الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس هل للعموم صيغة في اللغة موضوعة له
؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن للعموم صيغة في اللغة خاصة به، موضوعة
له، تدل على العموم حقيقة، ولا تحمل على غيره إلا بقرينة،
وهي أدوات الشرط والاستفهام، وكل اسم دخلت عليه " أل "
الاستغراقية سواء كانت جمعاً أو مفرداً، وكل نكرة أضيف إلى
معرفة، وكل وجميع والنكرة في سياق النفي، والأسماء الموصولة،
و" واو " الجمع، ولفظ " سائر " المشتقة من سور المدينة، وسيأتي
بيان ذلك.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما سيأتي من
الأدلة:
الدليل الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن تلك
الصيغ للعموم، بيانه:
أن الصحابة رضي الله عنهم وهم من بلغاء العرب
وفصحائهم كانوا يجرون تلك الألفاظ والصيغ - السابق ذكرها
على العموم إذا وردت في الكتاب والسنة، وكانوا - رضي الله
عنهم - يحملونها على إفادتها للعموم، ولا يطلبون دليلاً على
ذلك، فكأن إفادتها لذلك أمر مسلم به، ولكنهم كانوا في
اجتهاداتهم واستدلالاتهم - يطلبون دليل التخصيص، ليخصصوا به
العموم، فإن وجدوا المخصص أخذوا به، وإن لم يجدوا: أجروها
على أصلها وعلى حقيقتها، وهو العموم، وكانوا يفعلون ذلك دون
أن ينكر بعضهم على بعض، فكان إجماعا سكوتيا منهم على أن
تلك الصيغ والألفاظ دلَّت بالوضع على العموم، وفعل الصحابة
ذلك عن طريق وقائع وقعت لهم، وإليك أمثلة لذلك:
منها: أنهم عملوا على أن قوله تعالى: (والسارق والسارقة) ،
وقوله: (الزانية والزاني) يفيد العموم بسبب وجود المفرد المحلى
بأل الاستغراقية، فعملوا على أن جميع السارقين، وجميع السارقات،
وجميع الزناة والزانيات يعاقبون بالعقاب الوارد في الآيات، دون
نكير من أحد.
ومنها: أنهم تمسكوا بقوله عليه السلام:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه "
على عدم جواز قتال مانعي الزكاة حتى
روى لهم أبو بكر قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا بحقها "، حيث إنه استثناء، والاستثناء يدل على أن المستثنى منه عام.
ومنها: احتجاج أبي بكر رضي الله عنه على الأنصار لما
قالوا: " منا أمير ومنكم أمير " بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الأئمة من قريش ".
والكل سلموا له هذا الاحتجاج، ولم ينكر عليه أحد.
ومنها: احتجاج علي رضي الله عنه بقوله تعالى:
(وأن تجمعوا بين الأختين) على تحريم الجمع بين الأختين، ولولا أن المثنى
المعرف بـ " أل " يفيد العموم لما صح هذا، أي: أنه يحرم الجمع بين
الأختين، سواء كانتا حرتين أو أمَتين.
ومنها: أنه لما نزل قوله تعالى:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قالت الصحابة رضي الله عنهم: فأينا لم يظلم نفسه، فبين عليه السلام: أنه أراد به ظلم النفاق والكفر.
ومنها: قوله تعالى: (وذروا ما بقي من الربا) فيه ثلاث صيغ
للعموم، وهي:" واو الجمع في قوله: وذروا "، و " اسم
الموصول في قوله: ما بقي "، واسم المفرد المحلى بـ " أل " وهو قوله:
" الربا "، فعمل الصحابة على أن كل ذلك يفيد العموم، والتقدير:
ليترك جمعكم كل الذي بقي من جميع أنواع الربا.
ومنها: قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)، حيث يوجد فيه:
واو الجمع، والجمع المنكر المضاف إلى المعرفة وهو: الكاف في
قوله: " أنفسكم "، فعمل الصحابة على أن ذلك كله عام،
والتقدير: لا يجوز لكل واحد منكم أن يقتل نفسه.
