الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث هل القياس حُجَّة؛ أي: هل يجوز التعبد بالقياس
ويكون دليلاً من الأدلة على إثبات الأحكام أو لا
؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب كثيرة، فبعضهم قال:
يجوز عقلاً، ويجوز شرعا، وبعضهم قال: يجب عقلاً، ويجوز
شرعا، وبعضهم قال: يجب عقلاً وشرعا، وبعضهم قال: يجوز
عقلاً ولا يجوز شرعا، وبعضهم قال: لا يجوز عقلاً ولا شرعا،
وقد بينت ذلك ببعض التفصيل في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح
روضة الناظر " إلا أن هذه الأقوال والمذاهب وإن كثرت ترجِع إلى
مذهبين هما " أن القياس حُجَّة "، و " أن القياس ليس بحُجة "،
وإليك بيانهما:
المذهب الأول: أن القياس حُجَّة، أي: يجوز التعبد بالقياس
عقلاً وشرعا، أي: أن القياس دليل من الأدلة الشرعية المعتبرة
لإثبات أحكام شرعية.
وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو الحق
عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: إجماع الصحابة السكوتي على أن القياس يُعتبر
دليلاً من الأدلة الشرعية.
والاستدلال بالإجماع أقوى من الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة هنا؛
لأنه لا يؤلي النسخ، ولا يحتمل التأويل بخلاف النص من الكتاب
والسُّنَّة، فإنه يقبل النسخ والتأويل، وما لا يقبل يُقدم على ما يقبل.
لذلك قال فخر الدين الرازي: " الإجماع هو الذي يعول عليه
جمهور الأصوليين " - أي: في حجية القياس -.
وقال الآمدي: " الإجماع أقوى الحجج في هذه المسألة ".
وقال أكثر العلماء: إن إجماع الصحابة على العمل بالقياس يعد
أقوى الأدلة على ثبوت حجيته ووجوب العمل به.
وتقرير إجماع الصحابة على حجية القياس هو أن يقال: أجمع
الصحابة رضي الله عنهم على إثبات الأحكام بالقياس وعلى أنه
يعمل به، وما أجمع عليه الصحابة فهو حق، فالعمل بالقياس حق.
وسأبين ذلك بوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه ثبت عن جمع كثير من الصحابة - رضي الله
عنهم - القول بالقياس والعمل به في الوقائع التي لا نص فيها،
فقاموا بإلحاق المثل بالمثل بسبب جامع، والعادة تقتضي بأن اجتماع
جمع كثير من الصحابة على العمل بالشيء لا يكون إلا بقاطع دال
على العمل به.
الوجه الثاني: أنه قد تكرر عمل أكثر الصحابة بالقياس عند عدم
النص وشاع وذاع، ولم ينكر ذلك أحد.
الوجه الثالث: أنه لما لم ينكر بعض الصحابة على الآخرين قولهم
بالقياس واستدلالهم به، فإن القول به يكون مجمعا عليه بين
الصحابة، وهذا الإجماع صحيح.
الوجه الرابع: أن المجمع عليه بين الصحابة حُجَّة يجب العمل
بمقتضاه.
فالناتج من هذه الوجوه الأربعة: أن القياس حُجَّة، يجب العمل
به، وأنه مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بعد الكتاب والسُنَّة
والإجماع.
الأدلة على هذه الوجوه الأربعة:
سأبين فيما يلي دليل كل وجه من تلك الوجوه الأربعة، وبعض
الاعتراضات الموجهة إلى كل دليل، والجواب عنه فأقول:
أما الوجه الأول - وهو: أنه ثبت عن جمع كثير من الصحابة
القول بالقياس والعمل به في الوقائع التي لا نص فيها - فالدليل
عليه: ما نقل عن الصحابة من الوقائع التي حكموا فيها بالقياس،
وهذا كثير، ومن ذلك:
1 -
قياس الصحابة رضي الله عنهم خلافة أبي بكر على
الإمامة في الصلاة، وقالوا في ذلك: " رضيه رسول الله لديننا أفلا
نرضاه لدنيانا ".
وجه الدلالة: أنهم قاسوا الإمامة العظمى، وهي الخلافة على
الإمامة الصغرى، وهي: الصلاة بجامع: الصلاحية في كل.
2 -
اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في أخذ الزكاة من منع
دفع الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقتالهم على ذلك، ووافقه الصحابة.
وجه الدلالة: أن أبا بكر قاس خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الزكاة، وقتالهم عليها، بجامع: قيام كل منهما في تنفيذ أوامر الشريعة.
اعتراض على ذلك:
أن أبا بكر لم يتمسك بالقياس، وإنما تمسك بالنص، وهو قوله
تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) ، فهنا الآية قد
أمرت بالأخذ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب، فيجب أن يؤخذ
من المسلمين الزكاة، فمن أطاع فلا إشكال، ومن عصى وأبى أن
يؤديها فيجب قتاله؛ استنادأ إلى قاعدة: " ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب "، وأبو بكر نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن يقاتلهم على ذلك، فيكون أبو بكر قد استدل بالنص على قتالهم، لا بالقياس.
جوابه:
أن قوله تعالى: (خذ من أموالهم) خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعدَّى إلى غيره إلا بدليل، ولا دليل إلا القياس هنا.
وقال بعض العلماء: إن أبا بكر قاتل من منع الزكاة؛ قياساً على
الصلاة، فكما أن الصلاة يُقاتل من تركها، فكذلك يقاتل من منع
الزكاة بجامع: أن كلًّا منهما ركن من أركان الإسلام، وهذا ممكن
لكن القياس الأول أَوْلى، وعليه الأكثر.
3 -
أن أبا بكر رضي الله عنه ورث أم الأم، وترك أم
الأب، فقال له رجل يقال له عبد الرحمن بن سهل بن حارثة: "لقد
ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو
كانت هي الميتة ورث جميع ما تركته، فرجع أبو بكر عن ذلك إلى
التشريك.
وجه الدلالة: أن أبا بكر رجع عن إفراد أم الأم بالسدس إلى رأي
آخر، وهو تشريك أم الأم مع أم الأب بالسدس؛ قياسا لأم الأب
على أم الأم.
4 -
أن أبا بكر رضي الله عنه قاس تعيين الإمام بالعهد إلى
عمر على تعيينه بعقد الأُمَّة له بالخلافة بجامع: أن كلًّا منهما صادر
ممن هو أهل لذلك، فالأُمَّة عقدوا لأبي بكر بالخلافة لأنهم أهل
لذلك، وأبو بكر أهل لذلك؛ لأنه نائب عنهم.
5 -
ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى
الأشعري كتابه المشهور، والذي جاء فيه: " اعرف الأشباه والنظائر
وقس الأمور برأيك ".
6 -
ما روي عن عمر - أيضاً - أنه جلد أبا بكرة واثنين معه
هما: نافع، وشبل بن معبد، حد القذف؛ حيث لم يكمل نصاب
الشهادة على المغيرة بن شعبة بأنه زنى.
وجه الدلالة: أن عمر قاس الشاهد في الزنا عند عدم تمام
النصاب على القاذف في وجوب الحد.
7 -
ما روي عن عمر - أيضا - في مسألة المشركة - وهي:
زوج وأم وأخوة الأم وأخوة أشقاء فحكم فيها بأن النصف للزوج،
والسدس للأم، والثلث للأخوة لأم، ولم يعط الإخوة الأشقاء
شيئاً، فقال الإخوة الأشقاء: هب أن أبانا كان حماراً، أو حجراً
ألسنا من أم واحدة؛ فشرك بين الإخوة لأم والإخوة الأشقاء في قضاء
آخر، فهنا قاس الإخوة الأشقاء على الإخوة لأم بجامع: اشتراكهم
في الإدلاء للميت بالأم.
8 -
ما روي: أن عمر رضي الله عنه قد أرسل إلى امرأة
فأجهضت - أي: أسقطت جنينها - خوفا وفزعا من هيبته،
فاستشار الصحابة في ذلك، فقال - عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن
عفان: إنما أنت مؤدب فلا شيء عليك، وقال له عليّ بن أبي
طالب: أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطاً عنك، وأرى أن عليك
الدية فاتبع عمر رأي علي.
وجه الدلالة: أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف قاساه على
مؤدب امرأته وولده وغلامه، وقاسه علي على قاتل الخطأ.
9 -
ما روي: أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في قتل
الجماعة بالواحد، فقال عليّ رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين،
أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم؟
قال: نعم، قال: فكذلك.
وجه الدلالة: أنه قاس القتل على السرقة.
10 -
قال علي رضي الله عنه: " اجتمع رأي ورأي عمر
في أمهات الأولاد ألا يبعن، أما الآن فقد رأيت بيعهن ".
وجه الدلالة: أن المسألة مختلف فيها: فمن ذهب إلى جواز بيع
أمهات الأولاد قاسهن على الإماء وغيرهن من الممتلكات، ومن
ذهب إلى عدم جواز بيعهن قاسهن على الحرائر.
11 -
ما روي عن علي أنه قال في حد شارب الخمر: " إذا
شرب سكر، وإذا سكر هذى، دماذا هذى افترى، فعليه حد
المفتري ".
وجه الدلالة: أن عليا قاس شارب الخمر على القاذف بجامع:
الافتراء.
12 -
اختلاف ابن عباس مع زيد بن ثابت في توريث الإخوة مع
فإن زيداً قد ورث الإخوة مع الجد، ودليله: القياس؛ حيث
قاس الأخ على الجد بجامع: أن كلًّا منهما قد أدلى إلى الميت بالأب.
أما ابن عباس فقد أنكر على زيد ذلك وقال: " ألا يتقي اللَّه زيد
يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا "، حيث إنه يذهب
إلى أن الجد يحجب الإخوة، ودليله: القياس، حيث قاس الجد
على ابن الابن، فكما أن ابن الابن في منزلة الابن في حجبه
للإخوة، فكذلك الجد في منزلة الأب في حجبه للإخوة.
13 -
اختلاف الصحابة في الخلع هل هو طلاق أو فسخ؛ فمن
ذهب إلى أنه طلاق - وهو ما روي عن عثمان - فإنه ألحقه بالطلاق
قياسا عليه، فأعطاه حكمه، وجعله يهدم من عدده، ومن لم
يذهب إلى أنه طلاق، فقد قال: إنه فسخ - وهو ما حكي عن ابن
عباس - فلم يهدم عنده من عدد الطلاق شيئاً.
14 -
ما روي عن ابن عباس أنه قال في دية الأسنان: ألا اعتبرؤم
ذلك بالأصابع سواء وإن اختلفت منافعها.
وجه الدلالة: أن ابن عباس قاس الأسنان على الأصابع في حكم
الدية.
15 -
اختلاف الصحابة في مسألة " الحرام "، وهو قول الزوج
لزوجته: " أنت علي حرام "، فبعضهم - وهو عليّ، وزيد،
وابن عمر - ذهب إلى أنه في حكم التطليقات الثلاث.
وبعضهم - وهو ابن مسعود - ذهب إلى أنه في حكم التطليقة
الواحدة.
وبعضهم - وهو أبو بكر، وعمر، وعائشة - ذهب إلى أنه في
حكم اليمين تلزم فيه الكفارة.
وبعضهم - وهو ابن عباس - ذهب إلى أنه في حكم الظهار.
وجه الدلالة: أن من قال: إنه طلاق ألحقه بالألفاظ الموضوعة
للطلاق؛ لأنه لفظ يؤثر في تحريم الزوجة، وهو ليس من صريح
الطلاق، وليس مما أجمعوا على أنه من كناياته، ثم من جعله ثلاثا
فقد احتاط في الأمر، ومن جعله واحدة رجعية أخذ بالمتيقن، ومن
جعله واحدة بائنة توسط.
ومن قال: إنه ظهار فقد ألحقه بصيغته لمشابهته له في افتضاء
التحرريم؛ لأنه ليس من الألفاظ الموضوعة له.
ومن قال: إنه يمين ألحقه باليمين، فأوجب عليه كفارته.
هذا بعض ما نقل عن الصحابة من القول بالقياس والعمل به،
وهي وإن كانت آحاداً فإنه لا يمتنع تواتر القدر المشترك بين التفاصيل،
وهو: العمل بالقياس في الجملة.
اعتراض على هذا الوجه - وهو: الوجه الأول -:
ما ذكرب م من الصور السابقة لا يفيد ذهاب الصحابة جميعاً إلى
القول بالقياس، وما رويتم عن بعض الصحابة لا تزيد رواتها مع ما
شابهها على المائة والمائتين، وذلك لا يفيد القطع بالصحة؛ لاحتمال
تواطؤ هذا القدر على الكذب.
جوابه:
أن هذه مكابرة ومعاندة، فإنه لا يشك عاقل في أن القدر المشترك
مما ذكرنا أو لم نذكره مما شابهه متواتر، ومن اطلع على كتب السمر
والأخبار والمحدثين والفقهاء، فإنه يقطع بصحة ذلك، قال المزني
صاحب الشافعي: " الفقهاء من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم،
وأجمعوا بأن نظير الحق حق، وأن نظير الباطل باطل، فلا يجوز
لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها.
أما الوجه الثاني - وهو: أنه لم يوجد من واحد من الصحابة
إنكار أصل القياس - فالدليل عليه: أن القياس أصل عظيم في
الشرع نفياً وإثباتا، فلو أنكر بعضهم القياس لكان ذلك الإنكار
منقولاً إلينا، وهو أوْلى بالنقل من مسألة " الحرام "، و " الجد
والإخوة "، ونحوهما، ولو نقل لاشتهر ولوصل إلينا، فلما لم
يصل إلينا: علمنا أنه لم يوجد إنكار أصل القياس.
اعتراض على هذا الوجه - وهو الوجه الثاني -:
لا نسلم ما قلتموه في هذا الوجه - وهو الوجه الثاني - بل ثبت
الإنكار ووصل إلينا، فإنه نقل عن الصحابة إنكار الرأي تارة،
وأخرى إنكار القياس، وثالثة ذم من أثبت الحكم غير مستند لكتاب
أو سُنة، من ذلك:
1 -
أنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " أي
سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللَّه برأي ".
2 -
ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " إياكم
وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السق، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها
فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ".
