الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني في مفهوم الموافقة
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: في تعريف مفهوم الموافقة.
المسألة الثانية: في أسماء مفهوم الموافقة.
المسألة الثالثة: في شروط مفهوم الموافقة.
المسألة الرابعة: هل دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية أو دلالة لفظية؟
المسألة الخامسة: هل مفهوم الموافقة له عموم؟
المسألة السادسة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث كونه أوْلى أو مساوبا.
المسألة السابعة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث القطعية والظنية.
المسألة الثامنة: حجية مفهوم الموافقة.
المسالة الأولى: في ثعريف مفهوم الموافقة:
مفهوم الموافقة هو: ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت
موافقا لمدلوله في محل النطق.
أو تقول: هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت
عنه وموافقته له نفيا وإثباتا.
مثل قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) فالمسكوت عنه - وهو
تحريم ضرب الوالدين، وشتمهما - قد دلَّ عليه اللفظ المنطوق به
وهو: تحريم التأفيف.
فتقول: إذا كان مجرد التأفيف قد حرم، فمن باب أوْلى أن يحرم
ما لم ينطق به الشارع وهو: الضرب وكل ما هو أشد من التأفيف.
المسألة الثانية: أسماء مفهوم الموافقة:
الاسم الأول: مفهوم الموافقة، وهذا عند الشافعية وجمهور
العلماء، وسموه بهذا، لأن مدلول اللفظ في محل السكوت موافق
لمدلوله في النطق.
الاسم الثاني: دلالة النص، وهذا عند الحنفية، ويقصدون بهذا
ما ثبت بمعنى النص لا اجتهاداً ولا استنباطاً.
الاسم الثالث: دلالة الدلالة، وهذا عند بعض العلماء، ووجه
ذلك: أن الحكم فيها يؤخذ من معنى النص، لا من لفظه.
الاسم الرابع: مفهوم الخطاب، وهذا عند ابن فورك، وأبي يعلى.
الاسم الخامس: القياس الجلي، وهذا عند الإمام الشافعي،
ووجه ذلك: أنه إلحاق المسكوت بالمنطوق لمعنى يقتضي ذلك.
الاسم السادس: دلالة التنبيه الأولى.
الاسم السابع: فحوى اللفظ، ويعبر عن ذلك بعضهم بفحوى
الخطاب، ووجه ذلك: أن الحكم الذي يثبت بمنطوقه يثبت لغير
المذكور بروحه، ومعناه، ومعقوله.
الاسم الثامن: لحن الخطاب، ويعبر بعضهم عنه بقوله: " لحن
القول ".
واختلف العلماء في " الفحوى "، و " اللحن " هل هما مترادفان
أو بينهما فرق؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما اسمان مترادفان.
وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الصحيح عندي؛ لأن فحوى
الكلام يقصد به معناه، وهذا هو اللحن، وهذا مستفاد من كلام
العرب، يقولون:" عرفت ذلك في لحن كلامه " أي: فحواه،
وفيما يصرفه إليه من غير إفصاح به، ومنه قوله تعالى:
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي: في مفهومه، وما يظهر لك بالفطنة.
ويقول العريب: " تلاحن الرجلان " إذا تكلم كل واحد منهما بما
يفهمه عنه صاحبه، وقال الشاعر مالك بن أسماء الفزاري:
منطق صائب وتلحن أحيا
…
ناً وأحلى الحديث ما كان لحنا
أي: ما كان مفهوماً فحواه.
ومراد الشاعر: أن جاريته تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض
في حديثها، فتزيله عن جهته، وذلك لفطنتها وذكائها.
المذهب الثاني: أنهما متباينان، أي: أن " الفحوى " غير
"اللحن ".
واختلف أصحاب هذا المذهب في الفرق بينهما على أقوال:
فقيل: فحوى الخطاب هو: ما كان المسكوت عنه أوْلى بالحكم
من المنطوق به، أما لحن الخطاب فهو: ما كان المسكوت عنه مساويا
للمنطوق به، وهذا قول تاج الدين ابن السبكي وتبعه بعض
الأصوليين.
