الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع النص على عِلَّة الحكم هل هو أمر بالقياس أو لا
؟
بيان المقصود بهذه المسألة: إذا ذكر الشارع وصفا صالحاً لتعليل
الحكم به كقوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة "،
أو قولك: " حرمت الخمر لعلة الإسكار "، فهل يُعد هذا أمراً بإجراء القياس في كل ما توجد فيه هذه العِلَّة؟
أي: أن الشارع إذا نص على علَّة الحكم في محل ثم وجد
المجتهد تلك العلَّة في محل آخر، هل يجب عليه أن يعدي الحكم
إلى ذلك المحل الآخر الذي وجدت العِلَّة فيه، أو لا يجب على
المجتهد، ولا يكلف بتعدية الحكم إلى غير ذلك المحل الذي نص فيه
على العِلَّة إلا إذا ورد فيه أمر يُفيد التعبد بالقياس.
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن التنصيص على العِلَّة يفيد الأمر بالقياس مطلقا،
أي: سواء كان التنصيص على العِلَّة َ في جانب الفعل بأن يكون
الحكم إيجاباً أو ندبا، أو في جانبَ الترك بأن يكون الحكم تحريما أو
كراهة.
وهو مذهب أبي الخطاب الحنبلي، وأكثر الحنابلة، واختاره أبو
إسحاق الشيرازي، وأبو بكر الجصاص، والكرخي، وأكثر الحنفية،
وأبو الحسين البصري، وأشار إليه أحمد.
وهذا المذهب هو الحق عندي، للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لو لم يجز القياس على العلَّة المنصوص عليها
لم يكن للنص عليها فائدة؛ حيث لا فائدة لذكَرها في النص إلا
القياس عليها، وإلا لكان وجودها عبثاً.
اعتراض:
قال قائل - معترضاً -: إن هناك فائدة وهي: أن يعلمنا أنها عِلَّة،
حيث عقلنا المعنى الذي من أجله شرع الحكم، ولا نقول بالتعميم
إلا بدليل يدل عليه، وإذا كان المقصود هو العلم بالعِلَّة، فالعلم
نفسه فائدة.
جوابه:
إنه يلزم على قولكم هذا أن يكون الأمر لا يفيد الوجوب أو
الندب، وكذلك لا يفيد التحريم أو الكراهة، وإنما تكون فائدته أن
يُعلم أنه أمر، أو نهي، وكذلك سائر أقسام الكلام.
فيثبت: أنه لا فائدة في معرفة العِلَّة وذكرها إلا لنعرف المصلحة
فيها، وإذا عرفت المصلحة لزمه العمل عليها أين وجدت من المحال،
وإلا فذلك الحكم قد استفدناه بالنص، فلا فائدة في معرفة علته.
الدليل الثاني: أن التنصيص على العِلَّة يفيد وجوب تعميم الحكم
في جميع المحال التي وجدت فيها تلكَ العِلَّة، مثل لو قال الله
تعالى: " أوجبت أكل السُّكَّر في كل يوم؛ لأَنه حلو "، لكان ذلك
تعليلاً لوجوبه في كل يوم؛ ولعلمنا أن الحلاوة - فقط - وجه
المصلحة في الوجوب في كل يوم؛ حيث قصر التعليل عليها، فإذا
ثبت ذلك علمنا: أن الحلاوة هي المؤثرة في المصلحة، وهي العلَّة،
فوجب أكل كل شيء فيه حلاوة مثل: العسل.
مثال آخر: لو قال الطبيب: " لا تأكل هذا لبرودته "، فإنه
يتبادر إلى الذهن: النهي عن كل ما توجد فيه هذه العِلَّة، وهي
البرودة.
اعتراض على هذا:
قال قائل - معترضاً -: إن التنصيص على العِلَّة لم يكن لأجل
الإلحاق، بل لبيان الحكمة والمصلحة في كل حكم، وهذا يفيد
الانقياد والقبول؛ حيث إن النفوس تميل إلى قبول ما عرفت فيه
الحكمة والمصلحة التي من أجلها شرع هذا الحكم أو ذاك.