3 -
أنه روي عن عمر - أيضا - قال: " إياكم والمكايلة "،
قيل: ما المكايلة؛ قال: " المقايسة ".
4 -
أن شريحاً قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إليَّ قائلاً: " أقض بما في كتاب اللَّه، فإن جاءك ما ليس في كتاب
، لله فاقض بما في سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم
…
".
5 -
أنه روي عن علي أنه قال: " لو كان الرأي أوْلى من السُّنَّة
لكان باطن الخف أوْلى بالمسح من ظاهره ".
6 -
أنه روي أن عليا قال - في مسألة الجنين -:
" إن اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشاك " - يعني: عبد الرحمن بن
عوف، وعثمان بن عفان - في قصة الجنين السابقة الذكر -.
7 -
أنه روي أن عليا قال: " من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم
فليقل في الجد برأيه ".
8 -
أنه روي أن ابن مسعود قال: " يذهب قراؤكم وصلحاؤكم
ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم "، وروي هذا عن
ابن عباس.
9 -
أنه روي أن ابن عباس قال: " من أحدث رأيا في كتاب الله
عز وجل، ولم تمض به سُنَّة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي اللَّه تعالى ".
10 -
أنه روي أن ابن عباس قال: إن اللَّه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)، ولم يقل: بما رأيت، ولو جعل
لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم.
11 -
أنه روي أن ابن عباس قال: " إياكم والمقاييس فإنما عبدت
الشمس بالمقاييس ".
12 -
أنه روي ابن عمر قال: " السُّنَّة: ما سنَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا الرأي سُنَّة للمسلمين ".
13 -
أنه روي أن ابن مسعود قال: " إذا قلتم في دينكم بالقياس
فقد أحللتم كثيراً مما حرَّمه اللَّه، وحرَّمتم كثيراً مما أحلَّه اللَّه ".
فهذه الصور وما شابهها مما ورد عن الصحابة إنكارات صريحة
للرأي والقياس، ونقلت إلينا، فإذا نظرنا إلى هذه الإنكارات منهم
فإنه يثبت أنهم أنكروا أصل القياس؛ إذن لا إجماع على اعتباره.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين: " جواب إجمالي "، و " جواب تفصيلي ".
أما الجواب الإجمالي فنقول فيه: إن هذه الروايات الواردة في
إنكار وذم القياس منقولة عمن نقل عنهم القول بالقياس والعمل به.
إذن: التعارض بين النقلين ثابت فلا بد من دفعه.
ودفعه لا يمكن إلا بالتوفيق بين هذين النقلين؛ لأنه لا يمكن أن
نترك النقلين معا؛ حيث إن فيه تركا لأمرين قد ثبتا شرعا، وهذا
باطل.
ولا يمكن أن نعمل بهما معاً؛ لأنه يلزم من ذلك الجمع بين
النقيضين وذلك مستحيل.
ولا يمكن - أيضا - أن نعمل بأحد النقلين دون الآخر من غير قرينة
ترجح أحدهما.
فلم يبق إلا التوفيق بينهما.
وطريق التوفيق بينهما: أن نحمل ما نقل عنهم من العمل بالرأي
والقياس على القياس الصحيح، وهو: المستكمل لجميع شروط
الاحتجاج به، والصادر من أهل الاجتهاد.
أما ما نقل عنهم من إنكار وذم العمل بالرأي والقياس فنحمله على
ما كان صادراً عن الجهال، ومن لم يصل إلى درجة الاجتهاد، وما
كان مخالفا للنص، وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار، وما كان
على خلاف القواعد الشرعية، وهذا هو المسمى بالقياس الفاسد.
أما الجواب التفصيلي فهو: أن يجاب عن كل رواية من الروايات
المنقولة السابقة في ذم الرأي والقياس، فنقول على الترتيب السابق:
1 -
أما - قول أبي بكر رضي الله عنه: " أي سماء تظلني
وأي أرض تقلني
…
"، فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن،
ونحن نسلم أنه لا مجال للرأي في ذلك؛ لكونه مستنداً إلى محض
السمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل اللغة.
2 -
وأما قول عمر رضي الله عنه:
" إياكم وأصحاب الرأي.. "، فإنما قصد به ذم من ترك الموجود من الأحاديث، وعدل إلى الرأي والقياس مع أن العمل به مشروط بعدم النص.
3 -
وأما قول عمر: " إياكم والمكايلة "، وفسر المكايلة بأنها
المقايسة، فإن المراد بالمقايسة التي حذر عمر عنها هي القابسة الفاسدة.
4 -
وأما قول عمر لشريح: " اقض بما في كتاب اللَّه.. "
فنقول فيه: إن القياس مما أجمع أهل العلم على العمل به.
5 -
وأما قول علي: " لو كان الرأي أوْلى من السُنَّة.. "
فالمقصود منه: أن الشريعة ليست كلها على ما يقتضيه القياس، بل
بعضها تعبدي لا يجوز القياس فيه، وبعضها الآخر له عِلَّة يمكن أن
يقاس عليه بسبب تلك العِلَّة.
6 -
وأما قول عليّ في الجنين: " إن اجتهدا فقد أخطئنا.. "،
فإن عليا يبين في هذه المقالة: أنه ليس كل اجتهاد صوابا، وليس كل
اجتهاد خطأ، فإنه قد يخطى المجتهد في اجتهاده.
7 -
وأما قول علي: " من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم
…
"
فإنه يقصد الرأي المجرد، وهو غير المستند إلى أصل من كتاب أو
سُنَة، فإن هذا لا يجوز.
8 -
وأما قول ابن مسعود: " يذهب قراؤكم وصلحاؤكم،
ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم "، فالمراد منه:
القياس المذموم، وهو القياس الفاسد الصادر عن الجهال، ولهذا
وصفهم بأنهم جهال.
9 -
وأما قول ابن عباس: " من أحدث رأيا في كتاب اللَّه "،
فإنه يحمل على الرأى المجرد عن اعتبار الشارع له.
10 -
وأما قول ابن عباس: " إن اللَّه تعالى قال لنبيه: (وأن
احكم بينهم بما أنزل الله) ، ولم يقل بما رأيت "، فإن الحكم
بالقياس هو حكم بما أنزل اللَّه؛ لأن اللَّه عز وجل أمر به بقوله:
(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) .
11 -
وأما قول ابن عباس: " إياكم والمقاييس.. "، فإن المراد
بالمقاييسِ هنا: المقاييس الفاسدة وهي التي لم تتوفر فيها شروط
القياس.
12 -
وأما قول ابن عمر: " السُّنَّة: ما سنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا تجعلوا الرأي سُنَّة المسلمين "،
فإنه يفيد أن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، والرأي المعتبر من الشارع
هو من السُنَّة؛ لأن السُنَّة دلَّت عليه بأحاديث سيأتي ذكرها - إن شاء اللَّه -
أما الرأي المجرد من اعتبار الشارع له فليس من السُّنَّة في شيء.
13 -
وأما قول ابن مسعود: " إذا قلتم في دينكم بالقياس فقد
أحللتم كثيراً مما حرمه اللَّه
…
"، فالمقصود بالقياس هنا: القياس
الفاسد، وهو الذي لم يستند إلى أصل، أو الصادر من الجاهل،
أو المخالف للقواعد الشرعية.
والحاصل: أن هذه الأجوبة التفصيلية عن تلك النصوص مستفادة
من الجواب الإجمالي: فكل نص فيه ذم للقياس يُعنى به القياس
الفاسد غير المعتبر شرعا، وهو الذي لم يستكمل شروط القياس،
وكل نص فيه دليل على العمل بالقياس، وفيه مدح له، فإنه يُعنى به
القياس الصحيح، وهو المستكمل لشروط القياس.
اعتراض على جوابنا هذا:
قال قائل - معترضاً -: لا نُسَلِّمُ لكم هذا الجمع بين النقلين،
بل يمكن الجمع عندنا بطريق آخر وهو: أن نعتبر أن القائل بالقياس
انقلب منكراً له في آخر أمره، وحينئذٍ يحصل الإجماع على إنكار
القياس، وهو ما ندعيه.
جوابه:
أن قولكم: إن القائل به انقلب منكراً في آخر أمره لا دليل عليه،
فيكون قولكم دعوى بلا دليل، فتكون دعواكم باطلة، فيجب
المصير إلى الجمع الذي ذكرناه؛ حيث إنه يعتبر من طرق الجمع بين
الدليلين إذا تعارضا.
أما الوجه الثالث - وهو: أنه لما لم ينكر بعض الصحابة على
الآخرين قولهم بالقياس فقد انعقد الإجماع على صحته -.
فالدليل عليه: أن سكوتهم وعدم إنكارهم على القائلين بالقياس
إما أن يكون عن خوف أو عن رضا.
لا يمكن أن يكون سكوتهم عن خوف؛ لأمرين:
أولهما: أن بعضهم خالف البعض الآخر في مسألة: " الحرام "
و" الخلع "، و " الجد والإخوة "، و " بيع أمهات الأولاد "، وغيرها
ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما في قلوبهم لما وقع ذلك
الخلاف، فلا يعقل أن يكون سكوتهم عن مسائل أخرى عن خوف.
ثانيهما: أنا نعلم من حال الصحابة رضي الله عنهم شدة
انقيادهم للحق، لا سيما فيما لا يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل
أصلاً، وذلك مانع قوي يمنع من حمل سكوتهم على الخوف.
فثبت بذلك: أن سكوتهم كان عن رضا وعن موافقة، وذلك
يوجب الإجماع على حجية القياس، وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ.
ما اعترض به على هذا الوجه - وهو الوجه الثالث -:
الاعتراض الأول: إذا كان سكوتهم لا عن خوف، فلا يلزم منه
ثبوت الإجماع على حجية القياس؛ لأنه يحتمل أن يكون سكوتهم
لخفاء الدليل.
جوابه:
إن هذا بعيد، لأنهم عرفوا أن الشرع من عند اللَّه، فلو لم يكن
القياس مأذونا فيه: لكان القائس مشرعا، وحينئذٍ كانوا ينكرون عليه.
الاعتراض الثاني: إذا كان سكوتهم لا عن خوف فلا يلزم منه
ثبوت الإجماع على حجية القياس، لأنه يحتمل أن يكون سكوتهم
لأنهم في مهلة النظر، ولم يظهر لهم كون القياس حقا أو باطلاً.
جوابه:
أن سكوتهم المستمر - بعد مدة تكفي للنظر - دليل واضح على أن
هذا السكوت عن رضا وموافقة واقتناع.
الاعتراض الثالث: أنه لا مانع من أن يكون سكوتهم عن إنكار
القياس ناتج عن خوف، لأن القائل بالقياس هم: أبو بكر،
وعمر، وعلي، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وزيد، ومعاذ
من أصحاب الدولة والسلطان ومن حولهم وحواشيهم وجلسائهم،
فهؤلاء معهم الرغبة والرهبة، فشاع ذلك في الدهماء، وانقادت
لهم العوام، فإنه يجوز للباقين السكوت تقية، أو لعلمهم أن
إنكارهم غير مقبول، وكيف يقال: إن الخوف زائل وقد قال ابن
عباس في مسألة العول - يقصد عمر -: " هبته وكان والله مهيبا "؟!
جوابه:
إن هذا طعن قبيح في حق الصحابة رضي الله عنهم وجهل
بما كانوا عليه من الصلابة في الدين، بدليل الاستقراء والتتبع لجميع
الوقائع التاريخية المستفيضة، حيث إنها تؤكد أن جميع الصحابة لا
تأخذهم في اللَّه لومة لائم، وأنهم لا يمكن أن يروا منكراً ويسكتوا
عنه، ومن تلك الوقائع: ما ذكرناه من استدراكات بعض الصحابة
على بعض، ومخالفة بعضهم لبعض.
ومن ذلك: خبر المرأة التي راجعت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
في مسألة تحديد المهر حتى عدل عن رأيه إلى رأيها وقال: " أصابت
امرأة وأخطا عمر ".
ومن ذلك: ما قاله سلمان الفارسي لعمر بن الخطاب:
" لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا الثوب؟ "،
فأمر عمر ابنه عبد اللَّه بأن يجيب سلمان فأخبره أنه لما أصبح ثوب أبيه
خلقاً فيه اثنتا عشرة رقعة، فقد تبرع بنصيبه من الثياب وضمه إلى
ثوب أبيه ليصنع منه ثوباً يصلي فيه بالناس الجمعة ويستقبل به الوفود.
ومن ذلك: قول عبيدة السلماني لعليّ: " رأيك مع الجماعة
أحب إلينا من رأيك لوحدك "، لما قال عليّ: " اجتمع رأي ورأي
عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن ".
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اعتادوا على حرية الرأي،
فلا يضيق أحد منهم برأي الآخر مهما كان مركزه أو سلطانه بدليل:
أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر فساله عن حكم مسألة فأحاله إلى
عليّ وزيد فأفتياه، ثم رأى عمر الرجل صاحب المسألة، فسأله عن
قضاء عليّ وزيد فأخبره، فقال عمر:" لو كنت أنا لقضيت بكذا "
فقال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؛ قال عمر: " لو كنت أردك
إلى كتاب الله أو سُنَّة نبيه لفعلت، ولكني أردك إلى رأي والرأي
مشترك ".
وأما قول ابن عباس: " لقد هبته وكان واللهِ مهيبا "، فإنه يجاب
عنه: بأن الأمر أمر اجتهاد، ولو كان لدى ابن عباس دليل على
مذهبه من الكتاب والسُّنَّة يؤكد ذلك المذهب لأعلنه، ولكنه الرأي.
أما الوجه الرابع - وهو: أن المجمع عليه بين الصحابة حُجَّة يجب
العمل به - فهو صحيح لا ينبغي لعاقل أن يتردد فيه - وقد سبق
الاستدلال على ذلك في باب الإجماع.
ما اعترض به على هذا الوجه - وهو الوجه الرابع -:
الاعتراض الأول: سلمنا أن سكوتهم عن موافقة وعن رضا،
ولكن لا حُجَّة في إجماع الصحابة، لأنهم عدلوا عما أمروا به ونهوا
عنه وتجبروا وتآمروا، وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم حتى
جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب.
