الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن جني رحمه الله: ومما يقبح تقديمه الاسم المميز وإن كان الناصبه فعلًا متصرفًا؛ فلا نجيز: شحمًا تفقَّأتُ، ولا عرقًا تصببتُ، وأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل:
أتهجر ليلى بالفراق حبيبَها
…
وما كان نفسًا بالفراق تطيب
فتقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق أيضًا: وما كان نفسي بالفراق تطيب؛ فرواية برواية والقياس من بعد حاكم
…
انتهى.
وأوضح ابن جني أن التمييز في البيت المذكور في الأصل هو الفاعل في المعنى؛ فأصل الكلام: تصبب عرقي، وتفقأ شحمي، ثم حول الإسناد عن الفاعل الواقع مضافًا إلى ياء المتكلم إلى المضاف إليه، أي: إلى ياء المتكلم؛ فحوِّلت إلى ضمير رفع لوقوعها فاعلًا؛ فحصل في الإسناد إلى هذا الضمير إبهام؛ فجيء بالمضاف الذي كان فاعلًا وجعل تمييزًا، ويقال عنه: إنه تمييز محول عن الفاعل؛ فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل؛ فكذلك لا يجوز تقديم المميز؛ إذ كان هو الفاعل في المعنى على الفعل.
ترجيحُ لغةٍ على أُخرى
لقد أفرد ابن جني بابًا في كتابه (الخصائص) عنوانه: باب اختلاف اللغات وكلها حجة، وعليه عوَّل السيوطي في هذه المسألة؛ فقد أجاز ابن جني فيه الاحتجاج بجميع لغات العرب، وليس المراد جميع ما نطق العرب به؛ بل المراد باللغات لغات القبائل التي يؤخذ عنها يؤخذ عنها ويعتد بفصاحتها؛ إذ إن علماء العربية لم يأخذوا عن جميع القبائل؛ وإنما أخذوا عن بعضها وأعرضوا عن بعض؛ فأخذوا عن القبائل التي سلم أهلها من الاختلاط بالأعاجم وأعرضوا عن
القبائل التي لم تسلم من مخالطة الأعاجم فتسرب إلى ألسنتهم اللحن والخطأ في البنية أو التركيب.
وقد قال ابن جني: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة؛ اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم؛ ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله؟! وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها؛ لكن غاية ما لك في ذلك: أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسًا بها؛ فأما رد إحداهما بالأخرى فلا" انتهى.
ونلحظ في كلام ابن جني أن له عناية واضحة بالقياس، وقد تجلت هذه العناية في أمرين:
أحد هذين الأمرين: أنه قد جعل اللغات على اختلافها حجة إذا كانت هذه اللغات موافقة للقياس، فإن كانت إحداها مخالفة له؛ فهي لغة مردودة مرغوب عنها.
والآخر: أنه قد أوجب على المتكلم أن يختار إحدى اللغتين وهو معتقد أنه الأقوى قياسًا وأن يترك الأخذ بالأخرى وهو معتقد أنها الأضعف من جهة القياس؛ كما نلحظ أن ابن جني يرفض رد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنهما متساويتان في قبول القياس لهما؛ ولذلك قال: فأما رد إحداهما بالأخرى فلا.
وقوله: "غاية ما لك في ذلك: أن تتخير إحداهما"، معناه: أن الواجب على المتكلم إذا وجد لغتين يقبلهما القياس: أن يتخير إحدى اللغتين لعدم إمكان الأخذ بهما معًا؛ إذ لا يمكن الجمع بين لغتين في وقت واحد، وضرب ابن جني لذلك مثلًا، وهو: إعمال "ما" وإهمالها؛ فإن للعرب لغتين في ذلك:
الأولى: إعمالها عمل "ليس"، وهي لغة الحجازيين.
والثانية: إهمالها، وهي لغة التميميين.
والقياس يقبل اللغتين ولا يرد واحدة منهما، وقد سبق أن فصلنا القول في اللغتين.
ومما تقدم نلحظ أن اللغتين يقبلهما القياس؛ فيجب قبولهما، ولا يجوز رد واحدة منهما؛ وإنما تقدم إحداهما على الأخرى مع الاعتقاد بصحة الأخرى وفصاحتها، واللغة المقدمة من هاتين اللغتين هي لغة الحجازيين في إعمال "ما" عمل "ليس"؛ لأنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم؛ إذ يقول الله تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31)، وقد كثر استعمالها كثرة ظاهرة ولا يجوز رد لغة التميميين؛ لأن هاتين اللغتين لغتان متساويتان في القياس؛ فليست إحداهما أحق من الأخرى؛ أما إذا تباعدت اللغتان فكانت إحداهما كثيرة جدًّا وكانت الأخرى قليلة جدًّا؛ فلا يجوز القياس على اللغة القليلة؛ وإنما يقتصر فيها على المسموع ولا يتجاوز.
وقد ذكر ابن جني أنه: "إن قلت: إن إحدى اللغتين قلت جدًّا وكثرت الأخرى جدًّا؛ أخذتَ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسًا؛ ألا ترى أنك لا تقول: مررت بَك، ولا: المال لِك؛ قياسًا على قول قضاعة: المال لِه، و: مررت بَه؛ و: لا أكرمتُكِش؛ قياسًا على لغة من قال: مررت بكِش، وعجبت منكِس" انتهى.
ومعنى ما ذكره ابن جني: أن كسر كاف المخاطب لا يجوز قياسًا على كسر الهاء؛ كما لا يجوز زيادة الشين بعد كاف الخطاب المنصوبة قياسًا على من ألحقها بالمجرورة؛ فمثل هذا لا قياس عليه؛ بل يقتصر فيه على المسموع ولا يتجاوز.