جوابه:
إن صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الأحكام الشرعية التي يجب أن تتعبد بها الأُمَّة، ويعملوا بمقتضاها مصداقا لقوله تعالى: (وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون) ، ولم يبعث لأجل التنبيه على أسرار الأحكام
دون العمل بها.
المذهب الثاني: أن التنصيص على عِلَّة الحكم ليس أمراً بالقياس
مطلقاً، أي: سواء كان التنصيص علىَ العِلَّة في جانب الفعل، أو
في جانب الترك.
وهو مذهب فخر الدين الرازي، والغزالي، والأستاذ أبي إسحاق
الإسفراييني، والآمدي، ونسبه إلى أكثر الشافعية، ونسبه ابن
الحاجب إلى الجمهور، واختاره جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب
المعتزليان، واختاره بعض الحنفية، وهو مذهب الشيعة الزيدية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين، وجوز
أن تكون المصلحة إذا نص على إيجاب أكل السكر؛ لأنه حلو أن
تختص بالسكر دون غيره مما وجدت فيه الحلاوة كالعسل مثلاً،
بدليل:. أن من تصدق على رجل؛ لأنه فقير لا يجب أن يتصدق على
كل فقير، فكذلك هاهنا من أوجب عليه أن يأكل السكر؛ لأنه حلو
لا يجب عليه أن يأكل كل حلو.
جوابه:
إنه إذا كانت العلَّة هي وجه المصلحة في الموضع المخصوص
المنصوص وجب تعلق الحكم بها أينما وجدت؛ لجواز أن تكون
مصلحة - أيضاً - فيكون الإخلال بفعله مفسدة.
الدليل الثاني: أن تعدية الحكم من محله إلى المحل الآخر لا بد
له من دليل يدل عليه، وحيث لا يوجد دليل من أمر، أو إخبار من
الشارع يدل على ذلك، فإن التنصيص على العلَّة لا يفيد وجوب
الأمر بتعدية الحكم.
جوابه:
إن ثبوت تعليل الحكم بمنزلة الإخبار من الشارع بوجوب تعدية
الحكم من المحل المنصوص عليه إلى المحل الآخر، وكأن الشارع لما
نص على العِلَّة قال: يجب على المجتهد أن يعدي الحكم إلى كل ما
توجد فيه تلك العِلَّة؛ لوجود المصلحة فيه.
الدليل الثالث: أن الإنسان إذا قال: " أعتقت عبدي فلانا؛ لأنه
أسود "، أو قال: " والله لا آكل السكر؛ لأنه حلو ": لم يلزمه
عتق كل عبيده السود، ولا يحنث باكل أي حلو غير السكر، فلو
كان التنصيص على العِلَّة يوجب تعدية الحكم من المحل المنصوص إلى
جميع المواضع التي توجد فيه هذه العِلَّة: لوجب أن يعتق عليه كل
عبد له أسود، وللزمه أن يحنث باكل كل حلو، ولما لم يعتق كل
عبد له أسود، ولم يحنث بأكل كل حلو دلَّ على التنصيص على
العِلَّة ليص أمراً بالقياس.
جوابه:
إن الكلام هنا يخص ما يجعله صاحب الشرع عِلَّة، وليس ما
يجعله البشر عِلَّة، بيان ذلك:
أنه إنما لم يعتق عليه كل أسود، ولم يحنث بأكل كل حلو غير
السكر؛ لأن الواحد منا يجوز عليه التناقض والبَداء في أفعاله
وأقواله، بخلاف صاحب الشرع، فإن المناقضة والبَداء عليه غير
جائزة في أفعاله وأقواله في طرد عِلَّته وجريانها في أحكامها.