ومثل هؤلاء لا يجوز الاحتجاج بأقوالهم.
جوابه:
إن هذا يعتبر من سخافات النظام والرافضة، ويجب على المسلم
أن لا يلتفت لمثل هذه السخافات، حيث إنها تحط من قدر الصحابة،
فإن ذلك زندقة وإلحاد في الدين.
وكيف يقال فيهم مثل ذلك، والله عز وجل قد عدلهم ورضي
عنهم، واختارهم لصحبة نبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "؟!
الاعتراض الثاني: سلمنا معكم أن إجماع الصحابة على العمل
بالقياس حُجَّة، لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على العمل بجميع
أنواع القياس، أو بنوع واحد معين منها، فما المانع من أن يكون
إجماعهم على القياس الأولى وهو: أن يكون الفرع أوْلى بالحكم من
الأصل، أو يكون إجماعهم على منصوص العلَّة، وهذان النوعان
ليسا محل النزاع، بل متفق على جريان القياس فيهما.
جوابه:
إن تخصيص ما أجمعوا عليه على هذين النوعين يحتاج إلى دليل
ولا دليل عندكم، وإذا لم يوجد دليل على التخصيص، فإن الأمر
بالقياس يبقى على العموم، فيثبت أنهم أجمعوا على العمل بجميع
أنواع القياس، وأنه لا فرق بينها، وهذا هو الظاهر من استقراء
حالهم في الخلاف والاستدلال.
الاعتراض الثالث: سلمنا أن الصحابة أجمعوا على العمل بجميع
أنواع القياس، فما المانع من أن يكون خاصا بهم: فلا يلزم من
جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لمن بعدهم؛ لأن هناك فرقا بين
الصحابة وغيرهم؛ ووجه الفرق:
أن الصحابة شاهدوا الوحي والتنزيل، وكان معروفا منهم شدة
اليقين والصلابة في الدين، وكثرة التحفظ، وبذل النفس والنفيس،
وترك الأهل والأوطان في سبيل نصرة دين اللَّه وإقامته، وقد ورد في
حقهم من الفضل والثناء في القرآن والسُّنَّة ما لم يرد في حق غيرهم.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه كما أن الكتاب والسُنَّة يحتج بهما كل شخص
توفرت فيه شروط الاجتهاد على إثبات الأحكام الشرعية في كل
زمان، ولا فرق في ذلك بين فرد وفرد وشخص وشخص، فكذلك
القياس يحتج به كل شخص؛ لأنه لا قائل بالفرق بين الأزمان ولا
بين الأشخاص من حيث الحجج الشرعية.
الجواب الثاني: أن هذا الاعتراض مخالف للإجماع؛ وما خالف
الإجماع فهو ساقط لا يعتد به، بيان ذلك:
أن الناس افترقوا - بالنسبة للقياس - إلى فريقين فقط: فريق قائل
بان القياس حُجَّة بالنسبة إلى جميع الأُمَّة، وفريق آخر قائل بأن
القياس ليس بحُجَّة بالنسبة إلى جميع الأمَّة، فاتفق الفريقان على نفي
التفصيل، فيكون القول بالتفصيل خرقا لهذا الإجماع.
الاعتراض الرابع: سلمنا أن إجماع الصحابة حُجَّة، ولكنه إجماع
سكوتي -، والإجماع السكوتي لا يفيد إلا الظن، ومسألتنا قطعية؛
حيث إنها قاعدة أصولية، والقطعي لا يستفاد من دليل ظني.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أنها قطعية، بل هي ظنية عندنا؛ لأن هذه المسألة
عملية، والظن قائم مقام العلم في وجوب العمل بدليل: أنه لا
فرق بين أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بنزول المطر
الذي يجب التحرز منه، وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الغيم مخبر
لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه، فكذا هاهنا لا
فرق بين أن يتواتر النقل من الشرع في أنا مأمورون بالقياس، وبين أن
يخبرنا به من يظن صدقه في وجوب العمل بالقياس، وإن لم نعلم
صدق المخبر بذلك.
هذا هو الدليل الأول من أدلة الجمهور على حجية القياس.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) .
وجه الدلالة من هذه الآية على أن القياس حُجَّة من طريقين:
الطريق الأول: أن الاعتبار عند أهل اللغة هو تمثيل الشيء بغيره،
وإجراء حكمه عليه، ومساواته به.
والله أمر بالاعتبار في قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا
…
) ، فيكون
اللآصياس على هذا مأمور به، فيكون تقدير الآية: " اعلموا أنكم إذا
صرتم إلى الخلاف والشقاق ساوت حالكم حال بني النضير،
واستحققتم من العقاب مثل الذي استحقوه، واللفظ عام في الاعتبار
فوجب حمله على عمومه، والأمر بكل اعتبار إلا ما خصه الدليل،
وإن كان السبب الذي ورد فيه من الأخبار عن بني النضير خاصاً ".
الطريق الثاني: أن القياس مجاوزة الحكم من الأصل إلى الفرع،
والمجاوزة اعتبار؛ لأن الاعتبار معناه العبور والانتقال من مكان إلى
مكان آخر، والعبور هو المجاوزة يقال:" عبرت هذا النهر " أي:
جزته واجتزته، وإذا كان الاعتبار مجاوزة، والقياس مجاوزة،
فتكون النتيجة: أن القياس هو الاعتبار.
والاعتبار مأمور به بالآية، فتكون النتيجة أن القياس مأمور به.
والأمر للوجوب؛ لأنه لا توجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب
إلى غيره، فيكون القياس واجبا، والوجوب مستلزم للجواز، أي:
إذا كان القياس واجبا، فمن باب أوْلى أن يكون جائزاً؛ لأن
الوجوب جواز وزيادة.
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ أن المراد بالاعتبار هنا: القياس
الشرعي؛ لأنه لو كان المراد بالاعتبار القياس لخالف أول الآية
آخرها، وكان تقدير الآية: " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين
فألحقوا الفروع بالأصول، أو قيسوا الذُّرَة على البر "، وهذا في
غاية الركاكة، ولا يليق بجلال القرآن.
بل نقول: إن الاعتبار المأمور به هو الاتعاظ؛ حيث إنه هو الذي
يتفق مع أول الآية وآخرها، ويكون المعنى: اتعظوا يا أولي العقول
السليمة بفعل هؤلاء حتى لاينزل بكم مثل ما نزل بهم.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن لفظ " الاعتبار " لفظ مشترك بين ثلاث معان:
القياس، والمجاوزة، والاتعاظ.
ونحن رجحنا أن يكون المراد بالاعتبار القياس لوجهين:
الوجه الأول: أن كثيراً من أهل اللغة ذكروا أن معنى الاعتبار
القياس مباشرة - كما سبق -.
الوجه الثاني: أن كثيراً من أهل اللغة ذكروا أن معنى الاعتبار
القياس بطريق غير مباشر؛ حيث قالوا: إن الاعتبار مجاوزة،
والقياس مجاوزة، إذن يكون القياس هو الاعتبار - كما سبق بيانه -.
فنحن رجحنا أن يكون معنى المراد من الاعتبار: القياس بواسطة
مساعدة اللغة لنا.
الجواب الثاني: أن الذي لا يناسب صدر الآية هو الاعتبار بمعنى
القياس - فقط - ونحن لم نقل: إنه هو المأمور به، بل نقول: إن
المأمور به هو الاعتبار بمعنى المجاوزة، وهو القدر المشترك بين
الاتعاظ والقياس، والمجاوزة هي: الانتقال من شيء إلى آخر،
سواء كان انتقالاً من حال إلى آخر، كما في الاتعاظ، أو من أصل
إلى فرع كما في القياس، فكل من القياس والاتعاظ فيه مجاوزة،
فيكون معنى الآية: " إنا فعلنا بهم ما فعلنا فقيسوا الأمور أنتم يا أولي
الأبصار"، فدخل في ذلك قياس أفعالنا على أفعالهم في وصول
الجزاء، فيحصل الاتعاظ، وكذلك قياس الفروع على الأصول،
فلا يلزم من كون صدر الآية غير مناسب للقياس بخصوصه عدم
مناسبته للقدر المشترك لما فيه من معنى الاتعاظ.
الاعتراض الثاني: نسلم أن المأمور به في الآية هو: الاعتبار الذي
هو بمعنى المجاوزة، وأن المجاوزة كلي يشمل القياس والاتعاظ،
حيث إنه مشترك بينهما، ولكن لا نُسَلِّمُ أن الآية مع هذا تثبت أن
القياس حُجَّة، لأن الأمر الكلي من حيث هو كلي لا دلالة فيه على
الجزئي بخصوصه، فالمجاوزة من حيث هي مجاوزة لا دلالة فيها
على خصوص القياس، ولا توجد قرينة تدل على ذلك، فلا يلزم
الأمر بالمجاوزة الأمر بالقياس.
جوابه:
نُسلم لكم أن الأمر بالكلي ليس أمراً بكل جزئي بالنظر لذاته، من
غير أن تنظم إليه قرينة تفيد العموم، أما إذا انضم إليه ما يفيد العموم
فإنه يكون أمراً بكل جزئي؛ لأن دلالة العام كلية، أي: مقصود بها
الحكم على كل فرد فرد، وهنا وجد في الآية ما يقتضي العموم،
وهو هنا الاستثناء، فإنه يصح أن يقال: اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني
- مثلاً -، وقلنا - فيما سبق -: إن الاستثناء معيار العموم،
وحينئذ يكون عاماً، والأمر به أمر بكل جزئي، وبذلك يكون القياس
مأموراً به قصداً، والعمل به واجبا، والوجوب يستلزم الجواز.
الاعتراض الثالث: نسلم لكم أن الآية تفيد الأمر بالقياس، لكن
لا يجوز التمسك بها؛ لأن دلالتها على الوجوب دلالة ظنية،
والظن لا يكتفى به في إثبات المسائل الأصولية؛ لشدة اهتمام الشارع
بها.
جوابه:
إن القاعدة الأصولية إذا كانت وسيلة إلى العمل فإنها تثبت بالدليل
الظني، فالقياس - إذن - يثبت بالأدلة الظنية؛ لأن المقصود من كون
القياس حُجَّة هو وجوب العمل به، لا مجرد اعتقاد وجوبه، فأي
مسألة هي وسيلة إلى العمل فإنها تأخذ حكم المسائل العملية.
الاعتراض الرابع؛ أن الآية تفيد الأمر بالقياس، ولكن الأمر قد
يرد للوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وغير ذلك من المعاني التي
ترد لها صيغة " افعل " - كما سبق - ولا قرينة قدل على أنها
للوجوب دون الندب والإباحة، فحمل الأمر على الوجوب - هنا -
هو ترجيح بدون مرجح.
جوابه:
أن الأمر إذا تجرد عن القرائن، فإنه يقتضي الوجوب دون غيره
- عندنا كما سبق بيانه - ولا يصرف إلى غيره إلا بقرينة، ولا قرينة - هنا - تصرفه عن إفادة الوجوب.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) هذا ما استدل به الشافعي.
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد أقام مثل الشيء مقام الشيء،
فدل ذلك على أن حكم الشيء يعطى لنظيره، وأن المتماثلين
حكمهما واحد، وذلك هو القياس الشرعي.
أو تقول في وجه الدلالة: إن اللَّه لما أوجب المثل ووكل تحقيقه في
شيء خاص إلى اجتهادنا: كان إذناً من - اللَّه تعالى بالاجتهاد مطلقا،
فلزم من يقول بمشروعية الاجتهاد في تحقيق المناط أن يقول بمشروعية
الاجتهاد القياسي.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، واستدل بتلك الآية ابن
سريج.
وجه الدلالة: أن المتنازع فيه لو ردوه إلى أولي الأمر - وهم
العلماء - لعلموا حكمه بالاستنباط، ولا معنى للاستنباط إلا
القياس، مأخوذ من استنبط الماء إذا أخرج من معدنه.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: لا نُسَلِّمُ أن الاستنباط هو القياس، بل
يمكن أن يكون المراد به ما هو أعم من القياس؛ حيث إنه يصح أن
يقال: إن مستخرج الحكم من ظاهر النص يُسمى مستنبطا.
جوابه:
إن لفظة: " الاستنباط " لو دققنا النظر فيها لوجدنا أنها خاصة في
الشيء الذي لا يستخرج إلا بصعوبة، فالشخص الذي يأتي بماء من
بئر عميق يُسمَّى مستنبطا للماء، لكن الذي يأتي به من البحر أو
النهر، فإنه لا يُطلق عليه أنه مستنبط عرفا، فكذلك هنا فإن من
استخرج حكما بصعوبة ومشقة، فإنه يُطلق عليه أنه مستنبط، وهذا
يحصل في القياس فقط، ومن عرف حكما من ظاهر نص كمعرفته
لوجوب الصلاة من قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، فإنه لا
يسمى مستنبطاً عادة وعرفا.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) .
وجه الدلالة: أن القياس هو في حقيقته تمثيل الشيء بالشيء،
وتشبيه أحدهما بالآخر، فإذا جاز ذلك من اللَّه العالم بكل شيء
الذي لا تخفى عليه خافية، فهو من المخلوق أوْلى بالجواز.
وقد أكثر ابن القيم رحمه الله من ذكر مثل هذهَ الآية التي فيها
ضرب اللَّه فيها لعباده الأمثال، وساقها للاستدلال بها على حجية
القياس.
الدليل السادس: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
وجه الدلالة: أن العدل هو: التسوية بين المتماثلين في الحكم،
ولا شك أنه يتناول القياس؛ حيث إن فيه تسوية بين الفرع والأصل.
الدليل السابع: قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قاسهم على الأمم السابقة في أنهم
إن فعلوا مثل فعلهم من التكذيب نالهم ما نال السابقين من العاقبة
السيئة، فهنا أربعة أركان كاملة، فالأصل: الأمم السابقة، والفرع:
المخاطبون بالسير والنظر، والعِلَّة: التكذيب، والحكم: الهلاك.
الدليل الثامن: حديث معاذ، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قاضياً، قال:" كيف تقضي إن عرض عليك قضاء؟ "
قال: بكتاب اللَّه عز وجل، قال:" فإن لم تجد؟ " قال: بسُنَة
رسول اللَّه، قال:" فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو،
فضرب رسول اللَّه على صدر معاذ ثم قال: " الحمد لله الذي وفق
رسول رسول اللَّه إلى ما يرضي اللَّه ".