وقيل: إن الفحوى: ما نبه عليه اللفظ، أما اللحن فهو: ما
لاح في اللفظ.
جوابه:
أنه لا دليل على هذا التفريق، وما لا دليل عليه، لا يُعتد به.
***
المسألة الثالثة: شروط مفهوم الموافقة:
الشرط الأول: وجود المعنى المشترك بين المنطوق والمسكوت، بأن
عرف المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه، وعرف وجوده في
المسكوت عنه بحيث لا يكون هذا المعنى المقصود أقل مناسبة في
المسكوت عنه من مناسبته للمنطوق به.
فمثلاً قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) قد عرفنا أن المقصود من
تحريم التأفيف هو: حماية الوالدين من الأذى وكفه عنهما، فيثبت
هذا تحريم الضرب، والشتم، والسب، والقتل؛ لأن هذه الأمور
أشد إيذاء من مجرد التأفيف، ولولا هذه المعرفة لما لزم من تحريم
التأفيف تحريم الضرب والشتم والقتل وغيرها من أنواع الأذى؛ لأنه
قد يقول الملك للجلاد إذا أمره بقتل منازع له في الملك أو غير ذلك:
" لا تقل له أف ولكن اقتله "، لكون القتل أشد في دفع محذور
المنازعة من التأفيف.
الشرط الثاني: أن يكون المسكوت أوْلى بالحكم من المنطوق به،
أو مساوياً له، ومثال الأول: تحريم ضرب الوالدين أخذاً من النهي
عن التأفيف لهما، وقد سبق، ومثال الثاني: تحريم إحراق مال
اليتيم على أكله المنهي عنه بقوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلماً) ، فإن إحراقه مساوي لأكله ولا فرق.
ولقد اختلف العلماء في هذا الشرط، أي: هل يشترط في
مفهوم الموافقة: أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به
أو لا يشترط ذلك، وتكفي المساواة؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط في مفهوم الموافقة كون المسكوت عنه
أَوْلى بالحكم من المنطوق، بل تكفي المساواة بينهما: بأن يكون وجود
مناط الحكم على قدر واحد من التوافر في المنطوق والمسكوت، فإن
كان المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، فهذا من باب أوْلى.
لكن يشترط فيه: أن يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة
للحكم عن المنطوق به.
وهذا مذهب الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، والبيضاوي.
وهو الحق عندي؛ لأنا نعلم قطعا أنه ربما يفهم ثبوت الحكم في
المسكوت عنه من ثبوته للمنطوق به مع عدم أولويته بالحكم، وذلك
الفهم مناط الحكم لغة من غير حاجة إلى إعمال الذهن. في البحث
عن هذا المناط، كما في تحريم إحراق مال اليتيم، أو تبذيره، فإنا
قلنا ذلك أخذاً من تحريم أكله ظلماً، حيث قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) .
إذن: لا وجه لترك هذه الدلالة الدالة على ثبوت الحكم
للمسكوت كفهم ثبوته للمنطوق بمجرد فهم اللغة، بل لا بد من
إعمالها.
وكل ما في الأمر أن الاحتجاج بمفهوم الموافقة الأولوي أقوى من
الاحتجاج بالمفهوم المساوي، ويشتركان في أن كلًّا منهما يفهم من
معنى النص بمجرد فهم اللغة.
لذلك جعلنا تعريف مفهوم المرافقة شاملاً للأولوي والمساوي.
المذهب الثاني: أنه يشترط في مفهوم الموافقة: كون المسكوت عنه
أَوْلى بالحكم من المنطوق به، ولا يكتفي بمجرد التساوي في الحكم
بين المنطوق والمفهوم.
وهو مذهب جمهور العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه إذا كان المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق أمكن فهم
اتحادهما في الحكم جزما؛ لأنه يبعد أن يكون هناك احتمال للتعبد في
ثبوت الحكم للمنطوق، أما في حالة المساواة فإنه يرد احتمال التعبد
في ثبوت الحكم للمنطوق، وهذا الاحتمال يمنع من إلحاق المسكوت
بالمنطوق، فإن ألحق به مع قيام هذا الاحتمال: كان إلحاقاً بطريق
القياس، لا بطريق المفهوم.