ومنها: قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) .
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح المرأة على عمتها "، وقوله:" لا يرث القاتل "،
فعمل الصحابة على أن بهل ذلك يفيد العموم، دون نكير.
ومنها: أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءت إلى أبي بكر تطالبه بميراثها من أبيها محتجة بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ،
حيث إن هذا عام يشمل جميع الأولاد وأنهم يرثون من آبائهم، فقال
لها أبو بكر: إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
" نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ".
فهنا لم ينكر عليها الاحتجاج بعموم الآية، وإنما أتى لها بمخصص
يخرج أولاد الأنبياء عن بقية الأولاد، ويكون التقدير: أن جميع
الأولاد يرثون من آبائهم إلا أولاد الأنبياء، فإنهم لا يرثون أصلاً "،
ولم ينكر ذلك أي صحابي، فكان إجماعا.
ومنها: أنه لما نزل قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
قال عبد اللَّه بن أم مكتوم: " إني ضرير "، فنزل قوله
تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، ففهم عبد الله من الجمع المعرف بأل
وهو: (القاعدون) العموم لذلك ذهب، وقد وافقه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينكر عليه ذلك، بل سكت حتى نزل الاستثناء،
والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام.
ومنها: أن لبيد بن ربيعة لما قال - على مجمع من قريش -:
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل
…
...
…
...
…
...
قال عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكان بين الحاضرين في
مكة -: " صدقت ".
ولما قال لبيد:
…
...
…
...
…
وكل نعيم لا محالة زائل
قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
وجه الدلالة: أنه لو لم تكن " كل " الواردة في الشطر الثاني
- مفيدة للعموم لما صح هذا التكذيب، ولم ينكر ذلك أحد فكان
إجماعاً سكوتيا.
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: أنه إن صح أن بعض الصحابة قد فهموا من
تلك الصيغ العموم، فإنه لم يصح من جميعهم، والحُجَّة في فهم
جميعهم، أما فهم بعضهم فلا حُجَّة فيه.
جوابه:
إن بعض الصحابة الذين فهموا من تلك الصيغ العموم وعملوا
على ذلك، لم ينكر عليهم الآخرون، إذ لو وجد إنكار لنقل،
ولكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك، فكان إجماعاً سكوتياً.
الاعتراض الثاني: أنكم استدللتم بالإجماع السكوتي على أن تلك
الصيغ للعموم.
ولا نسلم لكم أن الإجماع السكوتي يصلح لأن يحتج به في إثبات
الأحكام.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا أثبتنا - في الباب الثالث فصل الإجماع -:
أن الإجماع السكوتي حُجَّة تثبت به القواعد الأصولية، والأحكام
الفرعية.
الجواب الثاني: سلمنا أن الإجماع السكوتي ليس بحُجَّة في
الشرعيات، لكنه حُجَّة في إثبات اللغويات؛ لأن الصحابة يعتبرون
من فصحاء العرب، وأعلم باللغة، واشتقاقاتها، واستعمالاتها،
وصيغها، وموضوعاتها من غيرهم.
الدليل الثاني: أن السيد لو أمر عبده وقال له: " من دخل داري
فأعطه درهماً " فأعطى العبد جميع الداخلين، فإنه يستحق المدح،
وإن أعطى الجميع إلا واحداً فإنه يستحق اللوم والذم، واستحقاقه
للمدح في الحالة الأولى، وللذم في الحالة الثانية دليل على أن "من "
الشرطية تفيد العموم.