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صوَّب معاذاً على أخذ الأحكام عن طريق الاجتهاد، والقياس نوع من أنواع الاجتهاد، فيكون القياس دليلاً من أدلة التشريع.
أو تقول - في وجه الدلالة -: إنه لو لم يكن القياس أصلاً
ودليلاً من أدلة الأحكام مطلقا لما صوب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على ما قال، ولما أقره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، خصوصا في مثل هذا الأصل العظيم.
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: أن الحديث ضعيف، من حيث سنده، والحديث
الضعيف لا يمكن أن يستند إليه ويعتمد عليه في إثبات قاعدة أصولية
كالقياس.
بيان ذلك الضعف: أن الحديث رواه شعبة عن أبي عون، عن
الحارث بن عمرو - ابن أخي المغيرة بن شعبة - عن أناس من أهل
حمص من أصحاب معاذ بن جبل، عن معاذ.
والحارث بن عمرو مجهول لا يعرف، وأصحاب معاذ من أهل
حمص مجهولون - أيضا -.
قال الذهبي: " تفرَّد به أبو عون - محمد بن عبد اللَّه الثقفي - عن
الحارث، وما روى أحد عن الحارث غير أبي عون، فهو مجهول ".
وهذه الجهالة في الحارث،؛ أصحاب معاذ تسببت في ضعف
الحديث.
جوابه:
يجاب عنه باجوبة:
الجواب الأول: أن حامل لواء هذا الحديث هو شعبة، وشعبة
هذا قد أثنى عليه أهل الحديث، فقال بعضهم: " إذا رأيت شعبة في
إسناد حديث فاشدد يديك به "، فتقوى الحديث برواية شعبة له.
الجواب الثاني: أن الحديث قد انتشر بين رجال من أهل حمص
من أصحاب معاذ، وهذا يقوي الحديث؛ حيث إن أصحاب معاذ قد
عرفوا بالعلم والدين والفضل والصدق، ولا يعرف في أصحابه متهم
ولا كذاب ولا مجروح، فانتشاره واشتهاره بينهم يقوي الحديث.
الجواب الثالث: أن الحارث بن عمرو معدود من الثقات كما قاله
ابن حبان، والعبرة بالتجريح اتفاق أئمة الحديث، أما تجريح بعض
أئمة الحدث لبعض الرواة، فهذا قل من يسلم منه.
الجواب الرابع: على فرض ضعف الحدمث فقد تقوى بعدة شواهد
موقوفة عن عمر، وابن مسعود، وزيد، وابن عباس، روى ذلك
كله البيهقي في " السنن الكبرى " - بعد أن روى هذا الحديث -
تقوية له، حيث قضى هؤلاء بما يدل عليه الحديث من الاجتهاد.
الجواب الخامس: أن هذا الحديث روي عن طريق آخر بإسناد
متصل، ورجاله معروفون بالثقة، قال أبو بكر الخطيب: " وقد
قيل: إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ،
وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة ".
الجواب السادس: أن هذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإن الأُمَّة قد
تلقته بالقبول، والحديث المرسل إذا نقلته الأُمَّة بالقبول فإنه يعمل به
ويكون حُجَّة بالاتفاق.
الاعتراض الثاني: أنا لا نُسَلِّمُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صوَّب معاذاً على استعمال الاجتهاد عند عدم وجود نص؛ حيث روي الحديث برواية أخرى، وهي: أنه لما قال معاذ: " اجتهد رأيي "، قال له النبي
صلى الله عليه وسلم: "اكتب إليّ وأكتب إليك ليس لأحد أن يقول أنا "، فهنا - في هذه الرواية - لم يقره على الاجتهاد برأيه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذه الرواية والزيادة غريبة وشاذة، فلا تقوى
على معارضة روايتنا الصحيحة المشهورة.
الجواب الثاني: نسلم لكم صحة هذه الزيادة، ولكن يمكن الجمع
بينها وبين روايتتا لأن نقول: إنه تحمل هذه الزيادة والرواية التي
ذكرتموها على ما إذا اتسمع الوقت للواقعة التي نزلت؛ حيث يمكن
الصبر حتى يكاتب صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة.
أما روايتنا فإنا نحملها على ما إذا ضاق الوقت، بحيث لا يمكن
الصبر في معرفة حكم اللَّه فيها على ذهاب الكتاب إلى المدينة ورده.
الاعتراض الثالث: أن هذا الحديث مناقض لقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، وقوله:(وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ،
حيث قال النبي لمجيم لمعاذ: " إذا لم تجد الحكم في الكتاب
…
"
يقتضي هذا أن الكتاب لم يشتمل على جميع الأحكام.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن المقصود بالكتاب في الآيتين هو القرآن
الكريم، بل هو اللوح المحفوظ، فلا تناقض.
الجواب الثاني: سلمنا أن المراد به: القرآن الكريم، فلا يمكن أن
يفهم أحد اشتمال القرآن على جميع الأحكام؛ لأن ظاهر القرآن
يخلو من دقائق الحساب، وتفاريع الحيض، والوصايا، وأحكام
السائل التي اختلف فيها الصحابة كمسألة الجد والإخوة، والتحريم،
والخلع، وغير ذلك، فيتعين أن يكون المراد اشتماله عليها ابتداء،
وهذا لا يناقض العمل بالقياس؛ لأنه لما أمر اللَّه بالقياس بقوله تعالى:
(فاعتبروا) كان ما يستفاد منه مما اشتمل عليه بالواسطة.
الاعتراض الرابع: أن تصويب النبي صلى الله عليه وسلم
لمعاذ العمل بالقياس كان
قبل نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ، فإن هذه الآية أفادت إكمال
الدين وتمامه، فيكون القياس قبل نزول هذه الآية حُجَّة؛ لكون
النصوص غير وافية لجميع الأحكام، أما بعد إكمال الدين والتنصيص
على جميع الأحكام، فلا يكون القياس حُجَّة؛ لعدم الحاجة إليه.
جوابه:
إن هذه الآية إنما تدل على كمال الدين من حيث أصوله، دون
فروعه؛ لأن الواقع أن النصوص لم تتناول جميع الفروع؛ لعدم
تناهيها، وبذلك تكون الحاجة ماسة إلى القياس لإثبات أحكام بعض
الفروع التي لم ينص على حكمها، فيكون القياس حُجَّة.
الاعتراض الخامس: أن معاذاً إنما قال: " أجتهد رأيي "، ولم
يقل أقيس، والاجتهاد كما يكون في القياس فكذلك يكون في تحقيق
المناط، فترجيح أن المراد بالاجتهاد هو القياس ترجيح بلا مرجح.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه قال: " أجتهد "، والاجتهاد عام وشامل
للقياس وغيره، فيكون - على هذا - القياس أحد جزئيات الاجتهاد
فيدخل، بل القياس هو أعلى مراتب الاجتهاد، فدخوله أوْلى من
دخول غيره.
الجواب الثاني: أنه يوجد دليل يجعلنا نرجح أن المراد بذلك
القياس وهو: أن معاذاً ذكر الاجتهاد بعد النص من الكتاب والسُّنَّة،
أي: أنه يجتهد فيما لا نص فيه، أما تحقيق المناط فمعروف أنه يعتمد
على النص.
-
الاعتراض السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر لمعاذ العمل به، فما المانع من أن يكون خصوصية له رضي الله عنه.
جوابه:
إن الأصل: أن يكون عاما غير مختص بمعاذ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة "،
فلا يختص بمعاذ إلا بدليل، ولا دليل صحيح عندنا،
فيبقى العام على عمومه.
الاعتراض السابع: أن الحديث خبر آحاد، فلا يفيد إلا الظن،
والظن لا يكتفى به على إثبات قاعدة أصولية كالقياس.
جوابه:
أن القاعدة الأصولية إذا كانت وسيلة إلى العمل، فإنها تثبت
بالظن؛ قياساً على الفروع - كما قلنا ذلك فيما سبق أكثر من مرة -
هذا الدليل الثامن من الأدلة على أن القياس حُجَّة.
الدليل التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم:
" لعن اللَّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ".
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم حكم بتحريم أثمان الشحوم، قياساً على أكلها المحرم بالنص.
الدليل العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما أقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه شيء".
وجه الدلالة: أنه دلَّ على أنه صلى الله عليه وسلم يقضي برأيه، والقياس نوع من أنواع الرأي، فيكون حُجَّة.
اعتراض على هذا:
أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن اللَّه سبحانه يخطأه إذا أخطأ، بخلاف غيره من العلماء، وعليه فيجوز له الاجتهاد دون غيره.
جوابه:
إنه إذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد، فإنه يجوز لغيره من العلماء إذا فهموا المعنى الذي من أجله شرع الحكم المقاس عليه، ثم إن الخطأ
من المجتهد يؤجر عليه بأجر واحد.
الدليل الحادي عشر: ما روي أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قُبْلة الصائم فقال: " أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ "
قلت: لا بأس بذلك، فقاق الرسول صلى الله عليه وسلم:"ففيم؟ ".
وجه الاستدلال: أن هذا تنبيه على إلحاق القُبْلة بالمضمضة في عدم
الإفطار، والجامع: أن كلًّا منهما مقدمة لما يفطر، ولكنه لا يفطر،
فالمضمضة مقدمة للشرب، والقُبْلة مقدمة للإنزال، فتبين أن النبي
صلى الله عليه وسلم قد استعمل القياس، وذلك يوجب كون القياس حُجَّة.
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: أن هذا من أقيسة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يدخل في محل النزاع؛ للاتفاق على جوازه.
جوابه:
إذا جاز له صلى الله عليه وسلم أن يقيس، فإنه يجوز لغيره،
والجامع: فهم المعنى الذي من أجله شرع الحكم.
الاعتراض الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المضمضة - هنا - تقريبا لفهم عمر؛ لا لأجل قياس القُبْلة عليها.
جوابه:
إن المسألة في الحديث ليست من الأمور الصعبة التي تحتاج إلى تقريب
لفهمه، فلو لم يكن المقصود من ذكر المضمضة التنبيه على أصل القياس
لما كان لذكره فائدة، بل يكفي أن يقول: لا، القُبْلة لا تفطر.
الاعتراض الثالث: أن هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد إلا
الظن، والظن لا يكتفى به على إثبات قاعدة أصولية كالقياس.
جوابه:
أن القياس قاعدة أصولية وسيلة إلى العمل، فيكتفى بإثبات ذلك
بالدليل الظني؛ قياسا على الفروع.
الدليل الثاني عشر: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه - أحيانا - يذكر الحكم مقرونا بعلته، والتعليل يفيد تعدي الحكم أينما وجدت العِلَّة، وذلك هو نفس القياس.
من ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم:
"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة "،
وقوله عليه السلام في حق المحرم الذي وقَصَتْه ناقته:
" لا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً"،
وقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها
تذكركم الآخرة "، وقوله - لما سئل عن بيع الرطب بالتمر -:
"أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم، فقال:" فلا إذن "،
وقوله: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى
يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده "، وقوله: " إنها ليست
بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "، فتعليل الشارع
لبعض الأحكام إنما هو لإرشاد الخلق إلى كيفية ربط الأحكام بعللها
ليلحقوا ما وجدت فيه تلك العلل بتلك الأحكام.
اعتراض على هذا الدليل:
أنه لا يلزم من تعليل الحكم المنصوص عليه بعلَّة: إلحاق غير
المنصوص به؛ لاشتراكهما في العِلَّة، بل يجوز أَن يكون التعليل
لبيان الباعث على الحكم؛ ليكون أقرب إلى الامتثال، ولهذا جاز
التعليل بالعِلَّة القاصرة التي لا قياس عليها.
جوابه:
أن الأصل في التعليل: أن يكون لتعدية الحكم، وذلك لا ينافي
قصد بيان الباعث على الحكم؛ ليكون أقرب إلى الامتثال، فالتعليل
يعم الأمرين، ولا يوجد مخصص لأحدهما.
الدليل الثالث عشر: أنه لو لم نعمل بالقياس لأدى ذلك إلى خلو
أكثر الحوادث بدون أحكام؛ لأمرين:
أولهما: قلة النصوص.
ثانيهما: كثرة الحوادث والصور والجزئيات التي لا نهاية لها.
فثبت أنه لا بد من القياس لإيجاد أحكام لتلك الحوادث المتجددة،
وهذا فيه رد على أعداء الإسلام حيث قالوا: إن الإسلام غير قادر
على إيجاد أحكام للحوادث المتجددة.
الدليل الرابع عشر: أن المجتهد إذا غلب على ظنه أن حكم الأصل
معلل بعلَّة معينة، ثم وجد هذه العِلَّة في محل آخر - وهو الفرع -
فإنه يحَصل عنده ظن غالب بأن حَكم الأصل متعدٍ إلى ذلك المحل
الذي وجدت العِلَّة فيه، واحتمل عنده احتمالاً مرجوحا عدم تعدية
حكم الأصل للفَرع، فالمجتهد أمامه أربعة أمور - لا خامس لها -
وهي:
الأول: إما أن يعمل بما غلب على ظنه، ويعمل بالاحتمال
المرجوح معا.
الثاني: وإما أن لا يعمل بهما معا.
الثالث: وإما أن يعمل بالاحتمال المرجوح فقط ويترك العمل بما
غلب على ظنه.
الرابع: وإما أن يعمل بما غلب على ظنه فقط ويترك العمل
بالاحتمال المرجوح.
وكلها باطلة إلا الرابع، بيان ذلك:
أما الأول - وهو: العمل بهما معاً - فهو محال؛ لأنه جمع بين
متناقضين، والجمع بين المتناقضين محال.
أما الثاني - وهو: ترك العمل بهما معا - فهو محال - أيضا -؛
لأنه رفع للنقيضين معاً، وخلو الشيء عن النقيضين محال.
أما الثالث - وهو: العمل بالاحتمال بالمرجوح، وترك العمل
بالظن الراجح - فهو خلاف المشروع والمعقول؛ لأنه عمل بالضعيف
وترك للعمل بالقوي، وهذا لا يجوز شرعا ولا عقلاً.