جوابه:
إن هذا الدليل نقل للمسألة عن محل النزاع، بيانه:
أن محل النزاع هو إلحاق المسكوت بالمنطوق لاشتراكهما في معنى
يدرك بمجرد معرفة اللغة، وكون المناط الذي يجمع بين المنطوق
والمسكوت مما يدرك لغة ينفي احتمال التعبد في ثبوت الحكم للمنطوف.
بيان نوع الخلاف:
لقد اختلف في الخلاف هنا هل هو معنوي، أو لفظي على قولين:
القول الأول: أن الخلاف معنوي، وهو الحق؛ حيث إنه ترتب
على هذا الخلاف ما يلي:
1 -
أنه بناء على المذهب الأول: فإن مفهوم الموافقة ينقسم إلى
نوعين وهما: مفهوم الموافقة الأولوي، ومفهوم الموافقة المساوي،
ولا يخفى ما في ذلك من سعة الاستدلال بالنص.
أما بناء على المذهب الثاني، فإن مفهوم الموافقة نوع واحد،
وهو: مفهوم الموافقة الأولوي، ولا يخفى ما في ذلك من التضييق
بالاستدلال بالنصوص.
2 -
أنه بناء على المذهب الأول - وهو: عدم اشتراط الأولوية -
فإن ثبوت حكم المنطوق للمسكوت في حال المساواة إنما يكون بطريق
النص.
أما بناء على المذهب الثاني - وهو: اشتراط الأولوية - فإن ثبوت
حكم المنطوق للمسكوت عنه في حال المساواة إنما كان بطريق
القياس، لا بطريق النص.
وفرق بين ما تجري عليه أحكام القياس، وبين ما يأخذ حكم
المنصوص.
فإن ما يؤخذ عن طريق النص أقوى مما يؤخذ عن طريق القياس.
القول الثاني: أن الخلاف لفظي يرجع إلى مجرد التسمية؛ حيث
إنهم قد اتفقوا على المعنى، واختلفوا في اللفظ؛ فالمشترطون
للأولوية - وهم أصحاب المذهب الثاني - جعلوها شرطا للتسمية
بمفهوم الموافقة، وأن المفهوم المساوي لا يسمى بالموافقة وإن كان مثل
الأولوي من ناحية الاحتجاج به عن طريق القياس.
جوابه:
أنا نسلم أنه مثل الأولوي من حيث الاحتجاج به، ولكن يختلفان
في المعنى: فالأولوي يحتج به عن طريق اللفظ والنص؛ أما المساوي
فإنه يحتج به عن طريق القياس، وفرق بين ما تجري عليه أحكام
القياس، وما تجري عليه أحكام النص.
فالنص ينسخ ويُنسخ به، أما الكتياس فلا ينسخ ولا ينسخ به.
والقياس أضعف في الدلالة من الدلالة المأخوذة من النص، كما
سبق بيانه أكثر من مرة.
المسألة الرابعة: هل دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية أو دلالة
لفظية؟
اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان:
المذهب الأول: أن دلالة مفهوم الموافقة دلالة لفظية معنوية.
وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر المالكية كابن الحاجب، والقرافي
وبعض الشافعية كالآمدي، وتاج الدين ابن السبكي، وكثير من
الحنابلة كأبي يعلى.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بأحد المتساويين
على الآخر أسلوب عربي فصيح تستعمله العرب للمبالغة في تأكيد
الحكم في محل السكوت، وهو أفصح عندهم من التصريح بحكم
المسكوت عنه.
فمثلاً إذا قصدوا كون أحد الفرسين سابقا للآخر قالوا: " هذا
الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس "، وكان هذا التعبير عندهم أبلغ
من قولهم: " هذا الفرس سابق لهذا الفرس ".