الدليل الثالث: أن الشخص لو أخبر نجقال: " ما رأيت اليوم
أحداً "، والحقيقة: أنه رأى زيداً، فإن خبره يكون مخالفة للواقع،
وكذبا: فهو أخبر بصيغة عموم - وهي: النكرة في سياق النفي -
أنه ما رأى أحداً، فيقتضي هذا: أنه لم ير أيَّ إنسان، ولكن هذا
خلاف الحقيقة؛ حيث إنه رأى زيداً في الواقع، فيكون خبره كذبا
ونقضا، ومخالفا للواقع، فلو لم تفد النكرة في سياق النفي العموم
لما صح تكذيبه.
الدليل الرابع: أن القضاة والحكام والمفتين يبنون على أن تلك
الصيغ والألفاظ تفيد العموم إذا نطق بها المتكلم، وعلى ذلك أمثلة:
منها: أن السيد لو قال: " أعتقت عبيدي وإمائي "، ثم بعد
ذلك مات مباشرة، فإنه يُحكم على أن جميع العبيد والإماء أحرار؛
حيث إنه تكلم بصيغة من صيغ العموم وهي: الجمع المنكر المضاف
إلى معرفة الوارد في قوله: " عبيدي وإمائي "، وعلى ذلك جاز لمن
سمع هذا القول: أن يزوج عبيده، ويتزوج من إمائه بغير إذن
الورثة؛ لأنهم بهذه الصيغة أصبحوا أحراراً لا دخل لأحد بهم، ولو
لم يكن الجمع المنكر المضاف إلى معرفة مفيداً للعموم لما كان ذلك.
ومنها: لو قال السيد: " العبيد الذين فى يدي ملك زيد "، فإن
القاضي يحكم بأن جميع العبيد ملك لزيد؛ لأن السيد ذكر في كلامه
صيغة عموم، وهي الجمع المعرف بـ " أل ".
ومنها: لو قال زيد لعمرو: " لي عليك ألف ريال "، فقال
عمرو: " ما لك عليّ شيء "، لكان هذا إنكاراً لجميع الألف؛
لأنه عبر بصيغة عموم وهي: النكرة في سياق النفي.
والأمثلة على بناء الأحكام الشرعية على أمثال هذه العمومات في
سائر اللغات لا يمكن حصرها.
الاعتراض الذي وجه إلى أدلة الجمهور جميعاً - وهي الأربعة
السابقة الذكر -.
قال قائل - معترضاً على ما سبق قوله في الأدلة السابقة الذكر -:
إن مجرد اللفظ والصيغة لا تفيد العموم، ولكنها أفادت العموم فيما
ذكرتموه من الأمثلة بسبب قرائن اقترنت بها.
أي: أنه يحتمل أن يكون بين الصحابة عرف أن هذه الصيغ تفيد
العموم، أو أن هناك أدلة أخرى - لم تصل إلينا - جعلتها للعموم،
كذلك يحتمل أن يكون بين السيد وعبده تعارف وتفاهم على أنه إذا
أمره بصيغة من تلك الصيغ، فإنه يمتثل على العموم، وكذلك الشأن
عند القضاة والحكام، أو يكون عرف منتشر بين الناس في بلدة من
البلدان على ذلك.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أنه لو كان هناك قرائن جعلت تلك الصيغ للعموم
لنقلت إلينا؛ لأن ما لا يتم الدليل إلا به لا يجوز للراوي ترك نقله،
وحيث لم ينقل، ثبت أنه لم تكن قرائن.
الجواب الثاني: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا
بقريتة: للزم من ذلك عدم الاستدلال بأي آية، وبأي حديث، إلا
إذا وردت قرينة تؤيد هذا الاستدلال، فنكون قد استفدنا الأحكام من
القرائن لا من النصوص، وهذا ظاهر البطلان؛ لأنه يؤدي إلى
أمرين باطلين:
أولهما: تعطيل أكثر الآيات والأحاديث عن العمل، وهذا كفر
ظاهر.
ثانيهما: مخالفة إجماع العلماء؛ حيث أجمعوا على الاستدلال
بمجرد الآية، والحديث بدون قرائن.
