الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن عشر هل العام المخصوص حُجَّة في الباقي
؟
اللفظ العام إذا دخله التخصيص وأخرج بعض أفراده - بعد
التخصيص - هل يبقى حُجَّة فيما لم يخص أو لا؟
فمثلاً قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) عام في جميع الميتات
وهي مثلاً خمس ميتات - وهي: ميتة البقر، وميتة الغنم، وميتة
الإبل، وميتة السمك، وميتة الجراد - وجاءنا مخصص لهذا العموم
وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد.. "،
فأخرج السمك والجراد، فصار الباقي ثلاث ميتات
- وهي: ميتة الإبل، والغنم، والبقر - فهل يحتج بقوله تعالى:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) على ما بقي بعد التخصيص - وهي:
الثلاث الميتات - أو لا؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن اللفظ العام إذا دخله التخصيص يبقى حُجَّة
فيما لم يُخص مطلقا، أي: سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على
الاحتجاج بالعمومات، واكثرها قد خص، فلم يمنعهم خروج بعض
الأفراد من أن يستدلوا باللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص،
ولهذا صور كثيرة:
منها: احتجاج فاطمة رضي الله عنها بعموم قوله تعالى:
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) على طلب حقها من ميراث أبيها، ولم
ينكر عليها أبو بكر ولا غيره من الصحابة ذلك، مع أنه مخصص
بالكافر، والقاتل، والعبد، فإنهم قد استدلوا بعموم هذه الآية
على ميراث الباقي بعد إخراج هؤلاء الثلاثة.
ومنها: قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، وقوله: (والسارق والسارقة
…
) فقد احتجوا بهما
مع أنهما قد خصا بالمكره، والصبي، والمجنون، والجاهل.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ حيث إن كلها تدل على إجماع الصحابة
على الاحتجاج بالعموم المخصوص.
الدليل الثاني: أن دلالة العام لا زالت على ما هي عليه لم تتغير
بعد التخصيص، كما كانت قبل التخصيص، بيان ذلك:
أن لفظ " السارق " مثلاً قد وضع لجميع السارقين؛ حيث إنه لفظ
مفرد محلى بـ " أل "، فهو يفيد العموم - فهو يتناول كل سارق فتقطع
يده، فلما جاء المخصص وأخرج بعض السارقين كالمجنون،
والصبي، ومن سرق ما دون النصاب، وبيَّن أن هؤلاء لا تقطع
أيديهم وإن سرقوا، فإن هذا المخصِّص قد صرف اللفظ العام - وهو
السارق في قوله تعالى: (والسارق والسارقة
…
) عن دلالته على
هؤلاء، وإذا صرف المخصوص دلالة اللفظ عن هؤلاء، فإنه لم
يصرفه عن دلالته على الباقي، ولم يتعرض للباقي لا من قريب، ولا
من بعيد، فيبقى اللفظ يدل على الباقي على ما كان سابقا، ويستمر
على ذلك بدون تأثير، وهذا قياساً على الاستثناء، فإذا قال:
"أكرم الطلاب إلا زيداً "، فإن الاستثناء خاص بزيد، وقد أخرجه
عن الإكرام، ولم يتعرض لبقية الطلاب، فيبقون على إكرامهم دون
تغيير.
المذهب الثاني: أن اللفظ العام إذا دخله التخصيص لا يبقى حُجَّة
فيما لم يخص مطلقاً، أي: سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً،
وهو ما ذهب إليه أبو ثور - إبراهيم بن خالد صاحب الشافعي -
واختاره عيسى بن أبان الحنفي.
دليل هذا المذهب:
أن العام بعد التخصيص أصبح كل فرد من الأفراد الباقية يحتمل أن
يخرج بالتخصيص، ويحتمل أن لا يخرج، ولا يمكن ترجيح أحد
الاحتمالين، فيكون بقاء الأفراد مشكوكا فيه، والمشكوك لا حُجَّة فيه،
فاللفظ العام بعد تخصيص بعض أفراده لا يبقى حُجَّة على الباقي.
جوابه:
أن احتمال خروج الأفراد الباقية - بعد التخصيص - لا يؤثر بالظن
الغالب على كونها باقية على ما كانت؛ لأن الأصل البقاء، حتى
يقوم دليل على خلاف ذلك، ومتى كانت دلالة العام على الباقي
ظنية وجب العمل به في الباقي؛ لأن العمل بالظن متعين وواجب.
المذهب الثالث: العام حُجَّة في الباقي إن خُمنَ بمتصل كالاستثناء
والغاية والصفة، ولا يكون حُجَّة في الباقي إن خُصَّ بمنفصل كالنص
والعقل.
وهو مذهب أبي الحسن الكرخي.
دليل هذا المذهب:
أنه يوجد فرق بين العام المخصَّص بالمتصل، والعابم المخصَّص
بالمنفصل وهو: أن العام المخضَص بالمتصل لا يحتمل غير الأفراد
الباقية، فيكون العام ظاهراً في هؤلاء الأفراد، فيكون حُجَّة فيهم؛
حيث إن العمل بالظاهر واجب.
أما العام المخصَّص بالمنفصل فإنه متناول لما خرج كما هو متناول
للباقي بعد الإخراج، وهذا يؤدي إلى جواز أن يخرج من الباقي
بعض آخر بدليل لم يظهر لنا، فلا يكون العام ظاهراً في الباقي،
فلا يكون حُجَّة.
جوابه:
إن العام كان حُجَّة قبل أن يدخله التخصيص في كل الأفراد، نظراً
لكونه متناولاً لهؤلاء الأفراد، فيكون حُجَّة بعد التخصيص؛ لكونه
لا يزال متناولاً لهؤلاء الأفراد الباقين، وذلك لأن المخصص قد أثر
في الأفراد المخرجين، أما الباقين فلم يتأثروا بهذا المخصِّص، فيبقى
اللفظ العام دالًّا على الباقي كما كان وهذا مطلقا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن
الباقي بعد التخصيص يعمل به؛ لأن دلالة اللفظ العام عليه ظاهرة،
ولا يحتاج الأمر إلى أي قرينة، أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم
قصدوا: أن الباقي بعد التخصيص لا يعمل به إلا إذا جاءت قرينة
تدل على وجوب العمل به.
فمثلاً: قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، وخصص منها: الصبي، والمجنون، والجاهل.
فإن أصحاب المذهب الأول قالوا: يستدل بعموم الآية على ثبوت
حكم الزنى على الأفراد الباقية، فيجلدون إذا زنوا، دون الثلاثة
الذي خصوا.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم يتوقفون، ولا يستدلون بعموم
اتلك الآية على إثبات حكم الزنى على الأفراد الباقية، ولا يثبت
عليهم ذلك إلا بدليل خارجي.
-