الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة الحجج، فتارة يذكر أنه الطرماح، وتارة يذكر أنه ابن هرمة، وتارة يذكر أنه بشار بن برد، والطرماح بكسر الطاء والراء المهملتين وتشديد الميم وآخره حاء مهملة، ووزنه فعمّال، أو فعلَّان من قولهم: طرمح البناء وغيره أي: علاه ورفعه، وهو طرماح بن حكيم الطائي شاعر إسلامي في الدولة المروانية، ومولده ومنشأه في الشام، ثم انتقل إلى الكوفة مع من وردها من جيوش الشام.
أما إبراهيم بن هرمة: فهو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة، وهو من مخضرمي الدولتين، مدح الوليد بن يزيد، ثم أبا جعفر المنصور، وكان مولده سنة سبعين، ووفاته في خلافة الرشيد بعد الخمسين ومائة تقريبًا.
حكم الاحتجاج بكلامٍ مجهولٍ قائلُه
لقد استقرَّ عند النحاة أنه لا يجوز الاحتجاج بكلام المولدين ومن لا يُوثق بفصاحتهم، وقد ترتَّب على هذا الأصل عندهم عدم الاحتجاج بكلام لا يُعلم قائله؛ خوف أن يكون من كلام من لا يحتج بكلامه، وقد صدر السيوطي هذا الفرع بقوله:"لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يُعرف قائله" صرَّح بذلك ابن الأنباري في (الإنصاف)، فنسب السيوطي هذه القاعدة إلى أبي البركات الأنباري، ولم يكن الأنباري المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة هو أول من صرَّح بعدم الاحتجاج بكلام مجهول قائله، وإنما سبقه إلى ذلك أبو عثمان المازني المتوفى سنة تسع وأربعين ومائتين من الهجرة، الذي سُئل عن لفظ "السكين" أمذكر أم مؤنث؟ فقال: إنه مذكر فأنشده السائل قول الشاعر:
...............................
…
بسكين موثقة النصاب
فوصف لفظ "السكين" بالمؤنث فدلَّ على تأنيثه؛ فقال أبو عثمان: "من هذا؟ وما صاحبه؟ وأين صاحبه من أبي ذؤيب حين قال:
......................
…
فذلك سكين على الحلق حاذق
فقد ردَّ المازني القول بأن السكين مؤنث؛ لأنه قول لا يُعلم قائله، وصار على دربه تلميذه المبرد المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين من الهجرة في كتابه (المقتضب)؛ إذ منع إضمار اللام الجازمة للمضارع في شعر أو نثر، وأما قول الشاعر:
محمد تفدي نفسك كل نفس
…
إذا ما خفت من أمر تبالى
أي: هلاكًا، فلم يرتضِ المبرد تخريجه على إضمار اللام، أي: على أن يكون التقدير: لتفدي نفسك كل نفس، وحجته في ذلك عدم العلم بقائله، فقال معلقًا على هذا البيت في (المقتضب):"وأما هذا البيت الأخير فغير معروف" انتهى.
ولم يذكر السيوطي شيئًا من كلام المازني ولا من كلام المبرد، وإنما اعتمد على ما ذكره أبو البركات لأمرين:
الأول: أنه ذكر في مقدمة (الاقتراح) أنه أخذ من (الإنصاف) حين قال: "وضممت إليه من كتابه (الإنصاف) في مباحث الخلاف جملة".
والآخر: أن أبا البركات الأنباري قد ذكر هذه القاعدة في عديد من المواضع من كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وهو يرد على الكوفيين احتجاجهم بما لا يُعرف قائله.
