الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو القول الذي يجري على ألسنة المعربين، وقد قال ابن مالك في ألفيته:
ارفع مضارعًا إذا يُجرَّد
…
من ناصب وجازم كتسعدُ
ونلحظ أن الأنباري قد أبطل هذا الرأي اعتمادًا على أن التجرد عن الناصب والجازم معناه: أن الفعل كان متلبسًا بهما قبل الرفع؛ ولكن يمكن أن يجاب عنه: بأن المراد بتجرد المضارع عن الناصب والجازم عدمُهما؛ وعبر عن العدم بالتجرد تنزيلًا للإمكان منزلة الحضور كما قالوا عند حفر بئر: "ضيِّقْ فمَها" أي: أوجدها ضيقة الفم.
ونختم الحديث بقول أحد الباحثين المعاصرين: والحق أن استدلال الأنباري السابق يبدو عليه التكلف؛ إذ يمكن الاعتراض عليه من عدة أوجه؛ فمن الممكن أن نقول: إن التعري أسبق من التقييد؛ فالتعري أولًا؛ ولما كان الرفع هو الأول كان ملازمًا للتعري؛ كما يمكن أن يقال: إن الفعل المضارع رفع لأنه لم يدخل عليه ناصب فينصبه ولا جازم فيجزمه، دون أن نمس أسبقية الرفع للنصب والجزم، يضاف إلى ذلك أن عوامل النصب والجزم في المضارع عارضة، وعندما لا تأتي هذه العوارض فإن المضارع يأخذ الحكم الأول؛ ولما كان الرفع الأول أخذ المضارع الرفع.
الاستدلال بعدم النظير
لقد أفرد ابن جني لعدم النظير بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في عدم النظير، ولخصه السيوطي في (الاقتراح) وبدأه بقوله: ومنها الاستدلال بعدم النظير
…
يعني: ومن أدلة النحو المتفرقة التي لا تحصر: عدم النظير: والمراد به: ألا يكون للشيء نظائر في بابه، بمعنى: أنه واحد لم يرد به سماع، ومعنى الاستدلال به: النفي لعدم وجود دليل الإثبات؛ ولذلك قال السيوطي: وإنما يكون دليلًا على النفي لا على الإثبات، ومعنى ما ذكره السيوطي: أن النظير يصحح الحكم
النحوي وأن عدمه ينفيه، وقد أكثر النحويون من الاحتكام إلى النظائر، وتعددت أقوالهم الدالة على قبولهم ما له نظير وردهم ما ليس له نظير.
ومن أقوالهم الدالة على ذلك قولهم: الحمل على ما له نظير أولى من الحمل على ما لا نظير له، وقولهم: ما لا نظير له في العربية ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية يكون فاسدًا، وقولهم: الحمل على ما له نظير -وإن قل وخرج عن القياس- أولى من قول لا نظير له، وقولهم: إذا أدى القول إلى ما لا نظير له وجب رفضه واقتراح الذهاب إليه.
ومع كثرة أقوال النحويين في هذا الشأن فإنه لا يشترط إيجاد النظير في إثبات شيء إذا قام الدليل معه؛ وإنما يجب إيجاد النظير إذا لم يقم الدليل، وإلى هذا الأمر أشار ابن جني بقوله في (الخصائص):"أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير، وذلك مذهب صاحب (الكتاب)؛ فإنه حكى فيما جاء على فعِل "إِبِلًا" وحدها، ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير؛ لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه" انتهى.
ومعنى ما ذكره ابن جني: أن سيبويه رحمه الله لم يذكر مما جاء على وزن فعِلٍ -بكسر الفاء والعين- إلا كلمة واحدة وهي: "إبِلٌ"، وقال في (الكتاب):"لا نعلم في الأسماء والصفات غيره" انتهى.
ولم يمنع سيبويه هذا الوزن مع أنه لا يعلم له نظيرًا؛ لأنه قد قام الدليل من السماع الصحيح على وجوده، وإذا قام الدليل على إثبات شيء لم يكن هنا حاجة إلى إيجاد نظيره ولا عبرة بعدمه، وإذا وُجِد فإنه يكون مؤنسًا ولا يتوقف ثبوت الحكم عليه، وقد قال ابن جني في (الخصائص):"إذا قام الدليل لم يلزم النظير" انتهى.