الجواب الثالث: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا
بقرينة للزم من ذلك: أن تخلو تلك الصيغ عن الفائدة؛ لأن القرينة
هي التي جعلتها تفيد العموم، أما تلك الصيغ والألفاظ فلا تفيد
شيئا، فيكون ذكرها في الكتاب والسُنَّة عبثا لا فائدة فيه، وهذا
ظاهر البطلان؛ لأنه يؤدي إلى الكفر.
الجواب الرابع: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا
بقرينة للزم من ذلك اضطراب واختلال الشريعة كلها: أوامرها
ونواهيها العامة؛ حيث يمكن لكل شخص أن لا يمتثل الأوامر العامة،
ولا ينتهي عن النواهي العامة؛ لأنه - على زعمكم - سيطلب
القرينة التي تدخله مع المأمورين، أو مع الذين قد نهوا، وهذا لم
يقله أحد.
الجواب الخامس: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا
بقرينة للزم من ذلك: أن لا يصح من أحد أن يحتج بلفظ عام،
كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) في صورة خاصة، بيانه:
أنا لو وجدنا شخصا لا يصلي، وقلنا له: لماذا لا تصلي؛ فقال:
لأن اللَّه لم يأمرني بالصلاة، قلنا له: بل أمرك بقوله: " أقيموا
الصلاة "، فقد ورد فيه صيغة عموم - وهي واو الجمع - فتشملك
وغيرك إلى قيام الساعة، فلو كانت تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا
بقرينة لكان يمكنه أن يقول: " لم أعلم إني مراد بهذا الأمر، لأنه؛
لم ترد قرينة تدل على أني أدخل مع المأمورين، أو يقول: لا يوجد في
اللفظ دلالة ولا قرينة تدل على أني مراد معهم، إذن لا يلزمني
الامتثال.
وقال هذا الشخص ذلك؛ لأن اللفظ العام لا يدل على الصورة
الخاصة إلا بقرينة - على زعمكم - وهذا يبطل الشريعة كلها.
الجواب السادس: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا
بقرينة للزم من ذلك: أن لا يقدر أحد أن يأمر جماعة بأمر عام، ولا
ينهاهم بنهي عام، فمثلاً لو قال السيد لعبيده: " اخرجوا من هذه
الدار "، فخرج بعضهم دون بعض، فيلزم على زعمكم: أنه لا
يمكنه معاقبة الذين لم يمتثلوا الأمر؛ لأنه لم يبين قرينة تدل على أنه
يجب عليهم الخروج، بل يلزم - على زعم المعترض - أن يقول:
أنت يا فلان اخرج، وأنت يا فلان اخرج، وهكذا، حتى ينتهي
العدد، وهذا لا يمكن بل تستحيل الحياة مع ذلك.
فبان من هذا الأجوبة الستة: أن قول المعترض: " إن تلك الصيغ
لا تفيد العموم إلا بقرينة " ظاهر البطلان، وواضح الفساد.
المذهب الثاني: أنه لا صيغة للعموم معلومة، وتلك الصيغ ليست
لعموم ولا لخصوص، بل هي مشتركة بينهما اشتراكا لفظياً، أي:
أن الجمع المعرف بـ " أل " - مثلاً - يفهم منها معنيان: " العموم "،
و"الخصوص "، ولا يرجح أحدهما إلا بقرينة.
وهو مذهب محكي عن أبي الحسن الأشعري.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: حسن الاستفهام والاستفسار من السامع لها يدل
على أنها لا تدل على العموم فقط، ولا على الخصوص فقط، بل
تدل عليهما.
أي: أن هذه الصيغ عند التكلم بها يحسن الاستفهام من المتكلم
بها عما أراده منها، إذ يحسن أن يقال له: هل أردت بذلك البعض
أو الكل، وحسن الاستفهام دليل على أن تلك الصيغ يفهم منها
العموم، والخصوص، فتكون حقيقة في كل منهما، فلو كانت
للعموم فقط، أو للخصوص فقط: لما حسن الاستفهام.