ومن هذه المواضع ما جاء في مسألة إضافة النيف إلى العشرة، فقد أجازها الكوفيون، والنيف كل ما زاد على العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الثاني كما في (الصحاح) و (القاموس)، واحتج الكوفيون بقول الشاعر:
كُلف من عنائه وشقوته
…
بنت ثماني عشرة من حجته
وموضع الشاهد قوله: "بنت ثماني عشرة"؛ حيث أضاف الشاعر لفظ النيف وهو "ثماني" إلى العشرة، فلم يجد الأنباري في هذا البيت حجة للكوفيين؛ فقال في (الإنصاف):"أما ما أنشدوه -أي: الكوفيون- فلا يُعرف قائله، ولا يُؤخذ به"، ومما ردَّه لعدم العلم بقائله أيضًا ما جاء في مسألة توكيد النكرة توكيدًا معنويًّا؛ إذ ذهب الكوفيون إلى جوازه مستدلين بعدة أبيات من الشعر، منها قول الراجز:
قد صرتِ البكرةُ يوما أجمعا
فأكد يومًا بأجمع، فاستدلَّ الكوفيون به على جوازه، وردَّه الأنباري بقوله في (الإنصاف):"هذا البيت مجهول لا يعرف قائله فلا يجوز الاحتجاج به".
ومن ذلك أيضًا: ما جاء في مسألة إظهار أن المصدرية بعد كي، فقد ذهب الكوفيون إلى جوازه محتجين بقول الشاعر:
أردت لكيما أن تطير بقربتي
…
فتتركها شنًّا ببيداء بلقع
فقد ظهرت أن المصدرية بعد كي، وردَّه الأنباري بقوله في (الإنصاف):"هذا البيت غير معروف، ولا يُعرف قائله؛ فلا يكون فيه حجة". ومما ردَّه لعدم العلم بقائله كذلك ما جاء في مسألة مد المقصور في الشعر، فلقد ذهب الكوفيون إلى جوازه مستدلين بقول الراجز:
قد علمت أم أبي السعلاء
…
وعلمت ذاك مع الجراء
أن نعم مأكولًا على الخواء
…
يا لك من تمر ومن شيشاء
ينشب في المسعل واللهاء
…
.......................
والسعلاء -بكسر السين وسكون العين- أصله: السعلاة، والخواء واللهاء كلها مقصورة في الأصل؛ إنما مُدَّت لضرورة الشعر؛ فجاز عند الكوفيين لذلك مد
المقصور للضرورة مستشهدين بهذا الرجز، ولم يرتض ذلك أبو البركات الأبناري؛ فقال في كتابه (الإنصاف): "أما قول الشاعر:
قد علمت أم أبي السعلاء
…
...........................
…
الأبيات إلى آخرها، فلا حجة فيها؛ لأنها لا تُعرف ولا يُعرف قائلها، ولا يجوز الاحتجاج بها، ولو كانت صحيحة لتأوَّلناها على غير الوجه الذي صاروا إليه" انتهى.
وهكذا تعدَّدت الأبيات التي يردُّ أبو البركات الأنباري الاحتجاج بها، لماذا؟ لأنها مجهولة القائل، وقد ذكر السيوطي أن أبا البركات الأنباري قد ردَّ على الكوفيون استشهادهم بقول القائل:
...................................
…
ولكنني من حبها لعميد
على جواز دخول اللام في خبر لكن لعدم العلم به، ونقل عنه أنه قال عن هذا البيت:"هذا البيت لا يُعرف قائله، ولا أوله، ولم يذكر منه إلا هذا، ولم يُنشده أحد ممن وثق في اللغة، ولا عزي إلى مشهور بالضبط والإتقان" انتهى.
والحق أن أبا البركات قد علَّق على هذا البيت، أو على هذا الجزء من البيت بقوله في (الإنصاف):"هو شاذّ لا يُؤخذ به لقلته، وشذوذه، ولهذا لا يكاد يُعرف له نظير في كلام العرب وأشعارهم" انتهى.
ومن كلام الأنباري يُفهم أنه ردَّ الاستشهاد بهذا البيت لا لعدم العلم به فحسب، كما ذكر السيوطي، وإنما ردَّ الاستشهاد به؛ لأنه أيضًا شاذّ لا يُقاس عليه. وقد ذهب بعض الدارسين المحدثين إلى أن هذا الأصل كان مضطربًا في ذهن أبي البركات الأنباري؛ لأنه وضع في أصول النحو كتابين وهما:(لمع الأدلة)، و (الإغراب في جدل الإعراب)، ولم يشر إلى هذا الأصل فيما ضمنه الكتابين من أصول.