ومما قام الدليل على صحته ولا نظير له في الكلام: لفظ "أَنْدَلُس" -بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال وضم اللام- وقد قام الدليل فيه على زيادة النون: وهو أنه لو لم يحكم بزيادتها لحكم بأصالتها؛ فيكون الوزن فَعْلَلُلًَا، وليس في ذوات الخمسة الأحرف شيء على وزن "فَعْلَلُلٍ" تكون فيه النون أصلًا لوقوعها موقع العين؛ فوجب أن تكون النون زائدة، وأن يكون على وزن "أَنْفَعُلٍ" -بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وضم العين- وليس في العربية على هذا الوزن غير هذا اللفظ، وهو مقبول غير مردود، مع أنه بناء لا نظير له؛ وإنما قُبِل هذا البناء مع عدم نظيره لقيام الدليل عليه.
والدليل: هو أن النون زائدة لا محالة، وإذا ثبت زيادة النون بقي في الكلمة ثلاثة أحرف أصول، وهي: الدال، واللام، والسين، وفي أولها همزة؛ ومتى وقع ذلك حكمت بزيادة الهمزة؛ لأنها واقعة قبل ثلاثة أصول، ولا تكون النون أصلًا والهمزة زائدة؛ لأن ذوات الأربع لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو: مدحرِج وبابه؛ فقد وجب إذًا أن الهمزة والنون زائدتان؛ وعليه تكون الكلمة على وزن: "أَنْفَعُلٍ"، وإن كان مثالًا لا نظير له.
ومما قام الدليل على صحته ولم يثبت له في الكلام نظير أيضًا: ما ذكره سيبويه من أنه قد ثبت في كلامهم فعُلتَ تفعَل -بضم العين في الماضي وفتحها في المضارع- وهو: كُدْتَ تكاد، ولا يوجد غيره؛ كما أثبت سيبويه وزنًا هو "إِنْفَعْلٌ" -بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون العين- وقد أثبته سيبويه بكلمة "إِنْقَحْلٍ": وهو الرجل الذي يبس جلده على عظمه من البؤس والكبر والهرم، وإن لم يحكِ غيره.
ومن هذه الأمثلة وغيرها يتبين لنا: أنه إذا قام الدليل على صحة شيء لم تكن هناك حاجة إلى النظير، وقد أشار إلى ذلك ابن جني بقوله في (الخصائص): "ألا
تعلم أن القياس إذا أجاز شيئًا وسُمِع ذلك الشيء عينه؛ فقد ثبت قدمه وأخذ من الصحة والقوة مأخذه، ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير؛ لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوسًا به فليس في واجب النظير إيجاده" انتهى.
وقال: "وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يحكم به حتى يوجد له نظير؛ وذلك أن النظير -لعمري- مما يؤنس به؛ فأما ألا تثبت الأحكام إلا به؛ فلا" انتهى.
ومعنى ما ذكره ابن جني: هو أن النظير يوجد للأنس به عند عدم الدليل ولا يُلتفت إليه ولا يُعوَّل عليه إذا قام الدليل على حكم نحوي؛ وإذا ورد الدليل فإن عدم النظير لا يضر، وأنه لا يُنظر إلى عدم النظير عند قيام دليل الحكم وثبوته؛ وإنما تكون الحاجة إلى إيجاد النظير إذا لم يقم الدليل.
وقد نبه ابن جني على ذلك بقوله في (الخصائص): "فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير؛ ألا ترى إلى "عِزْوِيت" لما لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلل بالنظير؛ فمنعت من أن يكون "فِعوِيلًا" لما لم تجد له نظيرًا وحملته على "فعليت"؛ لوجود النظير وهو: عفريت، ونفريت؟! " انتهى.
ويفيد كلام ابن جني هنا أن النظير يحتاج إليه إذا لم يقم الدليل؛ فلفظ "عِزْوِيت" ومعناه: القصير، أو هو اسم موضع لا دليل فيه على أن واوه وتاءه حرفان أصليان؛ فربما يكونان أصليين وربما يكونان زائدين، ويختلف وزنه باختلاف القول بأصالتهما وزيادتهما؛ فيحتمل أن يكون على وزن "فِعويل" وأن يكون على وزن "فِعليت"، والوزن الأول -فعويل- لا نظير له، والثاني -فعليت- له نظير نحو: عفريت ونفريت؛ فصح أن القول بأنه على وزن "فعليت" هو القول المرضي لوجود نظائره.