المذهب الثالث: أن التنصيص على العلَّة أمر بالقياس في جانب
الترك في التحريم - فقط - أما التنصيص عَلى العِلَّة في جانب الفعل
فليس أمراً بالقياس، وإلى هذا التفصيل ذهب أبو عبد اللَّه البصري.
مثال جانب الترك: ما إذا قال: " حرمت الخمر لإسكارها "
فالتنصيص على العِلَّة - هنا - يفيد الأمر بالقياس.
ومثال جانب الفعل: ما إذا قال: " تصدقت على زيد لفقره "
فالتنصيص على العِلَّة - هنا - لا يفيد إلا الأمر بالقياس.
دليل هذا المذهب:
أن تحريم الشيء وطلب تركه؛ لعلة يقتضي ترتب المفسدة على
فعل ذلك الشيء لتلك العِلَّة، ومعروف أن التباعد عن هذه المفسدة
لا يحصل إلا بترك جميع ما وجدت فيه هذه العِلَّة.
أما إيجاب الشيء وطلب فعله لعلة تترتب عليها مصلحة،
فإن حصول هذه المصلحة لا يتوقف على فعل جميع ما يترتب عليه
مثلها.
قال ابن تيمية في " المسودة " - بعد ذكر رأي أبي عبد اللَّه البصري
هذا -: الفرق بين التحريم والإيجاب في العِلَّة المنصوصة قياس
مذهبنا في الأيمان وغيرها؛ لأن المفاسد يجب تركها كلها بخلاف
المصالح، فإنما يجب تحصيل ما يحتاج إليه، فإذا أوجب تحصيل
مصلحة لم يجب تحصيل كل ما كان مثلها للاستغناء عنه بالأول،
ولهذا نقول بالعموم في باب الأيمان إذا كان المحلوف عليه تركا
بخلاف ما إذا كان المحلوف عليه فعلاً " اهـ.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أن فعل كل خير ليس بواجب متى وجدت فيه المصلحة
التي أمر بالفعل لأجلها، بل الأمر الواجب كالنهي في طلب الخير
ودفع الضرر، فإيجاب كل شيء تحريم لضده، فترك الواجب كفعل
المنهي عنه يكون مشتملاً على ضرر يجب دفعه، وعلى هذا: يجب
أن يكون حال الفعل والإيجاب كحال الترك والنهي، ولا فرق.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي لا ثمرة له؛ لأن الخلاف لم يتوارد على محل
واحد؛ حيث إن ما أثبته كل فريق لا ينفيه الآخر، وما نفاه كل فريق
لا يثبته الفريق الآخر، فأحد المذاهب يفرض الكلام في استقلال
التنصيص على العِلَّة بالوجوب بدون ضميمة شيء آخر معها،
والمذهب الآخر يفرضه في عدم استقلال التنصيص على العلَّة
بالوجوب، وأنه لا بد أن ينضم إلى ذلك كون العِلَّة مناسبة، وهَذا
يقتضي أن النفي والإثبات في هذا الخلاف لم يتواردا على محل
واحد، فكان الخلاف لفظيا.
تنبيه: هذه المسألة مفروضة في حال عدم التعبد بالقياس، فلما
ورد التعبد بالقياس بالأدلة العقلية والنقلية تصبح هذه المسألة قليلة
الجدوى لا نصيب لها من الواقع، وبخاصة بالنظر إلى المجتهد الذي
يبحث في الأدلة التفصيلية، وما تدل عليه من أحكام، فإذا كان
دليل وجوب العمل بالقياس ثابتا عنده، وقد نص الشارع على
العلَّة، فمما لا شك فيه أنه يجب عليه العمل به بعد توفر أركانه
وشروط كل ركن، وبذلك لا يوجد تنصيص على العِلَّة لم ينضم
إليه دليل يدل على التعبد، فتكون هذه المسألة فرضية، قصد منها
الجلإل والمناظرة.
وبعض العلماء قصد من إيرادها بعد حجية القياس إضافة دليل آخر
يؤيد حجية القياس والعمل به في هذه المسألة، وهذا سائغ.