الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في آداب ومسائل من السلام
روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الرَّاكبُ على الماشِي، والماشي على القاعِدِ، والقَلِيلُ على الكَثيرِ" وفي
رواية البخاري
ــ
وهو مشعر منه بأن عثمان تفرد به ولم ينفرد به كما ترى وكذا إيراد أبي نعيم له في ترجمة وكيع وعثمان ضعفوه بخلاف حبيب والله أعلم. قال المصنف في شرح مسلم في هذه الأحاديث استحباب السلام على الصبيان المميزين والندب إلى التواضع وبذل السلام للناس كلهم وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته على العالمين واتفق العلماء على استحباب السلام على الصبيان اهـ، وحكمة مشروعية السلام للصبيان بدءاً ورداً أن يتمرن على ذلك فيدوم عليه في كبره اهـ، وقال ابن بطال في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة وطرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع وأين الجانب اهـ.
باب في آداب ومسائل من السلام
قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم) قال الحافظ بعد تخريجه من طريق أبي نعيم في المستخرج على صحيح مسلم وغيرها أخرج الحديث أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وأخرجه الترمذي من رواية الحسن البصري عن أبي هريرة بلفظه وأشار إلى انقطاعه وإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة على الصحيح ثم قال الترمذي وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة قال الحافظ منها رواية ثابت يعني ابن عياض عن أبي هريرة قال وهي عند من ذكر قبل الترمذي فأخرج الحديث أحمد عن روح وأخرجه البخاري عن إسحاق بن إبراهيم ومسلم عن محمد بن مرزوق وأبو داود عن يحيى بن عربي ثلاثتهم عن روح وأخرجه أحمد أيضاً عن عبد الله بن الحارث والبخاري أيضاً من رواية مخلد ابن يزيد ومسلم أيضاً من رواية أبي عاصم كلهم عن ابن جريج قال: أخبرني زياد يعني ابن سعد أن ثابتاً يعني ابن عياض مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول فذكره قال ومنها ما يأتي بعد اهـ. قوله: (يسلم الراكب على الماشي) وذلك للتواضع
والقَلِيلُ على الكَثِيرِ".
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: هذا المذكور هو السُّنَّة، فلو خالفوا فسلَّم الماشي على الراكب أو الجالس عليهما، لم يكره، صرح به الإِمام أبو سعد المتولي وغيره، وعلى مقتضى هذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، والكبير على الصغير، ويكون هذا تركاً لما يستحقه من سلام غيره عليه، وهذا الأدب هو فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق، أما إذا ورد على
قعود أو قاعد، فإن الوارد يبدأ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، وسمى أقضى القضاة هذا الثاني سُنَّة؛ وسمى الأول أدباً وجعله دون السُّنَّة في الفضيلة.
ــ
حيث رفعه الله بالركوب ولئلا يظن أنه بهذا خير من الماشي. قوله: (والقليل على الكثير) وذلك للتواضع أيضاً المقرون بالاحترام والإكرام المعتبر في السلام مع أن الغالب وجود الكبير في الكثير وسيأتي في هذا الحديث بعده أن الصغير يسلم على الكبير مع أن الكثير قد يعتبر في معنى الكبير وأيضاً وضع السلام للتواد والمناسب فيه أن يكون الصغير مع الكبير والقليل مع الكثير بمقتضى الأدب المعتبر شرعاً وعرفاً نعم
