الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني تحرير محل النزع
يتبين ذلك فيما يلي:
أولاً: الأمور الدنيوية يجري القياس فيها بالاتفاق.
والمقصود بالأمور الدنيوية هي: التي لم يكن المطلوب بها حكما
شرعياً كمداواة الأمراض، والأدوية، والأسفار، مثل: أن يفقد
الطبيب دواء لمرض معين - فيأتي الطبيب بدواء يشابهه في تأدية نفس
الغرض " والجامع: أن كلًّا منهما موافق لمزاج المرض المخصوص.
ومعنى كون القياس حُجَّة في ذلك: أنه ليس حُجَّة من قِبَل
الشارع، حيث إنه حُجَّة صناعية اقتضتها صناعة الطب يسترشد بها
الطبيب لمداواة الأمراض، واستمدادها من العقل، ومثل ذلك
الأغذية فيجوز قياس غذاء على غذاء في تأدية عمل واحد.
ثانياً: الأمور اللغوية كقياس النبش على السرقة، واللواط على
الزنا. هذا اختلف العلماء في جريان القياس فيها على مذهبين - وقد
سبق بيان ذلك -.
ثالثاً: الأمور الشرعية، وهو موضوع مبحث القياس، وإذا أطلق
القياس فالمراد به: القياس في الشرعيات، وقد اختلف في جواز هذا
القياس.
والخلاف لم يجر في كل قياس، بل إن الخلاف قد جرى في
جزئية من القياس، وتتبين تلك الجزئية فيما يلي فأقول:
لقد علمت: أن القياس هو: إثبات مثل حكم أصل لفرع
لاشتراكهما في علَّة الحكم عند المثبت، فلا بد - إذن - من أربعة
أركان وهي: " الأصل "، و " الفرع "، و " العِلَّة "، و " الحكم ".
فالقياس إذن متوقف على مقدمتين هما:
المقدمة الأولى: أن يتأكد المجتهد أن الحكم في الأصل معلل بعِلَّة،
وأنها متعدية.
المقدمة الثانية: أن يتأكد أن تلك العِلَّة حاصلة بتمامها في الفرع.
فهنا ننظر إما أن تكون تلك المقدميتن قطعيتين، أو ظنيتين، أو
الأولى قطعية، والثانية ظنية، أو العكس، فهذه أربعة أقسام، إليك
بمانها:
القسم الأول: أن تكون المقدمتان قطعيتين، فهنا قد اتفق العلماء
على أن القياس حُجَّة يجب العمل به، وإن كان بعضهم لا يسميه
قياساً.
وهذا ينحصر في ست صور هي كما يلي:
الصورة الأولى: أن ينص على العِلَّة نصا صريحاً كقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما جعل الاستئذان من أجل البصر "،
فهنا نص على العِلَّة وهي: البصر أو النظر،
والاطلاع على أسرار الناس، ولذلك شرع
الحكم، وهو مشروعية الاستئذان، فيقاس على ذلك الاستماع،
ويمكن أن يمثل له بقوله صلى الله عليه وسلم:
"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة ".
الصورة الثانية: إيماء النص إلى العلَّة كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "،
فهنا قد نبَّه النص على العِلَّة وهي: " كثرة التطواف وصعوبة التحرز منها "،
فلذلك شرع الحكم، وهو طهارة سؤر الهرة، فيقاس عليها الفأرة
لوجود نفس العِلَّة، وهي كثرة التطواف وصعوبة التحرز منها،
فيكون حكم الفأرَة مثل حكم الهرة وهو طهارة سؤرها.
ومن العلماء من جعل هذه الصورة من الصورة الأولى وهو:
النص على العِلَّة.
الصورة الثالثة: أن يجمع العلماء على العِلَّة كالحجر على الصبي
لعلة ظاهرة، وهي: ضعف الإدراك عنده.
الصورة الرابعة: أن يكون المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوف
به كتحريم ضرب الوالدين قياساً على تحريم التأفيف لهما بجامع
الإيذاء - وقد سبق في مفهوم الموافقة -.
الصورة الخامسة: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به
كتحررم إحراق مال اليتيم قياساً على تحريم أكله، بجامع الإتلاف في
كل - وقد سبق بيانه في مفهوم الموافقة.
ويُسمى هذا بنفي الفارق بين الأصل والفرع كقياس العبد على الأَمَة
أو العكس.
الصورة السادسة: قياس النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله لعمر رضي الله عنه لما جاءه وقال له: يا رسول اللَّه، إني قبلت وأنا صائم،
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
"أرأيت لو تمضمضت؛ " يعني: قس القُبْلة على المضمضة.
فاتفق العلماء على أن القياس يجوز في هذه الصور؛ نظراً لأن
المقدمتين قد قطع بهما، وحينئذٍ يجب العمل بالقياس فيها.
والدليل على ذلك: الاستقراء والتتبع لكلام علماء الأصول
المحققين في تحرير محل النزاع، وفي أدلة المجوزين للقياس والمانعين
منه، حيث اتضح من خلال هذا الاستقراء أن الخلاف في القياس في
غير تلك الصور الست، وإن ذكر بعضهم خلافا فيها فليس خلافا
حقيقياً يترتب عليه اختلاف في الحكم، فيكون خلافا لفظيا لا ثمرة
له، وهو خلاف لا يضر ما دام أن الكل يقولون بوجوب العمل به.
القسم الثاني: أن تكون المقدمة الأولى قطعية، والثانية ظنية مثل
قياس القاضي في حال الجوع والعطش على قضائه حال الغضب
بجامع: اشتغال الفكر، وتشوشه عن فهم أدلة الخصمين.
فهنا: قد أجمع العلماء على أن عِلَّة منع القاضي من القضاء حين
الغضب هو ذلك التشوش الذي حصل في فكره، وهذه العِلَّة
مقطوع بها، لذلك أجمع العلماء عليها، أما التشوش الحاصل عند
العطشان والجوعان والحاقن وما شابه ذلك لم يقطع به بل هو ظنيء
القسم الثالث: أن تكون المقدمة الأولى ظنية، والثانية قطعية
كقياس التفاح على البر في حرمة ربا الفضل بعِلَّة كونه مطعوماً.
فهنا: العلَّة في البر مظنونة لاحتمال أن تكون العِلَّة كونه مكيلاً،
أو كونه موزوناً، أو كونه مقتاتا، أو كونه مدخراً - حيث جرى
الخلاف في ذلك -.
لكن العلَّة في الفرع مقطوع بها وهو: كونه مطعوما؛ حيث لا
يوجد عِلَّة سَواها في الفرع.
القسم الرابع: أن تكون المقدمتان ظنيتين كقياس النبيذ على الخمر،
والأرز على البر، والزبيب على التمر، وغير ذلك.
فالإسكار علَّة مظنونة في الأصل وهو الخمر، ومظنونة في الفرع،
وهو النبيذ، ويقال مثل ذلك في باقي الأمثلة.
وهذه الأقسام الثلاثة - وهو كون المقدمتين ظنيتين - أو إحداهما
ظنية والأخرى قطعية - قد اختلف العلماء فيها؛ لأن ذلك يفيد ظنية
القياس، والخلاف في القياس الظني، وتلك الظنية كما أنها متحققة
بظنية المقدمتين معاً: فهي أيضاً متحققة بظنية إحداهما.