وهذا يدل على أن ما فعله في كتاب (الإنصاف) لم يكن غير استجابة لطبيعة الجدل والمناظرة، واضطرب المتأخرون في فهم هذا الأصل واعتمده، فابن هشام الأنصاري المتوفى سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة يذكر في تعاليقه على الألفية، كما ذكر السيوطي أنه لا يجوز الاحتجاج بكلام مجهول قائله، ويردُّ على الكوفيين استدلالهم بالأبيات الخمسة المجهولة القائل السابقة على جواز مد المقصور في الشعر، ويقول:"الجواب عندنا أنه لا يُعلم قائله فلا حجة فيه"، ثم يستنكر رفض الاحتجاج بالبيت المجهول قائله فيقول -يعني في شرحه المختصر لشواهد الألفية الشعرية المسمى (تخليص الشواهد وتلخيص والفوائد) -: طعن عبد الواحد الطواح في كتابه (بغية الآمل ومنية السائل) في الاستشهاد بقوله:
...........................
…
لا تكثرن إني عسيت صائمًا
وقال: "هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد، فسقط الاحتجاج به، ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتًا من كتاب سيبويه، فإن فيه ألف بيت قد عُرف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين" انتهى كلام ابن هشام.
وهذا الاضطراب الذي وقع فيه ابن هشام يدل على ضعف هذا الأصل عنده، كما يدل على ضعفه أيضًا أن النحاة القدامى كانوا يستدلون بأقوال أعراب مجهولين لا يسمونهم، وينقلون عنهم أقوالًا نثرية، ولم يعترض ذلك معترض من النحاة.
ولا بد من الإشارة إلى أن العلماء كانوا يقبلون ما يذكره الثقة من النحاة كسيبويه، فإنهم قبلوا ما جاء في كتابه وإن لم يعلموا قائله؛ اعتمادًا على أنه ثقة، وفي ذلك يقول البغدادي في (خزانة الأدب الجزء):"الشاهد المجهول قائله وتتمته إن صدر عن ثقة يعتمد عليه؛ قبل، وإلا فلا، ولهذا كانت أبيات سيبويه أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبيات عديدة جهل قائلوها وما عيب بها ناقلوها" انتهى.
ونعود إلى كلام ابن هشام حول قضية الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه، فنذكر أن أول من أشار إليها هو أبو عمر الجرمي المتوفى سنة خمس وعشرين ومائتين من الهجرة في قوله:"نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها" انتهى.
وقال أبو جعفر النحاس في (مقدمة شرح أبيات سيبويه): "جملة أبيات كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتًا منها خمسون غير معروفة" انتهى.
وينبغي أن نفرق بين أمرين: الجهل بالقائل، وعدم نسبة البيت إلى قائل معين، فإن سيبويه لم يكن يحرص على نسبة لجميع الأبيات إلى قائليها؛ لأنه كان واثقًا من صدق الذين أخذها عنهم، وكان واثقًا أيضًا من دقتهم وتثبتهم، فذكر كثيرًا من الشواهد دون اعتداد بذكر قائليها، وقد بلغ عدد الشواهد المنسوبة في (الكتاب) إلى قائليها سبعمائة وتسعة وثلاثين شاهدًا نصَّ فيها سيبويه على اسم الشاعر، كما أن سيبويه استشهد بأبيات أخرى لم يذكر أسماء الشعراء فيها، وإنما ذكر أسماء القبائل التي يُنسب إليها هؤلاء الشعراء، وعدد هذا القسم من الشواهد يبلغ سبعة وأربعين شاهدًا.
وإذا صح ما روي عن أبي عمر الجرمي كان المراد منه أن في الكتاب خمسين بيتًا قد جهل الجرمي نسبتها إلى قائليها، ولا يلزم منه أن يكون في الكتاب خمسون بيتًا يسقط الاحتجاج بها؛ لأن الواجب كون الشاهد معروف القائل حال الاستشهاد به، وطروُّ الجهالة بقائله بعد ذلك لا يضر في ثبوت ما ثبت به حال معرفته، فسيبويه ما استدلَّ إلا بما كان معروفًا مشهور القائل في ذلك الوقت، وما قامت حجته على مخالفيه بتلك الشواهد إلا وهي معروفة القائلين لديهم، مشهورة فيما بينهم.