جوابه:
لا نسلم أن حسن الاستفهام دليل على أن تلك الصيغ حقيقة في
الخصوص والعموم، بل إن الاستفهام إنما حسن هنا لإزالة اللبس،
ولأجل احتياط المستفهم من كلام المتكلم، فقد يكون المتكلم غير
متنبه، أو أن الصيغة يجوز أن تحمل على الخصوص مجازاً، فيزول
هذا اللبس بالاستفهام، وهذا الاستفهام أريد به التوكيد، ومعروف
أن فائدة التوكيد هي: رفع اللبس عن ذهن السامع، وإزالة الاتساع
في الفهم وحمل اللفظ.
وأيضا: فإن الاستفهام عن المراد ومن اللفظ لا يدل على ما ذكرتم؛
بدليل: أن من قال: " رأيت أسداً " يصح أن يقال له: أردت
الرجل الشجاع، أو الحيوان المفترس؛ ومع ذلك لا يمكن أن يقول
قائل: إن لفظ " الأسد " يستعمل حقيقة في الرجل الشجاع.
الدليل الثاني: أنه لا نزاع في أن اللفظ مستعمل في العموم تارة
كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) ، واستعمل في
الخصوص تارة أخرى كقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس) ،
والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون تلك الصيغ حقيقة في
العموم والخصوص بالاشتراك اللفظي.
جوابه:
أن الأصل في الاستعمال الحقيقة محمول على ما إذا كان اللفظ
متردداً بين المعاني من غير أن يتبادر منه أحدها بخصوصه، وتلك
الصيغ ليست من هذا؛ حيث إن العموم يتبادر إلى الفهم عند
الإطلاق، فكانت حقيقة في العموم، مجازاً في الخصوص، وقلنا
ذلك؛ لأمرين:
أولهما: أن العموم هو المتبادر إلى الفهم.
ثانيهما: تخلصا من الاشتراك اللفظي؛ حيث إنه خلاف الأصل،
وقلنا بالمجاز - وإن كان خلاف الأصل - إلا أنه خير من الاشتراك
وأَوْلى منه كما سبق في الفصل الثامن - وهو تعارض ما يخل
بالفهم -.
المذهب الثالث: أن تلك الصيغ ليست حقيقة في العموم، وإنما
هي حقيقة في الخصوص، مجاز في العموم.
أي: أن تلك الصيغ يتبادر إلى الفهم منها الخصوص، ولا تحمل
على العموم إلا بقرينة.
وهو لبعض العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن دلالة تلك الصيغ على الخصوص متيقنة،
ودلالتها على العموم مشكوك فيها، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن
أوْلى، لعدم احتمال الخطأ.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن كون اللفظ دالاً على الشيء يقينا لا يدل على
أنه مجاز في الزائد عليه بدليل: أن الجمع المذكر كالمسلمين يدل على
الثلاثة - وهو أقل الجمع - يقيناً مع أنه ليس بمجاز في الزائد عليه
وفاقاً.
الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن الحمل على العموم مشكوك فيه، بل
قد غلب على ظننا بسبب أدلة قد سبق ذكرها من إجماع الصحابة،
وغيره.
الجواب الثالث: أن حمل تلك الصيغ على العموم أوْلى وأحوط؛
لأن الحمل على العموم محصل لغرض المتكلم على التقديرين -
أعني: إرادة العموم أو الخصوص، والحمل على الخصوص غير
محصل لغرض المتكلم، على تقدير إرادة العموم، فكان الحمل
عليه أَوْلى.
الدليل الثاني: أن هذه الصيغ لو كان للعموم للزم من استعمالها
في بعض الصور: الكذب، بيان ذلك:
أن الشخص لو قال: " رأيت العباد "، و " طفت البلاد "،
و"لبست الثياب "، و " ركبت الخيول "، و " اشتريت العبيد "،
و"أنفقت دراهمي "، فإن تلك الصيغ لو كانت للعموم للزم من
الكلام بها الكذب؛ ضرورة؛ لأنه يعلم قطعاً أنه ما رأى كل العباد،
وأنه ما طاف كل البلاد، وأنه ما لبس جميع الثياب، وأنه ما ركب
جميع الخيول، وأنه ما اشترى جميع العبيد الذين في الأرض، وأنه
ما أنفق كل دراهمه.