الدليل الثاني: أن الحكم الثابت بمفهوم الموافقة مستند في فهمه إلى
المناط اللغوي، وهو المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه، فلم
يتوقف فهمه على الاجتهاد والاستنباط والتأمل الدقيق، بل إنه عند
سماع اللفظ والنص يتنبه الذهن من العارف باللغة، فينتقل مباشرة
من المنطوق إلى المسكوت انتقالا ذهنيا سريعا بدون توقف على
مقدمات شرعية، أو استنتاجية.
المذهب الثاني: أن دلالة مفهوم الموافقة من قبيل القياس، وهو ما
يُسمى بالقياس الجلي.
وهو مذهب الإمام الشافعي، وأكثر الشافعية، ومنهم: إمام
الحرمين، وأبو إسحاق الشيرازي، وفخر الدين الرازي، وبعض
الحنفية، وبعض الحنابلة كأبي الحسن الجزري.
دليل هذا المذهب:
أن مفهوم الموافقة يدل على إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به؛
لاشتراكهما في عِلَّة الحكم فانطبق عليه حد القياس.
أي: أنا لا نلحق المسكوت بالمنطوق إلا إذا عرفنا المعنى الذي
سيق الكلام لأجله، فإذا سبق إلى الفهم هذا المعنى، ومقصد
الشارع منه من غير تأمل طويل، فإنا نلحق المسكوت بالمنطوق.
أما إذا لم نعرف ذلك المعنى فلا يجوز ذلك الإلحاق إجماعا،
فمثلاً لو لم نعرف المعنى الذي سيق له الكلام في قوله تعالى:
(فلا تقل لهما أف) من كف الأذى عن الوالدين لما قضينا بتحريم
الشتم والضرب والقتل، فهنا قد اجتمعت أركان القياس، حيث إن
الأصل هو: التأفيف، والفرع: الضرب، والعلَّة: الإيذاء في
كل، والحكم: تحريم كل من القتل والشتم وغيرهاً من أنواع الأذى،
وهذا هو بعينه القياس، فتكون دلالة مفهوم الموافقة قياسية.
جوابه:
إنكم جعلتم دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية، وهذا لا نسلمه؛
لوجود الفرق بينهما من وجوه:
االوجه الأول: أن المعنى المشترك بين المنطوق والمسكوت شرط
لغوي لدلالة المنطوق على المسكوت، فلا يلزم من وجود هذا المعنى
أن تكون الدلالة في محل النزاع دلالة قياسية، لأن قياس الفرع على
الأصل من حيث المعقول، لا من حيث اللغة، وهو بخلاف مفهوم
الموافقة كما قلنا.
الوجه الثاني: أن الدلالة في مفهوم الموافقة ثابتة قبل استعمال
القياس، فإن كل أحد يعرف اللغة: فإنه يفهم من قوله: " لا تقل
له أف "، لا تضربه، ولا تشتمه، ولا تقتله، ونحو ذلك من
أنواع الأذى، سواء علم شرعية القياس أو لا.
الوجه الثالث: أن الأصل في القياس أنه لا يجوز أن يكون جزءاً
من الفرع ومندرجاً تحته بالإجماع، بخلاف مفهوم الموافقة، فإنه قد
يقع ذلك مثاله قوله تعالى: (فمن يعمل مثفال ذرة خيراً يره) ،
فإن ذلك يدل بمفهوم الموافقة على أن ما زاد على الذرة حكمه حكم
الذرة والذرة جزء من هذه الزيادة.
الوجه الرابع: أن الفرع في القياس يشترط فيه أن يكون أدنى من
الأصل، أما في مفهوم الموافقة فإنه يشترط أن يكون مساوياً للأصل،
أو أعلى منه.
بيان نوع الخلاف:
لقد اختلف في نوع الخلاف هل هو لفظي أو معنوي على قولين:
القول الأول: أن الخلاف معنوي، وهو الحق عندي؛ لأنه قد
ترت على هذا الخلاف خلاف في بعض المسائل، ومنها:
1 -
من يرى أن دلالة مفهوم الموافقة لفظية قد تعامل مع ذلك مثل
ما لفعل مع الألفاظ: من أن اللفظ ينسخ وينسخ به، وهو أقوى من القياس.
