الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث عشر حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم
؟
إذا حكى الصحابي ما شاهده من الحوادث بلفظ عام كقوله:
"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة،
وأمر بوضع الجوائح، وقضى بالشفعة للجار،
فهل يؤخذ بعموم قوله أو لا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو نهى، أو قضى، أو حكم يقتضي العموم، وهو مذهب كثير من
العلماء، واختاره سيف الدين الآمدي، وهو الحق عندي؛ لإجماع
الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء السلف والخلف على أن قوله
يفيد العموم: فقد عرفنا - بالاستقراء والتتبع - أنهم كانوا يرجعون
إلى هذه الألفاظ، ويحتجون بها في عموم الصور التي تحصل في
أزما انهم: فقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا نخابر
أربعين سنة حتى أخبرنا رافع أن صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة "، وإذا رأى أحد منهم شخصا يبيع بالمزابنة أو المحاقلة منعوه مستدلين بقول
الصحابي: " نهى رسول اللَّه لمجيم عن المزابنة والمحاقلة، وكانوا
يمنعون عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه مستدلين بقول الصحابي:
"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه "، وكذلك فقد أخذوا بقول الصحابي:" أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح "،
وبقوله: " رخص رسول اللَّه في السلم "، وبقوله: " رخص
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العرايا "، وقوله: " قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -
بالشفعة للجار "، وكانوا يفعلون ذلك، ويستدلون بتلك الألفاظ
دون نكير من أحد، فصار هذا إجماعا منهم على الاحتجاج بمثل
ذلك في عموم الصور، وعلى العمل بها.
المذهب الثاني: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه، أو نهى،
أو قضى لا يفيد العموم.
وهو مذهب أكثر العلماء.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن قول الراوي: أمر، أو نهى هو حكاية للراوي لما شاهده،
وهذه الحكاية محتملة لاحتمالات هي كما يلي:
الاحتمال الأول: أن يكون قد سمع لفظاً عاماً، فحكاه كما
سمع.
الاحتمال الثاني: أن يكون قد سمع لفظا خاصا فظنه عاماً،
فحكاه على أنه عام.
الاحتمال الثالث: أن يكون قد شاهد أمراً خاصا، ولكنه فهم
العموم، فحكاه بصيغة العموم.
وهذه الاحتمالات متساوية، فلا يرجح أحدها إلا بمرجح، ولا
يوجد مرجح، فالتمسك بعموم هذا هو تمسك بتوهم العموم، لا
بلفظ عرف عمومه، وقيل: إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط
به الاستدلال.
جوابه:
إن هذه الاحتمالات تنقدح في الذهن، ولكن رجحنا إفادة ما
يقوله للعموم، لأمرين:
أولهما: إجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف والخلف - كما
سبق بيانه -.
ثانيهما: أن الحاكي - وهو الصحابي - عربي فصيح عارف
بدلالات الألفاظ، فهذا يبعد عنه احتمال أن يفهم ما ليس عاما أنه
عام حتى يحكيه بصيغة العموم.
وكذلك هو - أي: الحاكي وهو الصحابي - قد شهد اللَّه له
ورسوله بالعدالة، فهو ذو ورع ودين وتقوى، وهذا كله يمنعه من
حكاية العموم، وهو غير متيقن له، لأنه يعلم أن ذلك يوقع الناس
في لبس دمابهام.
وعلى فرض أن هذا الراوي الصحابي لم يقطع بالعموم، فلا
يمكن أن ينقل ما يقتضي العموم إلا وقد ظهر له العموم، والغالب
إصابته فيما ظنه ظاهراً وراجحاً، والعمل - بالغالب الظاهر واجب،
فيجب العمل بما ظهر منه، ومهما ظن صدق الراوي فيما نقله عن
النبي صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، بيان ذلك: أن أصحاب المذهبين قد اتفقا على
أن النهي عن المزابنة، والمخابرة، والمحاقلة، والمنابذة، والملامسة،
والغرر، والأمر بوضع الجوائح، والقضاء بالشفعة فيما لم يقسم
- إلى آخر ذلك عام وشامل للأشخاص الذين نهوا، وأمروا،
وقضي في حقهم ولمن جاء بعدهم ممن شابههم.
ولكن اختلفوا في طريق ذلك: فأصحاب المذهب الأول قالوا:
استفدنا ذلك العموم عن طريق لفظ الصحابي ونصه، أما أصحاب
المذهب الثاني فقالوا: قد استفدنا تعميم الأحكام من دليل خارجي،
وهو القياس، أي قياس غيرهم عليهم.
والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس
من وجهين قد ذكرناهما في مسألة: " هل العبرة بعموم اللفظ أو
بخصوص السبب ".