الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
أقسام المنطوق غير الصريح
ينقسم المنطوق غير الصريح إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: دلالة الاقتضاء.
القسم الثاني: دلالة الإيماء.
القسم الثالث: دلالة الإشارة.
ووجه الحصر في انقسام المنطوق غير الصريح إلى هذه الأقسام
الثلاثة هو: أن المدلول عليه بالالتزام إما أن يكون مقصوداً للمتكلم
من اللفظ، أو لا يكون مقصوداً له.
فإن كان الأول - وهو كونه مقصوداً للمتكلم - فذلك بحكم
الاستقراء قسمان:
أحدهما: أن يتوقف على المدلول صدق الكلام، أو صحته عقلاً
أو شرعاً، فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الاقتضاء.
ثانيهما: أن لا يتوقف عليه ذلك، فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة
إيماء.
وإن كان الثاني - وهو: أن لا يكون مقصوداً للمتكلم - فدلالة
اللفظ عليه تسمى دلالة الإشارة، وإليك بيان هذه الأقسام الثلاثة فيما
يلي:
القسم الأول
دلالة الاقتضاء
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: تعريف دلالة الاقتضاء.
المسألة الثانية: أنواع المقتضَى - بفتح الضاد -
المسألة الثالثة: أركان الاقتضاء.
المسألة الرابعة: هل للمقتضى عموم؟
المسألة الأولى: تعريف دلالة الاقتضاء:
دلالة الاقتضاء هي: دلالة اللفظ على معنى لازم مقصود للمتكلم
يتوقف عليه صدق الكلام، أو صحته العقلية، أو صحته الشرعية.
وقيل: هي: ما كان المدلول فيه مضمراً إما لضرورة صدق المتكلم
وإما لصحة وقوع الملفوظ به.
أي: أن المدلول فيه مضمر، ولم ينطق به، ولكن يكون من
ضرورة اللفظ.
***
المسألة الثانية: أنواع المقتضَى - بفتح الضاد -:
المعنى الزائد الذي يستدعيه النص، والذي يتوقف صدف الكلام أو
صحته العقلية أو الشرعية على تقديره ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما يتوقف عليه صدق الكلام.
النوع الثاني: ما يتوقف عليه صحة الكلام شرعاً.
النوع الثالث: ما يتوقف عليه صحة الكلام عقلا.
وإليك بيان كل نوع مما سبق مع الأمثلة فأقول:
النوع الأول، وهو: ما يتوقف عليه صدق الكلام، أي: ما
وجب تقديره ضرورة صدق الكلام.
فلولا تقديره مقدما لكان الكلام كذبا، ومخالفاً للواقع والحقيقة.
مثال ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: " إن اللَّه رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، فإن ظاهر هذا يدل على أن
كلاً من الخطأ والنسيان قد وضعا عن الأُمَّة، وأنهما لا يقعان فيها،
وهذا لا يطابق الواقع؛ حيث إنه يقع من الأمَّة الخطأ والنسيان
والإكراه؛ لأن الأُمَّة ليست معصومة، والرسول لا يخبر إلا صدقاً،
وعلى هذا لا بد - لأجل أن يكون الكلام صدقاً - من تقدير
محذوف، فتعئن أن نقدِّر شيئاً زائداً - عن الذي استفدناه عن طريق
عبارة النص - وهو: " الإثم " فيكون تقدير الكلام بعد هذا: "رُفع
عن أمتي إثم الخطأ، وإثم النسيان، وإثم ما استكرهوا عليه ".
مثال آخر: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا صيام لمن لم يجمع
الصيام من الليل "، فإن ظاهر هذا النص يدل على نفي وجود ذات
الصيام إلا بعزم ونية، وهذا لا يطابق الواقع؛ لأن ذات الصيام
وصورته قد يقع بدون نية، فلا بد لصدق هذا الكلام من تقدير شيء
زائد وهو: " صحيح "، فيكون تقدير الكلام بعد الزيادة: " لا
صيام صحيح لمن لم يجمع الصيام من الليل ".
النوع الثاني: ما توقف عليه صحة الكلام شرعا.
أي:. ما وجب تقديره ضرورة تصحيح الكلام ص شرعا، فيمتنع
وجود الملفوظ شرعا بدون ذلك المقتضى.
مثال ذلك: قوله تعالى: (فمن كلان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر) ، فظاهر هذا يدل على أن المسافر يصوم عدة من
أيام أخر، سواء صام في سفره أو لم يصم، ولكن الشرع دلَّ على
أن المسافر إذا أفطَر في سفره فعليه القضاء في أيام أخر، أما إذا صام
في سفره فلا موجب للقضاء عليه، فيكون التقدير - لأجل تصحيح
الكلام شرعا - " أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ".
مثال آخر: قول الإنسان لمن يملك عبداً: " اعتق عبدك عني وعلي
ثمنه "، فهذا تصرف قولي، فما دلَّ بعبارة نصه لا يصح شرعا إلا
بتقدير بيع سابق؛ إذ لا يجوز شرعاً عتق عبد الغير بدون ولاية أو
وكالة.
