الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(الاحتجاج بكلام المولدين، وأول الشعراء المحدثين، والاحتجاج بكلام مجهول قائله، وقولهم: "حدثني الثقة")
حكم الاحتجاج بكلام المولدين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالمولد هو: المحدث من كل شيء ومنه المولدون من الشعراء، سمُّوا بذلك لحدوثهم، وقد ذكر السيوطي في بداية هذا الفرع الإجماع على أن كلام المولدين لا يكون حجة؛ فقال:"أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية" انتهى.
ولنا مع كلام السيوطي ثلاث وقفات:
الأولى: لبيان المراد بمن أجمعوا على عدم الاحتجاج بكلام المولدين والمحدثين.
والثانية: لبيان معنى عطف المحدثين على المولدين، وهل هما بمعنى واحد أم بمعنيين مختلفين؟.
والثالثة: لبيان معنى عطف العربية على اللغة، وهل هما بمعنًى واحد أم بمعنيين مختلفين؟.
أما قوله: "أجمعوا" فإن الذين أجمعوا على ذلك هم أئمة النحو والصرف واللغة، أما علماء المعاني والبيان والبديع فإنهم يستدلون بأشعار جميع أنواع الشعراء على اختلاف طبقاتهم؛ سواء أكانوا من القدماء أم من المحدثين.
وأما قوله: "لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين" ففيه عطف المحدثين على المولدين، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وبناء على ذلك يكون المولدون غير المحدثين عند السيوطي. وقد ذكر العلامة عبد القادر البغدادي المتوفى سنة ألف وثلاث وتسعين من الهجرة أنهما بمعنًى واحد، فذكر أن شعراء الطبقة الرابعة هم المولدون وقال:"ويقال: لهم المحدثون" فطبقات الشعراء عنده أربعة طبقات.
الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم الذين كانوا قبل الإسلام كعنترة وامرئ القيس والأعشى وغيرهم.
والثانية: الشعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد بن ربيعة العامري وحسان بن ثابت.
والثالثة: الشعراء الإسلاميون، ويقال لهم: المتقدمون، وهم الذين نشئوا في الإسلام كجرير والفرزدق.
والرابعة: المولدون، ويقال لهم: المحدثون، وهم من بعدهم إلى زمننا هذا كبشار بن برد وأبي نواس.
وذهب ابن الطيب الفاسي المتوفى سنة ألف ومائة وسبعين من الهجرة إلى أن المولدين هم الذين هم الذي جاءوا بعد الإسلاميين، وأما المحدثين هم الذين جاءوا بعدهم، وأما المتأخرين هم الذين جاءوا بعدهم من شعراء الحجاز والعراق. وهذا الذي ذكره ابن الطيب الفاسي لا فائدة فيه ولا ثمرة منه.
وقد اتفق العلماء على صحة الاحتجاج بشعر الطبقتين الأولى والثانية من الطبقات الأربع، واختلفوا في الاحتجاج بشعر الطبقة الثالثة وهي طبقة الإسلاميين؛ فمنع أبو عمرو بن العلاء الاحتجاج بما جاء في أشعارهم، وقال عن جرير:"لقد أحسن هذا المولد حتى لقد هممت أن آمر صبياننا برواية شعره"، فوصف جريرًا بأنه مولد؛ لأن أبا عمرو لم يكن يحتجّ إلا بأشعار المتقدمين، يقول الأصمعي:"جلست إليه عشر حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي"، وذهب غير أبي عمرو إلى جواز الاحتجاج بشعر هذه الطبقة الثالثة، وهو صحيح.
