الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع في القياس في كل الأحكام
هل القياس يجري في جميع الأحكام الشرعية بلا استثناء؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن القياس لا يجري في جميع الأحكام الشرعية.
وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لو كان كل حكم يصح أن يثبت قياسا: للزم
من ذلك أن يكون حكم أصل القياس ثابتا بالقياس - أيضا - وكذلك
حكم أصل أصله، ثم إن انتهى إلى أصل لا يتوقف على القياس
على أصل آخر فهو خلاف الغرض، وإن لم ينته وتسلسل الأمر امتنع
وجود قياس ما؛ وذلك لتوقفه على أصول لا نهاية لها.
الدليل الثاني: أنه معلوم أنه يتعذر إجراء القياس في كثير من
الأحكام كعدد الصلوات، وعدد ركعات كل صلاة، وعدد
الطواف، والسعي، وأكثر مناسك الحج وما شابه ذلك مما لم نتمكن
من عقل معناه، وإدراك علته، ومدار القياس على تعقل المعنى الذي
يعلل به الحكم في الأصل، وهذا لم ندرك علته.
الدليل الثالث: أنا بينا في هذا الفصل عدم جواز إجراء القياس
في العاديات والأمور الخلقية، والأسباب والشروط والموانع، وهذا
يبطل القول بإجراء القياس في كل الأحكام.
المذهب الثاني: أنه يجوز إجراء القياس في كل الأحكام.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الأحكام الشرعية - كلها - من جنس واحد، وتدخل تحت
حد واحد، وهو حد الحكم الشرعي، وحيث ثبت جريان القياس
في بعضها، فانه يثبت جريانه في بعضها الآخر؛ لأنهما متماثلان
ولا فرق بينهما.
جوابه:
لا نسلم أن جميع الأحكام متماثلة، بل بينها فرق؛ حيث إن
بعضها قد يقترن بأمور تجعله يختلف عن بعضها الآخر، ويتميز عنه:
فبعضها ندرك العِلَّة التي من أجلها شرع الحكم، فهذا يجوز فيه
القياس؛ لأن مدارَ القياس مبني على إدراك العِلَّة.
وبعضها الآخر: لا ندرك تلك العِلَّة، فهذا لا يجوز القياس فيها
مطلقاً.
فثبت: أنه مع دخول كل الأحكام تحت حد واحد وهو الحكم
الشرعي، وأنها كلها من اللَّه تعالى، فإنه يوجد بينها فرق من حيث
إدراك العِلَّة وعدم ذلك - كما بينت -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي هنا؛ لأن أصحاب المذهب الأول - إنما نفوا جريان
القياس في كل الأحكام بالفعل وإثبات جميعها به؛ بناء على أن من
الأحكام ما تحقق لدينا عدم إدراك معناه، وإن إثبات جميعها به قد
يؤدي إلى أن لا يثبت حكم منها بغيره، وذلك محال؛ لأنه يلزم منه
الدور والتسلسل وهما باطلان.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم لما أجازوا جريان القياس في كل
الأحكام، فإنهم قصدوا بتجويزه: أن كل حكم بالنظر لذاته،
وبقطع النظر عن غيره صالح لأن يثبت بالقياس إذا أدرك معناه؛ بناء
على رأي الجمهور وهو: أن جميع الأحكام لها علل ومعاني في
الحقيقة والواقع، ولكننا أدركنا ذلك في بعض الأحكام، ولم ندرك
علل ومعاني الأحكام الأخرى.