أما من يرى أن دلالة مفهوم الموافقة قياسية فقد عامل ذلك مثل ما
يفعل مع القياس: من أنه لا ينسخ، ولا ينسخ به، وهو أضعف من
دلالة الألفاظ.
فلو قال قائل: هل يجوز النسخ بمفهوم الموافقة؟
جوابه:
إن الخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة:
فمن قال: إن دلالة مفهوم الموافقة لفظية: قال يجوز النسخ به.
ومن قال: إن دلالة مفهوم الموافقة قياسية: قال: لا يجوز النسخ
به، وقد سبق بيان ذلك في النسخ.
2 -
عند تعارض مفهوم الموافقة مع القياس فإن مفهوم الموافقة
يقدم على القياس عند من يرى أن دلالته لفظية، فيكون الحكم الذي
استفدناه عن طريق مفهوم الموافقة مقدما على الحكم الذي استفدناه
عن طريق القياس.
3 -
أن مفهوم الموافقة تثبت به العقوبات كالحدود، والقصاص،
والكفارات عند أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن دلالة
مفهوم الموافقة لفظية؛ وذلك لأن هذه الدلالة لفظية خلت عن الشبهة
في دلالتها، وهذا عند الحنفية.
أما إذا كانت دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية، فلا يُعتبر مفهوم
الموافقة طريقا لإثبات ما يندري بالشبهات من الحدود والكفارات؛
حيث إنها مقدرات، ولا مدخل للعقل أو الاجتهاد بالرأي في
المقدرات، هذا أيضاً عند الحنفية.
أما عند الجمهور، فإن العقوبات من حدود وكفارات تثبت بمفهوم
الموافقة، سواء كانت دلالته دلالة لفظية، أو من قبيل القياس،
وهذا قد بينته بالتفصيل في كتابي " إثبات العقوبات بالقياس " فارجع
إليه إن شئت، وسيأتي تفصيله في باب القياس إن شاء اللَّه تعالى.
القول الثاني: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، وهو اختيار إمام
الحرمين، والغزالي، والتفتازاني، وأمير بادشاه.
دليل هذا القول:
أن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على اعتبار هذا النوع من الدلالة،
واتفقوا على الحكم، إلا أن أصحاب المذهب الأول جعلوه من
الدلالة اللفظية، وأصحاب المذهب الثاني جعلوه من قبيل القياس
الجلي، فالخلاف اعتباري اختلفت أنظار الفريقين إليه:
فمن نظر إلى المعنى الذي هو مناط الحكم، والذي كان واسطة
إلحاق المسكوت بالمنطوق به يدرك بمجرد فهم اللغة دون حاجة إلى
استنباط واجتهاد: اعتبره من الدلالة اللفظية، وسماه مفهوم موافقة
أو دلالة نص، وهو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول.
ومن نظر إلى إلحاق المسكوت بالمنطوق على أنه إلحاق فرع بأصل؛
لاشتراكهما في عِلَّة جامعة سنهما: اعتبره من قبيل القياس الجلي،
وهو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني.
إذن: يكون الخلاف في التسمية، لا في المعنى، فيكون الخلاف
لفظياً.
جوابه:
أن من جعله من قبيل الدلالة اللفظية يقصدون أن مفهوم الموافقة
يعامل معاملة الألفاظ من حيث إنه ينسخ ويُنسخ به، وأنه أقوى من
القياس، أما من جعله من قبيل القياس، فإنهم يقصدون أن مفهوم
الموافقة يعامل معاملة القياس في أحكامه، فيكون الخلاف - على
هذا - خلافاً معنوياً.
المسألة الخامسة: هل مفهوم الموافقة له عموم؟
اختلف القائلون: إن دلالة مفهوم الموافقة دلالة لفظية في مفهوم
الموافقة هل له عموم؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أن مفهوم الموافقة له عموم.