وإذ قد انتهينا إلى معرفة أن النظير يحتاج إليه إذا لم يكن هناك دليل؛ فإننا نشير إلى أن النحويين قد احتجوا كثيرًا بعدم النظير، وردوا ما لا نظير له في الكلام، والأمثلة على ذلك في النحو والصرف كثيرة جدًّا، نذكر منها ما يلي:
أولًا: ما استدل به المازني ردًّا على من زعم أن السين و"سوف" ترفعان الفعل المضارع؛ فقد رد المازني هذا القول بأنه لا يوجد في العربية عامل في الفعل تدخل عليه اللام، وقد دخلت اللام على "سوف" في قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) فالقول بعمل "سوف" يفضي إلى عدم النظير.
ثانيًا: احتج به أبو عليٍّ الفارسي على من قال: إن النون في "شيطان" زائدة، واستدل على أن لفظ "شيطان" على وزن "فَيْعالٍ"، مثل لفظ:"بَيْطارٍ" وليس على وزن "فعلان" اعتمادًا على ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: شيطنته فتشيْطن؛ فلو كان من شاط يشيط؛ لكان شيطنته فتشيطن: فعلنته فتفعلن، ولا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم؛ مما يدلك على أنه على فَيْعلته مثل بَيْطرته.
ووجه الاستدلال بما ذكره أبو علي أنه استدل على أصالة النون في لفظ "شيطان" بما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: "تشيطن" وهو على وزن "تفيعل" لا "تفعلن"؛ إذ ليس من أبنيتهم -أعني: من أوزانهم-: تفعلن؛ فالنون هي لام الكلمة؛ فحمل أبو علي لفظ تشيْطن على ما له نظير نحو: تدهقن، أي: صار دهقانًا، وهو -أي: الدهقان-: رئيس القرية أو الكثير المال، ولم يحمله على ما لا نظير له في كلامهم.
ثالثًا: احتج به ابن جني على رد قول المازني: إن الواو في "حيوان" أصلية وغير منقبلة عن ياء، ورد عليه بأن ما عينه ياء ولامه واو غير موجود في الكلام ولا نظير له، وذكر أن ما أجازه المازني مخالف للخليل وسيبويه؛ لأنهما يريان أن
أصل حيوان: "حييان"، بياءين؛ فقلبت الياء الواقعة لامًا واوًا استكراهًا لتوالي ياءين، ولا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو؛ فذلك لا نظير له؛ فلا بد أن تكون الواو بدلًا من ياء.
رابعًا: احتج به أبو علي الشَّلَوبين على رد قول من قال: إن الواو والألف والياء في الأسماء الستة علامات إعراب؛ لأن قوله يؤدي إلى عدم النظير، وأوضح بأنا إذا قلنا بذلك في "فوك وذو مال" كان كل واحد منهما اسمًا معربًا على حرف واحد، وهذا لا نظير له في الأسماء المبنية إلا في الضمائر المتصلة بها؛ فما ظنك به في الأسماء المعربة؟!.
خامسًا: احتج به الأنباري على رد مذهب الكوفيين في إعراب الأسماء الستة وتأييد مذهب البصريين؛ إذ ذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد، والواو والألف والياء هي حروف الإعراب، وذهب الكوفيون إلى أنها معربة من مكانين، وأيد الأنباري مذهب البصريين بأن له نظيرًا لأن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد؛ كما رد مذهب الكوفيين بأنهم ذهبوا إلى ما لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان، والمصير إلى ما له نظير أولى من المصير إلى ما لا نظير له.
سادسًا: احتج به ابن مالك على رد مذهب الزجاج والسيرافي في فتحة: "لا رجلَ وشبهِه"، فقد ذهب الزجاج والسيرافي إلى أن هذه الفتحة فتحة إعراب وأن التنوين حذف منها تخفيفًا ولشبهه بالمركب، ورده ابن مالك بأنه يستلزم مخالفة النظائر؛ لأن الاستقراء قد أطلعنا على أن حذف التنوين من الأسماء المتمكنة لا يكون إلا لمنع صرف، أو للإضافة، أو لدخول الألف واللام، أو لكونه في علم موصوف بابن مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، واسم لا النافية للجنس ليس واحدًا مما سبق.