فلم يبق إلا الرابع، وهو العمل بالظن الراجح، والعمل
بالراجح متعين؛ لأنه ثبت بعد استقراء أمور الشرع الجزئية والكلية أن
الظن الراجح يجب العمل به، وهذا ما يفيده القياس، فكان العمل
في قتضى القياس واجباً وهو المطلوب.
هذا ما صح عندنا من الأدلة على حجية القياس، وأنه دليل من
الأدلة الشرعية المعتمدة.
المذهب الثاني: أن القياس ليس بحُجَّة، ولا يجوز التعبد به عقلاً
ولا شرعا، أي: أن القياس لا يعتبر دليلاً من الأدلة الشرعية.
وأصحاب هذا المذهب افترقوا إلى فريقين:
الفريق الأول: أنكروه شرعا، أي: أن الأدلة الشرعية دلَّت على
أن القياس ليس بحُجَّة وهم الظاهرية.
الفريق الثاني: أنكروه عقلاً، أي: أن معقول الشرع دلَّ على أن
القياس ليس بحجة، وهم النظام ومن تبعه.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
وجه الدلالة: أن الآية أفادت نهي المؤمنين عن التقدم على الله
وعلى رسوله بأي قول أو فعل، والقول بالقياس تقدم على الله
ورسوله؛ لأنه حكم بغير قولهما، فيكون منهيا عنه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الآية لا تمنع من العمل بالقياس، بل ربما
أوجبت العمل به؛ لأنها نهت عن العمل بغير كتاب اللَّه وسُنَّة
رسوله، والعمل بالقياس عمل بكتاب اللَّه وسُنَّة رسوله من وجهين:
الوجه الأول: أن من شروط الأصل - كما سيأتي إن شاء الله -:
أن يكون ثابتا بكتاب أو سُنَّة، فلا يقاس إلا على ما ثبت بهما
واختلف في القياس على المجمع عليه، فيكون العمل بالقياس عمل
بالكتاب والسُّنَّة.
الوجه الثاني: أن الكتاب والسُّنَّة قد ورد فيهما الأمر بالقياس في
آيات وأحاديث كثيرة ذكرناها سابقا في أدلتنا على حجية القياس،
فيكون العمل بالقياس عملاً بالكتاب والسُّنَّة.
الجواب الثاني: أن عملنا بالقياس ليس فيه تقديم على الكتاب
والسُنَّة؛ لأننا لا نجري القياس فيما فيه نص من كتاب أو سُنَّة، بل
نجريه فيما ليس فيه نص، وليس في ذلك تقديم عليهما.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ،
وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) .
وجه الدلالة: أن هذا دلَّ على أن الكتاب اشتمل على جميع
الأحكام الشرعية، فما ليس في كتاب اللَّه وجب: أن لا يكون
حمقا، وجاء ذكر السُّنَّة فكانت حقاً، وجاء ذكر الإجماع فكان حقاً،
لكن لم يذكر القياس فوجب أن يبقى على النفي الأصلي، فلا يجوز.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن الكتاب قد اشتمل على جواز القياس مباشرة
بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ، وغيرها من الآيات
التي ذكرتها في الاستدلال على أن القياس حُجَّة، فيكون الأمر
بالقياس قد ورد به الكتاب.
الجواب الثاني: إن لم يُسلّم أن الكتاب قد دلَّ على جواز القياس
مباشرة، فإنه دلَّ على ذلك بطريق غير مباشر؛ حيث إنه دلَّ على أن
السُّنَة حُجَّة بقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) ، وغيرها
من الآيات.
ودل على أن الإجماع حُجَّة بقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ..) ، وغيرها من
الآيات - كما سبق بيانه - وهما - أي: السُّنَّة والإجماع - قد دلا
على أن القياس حُجَّة بواسطة الأحاديث التي ذكرناها أثناء استدلالنا
لحجية القياس، وبواسطة إجماع الصحابة السكوتي، وقد سبق
بيانه.
الجواب الثالث: إن لم يُسلَّم أن الكتاب قد دلَّ على جواز القياس
مباشرة أو بطريق غير مباشر، فادعاء المستدل أن الكتاب قد اشتمل
على جميع الأحكام الجزئية غير صحيح؛ لعدم وجود حكم في الجد
والإخوة، والتحريم، والمفوضة، والعول، والخلع، وغيرها مما
اختلف الصحابة فيها.
فإما أن يقال: إنه لا حكم لها، وإما أن يقال: إن لها حكما في
الكتاب، وإما أن يقال: إن لها حكما وأخذناه عن طريق القياس.
فإن زعم المستدل: أنه لا حكم لها، فهذا باطل؛ لأنه لا يوجد
حادثة إلا ولها حكم في الإسلام، وإن ادعى أحد غير ذلك فقد كفر.
وإن زعم المستدل: أن لها حكما ووجدناه في الكتاب، فهذا غير
صحيح؛ إذ لو كان هناك حكم في الكتاب لما اختلف الصحابة فيها.
فلم يبق إلا أن لها حكماً وأخذناه عن طريق القياس، وهو
الصحيح، وهو الذي أفتى به الصحابة.
الدليل الثالث: قوله تعالى؛ (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) .
وجه الدلالة: أن ثمرة القياس، وهو: ثبوت حكم الفرع مظنون
لا معلوم، وكل مظنون لا يغني من الحق شيئاً منهي عن اتباعه،
فحكم الفرع منهي عن العمل به، فيثبت عدم جواز تعبدنا بالقياس.
جوابه:
إن الظن المنهي عن اتباعه والذي لا يغني عن الحق شيئاً فيما يكون
العلم واليقين ضرورة له كالعقائد وأركان الإسلام، دون مطلق الظن،
وإلا انتقض بدلالات الكتاب والسُّنَّة على الأحكام، فإنها كلها
ظنية، ومع ذلك يجوز العمل بها بالإجماع.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
وجه الدلالة: أن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل اللَّه، وكل
حكم لم ينزله اللَّه تعالى ابتداعا في الدين، وهذا منهي عنه،
فالقياس منهي عنه.
جوابه: -
إن الحكتم بالقياس حكم بما أنزل اللَّه؛ لأمرين:
أولهما: أن الله تعالى ورسوله قد دلَّ كلامهما في الكتاب والسُّنَّة
على جواز الحكم بالقياس بواسطة تلك الآيات والأحاديث التي
ذكرناها أثناء استدلالنا على حجية القياس، وإذا كان الأمر كذلك
فالحكم بالقياس يعتبر حبهما بما أنزل اللَّه.
ثانيهما: أن من شروط صحة القياس - كما سيأتي - أن يكون
حكم الأصل ثابتا بكتاب أو سُنَّة، فلا يقاس إلا على ما ثبت بهما،
فيكون العمل بالقياس عملاً بما هو مستنبط من المنزل، وكأنه حكم
بالمنزل وهو الكتاب والسُّنَّة.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .
وجه الدلالة: أن الآية دلَّت على أن الأُمَّة إذا تنازعت في شيء
ولم تعرف حكمه، فيجب أن تأخذ حكمه من الكتاب والسُّنَّة،
فالحكم بالقياس ليس مردوداً إلى اللَّه ولا إلى رسوله، فيكون ذلك
الماخوذ عن طريق القياس باطلاً.
جوابه:
إن الحكم بالقياس حكم مردود إلى اللَّه ورسوله، أي: إلى
الكتاب والسُّنَّة؛ لأمرين، قد ذكرتهما في جواب الدليل الرابع
السابق.
ثم إن هذه الآية حُجَّة عليكم لا لكم؛ حيث أبطلتم القياس من
غير رد إلى قول اللَّه ولا إلى قول رسوله، ولا إلى ما استنبط منهما.
الدليل السادس: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"تعمل هذه الأُمَّة برهة بكتاب اللَّه، وبرهة بسُنَّة رسول اللَّه، وبرهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا ".
وجه الدلالة: أن الأُمَّة إذا عملت بالرأي، فإن عملهم به مذموم
وموجب للضلال والإضلال، والقياس من الرأي، فيكون مذموماً،
وغير مشروع.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الحديث ضعيف، والضعيف لا يستدل به
على شيء، بيان الضعف: أنه كان من رواته عثمان بن عبد الرحمن
الزهري، وهذا متفق على ضعفه كما قال الهيثمي، وكذلك من
رواته جبارة بن المفلس، وهو ضعيف، كما قال ابن السبكي.
الجواب الثاني: أن الحديث على فرض صحته، فإنه معارض
بالأحاديث القوية التي استدللنا بها على حجية القياس السابقة،
وحينئذ يجب الجمع بينهما، ووجه الجمع: أن يحمل هذا الحديث
الذي اً ستدل به المنكر للقياس على القياس الفاسد، وهو الذي
لم يستجمع شروط القياس، وتحمل الأحاديث الدالة على جواز القياس
على القياس الصحيح، وهو المستجمع لشروط القياس، وعلى هذا
فإنه يعمل بالدليلين.
الدليل السابع: ما روي عن صلى الله عليه وسلم:
"الحلال ما أحلَّ اللَّه والحرام ما حرَّم اللَّه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ".
وجه الدلالة: أن الحديث قد بين أقساما ثلاثة هي: " حلال "،
و" حرام "، و " مسكوت عنه لا يلحق بالحرام ولا بالحلال "، فلو
قلتم بالقياس فإما أن تلحقوا المسكوت عنه بالحرام، فيكون حراما
بعد أن كان مباحاً، وهذا تحريم لما أحله اللَّه بالسكوت عنه.
وإما أن تلحقوا المسكوت عنه بالواجب، ويكون تاركه آثما بعد
أن كان مباحاً، وعليه: فالقياس يؤدي إلى تحريم الحلال وإيجاب
المباح، وهذا خلاف ما دلَّ عليه الحديث والشرع كله، فيكون
القياس باطلاً، لأنه يؤدي إلى باطل.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحديث ضعيف، حيث إن من رواته سيف
ابن هارون البرجمي، ضعَّفه النسائي والدارقطني، كما نقله الذهبي،
والحديث الضعيف لا يصلح للاستدلال به على شيء.
الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث فإنا لا نُسَلِّمُ أن ما ثبت
حكمه عن طريق القياس مسكوت عنه، فيكون معفواً عنه، وإنما هو
داخل فيما حرَّمه اللَّه، أو أوجبه؛ لأمرين:
أولهما: أن الشارع لما علل الحكم في المنصوص على حكمه
جعل بهذا التعليل سريان حكمه في المسكوت عنه، فكان المسكوت
عنه محكوماً فيه معنى بحكم اللَّه.
ثانيهما: أن دخول الواقعة في التحريم أو الإيجاب كما يعرف
بدلالة اللفظ يعرف - أيضا - بالدلائل العامة التي تبينها مقاصد
الشريعة في جملة نصوصها، وعامة أحوالها.
الدليل الثامن: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيُحلون الحرام، ويحرمون الحلال ".
وجه الدلالة: أن الحديث ظاهر في ذم من يقيس الأمور برأيه،
بل جعل القائلين بالقياس والعاملين به خطراً على الأُمَّة، وأنهم
يسببون الفتنة التي ذمَّها اللَّه، وهذا يبطل القياس.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحديث ضعيف، حيث قال يحمص بن معين:
إن هذا الحديث ليس له أصل، والحديث الضعيف لا يصلح
للاستدلال به.
الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث، لكنه معارض
بالأحاديث التي دئَت على حجية القياس - وهي التي ذكرناها فيما
سبق - فيجب - حينئذٍ - الجمع بينها، ووجه الجمع: أن نحمل
هذا الحديث على القياس الفاسد، وهو الذي لم يستكمل شروط
القياس، وأن القائس ليس أهلاً للاجتهاد، ويؤيد ذلك قوله فيه:
"فيحملون الحرام، ويحرمون الحلال "، ونحمل الأحاديث التي
دلَّت على العمل بالقياس على القياس الصحيح المستكمل لشروط
القياس.
الدليل التاسع: ما روي عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما هلكت بنو إسرائيل حتى كثر فيهم المولدون: أبناء سبايا الأمم،
فأخذوا في دينهم بالمقاييس فهلكوا وأهلكوا ".
وجه الدلالة: الحديث بيق أن ذم بني إسرائيل كان بسبب القياس
الذي استعملوه في دينهم، فمن فعل مثل ما فعلوا فقد استحق الذم
من اللَّه تعالى، أي: فمن استعمل القياس في معرفة الأحكام فقد
استحق الذم، فيكون استعمال القياس مذموما.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحديث لم يصح؛ لأن في سنده سويداً قال
عنه الإمام أحمد: إنه متروك الحديث، وقال الشهاب البوصيري:
إنه ضعيف، وفي سنده - أيضا - ابن أبي الرجال وهو متروك عند
النسائي، ومنكر الحديث عند البخاري، وإذا كان الحديث لم يصح
فلا يصلح للاستدلال به.
الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث فإنه يحمل على القياس
الفاسد، وهو الذي لم يستكمل شروط القياس، أو أن القائس لم
يكن أهلاً للقياس، ويؤيد ذلك معنى الحديث؛ حيث إن معناه:
إنهم لم يعرفوا الأشباه، ولم يدركوا الإمثال ونظائرها، بل قاسوا
بالهوى والتعصب كما فعلوا في الشحوم حين حرمها الله عليهم،
فجملوها وباعوها، وما هذا إلا ضلال لا يقول به عاقل.
وعلى هذا فالقياس الصحيح وهو المستكمل لشروط القياس،
وفاعله من أهل الاجتهاد، وهو الذي يجري على حسب أمر الشارع
لا يؤدي إلى ضلال، بل يؤدي إلى حق، والحق يجب اتباعه،
فيكون القياس حُجَّة.
الدليل العاشر: إجماع الصحابة السكوتي دلَّ على أن القياس
ليس بحُجَّة.
بيان ذلك: أنه نقل عن بعض الصحابة ذم العمل بالقياس - وقد
ذكرنا عدداً من النصوص على ذلك أثناء الاعتراض على الوجه الثاني
من وجوه تقرير الإجماع عند الجمهور - وهم القائلون بحجية القياس
وقد سبق -.
قال المنكرون للقياس: ولم يظهر من واحد منهم الإنكار على
ذلك الذم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على فساد القياس،
وعلى أن اللَّه لم يتعبدنا به.