وهو مذهب بعض الحنفية كابن الهمام، وبعض الشافعية، وبعض
الحنابلة.
وهو الحق عندي؛ لأنه يُعامل معاملة الملفوظ به، والملفوظ به قد
يكون عاما، وقد يكون خاصا، لذلك تجد مفهوم الموافقة - بناء
على ذلك - ينسخ وينسخ به.
المذهب الثاني: أنه لا عموم لمفهوم الموافقة.
وهو مذهب بعض الشافعية كالغزالي، وبعض الحنابلة، وجمهور
الحنفية.
دليل هذا المذهب:
أن العموم من أوصاف اللفظ، ولا لفظ في مفهوم الموافقة؛
حيث إنه فحوى اللفظ ومعناه اللغوي.
جوابه:
أن مفهوم الموافقة هو كالملفوظ به سواء بسواء، بل قد يكون
الحكم في المسكوت عنه أوْلى من الحكم في المنطوق به - كما قلنا
فيما سبق، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه يجري عليه ما يجري على
الألفاظ.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي، لا ثمرة له؛ حيث لا تترتب عليه فائدة
بالنظر إلى إثبات الحكم تحليلاً وتحريما: فمفهوم الموافقة يتحقق في
جميع صور إيذاء الوالدين من قتل وضرب وشتم ونحو ذلك،
فيكون حكمها التحريم، وذلك فهمناه من حرمة التأفيف في قوله
تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، ولكن بعضهم قال: أخذنا ذلك
من عموم مفهوم الموافقة، والبعض الآخر يقول: أخذنا ذلك عن
طريق عموم اللفظ المنطوق به.
المسألة السادسة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث كونه أَوْلى أو
مساوياً:
لقد سبق أن قلنا: إنه لا يشترط في مفهوم الموافقة: أن يكون
المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، فيترتب على ذلك: أن
مفهوم الموافقة ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مفهوم موافقة أولوي.
القسم الثاني: مفهوم موافقة مساوي.
أما القسم الأول - وهو: مفهوم الموافقة الأولوي - فهو: ما كان
المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق به، أي: أن المناسبة بين
المسكوت عنه وبين الحكم أقوى وأشد منها بين المنطوق وبين هذا
الحكم، فيكون المسكوت عنه أوْلى منه بالحكم، وهو يسمى بالتنبيه
بالأدنى على الأعلى، والأمثلة على ذلك كثيرة: منها: قوله تعالى:
(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) ، وقد سبق بيان ذلك، ومنها قوله تعالى:
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) ، فإن هذا تنبيه - وهو
عدم أدائه للدينار - على الأعلى - وهو: عدم أدائه للأكثر من
الدينار -، أي: إنه إذا كان لا يؤدي الدينار مع قلته، فإنه من باب
أَوْلى أن لا يؤدي ما هو أكثر منه.
القسم الثاني: مفهوم الموافقة المساوي، وهو: ما كان المسكوت
عنه مساويا للمنطوق به في الحكم.
أي: أن المناسبة بين المسكوت عنه وبين الحكم على قدر الناسبة
الموجودة بين المنطوق وبين هذا الحكم.
ومن الأمثلة على ذلك: تحريم إحراق مال اليتيم أو تبذيره؛ لأنه
مساوي لأكله المحرم، وقد سبق بيان ذلك فلا داعي لتكراره.
المسألة السابعة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث القطعية
والظنية:
ينقسم من هذه الحيثية إلى قسمين:
القسم الأول: مفهوم موافقة قطعي.
القسم الثاني: مفهوم موافقة ظني.
فالقسم الأول - وهو: مفهوم الموافقة القطعي - هو: ما كان فيه
المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه معلوماً جزماً.
أما القسم الثاني - وهو مفهوم الموافقة الظني - فهو: ما كان فيه
المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه راجحا على غيره.
وهذا التقسيم على الرأي الذي رجحناه فيما سبق، وهو عدم
اشتراط كون المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق به، فهو شامل
للمساوي وللأولوي.
