الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني القياس في المقدرات
المراد من ذلك: أن يرد من الشارع تقدير بعدد في موضع يمكن
إدراك المعنى الذي تعلق به هذا المقدار، ويوجد هذا المعنى في موقع
آخر، فهل يتعلق به ذلك التقدير كما تعلق في الموضع الأول؛
مثال ذلك: تقدير نصاب السرقة بثلاثة دراهم، وتقدير مدة
القصر للمسافر بأربعة أيام، وتقدير الحد في حد الزنى بمائة،
وتقدير التسبيح بمائة، فهل يجوز القياس على ذلك؟
لقد اختلف العلماء - في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز إثبات المقدرات بالقياس.
وهو مذهب الباقلاني، والباجي، وأبي إسحاق الشيرازي،
وإمام الحرمين، وأبي يعلى، وأبي الخطاب، وفخر الدين الرازي،
وتاج الدين ابن السبكي، وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: عموم أدلة حجية القياس للأحكام المقدرة، وغير
المقدرة، فتكون الأحكام المقدرة فرداً من أفراد ذلك العموم..
الدليل الثاني: أن خبر الواحد تثبت به المقدرات، فكذلك تثبت
بالقياس بجامع: أن كلًّا منهما ظنيا.
الدليل الثالث: أن المقتضي للتعدية قد وجد في المقدرات، فينبغي
أن يوجد القياس كسائر الأحكام.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس في المقدرات.
وهو مذهب الحنفية.
دليل هذا المذهب:
أن التقديرات قد ثبتت على وجه لا يمكن إدراك وجه اختصاصها
بذلك التقدير، دون ما هو أعلى أو أدنى، كما في تقدير نصب
الزكوات، فكانت من الأمور التعبدية التي لا نعلم العِلَّة التي من
أجلها شرعت، فلا يجري القياس فيها.
جوابه:
إننا في القياس ننظر إلى المعاني التي تعلَّقت بها تلك المقدرات،
فإذا وجدنا ما يساوي هذا المعنى في محل آخر أثبتنا فيه ما كان ثابتا
في الأصل من حكم، دون تعرض إلى وجه اختصاص ذلك المعنى
المشترك بين الأصل والفرع بمقدار عينه الشارع، فالنظر إلى المعنى
المشترك، وإثبات الحكم له، وليس النظر إلى وجه الاختصاص
بذلك المقدار لذلك المعنى.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي كما قلنا في إثبات العقوبات بالقياس؛ حيث
إن أصحاب المذهب الثاني لم يقيسوا على المقدرات شيئاً آخر، بينما
أصحاب المذهب الأول قد قاسوا على المقدرات وعملوا على ذلك
القياس.
فإن قال قائل: إن الخلاف يشبه أن يكون لفظيا؛ حيث إن
أصحاب المذهب الثاني قد أثبتوا التقدير فيها بالقياس.
ومن ذلك: تقدير المسح للرأس بثلاثة أصابع؛ قياساً على مسح
الخف وتقدير الخرق الذي يعفى عنه في الخف بثلاثة أصابع؛ قياساً
على مسحه، وتقدير الدلاء التي تنزح من البئر حتى يحكم بطهارتها
إذا وقع فيها فأرة بعشرين، وتقدير سن البلوغ بسبع عشرة.
قلت - في الجواب عن ذلك -: إنهم قالوا: إن تلك المواضع
وأمثالها إنما كان من باب الاجتهاد في تحقيق المناط، فلم ينظروا في
الاجتهاد في أمور وردت فيها تقديرات من الشارع، كما في الحدود
وعدد الركعات، وإنما في أمور لم يرد فيها تقدير، فقالوا: إنا إذا
نظرنا في تعيين التقدير المناسب لها نجد أن التقدير لها متردد بين
مرتبتين هما: " المرتبة الدنيا "، و " المرتبة العليا "، فنجتهد في
تحديد المرتبة المتوسطة بينهما، وبذلك يتعين المقدار المناسب، فمثلاً،
إنا قلنا: إدن سن البلوغ سبع عشرة هذا لم نتوصل إليه بالقياس، بل
بالاجتهاد في تحفيق المناط، وطريقة ذلك:
أن عندنا مرتبة دنيا هي عشر سنين لا يكون فيها بالغاً، ومرتبة
عليا، وفي عشرون سنة يكون فيها بالغا، وبينهما مرتبة متوسطة
مترددة، فنجتهد في تحديد هذه المرتبة وإزالة هذا التردد، وعلى
ضوئها يكون تقدير السن التي يحكم فيها بالبلوغ، ومثل ذلك مثل
الاجتهاد في تحقيق المناط في تقدير مهر المثل، والئفقة، ونحو ذلك.
وفرق بين الاجتهاد بتحقيق المناط، والاجتهاد بالقياس، حيث إن
ما ثبت بالاجتهاد بتحقيق المناط أقوى مما ثبت بالقياس.