جوابه:
لقد أجبنا عن ذلك بجوابين: " جواب إجمالي "، و " جواب
تفصيلي ".
أما الجواب الأجمالي فقد سبق بالتفصيل، ولا مانع من أن أشير
إليه هنا تذكرة للقارئ وهو: أن أقول: إن كل نص ورد فيه ذم
للقياس والرأي وأهله: فالمقصود فيه القياس الفاسد، وهو الذي لم
يستكمل شروط القياس، أو ورد من شخص ليس أهلاً للاجتهاد،
وأن كل نص ورد فيه مدح للقياس فالمقصود فيه القياس الصحيح،
إلى آخر ما قلناه هناك.
وأما الجواب التفصيلي فالمقصود منه: الجواب عن كل نص ونقل
عن الصحابة فيه ذم للقياس، وقد سبق بيان ذلك هناك، ولا داعي
لتكراره.
الدليل الحادي عشر: إجماع العترة دلَّ على أن القياس ليس بحُجَّة
والمراد منهم: علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء، والحسن
والحسين، بيان ذلك:
أن المستدلين قالوا: كما نعلم بالضرورة - بعد مخالطة أصحاب
النقل - أن مذهب الأئمة الأربعة - وهم أبو حنيفة، ومالك،
والشافعي، وأحمد - القول بالقياس، فكذا نعلم بالضرورة أن
مذهب أهل البيت كالصادق والباقر إنكار القياس؛ حيث انعقد
إجماعهم على ذلك، وإذا ثبت أن آل البيت أجمعوا على إنكار
القياس ثبت أنه لا يجوز العمل به؛ لأن إجماعهم حُجَّة.
وهذا قول الشيعة الإمامية.
قال الحيدري: " ومذهب أهل البيت معلوم متواتر عنهم قد نقله
الخلف عن السلف في رد القياس، ورد من قال به ".
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن نقل الشيعة الإمامية إنكار القياس عن العترة
معارض بنقل الشيعة الزيدية عن العترة وجوب العمل بالقياس، قال
يحيى الزيدي: " إن أكثر أهل البيت قائلون بالقياس، وكيف يدعى
إنكار القياس والإمام علي بن أبي طالب قد عمل بالقياس في فتاويه،
وكذا من جاء من بعده من أئمة الشيعة " اهـ.
فهنا ثبت أن النقلين متعارضان، فبطلت دعواهم أن العترة أجمعوا
على إنكار القياس، وإذا كان النقلان متعارضين، فلا بد من الجمع
بينهما، ووجه الجمع: أن نحمل قول من قال بعدم حجية القياس
بأنه يقصد القياس الفاسد الذي لم يستكمل شروط القياس أو الصادر
من غير أهل الاجتهاد، ونحمل قول من قال بحجية القياس بانه
يقصد القياس الصحيح الذي استكمل شروط القياس.
الجواب الثاني: إن سلمنا صحة حصول إجماع العترة على إنكار
لمقياس، فإنا لا نُسَلِّمُ أن إجماعهم حُجَّة على غيرهم عند المخالفة؛
لأن العترة بعض المجتهدين، والإجماع ينبغي أن يتفق عليه كل
المجتهدين الموجودين في العصر الواحد؛ لأن العصمة ثبتت للكل،
لا للبعض، فيكون قول الكل هو الحُجَّة، فيبطل - بذلك -
دعواهم أن إجماع العترة حُجَّة.
الدليل الثاني عشر: أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة بين
المجتهدين؛ لأن مقدماته ظنية، والظن سبيل الخلاف، لا سبيل
الوفاق، والخلاف والمنازعة منهي عنهما؛ لقوله تعالى:
(وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ،
وبذلك يكون القياس منهياً عنه، فيحرم العمل به.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول؛ أن الخلاف والمنازعة المنهي عنها في الآية المراد بها:
الخلاف والمنازعة في الحروب وسياسة الأمَّة وإدارة شئونها؛ حيث إنها
توجب الفشل وتسبب الهزيمة أمام الأعداء، أما الخلاف والمنازعة في
الأحكام الشرعية، بحيث يرى مجتهد ما لا يراه الآخر لدليل ثبت
عنده: فليس منهياً عنها بدليل: ما اشتهر عن الصحابة أنهم اختلفوا
في مسائل كثيرة تكاد لا تحصى كمسألة الجد والإخوة، والخلع،
والتحريم، والعول، وغيرها، ولو كان الاختلاف والمنازعة منهيا
عنها على الإطلاق: لكان الصحابة قد أخطأوا في ذلك، بل لكانت
الأمَّة كلها مخطئة، وهذا ممتنع؛ لأن الأُمَّة معصومة عن الخطأ.
الجواب الثاني: أنه بناء على اعتقادكم وهو: أن الظن سبيل
الخلاف يكون كل ما أفاد الظن منهيا عنه؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة،
فيلزم على هذا: أن لا نعمل بظواهر النصوص، ولا خبر الواحد،
ولا الشهادة، ولا الأدلة العقلية، فتبطل بذلك أغلب أدلة الشرع،
وهذا لا يقوله عاقل.
الدليل الثالث عشر: أن القياس مبني على التعليل، والشريعة
الإسلامية مبنية على التعبد والتحكم، فالقياس على هذا لا يمكن في
الشريعة، لعدم التناسب بينهما.
أما الدليل على أن القياس مبني على التعليل فهو قولكم: إن مدار
القياس على العلَّة، فإن وجدت عِلَّة الأصل في الفرع ألحقناه به،
وإن لم توجد لا يجوز الإلحاق.
وأما الدليل على أن الشريعة مبنية على التعبد والتحكم، فهو أنها
تفرق بين المتماثلات في الحكم، وتجمع بين المختلفات في الحكم.
أما التفرقة بين المتماثلات فمنها الصور التالية:
الأولى: أن الشارع رخص في قصر الصلاة في الرباعية في حق
المسافر، دون الثلاثية والثنائية مع أن الصلوات متماثلة.
الثانية: أن الشارع فضل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض:
ففضل ليلة القدر على سائر الأزمنة مع أنها متماثلة مع باقي الليالي،
وفضل مكة والمدينة وبيت المقدس وعرفة وسائر المشاعر مع أن الأمكنة
متماثلة.
الثالثة: أنه أوجب قضاء الصوم على الحائض والنفساء، ولم
يوجب قضاء الصلاة عليهما مع أنهما متماثلين؛ حيث إن كلًّا منهما
عبادة بل الصلاة أولى من الصوم بالمحافظة.
الرابعة -: أنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً،
وهو طاهر، دون البول، وهو نجس.
الخامسة: أنه حرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا
كانت حرة مع أنها لا تفق الشبان ألبتة، وأباح النظر إلى الأمَة الشابة
الحسناء مع أنها تفق الشيخ الهرم.
السادسة: أنه أوجب قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير مع
أنهما متماثلين، بل غاصب الكثير أوْلى بالقطع.
السابعة: أنه أوجب الجلد بالقذف بالزنا، دون القذف بالكفر مع
أن القذف بالكفر أشد.
الثامنة: أنه أوجب جلد قاذف الحر الفاسق، دون قاذف العبد
العفيف.
التاسعة: أنه قبل في القتل شاهدين، دون الزنى فإنه لا يقبل فيه
إلا أربعة، مع أن القتل أشد من الزنى.
العاشرة: أنه أوجب غسل الثوب من بول الصبية، وأوجب
الرش من بؤل الصبي.
الحادية عشرة: أنه فرق في العدة بين الموت والطلاق مع أن الرحم
لايختلف فيهما.
فكيف مع ذلك التفريق بين المتماثلات أن يقال بجواز القياس في
الشريعة؟! إذ لو جاز القياس لألحق المثل بالمثل، ولكنه لم يفعل.
أما الجمع بين المختلفات فمنها الصور التالية:
الأولى: أن الشارع سوَّى بين قتل الصيد في الحج عمداً والقتل
خطأ في وجوب الضمان مع أنهما مختلفان.
الثمانية: أنه سوَّى بين الصبية المتوفى عنها والكبيرة في العدة مع
اختلافهما.
الثمالثة: أنه سوَّى بين الماء والتراب؛ حيث جعل التراب كالماء مع
وجود الاختلاف؛ حيث إن التراب لا ينظف، بل يزيد في تشويه
الوجه.
فبسبب هذه الصور أثبت النظام أن الشريعة فرقت بين المتماثلات
وجمعت بين المختلفات في الحكم، وقال: إذا كان هذا هو حال
هذه الشريعة، فلا مجال للعقل فيها، وبالتالي لا يسوغ استعمال
القياس فيها؛ لأنه مبني على تعقل المعنى الذي من أجله شرع
الحكم، والعقل لا يمكنه إدراك مثل هذه الأمور.
هذا هو الدليل الثالث عشر على عدم حجية القياس.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن الأحكام أقسام ثلاثة:
القسم الأول: أحكام لم نعرف عللها، فهو تعبدي كعدد
الصلوات والركعات.
القسم الثاني: أحكام قد تُردد في تعليله.
القسم الثالث: أحكام قد عرفنا عللها.
ونحن لم نقل بأن القياس جائز مطلقا، بل لا نقيس إلا بشروط
منها: قيام الدليل على أن الحكم معلل، ودليل على عين العِلَّة
المستنبطة، ودليل على وجود تلك العِلَّة في الفرع، والصور التي
ذكرها النظام لم تتوفر فيها هذه الأدلة، فلذلك لم يجر فيها
القياس، فيكون الاعتراض بها باطل، وعدم ظهور الحكمة فيها لمثل
النظام لا يجعلها دليلاً على أن كل أحكام الشريعة غير معللة،
وبالتالي لم يصح الأخذ بالقياس عليها.
الجواب الثاني: أن هذه الصور التي أراد النظام بسردها أن يثبت أن
الشريعة جمعت بين المختلفات، وفرقت بين المتماثلات قليلة جداً
ونادرة، وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في
حصول الظن، كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر في حالة واحدة لا
يقدح في ظن نزول المطر منه، فامتناع القياس في صور معدودة لا
يقتضي امتناعه من أصله.
الجواب الثالث: وهو الجواب التفصيلي عن كل صورة ذكرها
النظام فأقول:
أولاً: ما ذكره من صور التفرقة بين المتماثلات، فالجواب عنها فيما
يلي:
- أما قوله في الصورة الأولى: " إنه رخص في قصر الصلاة في
الرباعية للمسافر دون الثلاثية والثنائية "، فالجواب عنه: بأنه فرق
بينها، لقيام الفارق وهو: أن القصد من قصر الصلاة إنما هو
التخفيف على المسافر، والمحتاج للتخفيف إنما هو العدد الكثير المانع
للمسافر من قضاء حوائجه كالرباعية، دون العدد القليل كالثنائية،
فهي خفيفة على المسافر لا تمنعه من قضاء حوائجه.
وأيضا: فإن الصلاة الثنائية لو قصرت لعادت إلى ركعة واحدة،
وذلك ليس له نظير في أصل مشروعية الصلاة.
أما الثلاثية فإنه لا يمكن قصرها؛ لأمور:
أولها: أنه لا يمكن شطرها.
ثانيها: أنه لو حذف ثلثيها فإنه يبقى ركعة واحدة، وهذا مخل
لها، وليس لذلك نظير في أصل مشروعية الصلاة.
وثالثها: أنه لو حذف ثلثها، فإنه تبقى ركعتان، وهذا يخرجها
عن حكمة مشروعيتها وترأ، فإنها شرعت ثلاثا، فتكون وتر النهار
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب ".
أما قوله في الصورة الثانية: " إنه فضل بعض الأزمنة والأمكنة مع
أنها متماثلة،، فالجواب عنه: أنه ليس المعنى المقتضي للتفضيل هو
حقيقة الزمان والمكان كما توهم النظام، بل إن بعض الأزمنة وبعض
الأمكنة فضلت لوجود ما يقتضي لذلك التفضيل من الأمور التي
وقعت فيها: فليلة القدْر فضلت عن سائر الليالي؛ لأن القرآن نزل
فيها، وجعلت ميعاداً لنزول الملائكة والروح فيها بإذن ربهم،
ففضلت عند الخلائق بسبب ما ينزل بها من النعم والرحمات،
فكانت العبادة فيها أفضل حتى يكون حظ العبد فيها أوفر.
ومكة المكرمة فضلت؛ نظراً لوجود المسجد الحرام والمشاعر
الكريمة.
والمدينة فضلت؛ لأنها مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهلها أول من بايعه على النصرة والمنعة، وفيها قبر أفضل الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفضل بيت المقدس؛ لأن فيه المسجد الأقصى، وهو أولى
القبلتين، ومجمع الأنبياء، والمكان الذي أسري النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وعرج منه إلى السماء.
وفضلت عرفة؛ لأنه محل وقوف الجم الغفير من الخلائق
متجردين ملبين.
فاتضح مما سبق أن التفضيل لا لأجل حقيقة الزمان والمكان، بل
لوجود ما يقتضي ذلك التفريق، ونتيجة لذلك اختلف الحكم، فبطل
ما ادعاه النظام من أنها متساوية.
وأما قوله في الصورة الثالثة: " إنه أوجب قضاء الصوم على
الحائض والنفساء دون قضاء الصلاة مع أنهما متماثلين "، فالجواب
عنه: أن إيجاب قضاء الصوم دون الصلاة ليس ذلك لزيادة العناية
بالصوم دون الصلاة، بل السر في ذلك: أن الشارع نظر إلى المشقة
وعدمها، والمصلحة وعدمها، بيان ذلك:
أنه نظراً لحصول المشقة الشديدة في قضاء الصلاة؛ لتكررها لم
يوجب الشارع قضائها، ونظراً لعدم المشقة في الصوم فإنه أوجب
قضائها.
وأيضا: فإن مصلحة الصلاة ستحصل فى زمن الطهر - لتكررها -
فلم يوجب قضائها، وأما مصلحة الصوم فإنها لا تحصل - لعدم
تكرره - فأوجب قضائه لتحصل المصلحة.
فثبت بذلك أن بين الصلاة والصوم فرقا اقتضى ذلك الاختلاف في
الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من كونهما متماثلين.