لو وقع الأمر بالعكس تواضعاً فهو مقصد حسن قال الماوردي إنما استحبَّ ابتداء السلام للراكب لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف من الملتقيين إذا التقيا أو من أحدهما في الغالب أو لمعنى التواضع المناسب لحال المؤمن أو لمعنى التعظيم لأن السلام إنما يقصد به أحد أمرين إما اكتساب ود أو استدفاع مكروه قال الطيبي: فالراكب يسلم على الماشي وهو على القاعد للإيذان بالسلامة وإزالة الخوف والقليل على الكثير للتواضع والصغير على الكبير للتوقير والتعظيم قال بعضهم أما التواضع ففي الكل موجود ولو عكس في الجميع ولذا قالوا ثواب المسلم أكثر من ثواب المجيب فلا بد من مراعاة معنى آخر في الترتيب المقدر فتدبر اهـ. قوله: (وفي رواية للبخاري يسلم الصغير على الكبير الخ) ترجم له البخاري في كتاب الاستئذان باب تسليم الصغير على الكبير ثم قال: وقال إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير" قال الحافظ بعد تخريج الحديث بإسناده أخرجه البخاري موصولاً في كتاب الأدب المفرد عن أحمد بن عمر وهو أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان الخ وفي سنده لطيفة تتابع ثلاثة من التابعين في نسق وأخرجه البخاري في الصحيح موصولاً من وجه آخر ثم أخرج الحافظ بسنده إلى عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسلم الصغير على الكبير" فذكر مثله ثم قال الحافظ بعد تخريجه أخرجه أحمد عن عبد الرزاق وأبو داود عن أحمد وأخرجه البخاري والترمذي كلاهما من
"يُسَلِّمُ الصَّغيرُ على الكَبِيرِ، والماشي على القاعِدِ،
ــ
طريق ابن المبارك عن معمر ثم قال الترمذي وفي الباب عن عبد الرحمن بن شبل وفضالة بن عبيد وجابر بن عبد الله قال الحافظ والثلاثة من الأنصار وفي ألفاظهم اختلاف ثم ساقه وبينه. قوله: (يسلم الصغير على الكبير) قال السيوطي لأنه أمر بتوقيره والتواضع له وفي معناهما القليل والكثير. قوله: (قال أصحابنا الخ) عللوه بأن القصد بالسلام الأمان والماشي يخاف الراكب والواقف يخاف الماشي فأمر بالابتداء ليحصل منهما الأمن وللكبير والكثير زيادة مرتبة فأمر الصغير والقليل بالابتداء تأدباً وتقدم فيه بسط. قوله: (فلو خالفوا فسلم الماشي على الراكب الخ) في التحفة لابن حجر ظاهر قولهم حيث لم يسن الابتداء لم يجب الرد إلا ما استثنى أنه لا يجب هنا في ابتداء من لم يندب له ويحتمل وجوبه لأن عدم السنة لأمر خارج وهو مخالفة نوع ما من الأدب اهـ، وفي المهمات ما ذكره من كونه لا يكره وإن كان خلاف السنة مناقض لما قرره من أن ما ثبت أنه سنة كان تركه مكروهاً ذكر ذلك في مواضع من المجموع اهـ. قوله:(وهذا الأدب فيما إذا تلاقى اثنان الخ) قال الحافظ: وهو صحيح لكن محله ما إذا لم تتحد الصفات بالركوب وعدمه أو المشي والقعود مثلاً إما عند اتفاقهما فلا ولو تلاقى قليل ماش وكثير راكب فقد تعارضا ومثل
فصل: قال المتولي: إذا لقي رجل جماعة فأراد أن يخص طائفة منهم بالسلام كره، لأن القصد من السلام المؤانسة والألفة، وفي تخصيص البعض إيحاش للباقين، وربما صار سبباً للعداوة.
فصل: إذا مشى في السوق أو الشوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون، فقد ذكر أقضى القضاة الماوردي أن السلام هنا إنما يكون لبعض النّاس دون بعض، قال: لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن كل مهم، ولخرج به عن العرف، قال: وإنما يقصد بهذا السلام أحد أمرين: إما اكتساب ود، وإما استدفاع مكروه.
فصل: قال المتولي: إذا سلمت جماعة على رجل فقال: وعليكم السلام، وقصد الرد على جميعهم سقط عنه فرض الرد في حق جميعهم، كما لو صلى على جنائزَ دفعة واحدة فإنه يسقط فرض الصلاة على الجميع.
ــ
القاعد
في الحكم المذكور الواقف والمضطجع فيرد عليه من ورد سواء كان قليلاً أو كثيراً أو صغيراً أو كبيراً كما أشار إليه في شرح الروض.
فصل
قوله: (قال المتولي: إذا لقي رجل جماعة الخ) محله إن اقتصر على التخصيص وإلا فلو عمم ثم خصص فلا ففي بعض طرق حديث جبريل في الإيمان والإسلام والإحسان أنه قال: السلام عليكم يا محمد قال بعض شراح الأربعين النووية ففيه من الفقه ابتداء الداخل بالسلام وإقباله على رأس القوم حيث قال: السلام عليكم فعم ثم خص اهـ.
