الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث تعريف القياس المختار، وبيانه بالشرح والأمثلة
لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف القياس، والسبب في
هذا الاختلاف هو: اختلافهم في القياس هل هو دليل مستقل أو هو
من فعل المجتهد؛ وقد سبق بيان ذلك، ونظراً لأني لا أريد أن أدخل
طالب العلم في متاهات قد لا يخرج منها إلا بشق الأنفس،
وانسجاماً للمنهج الذي رسمته للسير عليه في هذا الكتاب، فإني
اخترت تعريفاً للقياس أقرب للصحة من غيره في نظري، وهو:
أن القياس: إثبات مثل حكم أصل لفرع لاشتراكهما في علَّة
الحكم عند المثبت.
بيانه وشرحه:
قولنا: " إثبات " جنس يشمل كل إثبات، سواء كان إثباتا لمثل
حكم الأصل في الفرع، وهو قياس المساواة - وهو الذي نحن
بصدده -.
أو كان إثباتاً لنقيض حكم الأصل في الفرع لنقيض العِلَّة فيه،
رهو قياس العكس مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"وفي بضع أحدكم صدقة "،
قالوا: يا رسول اللَّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ ،
قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام؛ " أي: أكان يأثم؛ قالوا:
نعم، قال:"فمه ".
يعني: أنه كما أنه إذا وضعها في حرام يأثم، فكذلك إذا وضعها
في حلال، فإنه يؤجر.
فهنا ثبت نقيض حكم الأصل - وهو الوطء في الحرام - في
الفرع - وهو الوطء في الحلال - لنقيض العِلَّة وهي: افتراقهما في
الحلال والحرام.
ومعنى " الإثبات ": إدراك النسبة بين الفرع والأصل، والمراد به
هنا: مطلق إدراك النسبة، سواء كان على جهة الإيجاب، أو جهة
النفي، وسواء كان على سبيل القطع، أو على سبيل الظن.
وقلنا ذلك حتى يشمل القياس: القياس في المثبتات، وفي
المنفيات، وفي القطعيات، وفي الظنيات.
فمثال القياس في المثبتات: قياس الضرب على التأفيف بجامع
الإيذاء في كل فيكون حراما، فأثبتنا تحريم التأفيف في الضرب.
ومثال القياس في المنفيات قولهم: الكلب نجس، فلا يصح بيعه
كالخنزير، فلما نفينا صحة بيع الخنزير نفينا صحة بيع الكلب؛ قياساً
عليه بجامع النجاسة في كل.
ومثال القياس في القطعيات: قياس الضرب على التأفيف في
الحرمة بجامع الإيذاء، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله بجامع
الإتلاف.
وقلنا:. إنه قطعي هنا؛ لأن الفرع أَولى بالحكم من الأصل، هو
في المثال الأول، أو مساوي له - كما هو في المثال الثاني -.
ومثال القياس في الظنيات: قياس الأرز على البر في حرمة الربا
بجامع كونه مكيلاً، وقلنا: إنه ظني؛ لأن الفرع ليس بأوْلى بالحكم
من الأصل، ولا هو بالمساوي له.
وقولنا: " مثل " في التعريف، المثل لا يحتاج إلى تعريف؛ لأن
تصوره بديهي؛ حيث إن كل عاقل يعرف بالضرورة: أن هذا الحار
مثل ذلك الحار في كونه حاراً، وأنه يخالف البارد.
ولفظ: " مثل " أتى به في التعريف؛ لأمرين:
أولهما: لإخراج قياس العكس؛ لأن قياس العكس هو: إثبات
نقيض حكم الأصل في الفرع؛ لافتراقهما في عِلَّة الحكم.
ثانيهما: أنه ذكر للإشارة إلى أن الحكم الثابت في الفرع ليس هو
عين الحكم الثابت في الأصل، وإنما هو مثله؛ وذلك لاستحالة قيام
الواحد بالشخص بمحلين؛ لذلك يكون الحكم في الفرع أضعف من
الحكم في الأصل؛ لأن المشبه ليس في قوة المشبه به.
فقولنا: " زيد كالأسد في الشجاعة " لا يفهم من هذا أن شجاعة
زيد في قوة شجاعة الأسد، وإنما تقارب ذلك.