وعلى هذا يكون إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بطريق مفهوم
الموافقة إما أن يكون قطعيا، أو ظنيا، وفي كل منهما إما أن يكون
المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق، أو مساويا له، فكان
مجموع ذلك أربعة أنواع:
النوع الأول: مفهوم موافقة قطعي أولوي.
النوع الثاني: مفهوم موافقة قطعي مساوي.
النوع الثالث: مفهوم موافقة ظني أولوي.
النوع الثالث: مفهوم موافقة ظني مساوي.
وإليك أمثلة لكل نوع من تلك الأنواع:
مثال النوع الأول - وهو: مفهوم الموافقة القطعي الأولوي - قوله
تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، فإنه يفهم من ذلك - قطعا ومن باب أَوْلى - أن من عمل
مثقال جبل خيراً أو شراً فإنه سيراه، وهذا مما لا شك فيه، ولا
يتطرق إليه احتمال.
مثال آخر: قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أخذ شبراً من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين "، فقد بين الشارع الوعيد الشديد لمن اغتصب شبراً من الأرض، فإذا كان هذا الوعيد الشديد يقع على من اغتصب هذه المساحة القليلة، فإن اغتصاب ما هو أوسع منه مساحة أشد في الوعيد، وأدخل في الظلم، وقد نبَّه بالقليل والأدنى على الكثير والأعلى، وهذا لا يتطرق إليه احتمال.
مثال النوع الثاني - وهو: مفهوم الموافقة القطعي المساوي -:
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ، فقد توعد الشارع من أكل مال
اليتيم ظلماً بالوعيد الشديد، وعلمنا بطريق المفهوم: أن من أحرق
مال اليتيم أو أتلفها بأي صورة من صور الإتلاف، فإن عليه ذلك
الوعيد، وهذا المفهوم الموافق المسكوت عنه مساو للمنطوق به في
الحكم جزماً.
مثال النوع الثالث - وهو: مفهوم الموافقة الظني الأولوي - قوله
صلى الله عليه وسلم:
"أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها
…
".
فهو نص على منع التضحية بالعوراء، وبما أن العمى عور مرتين،
فإن العمياء أَوْلى بالحكم المذكور في العوراء بجامع: أن هذا العور
يسبب نقص في القيمة، فالعمياء أحرى بهذا المعنى.
لكن قد يقول قائل: لماذا لم نقل: إن هذا من أمثلة مفهوم
الموافقة القطعي الأولوي.
جوابه:
أن هذا المعنى الذي من أجله منع التضحية بالعوراء لم نجزم به،
بل هو يغلب على ظننا؛ حيث إن هناك احتمالاً آخر وهو: أن يكون
المعنى الذي من أجله منع التضحية بالعوراء: أن العوراء مظنة الهزال
والضعف والسقام؛ لأن العوراء ناقصة البصر، لا ترى إلا ما قابل
عينها المبصرة فقط، فيكون هذا مظنة لنقص رعيها، ونقص رعيها
مظنة لهزالها، وهذا المعنى قد لا يوجد في العمياء؛ لأن صاحبها
يعرف بعماها لذلك تجده يهتم بها ويعلفها، وقد يختار لها أجود
العلف وذلك مظنة السمن.
مثال النوع الرابع - وهو مفهوم الموافقة الظني المساوي -: قوله
عليه الصلاة والسلام: " من أعتق له شركا في عبد فكان له مال يبلغ
ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق
عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق ".
فهو يدل على سراية العتق في حق العبد، والعلماء قد ألحقوا
الأمة بالعبد في هذا الحكم؛ لأنه يغلب على الظن عدم وجود الفرق
بينهما في ذلك.
قد يقول قائل: لماذا لم نجعل هذا من أمثلة مفهوم الموافقة القطعي
المساوي.
جوابه:
الذي منعنا من ذلك: أنه يوجد احتمال وهو: أن يكون الشارع
إنما نص على العبد في هذا الحديث لخصوصية في العبد لا توجد في
الأمة وهي: أن العبد إذا عتق فإنه يزاول مناصب الرجال وأعمالهم
ما لا تزاوله الأنثى، ولو كانت حرة.