فصل
قوله: (إذا مشى في السوق الخ) سبق في باب فضل السلام الجمع بين ما هنا من الاقتصار في
السلام على البعض وقضية حديث ابن عمر من تعميم كل أحد يلقاه بالسلام بأن حديث ابن عمر
محمول على ما إذا لم يترتب على الاشتغال به كذلك فوات ما هو أهم منه من أمر بمعروف أو نهي
عن منكر أو نحو ذلك وما
فصل: قال الماوردي: إذا دخل إنسان على جماعةٍ قليلةٍ يعمُّهم سلام واحد، اقتصر على سلام واحد على جميعهم، وما زاد من تخصيص بعضهم فهو أدب، ويكفي أن يرد منهم واحد، فمن زاد منهم فهو أدب، قال: فإن كان جمعاً لا ينتشر فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الحفل، فسُنَّة السلام أن يبتديء به الداخل في أول دخوله إذا شاهد القوم، ويكون مؤدياً سُنَّة السلام في حق جميع من سمعه، ويدخل في فرض كفاية الرد جميع من سمعه، فإن أراد الجلوس فيهم سقط عنه سُنَّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدهم ممن لم يسمع سلامه المتقدِّم ففيه وجهان لأصحابنا، أحدهما: أن سُنة السلام عليهم في حصلت بالسلام على أوائلهم لأنهم جمع واحد، فلو أعاد السلام عليهم كان
ــ
هنا محمول على ما إذا ترتب عليه ذلك كما يدل عليه قوله لأنه لو سلم
على كل من لقي لتشاغل به عن كل مهم الخ، وجمع الحافظ في الفتح بأن كلام الماوردي محمول
على من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج بقصد تحصيل ثواب السلام اهـ. وجمع العلوي يحمل أحدهما على الجواز والآخر على الاستحباب ثم إذا سلم على البعض أدى سنة السلام في حق من سمعه ممن سلم عليه ووجب عليه الرد على سبيل الكفاية إن كان عدداً وعلى سبيل التعين إن كان واحداً.
فصل
قوله: (قال الماوردي إذا دخل إنسان على جماعة -إلى أن قال- ويكفي أن يرد منهم واحد فمن زاد منهم فهو أدب) المراد بكونه أدباً بالنسبة إلى طلب ذلك مما زاد على الواحد وإذا فعله وقع فرض كفاية كما لو صلى على الجنازة بعد أن صلى عليها غيره فالساقط بالأول الحرج. قوله: (لا ينتشر) مضارع من الانتشار. قوله: (الحفل) بفتح الحاء المهملة وكسر الفاء أي الكثير من النّاس.
قوله: (فإن أراد الجلوس فيهم)
أدَباً، وعلى هذا أي أهل المسجد رد عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم. والوجه الثاني: أن سُنة السلام باقية لمن لم يبلغهم سلامه المتقدم إذا أراد الجلوس فيهم، فعلى هذا لا يسقط فرض رد السلام المتقدِّم عن الأوائل برد الأواخر.
فصل:
ويستحبُّ إذا دخل بيته أن يسلم وإن لم يكن فيه أحد، وليقل: السلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالِحينَ. وقد قدَّمنا في أول الكتاب بيان ما يقوله إذا دخل بيته، وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد، يستحب أن يسلِّم، وأن يقول: السلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالحِينَ، السلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ ورَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُهُ.
فصل:
إذا كان جالساً مع قوم ثم قام ليفارقهم، فالسُّنَّة أن يسلم عليهم.
فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الجيدة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انْتَهى أحَدُكُمْ إلى
ــ
أي فيمن سمع سلامه أي بينهم. قوله: (وعلى هذا) أي القول بسقوط السلام لسلامه الأول وإن لم يسمعه من تخطى إليهم (فأي أهل المسجد أجابه سقط) بإجابته (واجب الرد) سواء فيه من سمع سلامه ومن لا لأن العلة على هذا القول أنهم جمع واحد فكما اكتفى بالسلام على بعضهم عن السلام على الباقين كذلك اكتفى في سقوط الواجب برد البعض عن الباقين.
قوله: (والوجه الثاني الخ) هو المعتمد.
فصل
قوله: (يستحب إذا دخل بيته أن يسلم الخ) أي لتعود البركة عليه وعلى المنزل. قوله (وقد قدمنا في أول الكتاب) أي أول كتاب الأذكار في باب مستقل ترجمه بقوله باب ما يقول إذا دخل بيته وليس المراد أول كتاب السلام كما قد يتوهم من حيث إن فيه الكلام نبه عليه الحافظ.
فصل
قوله: (فالسنة أن يسلم عليهم) أي عند مفارقته لهم. قوله: (فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الجيدة) قال الحافظ: مخرج هذا الحديث
المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فإذا أرادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيسَتْ الأولى بأحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ" قال الترمذي: حديث حسن.