أما الطبقة الرابعة -وهي طبقة المولدين أو المحدثين- فالصحيح أنه لا يجوز الاحتجاج بكلامها على اللغة والنحو والتصريف، وإلى هذا ذهب جمهور
العلماء، وخالف الزمخشري ومن تبعه فاحتجوا بأشعار المحدثين، وقد استشهد الزمخشري ببيت لأبي تمام عند تفسيره قوله تعالى:{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) فذكر أن الظاهر في الفعل أظلم أن يكون متعديًا، واستدل على تعديته بقراءة "أُظلم" على ما لم يُسمَّ فاعله، وبقول أبي تمام:
هما أظلما حاليّ ثمّ تأجْليَا
…
ظلاميهما عن وجهِ أمردَ أشيبا
وحجته -أي: الزمخشري- في ذلك أن أبا تمام ليس كغيره من الشعراء المولدين، بل هو إمام في هذا الفن، عارف بمقاصده الغامضة، فكما أن العلماء كانوا يستشهدون بأبيات الحماسة التي رواها أبو تمام ثقة بروايته؛ فكذلك يجوز عند الزمخشري الاستشهاد بما يقول أبو تمام، وفي ذلك يقول الزمخشري في (الكشاف):"وهو -أي: أبو تمام- وإن كان محدثًا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه" انتهى.
ولم يرتضِ جمهور العلماء ما ذهب إليه الزمخشري من التسوية بين ما يقوله أبو تمام وما يرويه، بل ذهبوا إلى التفرقة بينهم وهو الصحيح؛ لأن الرواية مبنية على الضبط والوثوق، والقول مبنيّ على الدراية والإحاطة بأوضاع اللغة وقوانينها، وإتقان الرواية لا يلزم منه إتقان القول؛ لأنه جمع في الحماسة أشعار من يجوز الاستشهاد بأشعارهم، فمن أين يجب أن يكون ما استعمله في شعره مسموعًا ممن يُوثق به، أو مأخوذًا من استعمالهم.
وقد خطأ النحاة واللغويون أبا تمام والمتنبي والبحتري وأضرابهم من الشعراء في أشياء كثيرة، ومما يُضعف ما ذهب إليه الزمخشري أن الإنسان قد يتساهل فيما ينطق به دون ما ينقله إذا كان عدلًا، وأنه لو فُتح هذا الباب؛ لجاز الاحتجاج
بكل ما وقع بشعر المحدثين، ومع ضعف ما ذهب إليه الزمخشري وجدنا من علماء العربية من يوافقه ويأخذ به، وهو العلامة الرضي الذي استشهد بشعر أبي تمام في عدَّة مواضع من (شرح كافية ابن الحاجب)، وبذلك يكون الزمخشري أوَّل من جوز الاحتجاج بشعر أبي تمام، فإن قيل: إن أبا علي الفارسي قد ذكر بيتًا لأبي تمام في كتابه (الإيضاح) وهو قوله:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روض الأماني لم يزل مهمومًا
وفيه دليل على أن الفارسي هو أول من استشهد بشعر أبي تمام؛ لأنه يسبق الزمخشري. أجيب بأن الفارسي لم يذكر هذا البيت على سبيل الاستشهاد به، وإنما ذكره على سبيل التمثيل، وقد أحسن ابن أبي الربيع إذ ذكر في شرحه على (الإيضاح) أن النحويين لهم أن يضعوا أمثلة من عندهم؛ لبيان ما تقرر عندهم من قوانين العربية، وقد رأى الفارسي أن يأتي بهذا البيت عوضًا من مثال من عنده؛ استحسانًا للفظه ومعناه، وكأنه قال: لو قلت: من كان همه بطنه لم يزل ممقوتًا؛ لجاز في بطنه الرفع والنصب.
ونعود إلى تحليل كلام السيوطي، وإلى قوله:"في اللغة والعربية"، وفيه عطف العربية على اللغة، فهل هما متغايران، أم أن هذا العطف من قبيل عطف العام على الخاص؟ الظاهر أنهما متغايران، وأن المراد باللغة متنها، أي: متن اللغة، وهو معرفة الألفاظ المفردة، وأن المراد بالعربية التراكيب النحوية والتغايير الصرفية؛ فلا يُحتج فيها بكلام المولدين، وقد نبَّه بعض شراح (الاقتراح) على أن العروض والقوافي من العلوم العربية التي لا يُقبل فيها إلا كلام العرب بطبقاتهم، دون كلام المولدين. وفي كلام السيوطي احتراز عن علوم المعاني والبيان والبديع، فلم ير علماء هذه العلوم بأسًا في الاحتجاج بكلام المولدين على المعاني.