أما لو كانت للخصوص، فإنه لا يلزم من استعمال ذلك هذا
المحذور، فكان جعله حقيقة في الخصوص أوْلى.
جوابه:
لا نسلِّم لزوم الكذب فيما ذكرتموه من الأمثلة؛ لأنه يجوز أن يراد
بها الخصوص بقرينة العقل، والعقل من المخصصات المعروفة، فلا
يمكن عقلاً أن يرى جميع العباد، أو أن يطوف جميع البلاد،
وهكذا.
وحينئذٍ لا يلزم الكذب؛ لأن إرادة المجاز من اللفظ الصالح له
ليس بكذب، ولو قلنا: إن هذا كذب للزم أن يكون قول القائل:
"رأيت حماراً " - عندما رأى بليداً - أن يكون ذلك كذباً، وهذا لم
يقله أحد.
المذهب الرابع: التوقف، بمعنى: إنا لا ندري أن تلك الصيغ
حقيقة في العموم مجاز في الخصوص، أو العكس، وهو أنه حقيقة
في الخصوص مجاز في العموم.
وهو مذهب حكي عن أبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الباقلاني.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن كون تلك الصيغ موضوعة للعموم، أو
للخصوص إما أن يعلم عن طريق العقل، أو عن طريق النقل،
وهذا كله باطل، بيان ذلك:
إن زعمتم، أن العقل هو الذي أثبت أن تلك الصيغ للعموم أو
للخصوص، فهذا باطل؛ لأن العقل لا مدخل له في اللغات؛
وذلك لأن اللغات لا تثبت إلا بالنقل.
وإن زعمتم أن النقل هو الذي أثبت أن تلك الصيغ للعموم، أو
للخصوص، فهذا باطل - أيضا -؛ لأن النقل قسمان:" آحاد "،
و" متواتر ".
فإن زعمتم أن المتواتر هو الذي أثبت ذلك فهذا باطل؛ لأمرين:
أولهما: لقلته وندرته.
ثانيهما: أنه لو كان الأمر كذلك لعلمناه كما علمتموه؛ لأن
المتواتر هو: ما علم ضرورة لكل الناس، لا أن تعلمه طائفة دون
أخرى.
وإن زعمتم أن الآحاد هو الذي أثبت ذلك فهذا باطل - أيضاً -؛
لأن الآحاد لا يحتج به على إثبات القواعد الأصولية؛ لأن القواعد
قطعية، والآحاد لا يفيد إلا الظن، والظني لا يقوى على إثبات
القطعي.
فبان أنه لا دليل على أنها للعموم، ولا على أنها للخصوص،
فوجب التوقف.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن حاصل هذا الدليل هو: أنكم تطالبوننا
بالدليل على أن تلك الصيغ تفيد العموم، وهذا لا يستقيم ولا يصح؛
لأمرين:
أولهما: أن المطالبة بالدليل ليست بدليل، أي: أن مطالبتكم لنا
بالدليل على أن تلك الصيغ تفيد العموم ليس بدليل لكم على أن
تلك الصيغ لا تفيد العموم.
ثانيهما: على فرض أن المطالبة بالدليل تعتبر دليلاً، فإنا قد أثبتنا
أدلة من إجماع الصحابة، وأهل اللغة، واستعمالاتهم على أن تلك
الصيغ تفيد العموم بمجردها.
الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ لكم أن الآحاد لا يحتج به على إثبات
القواعد الأصولية، بل خبر الواحد يثبت تلك القواعد بشرط: أن
تكون تلك القواعد وسيلة إلى العمل، قياسا على العمل بالآحاد في
الفروع.