وبناء عليه: فإن صحة هذا التصرف شرعا تتوقف على ثبوت ملك
مريد العتق أو لا، والشيء الذي يتصور ناقلاً لملكية العبد إلى من
أراد عتقه - هنا - هو " البيع ".
فهذا هو المعنى الذي قصده مريد العتق، ولو لم ينطق به؛ لأنه
قد فهم من مضمون قوله بدليل ذكره للثمن، فصار تقدير الكلام:
" بع عبدك هذا عليّ بألف ريال - مثلاً - وكن وكيلاً عني في عتقه ".
فالمقتضى - هنا - هو " البيع "، وقدر مقدما ليستقيم ويصح
التصرف.
النوع الثالث: ما توقف عليه صحة الكلام عقلاً.
أي: ما وجب تقديره ضرورة لتصحيح الكلام من جهة العقل،
فيمتنع وجود الملفوظ عقلاً بدون ذلك المقتضى.
مثاله: قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) ، فإن العقل
يمنع من إضافة التحريم إلى ذات الأمهات، فوجب إضمار فعل
يتعلق به الحكم - وهو هنا التحريم -، فوجب إضمار " الوطء "،
نظراً إلى أن العقل يقتضيه، فيكون التقدير: " حرم عليكم وطء
أمهاتكم ".
مثال آخر: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، فإن العقل
يمنع من إضافة الحكم إلى ذات الميتة، فوجب عقلاً إضمار فعل
يتعلق به التحريم، وهو هنا " الأكل ".
والأمثلة على ذلكْ كثيرة كقولك: " حرمت عليك هذه الدار "
والمقصود: دخول الدار، كذلك قولك: " حرمت عليك هذا
الطعام، أي: أكله، وهكذا.
***
المسألة الثالثة: أركان الاقتضاء:
لقد علمت من تعويف الاقتضاء، وأقسامه: أن دلالة الاقتضاء
تتكون مما يلي:
1 -
المقتضِي - بكسر الضاد - وهو: النص، أو الكلام الذي
يستلزم معنى مقدراً ومقدما على المنطوق بلفظه ضرورة استقامة معناه،
ويسمى الحامل على التقدير والزيادة.
2 -
المقتضَى - بفتح الضاد - وهو: المعنى المزيد المقدر الذي
طلبه واستلزمه - ضرورة - كلام الشارع، أو المتكلم لتصحيحه،
وليستقيم معناه شرعا أو عقلاً.
3 -
الاقتضاء، وهو: النسبة بينهما، أي: أن استدعاء المنطوق
نفسه لذلك المقدر لحاجته إليه، ولعدم استقامته إلا بذلك التقدير
والزيادة يسمى اقتضاء.
فإذا توفرت هذه الأمور في الكلام المراد استخراج حكم شرعي
منه يكون ما ثبت به حكم المقتضى.
وإن شئت المزيد عن الكلام عن " دلالة الاقتضاء " فراجع كتابي:
" دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفية وأثرها الفقهي ".
المسألة الرابعة: هل للمقتضى عموم؟
إذا كان المقتضى عاما يشمل أفراداً كثيرين، ولم يقم دليل على
تعيين واحد منها، فهل يقدر ما يعم تلك الأفراد، أو يقدر واحد
منها؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا عموم له.
وهو مذهب الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، والآمدي.
وهو الحق عندي؛ لأن ثبوت المقتضى كان للضرورة حتى إذا كان
الكلام مفيداً للحكم بدونه لم يصح إثباته لغة ولا شرعا.
وإذا كان للضرورة فإن الضرورة تقدر بقدرها، ولا حاجة لإثبات
العموم فيه ما دام الكلام مفيداً بدونه، ويبقى فيما وراء موضع
الضرورة - وهو استقامة الكلام - فلا يثبت فيه العموم؛ قياسا على
أكل الميتة، فإنه لما أبيح للضرورة قدر بقدرها، وهو سد الرمق
فقط، وما وراء ذلك من الحمل والتناول حتى الشبع: فلا يثبت حكم
الإباحة فيه.
المذهب الثاني: أن المقتضى له عموم..
وهو مذهب بعض الشافعية، ونسب إلى الإمام الشافعي، وعليه
كثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المقتضى بمنزلة المنصوص في ثبوت الحكم،
حتى كان الحكم الثابت به بمنزلة الثابت بالنص لا بالقياس، فكذلك
في إثبات صفة العموم فيه، فيجعل كالمنصوص، فيجوز فيه العموم
كما يجوز في النص.
جوابه:
إن المقتضى تبع للمقتضي، فإنه شرطه ليكون مفيداً، وشرط
الشيء يكون تبعاً، فلو جعل المقتضى كالمنصوص لخرج من أن يكون
تبعا، والعموم حكم صيغة النص خاصة، فلا يجوز إثباته في
المقتضى.
