الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلاف في التعليل بالعلة القاصرة
ذكر السيوطي نقلًا عن أبي البركات الأنباري: "أن العلماء قد اختلفوا في التعليل بالعلة القاصرة، وهي التي لا تتجاوز محل النص المعلل بها إلى غيره، فجوَّزها قوم، ومنعها قوم آخرون، ومثَّل لها بالعلة في قولهم: "ما جاءت حاجتك"، بنصب "حاجتك"، وقولهم: "عسى الغوير أبؤسًا"، فإن "جاءت" و"عسى" فيهما أُجريَا مُجرى "صار"؛ فجعل لهما اسم مرفوع وخبر منصوب، ولا يجوز أن يجري مجرى "صار" في غير هذين المثالين، فلا يقال مثلًا: ما جاءت حالتك، أي: ما صارت. ولا جاء زيد قائمًا، أي: صار زيد قائمًا، كما لا يجوز عسى الغوير أنعمًا، ولا عسى زيد قائمًا؛ بإجراء عسى مُجرى صار".
وبيان ذلك: أن الأصل في جاء أن يكون فعلًا كسائر الأفعال، ومن العرب مَن لا يجعله متعديًا فيقول: جاء زيد إلى عمرو. ومنهم من يعدِّيه فيقول: جاء زيد عمرًا. فأما قول العرب: ما جاءت حاجتك، فمعناه: أية حاجة صارت حاجتك، فما في التركيب اسم استفهام مبتدأ في محل رفع، وجاءت بمعنى صارت، فهي فعل ماضٍ ناسخ ككان، واسمها ضمير مستتر فيها، وحاجتك خبرها، ومضاف إليه، والجملة الفعلية خبر ما في محل رفع.
وأما قولهم: "عسى الغوير أبؤسًا"، فالغوير: تصغير غارٍ، والأبؤس: جمع بؤس وهو الشدة، والمعنى: لعل الشَّرَّ يأتيكم من قبل هذا الغار يُضرب للرجل يقال له: لعل الشر جاء من قبلك. والشاهد في المثالين العربيين: أن العلة فيهما لا تتجاوزهما لغيرهما، واستدلَّ أبو البركات الأنباري على صحتها بأنها ساوت العلة المتعدية في الإخالة والمناسبة، وزادت عليها بظاهر النقل، أي: فيما هي
خاصة به ومقصورة عليه، فإن لم يكن ذلك علامة للصحة؛ فلا أقل من ألا يكون علامة على الفساد. والإخالة هي المناسبة، فالعطف عطف تفسير، ومعنى الإخالة والمناسبة بيان وجه الارتباط والتعلق بين العلة والحكم.
وهناك رأي آخر مقابل للرأي السابق في العلة القاصرة ذكره السيوطي نقلًا عن الأنباري أيضًا، وهو: أن هناك قومًا قالوا عنها إنها علة باطلة لأن العلة إنما تراد لتعديتها، أي: لتعدية حكم الأصل إلى الفرع، وهذه العلة لا تعدية فيها، فلا فائدة لها لأنها لا فرع لها، والحكم فيها ثابت بالنص لا بها، أي: فيكون ذكرها حينئذٍ عبثًا. وأجيب بأنا لا نسلم أن العلة إنما تُراد للتعدية، فإن العلة إنما كانت علة لإخالتها ومناسبتها لا لتعديتها، أي: وإن كانت التعدية لازمة لها غالبًا، ولا نسلم أيضًا عدم فائدتها، فإنها تفيد الفرق بين المنصوص الذي يُعرف معناه، والمنصوص الذي لا يُعرف معناه، وهو الذي يقال له سماعي؛ فلا يقاس عليه لعدم تعقُّل معنى الحكم حتى يُنظر أوجد في غيره أم لا؟
وتفيد كذلك أنه ممتنع ردُّ غير المنصوص عليه، وتفيد أيضًا أن الحكم ثبت في المنصوص عليه بهذه العلة، وهذه الإجابة من الأنباري تدلُّ على أنه ممن يرى جواز التعليل بالعلة القاصرة لتعدد فوائدها. ونقل السيوطي عن ابن مالك ذكره في (شرح التسهيل):"أنهم علَّلوا سكون آخر الفعل المسند إلى التاء، ونحوه بقولهم: لئلا تتوالى أربع حركات فيما هو كالكلمة الواحدة، وهذه العلة ضعيفة لأنها قاصرة؛ إذ لا يوجد التوالي إلا في الثلاثي الصحيح، وبعض الخماسي كانطلق وانكسر، والكثير لا يتوالى فيه والسكون عام في الجميع، قال السيوطي: "فمنع -أي: ابن مالك- العلة القاصرة".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.