وأما قوله في الصورة الرابعة: " إنه أوجب الغسل من المني وأبطل
الصوم بإنزاله عمداً وهو طاهر، دون البول وهو نجس "، فالجواب
عنه: أن بين المني والبول فروقاً هي كما يلي:
الأول: أن المني يخرج من جميع البدن، لذلك سماه اللَّه تعالى
سلالة؛ لأنه يسيل من جميع البدن، وأما البول فهو فضيلة الطعام
والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة، فتأثر البدن بخروج المني أعظم
من تأثره بخروج البول.
الثاني: أن الجسم كله يحصل له ارتخاء وثقل وكسل عقب خروج
المني، والاغتسال بالماء يشده ويعيد إليه قوته، أما البول إذا خرج فلا
يحدث في الجسم ذلك، فلا يحتاج إلى الاغتسال.
الثالث: أن إيجاب الغسل من المني وإبطال الصوم بإنزاله عمداً
ليس في ذلك حرج ومشقة؛ نظراً لقلة ما يقع، أما البول فإنه لو
أوجب اللَّه الغسل في كل مرة يبول فيها الإنسان لوقع الناس في حرج
ومشقة؛ نظراً لكثرة ما يقع.
فثبت أن المني يختلف عن البول فاقتضى ذلك اختلافهما في الحكم،
فبطل ما ادعاه النظام في أنهما متماثلان.
وأما قوله في الصورة الخامسة: " إنه حرم النظر إلى العجوز
الشوهاء إذا كانت حرة، وأباح النظر إلى الأمَة الحسناء "، فالجواب
عنه: أن الذي أوقع النظام في هذه الشبهة: أنه أخطأ في العِلَّة
ومقصد الشارع هنا؛ حيث توهم بأن السر؛ في ذلك الحكم هو القبح
والحسن في جزئيات النساء، وليس ذلك بصحيح، بل إن الحرة
حرَّم النظر إليها مهما كانت، دون الأمَة مهما كانت؛ لأنه يوجد
فرق، وهو: أن المقصود من الأمَة الخدمة، وهي تستوجب التعرض
للنظر، وتكون الأمَة معها مبتذلة؛ إذ لا يمكن أن تقوم بعملها تمام
القيام وهي متسترة، وليس المقصود من الأمَة التزوج والنكاح لما
يترتب عليه استرقاق الولد، ولهذا لم يجز التزوج بأمَة الغير إلا فى
حالة الضرورة القصوى، من أجل ذلك أباح النظر إليها، فلو حرم
النظر إلى الأمَة لوجد في ذلك مشقة شديدة.
أما الحرة، فبما أنها قد أعدت للتزوج بها وإنكاحها، وهي
المقصودة للنسل والذرية، فإن ذلك كان داعيا إلى المحافظة عليها،
وتكريمها وتحسينها أمام الرجال الأجانب بمنع النظر إليها؛ دفعاً للفتنة
وحفظا للأنساب.
فثبت بهذا أن بين الحرة والأمَة فرقا اقتضى اختلاف الحكم.
فبطل - بهذا - ما قاله النظام من أنهما متماثلان.
وأما قوله في الصورة السادسة: " إنه أوجب قطع يد سارق القليل
دون غاصب الكثير مع أنهما متماثلان "، فالجواب عنه: أن بين
السرقة والغصب فرقا هو: أن السرقة أخذ مال الغير خفية من حرز
مثله في وقت ليس للمال حارس، ولا مدافع، أي: أن السارق لا
يمكن الاحتراز منه؛ حيث إنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر
القفل، ولا يستطيع صاحب المال الاحتراز بحفظ ماله بكثر من ذلك
فلو لم يشرع قطع يده لكثرت السرقة وعظم الضرر، واشتدت المحنة
بالناس؛ حيث يجمع شخص ماله بكل مشقة، ثم يأخذه شخص
آخر بدون أدنى تعب.
أما الغاصب فإنه يأخذ المال بمرأى من الناس، وبمرأى من صاحب
المال، فيمكن التحرز منه، ويمكن للناس أن يأخذوا على يديه،
ويقوموا بأخذ حق المظلوم والمغصوب، ويشهدوا أمام القضاء على
اعتدائه.
فثبت أن بين الغاصب والسارق فرقا اقتضى ذلك اختلاف الحكم
فيهما، فبطل ما ادعاه النظام من أنهما متماثلان.
وأما قوله في الصورة السابعة: " إنه أوجب الجلد بالقذف بالزنى
دون القذف بالكفر "، فالجواب عنه: أن الذي جعل النظام يقول
بذلك هو توهمه بأن السر في حد القذف كونه رماه بأمر محرم شرعا
لذلك قال بأن القذف بالكفر أشد، فهو أوْلى بهذا الحد، وهذا
ليس بصحيح، بل بين القذف بالزنى والقذف بالكفر فرقان هما:
الفرق الأول: أن جلد القاذف بالزنى في غاية المناسبة؛ حيث إنه
لا سبيل إلى العلم بكذبه، فجعل الحد تكذيبا له، وتبرئة لعرض
المقذوف.
الثاني: أن المقذوف بالزنى يلحقه من العار والشنار ما اللَّه به عليم
لا سيما إدا كان المقذوف بالزنى امرأة، فإن العار والمعرة التي تلحقها
بالقذف بين أهلها وتشعب ظنون الناس فيها، وكونهم بين مصدق
ومكذب: لا يمكن أن يلحقها مثله بالقذف بالكفر؛ حيث إن الكفر
فيه تعاظم وجبروت وقوة بخلاف الزنا، فإن فيه خسة، ودناءة،
وسفول، ولو خير شخص بين الزواج بكافرة لم تزن ولا يمكنها أن
تفعل ذلك، وبين مسلمة قد زنت مرة واحدة، أو قيل عنها شيء في
ذلك لاختار الكافرة اليهودية أو النصرانية؛ وذلك لعظم الزنى في
الشريعة وفي نفوس الأحرار من الناس؛ لكونه يخلط الأنساب،
ويسبب شك الزوج في هؤلاء الأولاد هل هم له أو لغيره طول عمره.
فثبت أن بين القذف بالزنى والقذف بالكفر فرقا، فاقتضى ذلك أن
يختلف الحكم فيهما.
وأما قوله في الصورة الثامنة: " إنه أوجب جلد قاذف الحر الفاسق
دون قاذف العبد العفيف "، فالجواب عنه: أن الجلد ليس المعنى فيه
مجرد العفة حتى يكون قاذف العبد العفيف أحق بهذا الحد، بل المعنى
الذي اقتضى حد القذف هو: ما سبق قوله في جواب الصورة
السابعة من أن الزنى مستقبح في العادات، وأن العار الذي يلحق
فاعله لا يستطيع أن يتحمله من كان عنده شيء من المروءة والشهامة
والشيمة، فلو ترك الناس يقذف بعضهم بعضا بهذا الأمر المستقبح
دون إقامة الحد على القاذفين، لأدى ذلك إلى مفاسد لا تعد ولا
تحصى، يقوم بتلك المفاسد الحاقدون والحاسدون الذين يريدون
إسقاط وإهدار قيمة الآخرين، وإذهاب كرامتهم، وبما أن الحر
أشرف من العبد خص بهذه المزية، دون العبد الذي هو نازل القدر
شرعاً، فثبت أن ما ادعاه النظام غير صحيح.
وأما قوله في الصورة التاسعة: " إنه يقبل في القتل بشاهدين،
دون الزنى لا بد فيه من أربعة "، فالجواب عنه: أن هذا في غاية
الحكمة والمصلحة، فكان الشارع قد احتاط للقصاص وللدماء كما
احتاط لحد الزنى، بيان ذلك:
أن الشارع لو لم يقبل في القتل إلا أربعة شهود لتجرأ المعتدون
على القتل، وضاعت أكثر الدماء.
وأما الزنى فإنه قد بالغ في ستره، فلم يقبل فيه إلا أربعة شهود
يشهد كل واحد منهم بما رآى شهادة يتنفى معها الاحتمال، وكذلك
في الإقرار به لم يكتف بأقل من أربع مرات؛ احتياطاً من الشارع في
إثباته، وحرصا على ستره، كما كره الشارع إظهاره والتكلم به،
وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا
والآخرة، وما ذلك إلا لما يلحق الشخص بالزنى من العار، بخلاف
ما يلحق القاتل.
فثبت اختلافهما فاقتضى ذلك اختلافهما في الحكم، فبطل توهم
النظام.
وأما قوله في الصورة العاشرة: " إنه أوجب غسل الثوب من بول
الصبية، - وأوجب الرش من بول الصبي مع تماثلهما لا، فالجواب
- عنه: أنه نرق بينهما لوجود فروق هي كما يلي:
الأول: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر؛ لما في الأنثى
من برودة ولما في الذكر من حرارة، والحرارة تخفف من نتن البول.
الثاني: أن بول الصبية ينزل في مكان واحد فيسهل غسله، أما
بول الصبي فإنه لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقاً، فيشق
غسله.
الثالث: أن الصبي يكثر حمل الرجال والنساء له، فالبلوى تعم
ببوله فيشق غسله، بخلاف الصبية.
فلما ثبتت هذه الفروق بين الصبي والصبية اختلف الحكم، فبطل
ما ادعاه النظام من أنهما متماثلان.
وأما قوله في الصورة الحادية عشرة: " إنه فرق في العدة بين الموت
والطلاق مع أن الرحم لا يختلف فيهما "، فالجواب عنه: أن
الشارع فرق بين عدة المتوفى عنها وعدة المطلقة؛ لوجود الفارق
بينهما وهو: أن صاحب النسب في حال الموت غير موجود،
فاحتيط له بأربعة أشهر وعشراً، بخلاف المطلق؛ حيث إنه موجود،
فتبين أنه ليس المقصود من العدة براءة الرحم فقط، ولما وجد هذا
الفارق فرق الشارع بينهما في الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من
تماثلهما.
ثانيا: ما ذكره من صور الجمع بين المختلفات، فالجواب عنها فيما
يلي:
أما قوله - في الصورة الأولى -: " إن الشارع قد سوى بين قتل
الصيد في الحج عمداً، والقتل خطأ في وجوب الضمان مع
اختلافهما "، فالجواب عنه: أن هذا من باب الحكم الوضعي؛
حيث إن سبب الضمان وجد فيهما وهو: نفس الإتلاف، وإن افترقا
في الإثم، وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام باسبابها،
وهذا في غاية العدل، فلو فرق بين المتعمد والمخطئ في الضمان
لادعى المتلف الخطأ وعدم القصد والعمد، فتساويا في الحكم،
فبطل ما ادعاه النظام من اختلافهما.
وأما قوله - في الصورة الثانية -: " إنه سوى بين الصبية المتوفى
عنها والكبيرة في العدة مع اختلافهما "، فالجواب عنه: أن هذا من
باب سد الذرائع؛ بيان ذلك: أن الصبية لو استثنيت من وجوب
العدة لوقع أن تزوج البنت باعتقاد أنها صغيرة مع أن رحمها مشغول،
فيحصل بذلك اختلاط في الأنساب، فاحتياطا للمحافظة على الأنساب
وجدت العدة حتى على المتيقن من براءة رحمها، فيكون تساوي
الصبية المتوفى عنها والكبيرة في العدة من باب الاحتياط، فبان من
ذلك عدم اختلافهما، فيكون ما ادعاه النظام من اختلافهما باطلاً.
وأما قوله - في الصورة الثالثة -: " إن الشارع قد سوى بين الماء
والتراب حيث جعل التراب كالماء مع وجود الاختلاف.
فالجواب عنه: أنا لا نُسَلِّمُ أنه سوى بينهما، بل جعل التراب بدلا
عن الماء عند فقده، وجعل التراب بديلاً عن الماء عند فقده؛ لأمور
هي كما يلي:
الأول: أنه عام ومتيسر، ويحصل عليه كل الناس بدون مشقة.
الثاني: أن الشارع جمع الماء والتراب، وجعل منهما حياة كل
حيوان؛ حيث أخرج منهما أقوات بني آدم، والحيوانات.
الثالث: أن تكوين البشر من عنصرين: الماء والتراب.
الرابع: أن في استعمال التراب عند فقد الماء رفع للحرج الذي
يجده فاقد الماء، أو من يحتاج إلى شرب الماء إذا خاف على نفسه
في السفر أو الحضر.
فاتضح من ذلك أن الماء والتراب يجتمعان في أمور لذلك جمع
الشارع بينهما، وجعل التراب بد، عن الماء عند فقده.
الدليل الرابع عشر: أن البراءة الأصلية معلومة، والحكم الثابت
بالقياس لا يخلو إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية، أو على
خلافها.
فإن كان الحكم الثابت بالقياس على وفق البراءة الأصلية، فإن
القياس غير مفيد؛ لأن الحكم حاصل بالبراءة الأصلية.
وإن كان الحكم الثابت بالقياس على خلاف البراءة الأصلية، فهو
ممتنع؛ لأن الحكم الثابت بالقياس معارض للحكم الثابت بالبراءة
الأصلية، والحكم الثابت بالبراءة الأصلية مقطوع به؛ لأن البراءة
دليل قطعي، والحكم الثابت بالقياس مظنون؛ لأن القياس دليل ظني،
والظني إذا عارض القطعي كان الظني باطلاً، فيلزم كون القياس
باطلاً.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحكم الثابت بالقياس إذا وافق البراءة الأصلية
فهو يفيد التأكيد والتقوية، كما يقال: " دلَّ على هذا الحكم الكتاب
والسُّنَّة والإجماع "، فلا نسلم لكم عدم الفائدة.
أما إذا خالف الحكم الثابت عن طريق القياس البراءة الأصلية،
فلا نسلم أن هناك مقطوعاً به عارض مظنونا؛ لأن المقصود هو
استمرار البراءة الأصلية، واستمرارها مظنون، فيكون مظنون قد
عارض مظنوناً.
الجواب الثاني: على فرض التسليم أن فيه مقطوعا به عارض
مظنوناً، لكن هذا منقوض بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية
كخبر الواحد، والعمومات، وجواز العمل بالفتوى، والشهادة،
وتقويم المقومين، وجواز العمل بالظن بالأمور الدنيوية.