ــ
واحد وإن تعددت الأسانيد إلى محمد بن عجلان ثم خرجه الحافظ باللفظ المذكور لكن قال: فليست الأولى بأحق من الأخيرة فزاد تحتية قبل الراء وقال بعد تخريجه: هذا حديث حسن أخرجه النسائي عن أحمد بن بكار عن مخلد بن يزيد عن أبي جريج وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال ثم أخرجه الحافظ من طريق أخرى تنتهي إلى إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، حدثنا عاصم عن محمد بن عجلان عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم المجلس فليسلم فإن قام والقوم جلوس فليسلم" فذكر بقيته مثله وقال الحافظ: أخرجه البخاري عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن ابن عجلان وأخرجه أحمد عن بشر بن المفضل ويحيى القطان وقران بن تمام ثلاثتهم عن ابن عجلان قال الترمذي: حديث حسن وأشار الحافظ إلى اختلاف وقع في السند فعند ابن جريج ومن ذكر معه عن محمد بن عجلان عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وذكر الدارقطني في العلل عدة من رواه كذلك من ذكرناه أولاً إلا سليمان وقران ويحيى وزاد المفضل بن فضالة وروح بن القاسم وجرير بن عبد الحميد فصاروا عشرة كلهم عن محمد بن عجلان كما قاله ابن جريج قال ورواه الوليد وصفوان عن ابن عجلان عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة فزاد فيه عن أبيه قال: والصواب رواية ابن جريج ومن تابعه قال وخالف الجميع هشام بن حسان فقال عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال الحافظ: رواية المفضل عند ابن حبان ورواية روح بن القاسم عند النسائي ورواية جرير لم أرها ورواية هشام أخرجها النسائي وفيها مخالفة فساق من طريق يزيد بن هارون عن هشام عن محمد وليس هو ابن سيرين عن رجل عن أبي هريرة قال النسائي: يشبه أن يكون محمد هو ابن عجلان قال الحافظ: وعلى هذا فالرجل هو أبوه فيوافق ما قال الدارقطني والعلم عند الله اهـ. قوله: (فإذا أراد أن يقوم فليسلم) أي ندباً وقوله (فليست الأولى الخ) أي التسليمة الأولى (بأحق) أي بأولى وأليق (من) التسليمة (الآخرة) بل كلتاهما حق وسنة مشعرة إلى حسن المعاشرة
قلت: ظاهر هذا الحديث أنه يجب على الجماعة رد السلام على هذا الذي سلَّم عليهم وفارقهم، وقد قال الإمامان القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولي: جرت عادة بعض النّاس بالسلام عند مفارقة القوم، وذلك دعاء يستحب جوابه ولا يجب، لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وهذا كلامهما، وقد أنكره الإِمام أبو بكر الشاشي الأخير من أصحابنا وقال: هذا فاسد، لأن السلام سُنَّة عند الانصراف كما هو سُنَّة عند الجلوس، وفيه هذا الحديث، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب.
ــ
وكرم الأخلاق ولطف الفتوة ولطافة المروءة فإنه إذا فارقهم من غير سلام عليهم ربما يتشوش أهل المجلس من فراقهم وهو ساكت وبهذا يتبين أنه قد يقال بل الآخرة أولى من الأولى لأن تركها ربما يتسامح فيه بخلاف الثانية على ما هو المتعارف لا سيما إذا كان في المجلس مما لا يذاع ولا يشاع ولذا قيل كما أن التسليمة الأولى إخبار عن سلامتهم من شره عند الحضور فكذا الثانية إخبار عن سلامتهم من شره عند الغيبة وليست السلامة
عند الحضور أولى منها عند الغيبة بل الثانية أولى كذا في بعض شروح المشكاة. قوله: (قلت ظاهر هذا الحديث الخ) قال العاقولي: ظاهر الحديث يشعر بوجوب رد السلام على الذي يسلم للمفارقة وهو الصحيح من مذهب الشافعي وفي حديث قتادة أي وهو مرسل رواه البيهقي في الشعب إذا دخلتم بيتاً فسلموا على أهله وإذا خرجتم فردوا على أهله بالسلام قال العاقولي أيضاً هو من الإيداع أي اجعلوا السلام وديعة عندهم كي ترجعوا وهو تفاؤل بالسلامة والمعاودة لأن صاحب الوديعة يعود إلى المودع ليسترد وديعته وهو دليل على استحباب السلام على أهل المجلس عند مفارقتهم أيضاً أهـ. قوله: (ظاهر هذا الحديث) أي قوله فليست الأولى بأحق من الآخرة. قوله: (وذلك دعاء) أي والوجوب إنما هو للسلام التحية قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} فلا يدخل هذا السلام تحت الأمر المستفاد منه الوجوب قال في المرقاة وبه
فصل: إذا مر على واحد أو أكثر، وغلب على ظَنِّه أنه إذا سلَّم لا يرد عليه، إما لتكبُّر الممرور عليه، وإما لإهماله المارَّ أو السلامَ، وإما لغير ذلك، فينبغي أن يسلم ولا يتركه لهذا الظن، فإن السلام مأمور به، والذي أُمِرَ به المار أن يسلِّم، ولم يؤمر بأن يحصل الرد، مع أن الممرور عليه قد يخطيء الظن فيه ويرد. وأما قول من لا تحقيق عنده: إن سلام المار سبب لحصول الإثم في حق الممرور عليه، فهو جهالة ظاهرة، وغباوة بيِّنة، فإن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات، ولو نظرنا إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكارنا إنكار المنكر على من فعله جاهلاً كونه منكراً، وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بقولنا، فإن إنكارنا عليه، وتعريفنا له قبحَه يكون سبباً لإثمه إذا لم يقلع عنه، ولا شك في أنا لا نترك الإنكار بمثل هذا، ونظائر هذا كثيرة معروفة، والله أعلم.
