الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد بين الأنباري ضعف الاستدلال بالاستصحاب في مسألة "نِعم" و"بئس"؛ إذ ذهب البصريون إلى أنهما فعلان واستدل بعضهما على فعليتهما باتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف؛ فإنه جاء عن العرب قولهم: نعما رجلين ونعموا رجالًا؛ كما استدل بعضهم على فعليتهما باتصالهما بتاء التأنيث الساكنة كقولهم: نعمت المرأة هند، وبئست الجارية دعد؛ فهذه التاء يختص بها الفعل الماضي لا تتعداه.
ومن البصريين من ذهب إلى أن "نِعم" و"بئس" فعلان مستدلًّا على فعليتهما بأن قال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان: أنهما مبنيان على الفتح، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه؛ إذ لا علة ها هنا توجب بناءهما
…
انتهى.
ولم يرتضِ الأنباري الاستدلال بهذا الدليل الأخير؛ لأنه استدلال بالاستصحاب؛ فقال: وهذا تمسك باستصحاب الحال، وهو من أضعف الأدلة، والمعتمد عليه ما قدمناه، أي: أن المعتمد عليه في إثبات فعلية "نعم" و"بئس": هو اتصال الضمير المرفوع بهما كما يتصل بكل فعل متصرف، واتصالهما بتاء التأنيث الساكنة.
وخلاصة القول: أن الاستصحاب من أدلة النحو عند الأنباري ما لم يوجد دليل غيره؛ فإن وجد دليل غيره كان الاستدلال به ضعيفًا.
الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب
لقد ذكر الأنباري أن أدلة النحو الغالبة ثلاثة أدلة، وهي: النقل، والقياس، واستصحاب الحال، وكل دليل من هذه الأدلة الثلاثة يمكن الاعتراض عليه؛ ولذلك عقد في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) ثلاثة فصول، تناول فيها الاعتراض على أدلة النحو الغالبة مبينًا كيفية الجواب عما يمكن أن يرد على هذه الأدلة من اعتراضات:
فأول الفصول الثلاثة: الاعتراض على الاستدلال بالنقل.
وثانيها: الاعتراض على الاستدلال بالقياس.
وثالثها: الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال، وهو الذي يعنينا في هذا الدرس.
وقبل أن نذكر ما قاله الأنباري في هذا الفصل ونقله عنه السيوطي في (الاقتراح) نشير إلى أن المراد بالاعتراض في اللغة هو المنع والحيلولة؛ إذ يقال: عرض الشيء يعرض واعترض: انتصب ومنع، وصار عارضًا كالخشبة المنتصبة في النحو والطريق تمنع السالكين سلوكها، ولا ينفك المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ فالمراد بالاعتراض هنا: الحيلولة بين المستدل وما يستدل به على حكم من أحكام النحو.
وقد عرف أحد الباحثين الاعتراض على الدليل بأنه: ما يمنع به المعترض استدلال المستدل بدليله؛ فإذا كان المستدل يستدل على مسألة ما بدليل من السماع مثلًا؛ فإن هناك أمورًا يمنع بها المعترض هذا الاستدلال؛ كأن يطعن في السند أو يعترض على المتن باختلاف الرواية أو نحو ذلك؛ وإذا كان المستدل يستدل باستصحاب الحال؛ فقد ذكر الأنباري أن للمعترض أن يعترض عليه بأن يذكر دليلًا يدل على زوال استصحاب الحال، ولم يكتفِ الأنباري بذكر الاعتراض وحده وإنما ذكر كيفية الجواب عنه.
فقال في (الإغراب في جدل الإعراب): "الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال: وهو أن يذكر دليلًا يدل على زوال استصحاب الحال، مثل: أن يدل الكوفي على زواله إذا تمسك البصري به في بناء فعل الأمر؛ فيبين أن فعل الأمر مقتطع من الفعل المضارع ومأخوذ منه، وأن الفعل المضارع قد أشبه الاسم وزال عنه استصحاب حال البناء وصار معربًا بالشبه؛ فكذلك فعل الأمر.