الدليل الخامس عشر: أن القياس لا يفيد إلا الظن؛ لأنه يعتمد
على مقدمات ظنية، وكل ما أفاد الظن يستحيل أن يتعبدنا اللَّه به؛ لأن الظن يؤدي بالمجتهدين إلى أن يحكموا حكما يمكن أن يكون
مخالفا لحكم اللَّه، ويؤدي إلى التخبط في أحكام الله.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا معكم أن القياس يفيد الظن، ولكن ينبغي
التنبيه إلى أننا لا نقبل قياس كل أحد مطلقا، بل لا نقبل إلا قياس
المجتهد - وهو من توفرت فيه شروط المجتهد وهي كثيرة - فمن
توفرت فيه تلك الشروط وبحث ودقق في المسألة، ثم بعد ذلك
خرج بحكم معين، فإن هذا هو حكم الله، وهو حكم ظني راجح،
والعمل به واجب.
أما الشخص الذي لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد، فإن هذا لا
يقبل منه شيء وإن جزم بالحكم الذي ذكره؛ لأنه ذكره لا عن نظر
واستدلال، فيرد عليه جملة وتفصيلاً، حيث إنه هو يؤدي إلى حكم
يحتمل أن يكون مخالفاً لحكم اللَّه.
الجواب الثاني: أن هذا الدليل لهم منقوض بورود التعبد بالمظنون
كأخبار الآحاد، والنصوص التي فيها إجمال، أو عموم أريد به
خصوص، وقبول الشهادة، والاجتهاد في القبلة، وتقدير النفقات،
وتقييم المتلفات، فإذا أجازوا التعبد بهذه الظنون فليجيزوا التعبد
بالقياس، ولا فرق بينها بجامع: أن كلًّا منها لا يفيد إلا الظن.
الدليل السادس عشر: أن إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون عن
طريق العقل أو طريق النقل، وكل الطريقين باطل، بيان ذلك:
أنه إن قيل: إنه ثبت عن طريق العقل فهو باطل؛ لأن العقل لا
مجال له في الشرعيات، وإن قيل: إنه ثبت عن طريق النقل فهو
باطل؛ لأن النقل قسمان: " متواتر "، و " آحاد "، فإن زُعم أنه
ثابت عن طريق التواتر فهو باطل؛ لأنه لو كان لعرفناه كما عرفه
ذلك المثبت له، وإن زعم أنه ثابت عن طريق الآحاد فهذا باطل
- أيضاً -؛ لأنه لا يجوز إثبات القواعد الأصولية بالآحاد.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه لا يجوز إثبات القاعدة الأصولية
بخبر الواحد مطلقاً، بل إنه إذا كانت القاعدة وسيلة إلى العمل فإنه
يجوز إثباتها بالآحاد؛ قياساً على الفروع.
الجواب الثاني: أنا قد أثبتنا القياس عن طريقين: أحدهما:
الأخبار التي تلقتها الأُمَّة بالقبول، والأخبار التى تلقتها الأُمَّة بالقبول
تكون بمنزلة التواتر في إيجاب العلم والعمل، والثاني: إجماع
الصحابة - كما سبق بيانه -.
الدليل السابع عشر: أنه لو كان التعبد بالقياس جائزاً لما تعارضت
الأقيسة؛ لأن حجج اللَّه تعالى لا تتعارض ولا تتهافت، لكن
الأقيسة قد عارض بعضها البعض الآخر؛ حيث ترى أحد المتنازعين
من أهل القياس يزعم أن قوله هو القياس الصحيح، ثم يأتي الآخر
بقياس آخر يناقضه، ويزعم أنه هو القياس الصحيح.
جوابه:
إن سبب تعارض أقيستهم: اختلافهم في المعنى الذي علل به
الحكم تبعا لاختلاف أنظارهم في فهمه، كما يختلفون في فهم
الكتاب والسُّنَّة.
الدليل الثامن عشر: أنه لو جاز التعبد بالقياس لكان على عليته
دلالة، والدلالة إما أن تكون بالنص، وإما أن تكون بالعادات.
فإن زعم أنه دلَّ عليها بالنص فهذا ليس في محل النزاع؛ لأن
النزاع فِيما كانت العلَّة مستنبطة، والمستنبطة غير المنصوصة.
وإن زعم أنه دً عليها بالعادات، فهذا لا يجوز؛ لأن العادات لا
تثبت الأحكام الشرعية، فلا تكون مثبتة لعللها.
جوابه:
لا نسلم هذا الحصر فيما ذكرتم؛ فإن هناك طردا أخرى يعرف بها
كون الوصف الجامع عِلَّة كا لإيماء، والتنبيه، والإجماع، والدوران،
والسبر، والتقسيم، والمناسبة - كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه -.
الدليل التاسع عشر: أن التحليل والتحريم أحكام شرعية،
والحكم خبر عن اللَّه، وأخبار اللَّه إنما تعلم بالتوقيف، لا بالقياس؛ القياس من فعل القائس، لا من توقيف الشارع، وربما أخطأ
القائس في الحكم، فكيف يكون حُجَّة مع هذا الاحتمال؟!
جوابه:
إن إثبات الحكم بالقياس أو نفيه يتوقف على ورود دليل من نص أو
إجماع على التعبد به، فلما ورد دليل يدل على ذلك كان إخباراً عن
إثبات الحكم بالفرع.
أي: أن الأحكام تعرف بالنص، وما عرف بالقياس فهو معروف
بالنص، لأن النص دال على القياس، فما أدى إليه فهو مأخوذ من
النص، وإن كان التوصل إلى ذلك بضرب من الاستدلال والنظر.
الدليل العشرون: أن التعبد بالقياس غير جائز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه لم يكن حُجَّة فيه؛ لعدم جواز الاجتهاد في عصره، فبطل
كونه متعبداً به في سائر العصور.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم
قد استعمل القياس في أحاديث كثيرة قد ذكرنا بعضها في أدلتنا، فهذا فيه دلالة على مشروعية القياس.
الجواب الثاني: نسلم لكم أن القياس غير جائز في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يدل على عدم جوازه بعد زمنه، لأن الناس في زمنه
- صلى الله عليه وسلم لم يكونوا بحاجة إلى القياس، لكون الوحي لا زال ينزل بأحكام لحوادث، بخلاف ما بعده من الأزمان.
الدليل الواحد والعشرون: أن أقوى عِلَّة عندكم هي: العِلَّة
المنصوص عليها ومع قوتها فإنها لا تقوى على إلحاق الفرع بالأصل،
فلو قال السيد لوكيله: " أعتق من عبيدي سالما؛ لأنه أسود "،
للزم من ذلك إعتاق سالم فقط، ولا يتعداه إلى كل أسود قياسا مع
أن العِلَّة منصوص عليها، وهذا متفق عليه، فكذلك لو قال
الشارع: " حرمت الربا في البر؛ لأنه مطعوم "، فإنه لا يتعدى
ذلك البر أبداً إلى كل مطعوم، فلا يقاس عليه كل مطعوم، فإذا
كانت العِلَّة المنصوص عليها لا توجب الإلحاق، فمن باب أوْلى أن
العِلَّة المستَنبطة لا توجب الإلحاق؛ لأنها أضعف منها.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أنكم قستم كلام الشارع على كلام المكلَّفين،
وهذا لا يصح؛ لوجود الفرق بينهما.
ووجه الفرق: أنه لم يجز قياس غير سالم عليه بجامع السواد
بالاتفاق؛ لأن هذا يخص الأملاك، والشارع قد قيد الأملاك
حصولاً وزوالاً على ألفاظ قد تعبدنا اللَّه بها دون الإرادات، فلا
يجوز القياس فيها كالبيع، والشراء، والنكاح، والطلاق،
والعتاق، هذه الأمور لا بد من أن يتلفظ المالك بلفظة واضحة تدل
على مراده، فلو أن رجلاً قد أعطى آخر ثمنا لسلعة أضعاف ثمنها
الأصلي، وظهر على صاحب السلعة علامات الفرح، ولكنه
لم يتكلم فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لم يتلفظ بشيء، وهكذا القول في
العتق لا بد أن يقول: " أعتقت فلان "، وإلا لما صح العتق.
والسر في ذلك: أن اللَّه تعالى أراد حفظ مال المسلم، فلو أجاز
القياس في كلام المكلفين فيما يخص الأملاك لأصبح المسلم غنيا
وأمسى فقيراً.
أما الشارع، فإن الأحكام تؤخذ من ألفاظه، ومقاصده،
وسكوته، فلذلك يجوز أن نأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به
بواسطة عِلَّة يستنبطها المجتهد.
الجواب الثاني: أننا لو فكرنا في ذلك تفكيراً لغويا مجرداً عن
الشرع لجاز القياس على العلَّة المنصوص عليها كقولنا: " لا تجالس
زيداً، فإنه مبتدع "، فإنَّ اللغة تقتضي عدم مجالسة كل مبتدع،
فكذا يجوز قياس كل أسود على سالم عن طريق اللغة، لكن الشرع
قد منع من هذا القياس؛ لأنه تعبدنا بألفاظ فيما يخص الأملاك.
الجواب الثالث: أنكم وقعتم فيما فررتم منه، حيث إنكم قد
استعملتم القياس لإبطال القياس، فقستم كلام الشارع على كلام
المكلفين، فإن كان القياس باطلاً عندكم، فإنه يبطل دليلكم هذا؛
لأنه مبني عليه.
الدليل الثاني والعشرون: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، ومع ذلك فإنه ذكر الأشياء الستة في حديث عبادة بن الصامت مع طوله، وترك عبارة:" حرمت الربا في المكيل " مع قصرها،
فكيف يليق به ذكر الطويل الموهم وهو حديث الأشياء الستة، وترك
الوجيز المفهم وهي عبارة: " حرمت الربا في المكيل "؟!
فلو كان القياس جائزاً لما شق على نفسه بذكر هذه الأشياء بأعيانها
-
ولقال: " حرمت الربا في المكيل "، فما ذكرها بأعيانها إلا لأنه لا
يجوز الترابي فيها فقط، ولا يجوز القياس عليها.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن قولكم: " كيف يليق به
…
" هذا تحكم
على اللَّه وعلى رسوله، وهو لا يجوز؛ لأنه لو فتح مثل هذا
لكثرت الاستفسارات عن الشريعة كلها، فيقال: لماذا طول في بعض
الأحكام وفصل فيها، وبعضها الآخر اختصر؟ ولماذا لم يبين أن
القياس حُحة، أو أنه ليس بحُجَّة لينقطع النزاع، وهكذا.
الجواب الثاني: على فرض جواز مثل هذه الأسئلة، فإنا نجيب
عن ذلك فنقول: إنه ترك الوجيز المفهم إلى الطويل الموهم لغرض
أراده وهو: الحث على طلب العلم والتشمير عن ساعد الجد لتبيين
ذلك للناس وتوضيحه،. وما ذلك إلا ليرفع الذين آمنوا والذين أوتوا
العلم درجات، ولتكون هذه النصوص محل تفكير وتدبر من قبل
المجتهدين إلى يوم القيامة، ولو أبان اللَّه كل شيء لحفظ ذلك، ولم
يشتغل أحد بالتفكير فيها ولسد باب الاجتهاد.
هذه أهم أدلة النكرين للقياس والجواب عنها فاتضح بذلك:
أن القياس يعتبر دليلاً من أدلة الشريعة يحتج به على إثبات
الأحكام الشرعية، ولقد أطلت في أدلة المثبتين، والنافين له والرد
عليها، لأمرين:
أولهما: أهمية القياس، حيث إن أكثر الأحكام الفقهية مبنية عليه،
وقد بيَّنت ذلك في التمهيد.
ثانيهما: أن الأدلة من قِبَل المثتبتين للقياس، وأدلة النافين له
ومناقشتها تفيد القارئ معرفة واسعة لأسرار، وعلل، وحِكَم
الأحكام الشرعية، مما يجعله متوسعاً في معرفته لمقاصد الشريعة،
وهو مطلب مهم لكل طالب علم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في حجية القياس خلاف معنوي، قد أثر في كثير من
الفروع الفقهية، ومنها:
1 -
إذا دخل اللبن إلى جوف الصبي - دون السنتين - عن طريق
الأنف وهو السعوط، أو صب اللبن في الحلق ودخل الجوف، فإنه
بناء على المذهب الأول: يحرم ويثبت الرضاع؛ قياسا على الْتقام
الثدي، وعلة ذلك: أن كلًّا منهما يقوي العظم، وينبت اللحم،
وهذا مذهب الجمهور.
أما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم ذهبوا إلى أن ذلك لا يحرم،
فلا يحرم عندهم إلا ما وصل إلى الجوف عن طريق الْتقام الثدي،
ولم يقولوا في ذلك بالقياس، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو
مذهب الظاهرية.
2 -
إذا قال الزوج: " أنت عليّ كظهر أختي "، أو قال أي لفظ
يشبه ذلك كقوله: أنت عليّ كيَدِ أمي، أو كرِجْلها، أو نحو ذلك
من تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه، فإنه يحصل الظهار؛ قياسا على
لفظ الظهار الصريح، وهو قوله:" أنت عليّ كظهر أمي " التي
أجمع العلماء عليها، ولا فرق؛ حيث شبه ذلك بمن تحرم عليه،
وهذا قول أصحاب المذهب الأول وهم: المثبتون للقياس.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم المنكرون للقياس فقد ذهبوا إلى
أنه لا يحصل الظهار إلا بقول الرجل لزوجته: " أنت علي كظهر
أمي " دون غيرها من الصيغ، ولم يأخذوا بالقياس.
3 -
ذهب أصحاب المذهب الأول - وهم المثبتون للقياس - إلى
أن كل صنف يشابه الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة بن
الصامت وهي: الفضة، والذهب، والبر، والشعير، والملح،
والتمر، فإنه يجري فيه الربا كما جرى في هذه الأصناف، قياسا
عليها، فيجري الربا في الأرز والذرة والعدس وغير ذلك، وهو
مذهب الجمهور.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم المنكرون للقياس - فإنهم
قالوا: إن الربا لا يقع إلا في هذه الأصناف الستة فقط، ولا يتعدى
حكم الربا إلى غيرها؛ بناء على عدم جواز القياس عندهم، فلا ربا
عندهم في الأرز، والذرة.