الدليل الثاني: أن اللفظ في مثل قوله: " رفغ عن أمتي الخطأ
والنسيان " دال على رفع ذات الخطأ، وهذا متعذر، فوجا تقدير
ما هو أقرب إلى رفع الذات، وهو: رفع جميع الأحكام؛ لأنه إذا
تعذر نفي الحقيقة وجب أن يصار إلى ما هو أقرب إلى الحقيقة، وهو
هنا جميع الأحكام؛ لأن رفعها يجعل الحقيقة كالعدم، فكأن الذات
قد ارتفعت حقيقة.
جوابه:
إن إضمار جميع الأحكام يلزم منه تكثير مخالفة الدليل المقتضي
للأحكام، وهو وجود الخطأ والنسيان.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ حيث ترتب على ذلك اختلافهم في بعض
الفروع الفقهية، ومنها:
أن من تكلم في صلاته ناسيا، أو مخطئا، أو ساهياً، بطلت
صلاته ولا إثم عليه، وعليه الإعادة، وهو قول أصحاب المذهب
الأول - وهم القائلون: إن المقتضى لا عموم له - حيث قالوا: إن
قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " لا عموم له، فيكون
المرفوع حكماً واحداً وهو: " الإثم " المقتضي للعقوبة في الآخرة،
ولم يرفع الحكم الدنيوي وهو: الإعادة.
أما على قول أصحاب المذهب الثاني - وهو: أن للمقتضى
عموما - فإن من تكلم في صلاته ناسيا أو مخطئاً فلا تبطل صلاته إذا
كان الكلام قليلاً، واحتجوا بعموم المقتضى في قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
…
"،
حيث قال هؤلاء: إن الحكم الذي عفي عنه عام شامل للحكم الدنيوي، وهو عدم البطلان، وللحكم الأخروي وهو: عدم الإثم والمؤاخذة.
القسم الثاني دلالة الإيماء
وهي دلالة اللفظ على لازم مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صدق
الكلام ولا صحته عقلاً، أو شرعا، في حين أن الحكم المقترن
بوصف لو لم يكن للتعليل لكان اقترانه به غير مقبول، ولا مستساغ.
فذكر الحكم مقروناً بوصف مناسب يفهم منه أن عِلَّة ذلك الحكم
هو ذلك الوصف.
مثل قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
فإن الحكم - وهو قطع يد السارق - رتبه الشارع على السرقة،
فالآية قد أومأت إلى عِلَّة قطع اليد، وهي: السرقة.
مثال آخر: قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم) فإنه إيماء إلى
أنهم ما صاروا في النعيم إلا لعِلَّة وهي: برهم.
وكذلك قوله تعالى: (وإن الفجار لفي جحيم) فإنه إيماء إلى
أنهم ما صاروا في الجحيم إلا لفجورهم.
وكقولك: " أكرم العلماء وأهن الفساق " فيه إيماء إلى أن إكرام
العلماء لعلة وهي: العلم، وأن إهانة الفساق لعلة وهي: الفسق،
ويقاس على ذلك كل ما خرج مخرج المدح والذم.
تنبيه: هذا القسم قد سماه بعضهم: دلالة الإيماء، وسماه بعض آخر
بالتنبيه، وبعضهم سماه بفحوى الكلام، وبعضهم سماه بلحن الكلام.
تنبيه آخر: دلالة الإيماء يتنوع إلى ستة أنواع، وهو من مسالك العلَّة
الاجتهادية، وسيأتي الكلام عنها في باب القياس بالتفصيل إن شاء اللَّه.
القسم الثالث دلالة الإشارة
وهي: دلالة اللفظ على لازم غير مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه
صدق الكلام ولا صحته، فالحكم قد أخذناه - هنا - من إشارة
اللفظ، لا من اللفظ نفسه.
ويعني به: ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن
المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس
اللفظ فيسمى إشارة، فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويُبنى
عليه.
مثالهْ قوله تعالى ت (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ، فإن هذا
يدل مع قوله: (وفصاله في عامين) على أن أقل مدة الحمل ستة
أشهر، وهذه دلالة إشارة.
وهذا الحكم غير مقصود من لفظ الآيتين، بل المقصود في الآية
الأولى هو: حق الوالدة وما تقاسيه من الآلام في الحمل وفي
الفصال، والمقصود في الثانية -: بيان أكثر مدة الفصال.
ولكن لزم منهما: أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهذه دلالة
إشا رة.
مثال آخر: قوله تعالى: (فالآن باشروهن) ، فإنه أباح
المباشرة إلى طلوع الفجر بقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود) ، وكان بيان ذلك هو: المقصود.
ومع ذلك فقد لزم منه: أن من جامع في ليل رمضان وأصبح جنبة
لم يفسد صومه؛ لأن من جامع في آخر الليل لا بد من تأخر غسله
إلى النهار، فلو كان ذلك مما يفسد صومه لما أبيح الجماع في آخر
جزء من الليل، فهذا الحكم قد أخذ من دلالة الإشارة.
إذن يكون المنطوق غير الصريح ثلاثة أقسام: اقتضاء النص،
وإيماء النص، وإشارة النص، وهذا منهج الجمهور في تقسيمه، أما
الحنفية فلا يخالفونهم في هذه الأسماء وأمثلتها إلا أنهم يخالفونهم
في أصل التقسيم.