ويستحب لمن سلَّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجبه عليه الرد بشروطه فلم يرد أن
يحلِّله من ذلك، فيقول: أبرأته من حقي في رد السلام، أو جعلته في حل منه، ونحو ذلك، ويلفظ بهذا، فإنه يسقط به حق هذا الآدمي، والله
ــ
صرح بعض علمائنا يعني من الحنفية وعلله بأنه دعاء ووداع فكان جوابه مستحباً والله أعلم.
فصل
قوله: (فينبغي أن يسلم عليه ولا يتركه) وما في الإحياء عن أبي مسلم الخولاني أنه كان يمر على قوم ولا يسلم عليهم ولقول ما يمنعني إلا أني أخشى أنهم لا يردون فتلعنهم الملائكة محمل سديد يليق بشأنه وفي الفتح للحافظ رجح ابن دقيق العيد في شرح الإلمام المقالة التي زيفها النووي
بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه لا سيما وقد حصل امتثال الأمر بإفشاء السلام مع
أعلم.
وقد روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن شبل الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أجابَ السلام فَهُوَ لهُ، ومَنْ لَمْ يُجبْ فَلَيْسَ مِنّا"
ــ
غيره اهـ.
قوله: (وقد روينا في كتاب ابن السني) وأخرجه البخاري في الأدب لكن قال: ومن لا يجب فلا شيء له قال الحافظ: والذي وقفت عليه في جميع طرق هذا الحديث بلفظ البخاري قال والحديث طرف من حديث طويل وقال الحافظ بعد تخريج الحديث بجملته: الحديث صحيح إن ثبت سماع أبي سلام يعني ممطور بن عبد الرحمن بن شبل فقد أدخل أبان بن يزيد في روايته عن يحيى بن أبي كثير بينهما أبا راشد الجبراني والحديث أخرجه أحمد وكذا رواه معاوية بن سلام وأخرجه الطبراني لكنهما اقتصرا على بعض الحديث وأخرج أحمد أيضاً وأبو يعلى والطبراني بعض الحديث وأخرجه الحاكم وحكي عن بعضهم التصريح بوصل سنده وقال الحافظ: التصريح وهم وبين ذلك. قوله: (عن عبد الرحمن بن شبل) وفي الاستيعاب أنه أنصاري له صحبة روى عنه تميم ابن محمود وأبو راشد الجبراني بضم الجيم وإسكان الموحدة وأخوه عبد الله بن شبل له صحبة أيضاً اهـ، والحديث الطويل الذي أشرنا إليه فيما مر آنفاً هو ما أخرجه الحافظ بسنده إلى يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده أبي سلام وهو ممطور قال: كتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنهما أن علم النّاس ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى وهي من طريق معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي راشد الجبراني عن عبد الرحمن بن شبل أن معاوية قال له: إنك رجل من قدماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقائهم فإذا صليت العصر ثم دخلت المقصورة فقم في النّاس فعلمهم قال في الحديث فجمعهم ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تعلموا القرآن فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ثم قال: إن التجار هم الفجار قالوا: يا رسول الله أو ليس قد أحل الله البيع وحرم الربا قال: بلى ولكنهم يحلفون ويأثمون ثم قال: إن الفساق هم أهل النار قالوا ومن الفساق يا رسول الله قال النساء قالوا: أو لسن أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا قال: بلى ولكنهن