: ضوْرَب أو ضرْوَب؛ فهو قليل في الاستعمال ضعيف في القياس، وما كان كذلك لم يجز الرجوع إليه ولا القياس عليه.
وقد اعتمد ابن جني فيما اعتمد عليه في ذلك على ما ذكره أبو عثمان المازني من أن أقيس الإلحاق أن يكون بتكرير اللام؛ فباب شمللتُ وسعررتُ أقيس في الإلحاق من باب حوقلتُ وبيطرتُ وجهورتُ، وهذا التفصيل الذي ذكره ابن جني هو الذي مشى عليه كثير من المحققين.