فنتج: أن هذه الصيغ قد ثبتت بالآحاد؛ لأنها وسيلة إلى العمل.
الدليل الثاني: أن الأدلة متعارضة، والاحتمالات متقاومة،
والجزم بواحد ترجيح بلا مرجح، ولو قدرنا أن يكون هناك مرجح،
لكن لا نزاع أن هذا المرجح ليس بقاطع؛ حيث إنه يحتمل الخطأ،
فوجب التوقف.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أن الأدلة المثبتة للخصوص في قوة الأدلة المثبتة
للعموم، بل إن أدلة القائلين: إن تلك الصيغ حقيقة في العموم أقوى
من أدلة المذاهب الأخرى - كما سبق بيانه - وإذا كان الأمر كذلك
فإن كونها للعموم أرجح، والعمل بالراجح واجب، وحينئذٍ لا
داعي لهذا التوقف.
المذهب الخامس: أن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم في
الأمر والنهي - فقط - ولا يعلم هل هي حقيقة أو مجاز في الأخبار.
وهو مذهب لبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الأوامر والنواهي تكليف بعمل، فلو لم نعرف المراد بها لاقتضى
تكليف ما لا يطاق، فوجب حمل تلك الصيغ والألفاظ على أنها
حقيقة في العموم.
بخلاف الخبر من الوعد والوعيد، وغير ذلك، فإنه لا يقتضي
وجوب شيء يحتاج أن يعمل به.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل إن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم
مطلقا، سواء كانت أمراً أو نهيما أو خبراً، ولا فرق بين الأوامر
والنواهي والأخبار.
ودلَّ على عدم التفريق بينهما ما يلي من الوجوه:
الأول: أن الحال فيهما واحدة؛ حيث إنه يخاطب بالخبر لفائدة
كالأمر، فالمكلف مطالب بالعلم بمراد الشارع منهما.
الثاني: أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى إثبات
الآخر، فالممتنع من أحد الأمرين يلزمه الامتناع من الآخر بدليل: أن
أهل اللغة يستعملون الأمرين على وجه واحد.
الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون في
أوامر اللَّه تعالى ونواهيه، وأخباره إلى ظاهر الخطاب، ولا يفرقون
بينها.
بيان نوع الخلاف:
ابخلاف - هنا - معنوي، وهو ظاهر، فأصحاب المذهب الأول -
وهم الجمهور - يحملون أي صيغة من الصيغ السابقة على العموم
بدون أي قرينة، ولا يحملونها على الخصوص إلا بقرينة، ويعملون
على هذا بدون توقف، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار.
أما أصحاب المذهب الثاني والرابع فهم لا يحملون تلك الصيغ
على العموم ولا على الخصوص، ولا يعملون بشيء منهما حتى ترد
قرينة ترجح أحد الأمرين، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار.
أما أصحاب المذهب الثالث: فهم يحملون أيَّ صيغة من الصيغ
على أنها حقيقة في الخصوص بدون قرينة، ولا يحملونها على
العموم إلا بقرينة ويعملون على ذلك بدون توقف، ولا يفرقون في
ذلك بين الأوامر والنواهي والأخبار.
أما أصحاب المذهب الخامس: فإنهم يفرقون: فإن كانت الصيغة
وردت في سياق أمر أو نهي، فإنهم يحملونها على العموم، وإن
وردت في سياق الإخبار، فإنهم يض وقفون.
وطبق على ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ،
فأصحاب المذهب الأول يقولون: إنه عام لجميع الناس دون استثناء.
وأصحاب المذهب الثالث يقولون: إنه خاص لبعض الناس، ولا
يحمل على جميع الناس إلا بقرينة.
وأصحاب المذهب الثاني والرارج: لا يحملونه على العموم ولا
على الخصوص حتى تأتي قرينة ترءجح أحدهما.
وأصحاب المذهب الخامس يقولون: إنه عام؛ لأنه أمر، وهكذا.