فكذلك هنا لما قلنا: إن النبيذ مثل الخمر في الإسكار، فينبغي أن
يكون مثله في التحريم لا يفهم من هذا أن تحريم النبيذ - وهو الفرع -
هو نفسه تحريم الخمر - وهو الأصل -، بل إن الحكم في الفرع
أخف من الحكم في الأصل، فإثم شارب النبيذ أقل من إثم شارب
الخمر؛ وذلك لأن تحريم الخمر ثبت بدليل قطعي وهو النص،
وتحريم النبيذ ثبت بدليل ظني، وهو القياس، وما ثبت بدليل ظني
أخف مما ثبت بدليل قطعي.
قولنا: " حكم أصل لفرع " المراد بالحكم هو الحكم المطلق وهو:
نسبة أمر إلى آخر، وقلنا ذلك ليكون القياس شاملاً للقياس في
الشرعيات، والقياس في اللغويات، والقياس في العقليات.
وقال بعضهم: إن المراد بالحكم - هنا - هو الحكم الشرعي
العرف بأنه خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلَّفين اقتضاء أو تخييراً أو
وضعاً.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن تفسير الحكم بهذا يجعل القياس يختص
بالشرعيات، وهذا تخصيص بدون مخصص قوي.
والمراد بالأصل هو: المقيس عليه، وهو: الحادثة التي ورد
حكمها في النص والإجماع مثل؛ " الخمر "، و " البر "، و "الهرة".
والمراد بالفرع هو: المقيس، وهو الحادثة التي لم يرد حكمها في
نص ولا إجماع مثل: " النبيذ "، و " الأرز "، و " الفأرة ".
قولنا: " لاشتراكهما في عِلَّة الحكم " اللام - هنا - سببية.
ومعنى اشتراكهما أي: اتحاد الأصل والفرع.
والعلَّة هي: الجامع بين الفرع والأصل، ويُسمَّى مناط الحكم.
مثل: قياس النجيذ على الخمر بجامع: الإسكار، وقياس الأررْ
على البر بجامع: الكيل أو الوزن، وقياس الفأرة على الهرة
بجامع: أن كلًّا منهما يكثر التطواف في المنزل ويصعب التحرز منها.
والمراد بعِلَّة الحكم أي: عِلَّة حكم الأصل.
وتقدير الكلام: أن القياس هو: إثبات مثل حكم أصل لفرع،
هذا الإثبات جاء بسبب اتحاد الأصل والفرع في علَّة حكم الأصل لا
بسبب آخر، لذلك تجد المجتهد يفكر أولاً في الحكم هل هو معلل،
وهلً علته متعدية؛ ثم يفكر ثانيا هل توجد هذه العلة في جزئية من
الجزئيات؛ ثم يفكر ثالثاً في الإلحاق، ثم يفكر رابعا في نوع هذا
الإلحاق، وهكذا - كما سيأتي التفصيل فيه إن شاء اللَّه تعالى -.
وأتي بعبارة: " لاشتراكهما في علَّة الحكم " للاحتراز عن إثبات
الحكم في الفرع بواسطة نصٍ أو إجماع، فلا يكون حكم الفرع ثابتا
بالقياس، بل قد ثبت بذلك النص.
مثال ثبوت حكم الفرع بالنص: ثبوت تحريم النبيذ بعموم قوله
صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام "، فمن أثبت تحريمه بهذا النص لا يجوز
أن يقيسه على الخمر.
ومثال ثبوت حكم الفرع بالإجماع: ثبوت الإرث للخالة؛
لإجماع الصحابة على ذلك، لا بسبب القياس على الخال الثابت
إرثه بقوله عليه السلام: " الخال وارث من لا وارث له ".
قولنا: " عند المثبت " المراد بالمثبت: القائس، وهو المجتهد
الذي تولى عملية القياس، سواء كان مجتهدأ مطلقا أم كان مجتهداً
بالمذهب، وليس المراد به: المقلد؛ لأن المقلد يأخذ الحكم من
المجتهد.
والمراد من هذا: أن إثبات مثل حكم الأصل للفرع بسبب
اشتراكهما في عِلَّة حكم الأصل، هذا على حسب ما ظهر لذلك
المجتهد فقط دونَ غيره، لذلك قلنا فيما سبق: إن القياس من فعل
المجتهد؛ حيث إنه قد يثبت هذا المجتهد مثل حكم الأصل للفرع
بسبب جامع بينهما في حين أن مجتهداً آخر في عصره لا يرى ذلك.