الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتعارض بين قياسين، والتعارض بين السماع والقياس؛ فهذه المسائل تتناول التعارض بين أدلة النحو وأصوله؛ إذ إن السماع والقياس من أدلة النحو الغالبة؛ كما أن بعض هذه المسائل ليس من تعارض الأدلة النحوية؛ كالتعارض بين ارتكاب ضعيف وارتكاب لغة شاذة، وتعارض القولين لعالم واحد، وما رجحت به لغة قريش على غيرها من لغات العرب، والترجيح بين البصريين والكوفيين
…
وغيرها؛ فهذه المسائل ليست من تعارض الأدلة.
تعارض نقلين
إن التعارض بين نقلين هو المسألة الأولى من مسائل التعارض والترجيح، والمراد به: أن يدل دليل من السماع على حكم ويدل دليل آخر على خلافه، وقد نقل السيوطي هذه المسألة عن الأنباري الذي قال في (لمع الأدلة):"اعلم أنه إذا تعارض نقلان أُخِذ بأرجحهما، والترجيح يكون في شيئين: أحدهما: الإسناد، والآخر: المتن؛ فأما الترجيح في الإسناد؛ فأن يكون رواة أحدهما أكثر من الآخر، أو أعلم وأحفظ؛ وأما الترجيح في المتن؛ فأن يكون أحد النقلين على وفق القياس، والآخر على خلاف القياس" انتهى.
ومعنى ما ذكره الأنباري ونقله السيوطي عنه: أنه قد يرد في كلام العرب دليل نقلي يدل على حكم من الأحكام النحوية ثم يرد دليل آخر يقتضي خلاف ما دل عليه الدليل الأول، وإذا وقع مثل ذلك كان هناك سبيلان للترجيح بين هذين الدليلين المتعارضين:
أحدهما: أن يكون الترجيح بالإسناد.
والآخر: أن يكون الترجيح بالمتن.
ومعنى الترجيح بالإسناد: أن يكون رواة أحد الدليلين أكثر أو أعلم أو أحفظ من رواة الدليل الآخر؛ فيكون الدليل الذي كثر رواته أو سلموا من الطعن أولى بالقبول من الدليل الذي قل رواته أو لم يسلموا من الطعن فيهم.
ومثال الدليلين المتعارضين اللذيْن رجح الإسناد أحدهما وضعف الآخر: قول الشاعر:
اسمع حديثًا كما يومًا تحدِّثُه
…
عن ظهر غيب إذا ما سائل سأل
فقد روي قوله: "تحدِّثُه" بروايتين: "تحدِّثُه" و"تحدِّثَه" -بالرفع والنصب- فاستدل الكوفيون برواية النصب على أن "كما" تأتي بمعنى: "كيما"، ويكون المضارع بعدها منصوبًا، وذهب البصريون إلى أن "كما" لا تكون بمعنى:"كيما"، ولا يجوز نصب المضارع بعدها، وحجتهم في ذلك: أن رواية النصب في "تحدِّثُه" لم يذكرها إلا المفضل الضبي وحده، وقد أجمع الرواة من البصريين والكوفيين على رواية الرفع:"تحدِّثُه"، فلما كان رواة الرفع أكثر وأعلم وأحفظ؛ كانت روايتهم راجحة على رواية من روى البيت بالنصب؛ وبذلك يكون الإسناد هو الذي رجح أحد النقلين على الآخر.
ومعنى الترجيح بالمتن: أن يكون أحد النقلين موافقًا للقياس ويكون النقل الآخر مخالفًا له؛ فيكون الدليل الذي جاء موافقًا للقياس أولى بالقبول وأحق بالترجيح.
ومثاله قول الشاعر:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى
…
وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مخلِدي
فقد روي قوله: "أحضر" بروايتين: "أحضرُ" و"أحضرَ" بالرفع والنصب، واستدل الكوفيون برواية النصب على أن الأصل: أن أحضرَ؛ فدل هذا على جواز إعمال "أنْ" محذوفة في غير مواضع حذفها المقررة في علم العربية؛ ومنع ذلك البصريون إذ إن "أنْ" لا يجوز إعمالها عندهم محذوفة في غير مواضع حذفها،
وردوا قول الكوفيين بقولهم: إن رواية الرفع جاءت موافقة للقياس، ووجه موافقتها له: أن "أنْ" من عوامل الفعل وهي ضعيفة؛ فينبغي ألا تعمل من غير عوض، ويدل على ضعفها أنَّ من العرب من يهملها مظهرة ويرفع "ما" بعدها تشبيهًا لها بـ"ما" المصدرية؛ كما جاء في قراءة ابن محيصن:"لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ"(البقرة: 233) برفع "يُتِمُّ"؛ ولما كانت "أنْ" ضعيفة عن العمل كان القياس ألا تعمل وهي محذوفة، وعلى القياس جاءت رواية الرفع في قول الشاعر:"أحضر الوغى"، ولما كان القياس يقتضي ألا تعمل "أنْ" وهي محذوفة كانت رواية الرفع أولى وأرجح من رواية النصب في قول الشاعر:
ألَا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى
…
..................................
…
البيت، ونلحظ على هذا المثال أن السيوطي قد نقله من (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري، وقد سبق إلى الترجيح بالمتن ابن جني في كتابه (الخصائص)؛ إذ ذكر أن القياس يكون حكمًا بين النقلين المتعارضين، وذلك في مسألة تقديم التمييز على عامله المتصرف؛ فقد اختلف النحويون في تقدم التمييز على عامله المتصرف؛ فذهب فريق من النحويين إلى جوازه؛ فأجازوا أن يقال مثلًا: عرقًا تصببتُ؛ مستدلين في إحدى روايتي هذا البيت:
أتهجر ليلى بالفراق حبيبَها
…
وما كان نفسًا بالفراق تطيب
فقد روي البيت بنصب "نفسًا" على التمييز فتقدم التمييز "نفسًا" على عامله المتصرف "تطيب"، ومنع فريق من النحويين أن يتقدم التمييز، وذكروا أن هذه الرواية تقابلها رواية أخرى، وهي: وما كان نفسي بالفراق تطيب برفع نفسي لأنها اسم كان وتطيب خبرها، كأنه قال: وما كان نفسي طيبة؛ فتعارض نقلان، وقد منع ابن جني تقديم التمييز على عامله المتصرف، ورجح رواية الرفع على رواية النصب؛ وكان القياس هو المرجح لأن التمييز فاعل في المعنى، ولا يجوز تقديم الفاعل على الفعل؛ فكذلك التمييز.