***
المسألة الثامنة: حجية مفهوم الموافقة:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن مفهوم الموافقة حُجَّة، وهو طريق لاستنباط
الأحكام الشرعية.
وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف.
وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأولْ: إجماع الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم
فهموا ذلك من خطاب اللَّه تعالى ورسوله، ومن مخاطباتهم - فيما
بينهم -؛ وذلك في وقائع كثيرة، ومنها:
1 -
أنهم فهموا من قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) : أن ما زاد على مثقال ذرة أولى منه
في أن الشخص يراه يوم القيامة.
2 -
قول أبي بكر رضي الله عنه في شان مانعي الزكاة:
"والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه " فإن الصحابة قد فهموا من هذا: أنه إذا قاتلهم على عقال
البعير، فمن باب أوْلى أن يقاتلهم على ما فوقه.
الدليل الثاني: أن هذا الأسلوب من الدلالة معروف عند أهل
اللغة قبل ورود الشرع، بل هو أبلغ في الدلالة من التصريح؛ حيث
إفي العرب يرون ذلك ضربا من البلاغة، ونوعاً من التأكيد للحكم
في محل السكوت، وهم أهل اللسان، وأرباب البيان، وبلغتهم
نزل القرآن، فإن الشارع ينزل خطاباته على الأصول اللغوية
وأساليبها وعرفها في الفهم، وما هو حُجَّة لغة يجب اعتباره حُجَّة
شرعا ما لم يقم دليل على أن الشارع أراد معنى خاصا.
الدليل الثالث: تبادر فهم العقلاء، بيانه:
أن العقلاء إذا سمعوا هذا التعبير من الكلام كقول السيد لعبده:
"لا تعط زيداً درهماً، ولا تظلمه بذرة، ولا تعبس في وجهه، ولا
تقل له أف "، فإنه يتبادر إلى أذهانهم: امتناع إعطاء زيد ما فوق
الدرهم، وامتناع الظلم إلى ما فوق الذرة، وامتناع أذيته فيما فوق
التعبيس، وفوق التأفيف كالشتم والضرب،
قال ابن تيمية رحمه الله:
" وجمهور العلماء يرون أن إنكار فهم تحريم الضرب من
تحريم التأفيف من نقص العقل، والفهم، وأنه من باب السفسطة في
جحد مراد المتكلم ".
وقال شمس الدين الذهبي: " ما فهم أحد قط من عربي ولا
نبطي ولا عاقل ولا واع: أن النهي عن قول: " أف " للوالدين إلا
وما فوقها أولى منها، وهل يفهم ذو حس سليم إلا هذا؛ وهل هذا
إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأصغر على الأكبر ".
المذهب الثاني: أن مفهوم الموافقة ليس بحُجَّة.
وهو مذهب ابن حزم وأكثر الظاهرية.
دليل هذا المذهب:
أن مفهوم الموافقة ما هو إلا نوعا من القياس، والقياس باطل
جملة وتفصيلاً - كما سيأتي تفصيل كلامهم فيه - فيكون مفهوم
الموافقة ليس بحُجَّة مثله.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن مفهوم الموافقة من قبيل القياس،
بل إن دلالته دلالة لفظية، كما سبق بيان ذلك بالتفصيل وما كانت
دلالته لفظية، فإنه يكون حُجَّة كالنصوص.
الجواب الثاني: على فرض أن مفهوم الموافقة من قبيل القياس،
فإنه حُجَّة؛ لأن القياس حُجَّة على رأي جمهور العلماء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ حيث تأثرت في هذا كثير من الفروع الفقهية،
وسيأتي ذكر ذلك؛ حيث إن الظاهرية جعلوا مفهوم الموافقة من قبيل
القياس، وهم ينكرون القياس وينفونه، والجمهور يثبتونه فتكون
الأمثلة تنطبق على البابين، ولا داعي لتكرار ذلك.