والجواب: أن يبين -أي: البصري- أن ما توهمه -أي: الكوفي- دليلًا لم يوجد؛ فيبقى التمسك باستصحاب الحال صحيحًا". انتهى.
وقد نقل السيوطي هذا الكلام ولم يعلق عليه بشيء، وفيه إجمال يحتاج إلى تفصيل يكشف، وتفصيل القول في هذا الكلام: أن نقول: إن البصريين يذهبون إلى أن فعل الأمر مبني، ولهم أن يستدلوا على صحة مذهبهم باستصحاب الأصل؛ لأن الأصل في الأفعال البناء، وقد يعترض الكوفيون على مذهب البصريين بأن يقولوا: إن استصحاب الحال -وهو البناء- قد زال عن فعل الأمر الذي استدل به البصري، والدليل على زوال استصحاب الحال من فعل الأمر: أن فعل الأمر ليس قسمًا برأسه؛ وإنما هو مأخوذ من الفعل المضارع ومقتطع منه، ولما كان فعل الأمر مأخوذًا من المضارع، والمضارع معرب لأنه أشبه الاسم؛ كان فعل الأمر كذلك معربًا بالشبه؛ فيقال: إن "اضرب" فعل معرب؛ لأن أصله "لِتضربْ"، ثم حذفت اللام -أي: لام الأمر- ثم حذف حرف المضارعة، ثم جيء بهمزة الوصل توصلًا إلى النطق بالساكن. هذا ما يمكن أن يورده الكوفي اعتراضًا على دليل البصري.
فيجيب عنه البصري بأن: ما توهمه الكوفي دليلًا على إعراب فعل الأمر، وهو أنه مأخوذ من الفعل المضارع ومقتطع منه؛ لم يوجد؛ بل هو نوع مستقل على حدة، وحينئذ يبقى التمسك بالاستصحاب، واستصحاب الحال فيه: هو أصل البناء في الفعل.
والخلاصة: أن استصحاب الحال، مع أنه قد جعل أحد الأدلة الأربعة الغالبة من الأدلة التي تعد أصولًا للنحو العربي؛ فإنه يعد أضعف هذه الأدلة؛ لأنه إنما يعتمد عليه في حالة عدم وجود دليل يعارضه؛ أما إذا وجد دليل يعارضه؛ فإن
هذا الدليل المعارض يسقط استصحاب الأصل، يقال: استصحاب الأصل، ويقال: استصحاب الحال، وهما بمعنى واحد؛ لأن المراد استصحاب حال الأصل كما عرفنا بالنسبة للإعراب في الأسماء وبالنسبة للبناء في الأفعال.
لما كان الإعراب هو الأصل في الأسماء باعتبار أن الأسماء تتعاورها -أي: تتقلب عليها- المعاني المختلفة التي تفتقر معها إلى الإعراب للتمييز بين هذه المعاني؛ بحيث إذا لم يوجد الإعراب؛ اختلطت هذه المعاني بعضها ببعض، والتبس بعضها ببعض؛ فلم يتبين المستمع أو المخاطب لا يعرف مثلًا الفاعل من المفعول، أو المبتدأ من الخبر، أو أسلوب التعجب من أسلوب النفي
…
إلى آخر ما قلناه؛ فإنها في هذه الحالة تحتاج احتياجًا متأصلًا إلى الإعراب، ومن ثم؛ فإذا أردنا أن نستدل على الإعراب في الأسماء؛ فإننا يمكن أن نستدل عليها باستصحاب الحال، لأن الإعراب هو الأصل في الأسماء؛ اللهم إلا إذا وجد دليل يعارض هذا الأصل، وهو: وجود شبه من أنواع الشبه بالحرف كما ذكرنا.
وعلى العكس الفعل؛ فإن الأصل فيه البناء؛ لأنه لا تتعاوره المعاني المختلفة؛ إذ لا يدل على معنى الحدث والزمان، ومن ثم فهو لا يحتاج إلى الإعراب؛ فالأصل فيه البناء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.