الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس هل التنصيص على العلَّة يوجب الإلحاق عن طريق
القياس، أو عن طَريق اللفظ والعموم
؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن التنصيص على العِلَّة يوجب الإلحاق عن طريق
القياس فقط.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأننا لو نظرنا نظرة مجردة في قوله: " حرمت
الخمر لشدتها "، فإنه لا يتناول إلا تحريمها خاصة، ولو لم يرد
التعبد بالقياس لاقتصرنا على ذلك، ولما جاز لنا إلحاق كل مشتد من
نبيذ وغيره بالخمر، ولكن جاز إلحاق النبيذ وكل مشتد بالخمر بسبب
ورود التعبد بالقياس فقط.
المذهب الثاني: أن التنصيص على العِلَّة يوجب الإلحاق عن طريق
اللفظ والعموم، لا بطريق القياس، وهو ما ذهب إليه النظام.
دليل هذا المذهب:
أنه لا فرق في اللغة بين قوله: " حرمت الخمرة لشدتها " وبين
قوله: " حرمت كل مشتد "، فإن القولين بمعنى واحد؛ فالنبيذ
يدخل مع المشتدات كما دخل الخمر عن طريق العموم.
جوابه:
لا نسلم ذلك؛ لأن قوله: " حرمت الخمرة لشدتها " لا تتناول
من حيث الوضع اللغوي إلا تحريم الخمرة المشتدة فقط، ولو لم يرد
التعبد بالقياس لاقتصرنا عليه، وكيف يصح ما تقولونه من الإلحاق
عن طريق اللفظ والعموم، ولله تعالى أن ينصب شدة الخمر خاصة
عِلَّة، ويكون فائدة ذكر العِلَّة زوال التحريم عند زوال الشدة.
بيان نوع الخلاف:
أن الخلاف هذا يمكن أن يكون لفظيا، ويمكن أن يكون معنويا
فيكون الخلاف معنويا؛ لأن النظام قصد من كلامه: أن تحريم النبيذ
ثبت عن طريق اللفظ والنص، والجمهور قصدوا: أن تحريم النبيذ
ثبت عن طريق القياس.
والفرق بين ما ثبت عن طريق اللفظ والنص وبين ما ثبت عن
طريق القياس من وجهين:
الوجه الأول: أن الحكم الثابت عن طريق عموم النص أقوى من
الحكم الثابت عن طريق القياس.
الوجه الثاني أن الحكم الثابت عن طريق النص يَنسخ، ويُنسخ
به، أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ ولا يُنسخ به؛
لأنه ثبت عن طريق الاجتهاد، والنسخ لا يكون بالاجتهاد، كما
سبق بيانه في باب النسخ.
ويمكن أن يكون الخلاف لفظياً إذا نظرنا إلى الاتفاق على الحكم،
وإلى الدلالة؛ بيان ذلك:
أن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على تحريم النبيذ، ولكن اختلفوا
في طريق الوصول إليه:. فالنظام توصل إلى هذا التحريم عن طريق
عموم اللفظ، فهو يريد: أنه لما قال الشارع: " حرمت الخمر؛
لشدته " أن المحرم جميع المشتدات، والنبيذ من المشتدات، إذن
النبيذ يدخل ضمن جزئيات المشتد.
أما الجمهور فإنهم توصلوا إلى تحريم النبيذ عن طريق القياس
وقالوا: إن النبيذ يلحق بالخمر بجامع الإسكار، ولو لم يرد التعبد
بالقياس لما حرم النبيذ.
كذلك لو نظرنا إلى الدلالة فإنا نقول: إن أصحاب المذهبين قد
اتفقوا على أن تحريم النبيذ ثبت عن طريق دليل ظني، فالنظام أثبت
ذلك عن طريق العموم، ودلالة العموم ظنية، والجمهور أثبتوا ذلك
عن طريق القياس، ودلالة القياس ظنية.
البحث السادس تقسيمات القياس
إن هذا له علاقة قوية بحجية القياس من حيث معرفة مراتبه التي
ينشأ عنها اختلاف في قوة الاحتجاج به تبعاً لاختلاف تلك المراتب
من جهة القوة والضعف، لذلك نقول: إن القياس له تقسيمات
عديدة هي كما يلي:
التقسيم الأول: ينقسم القياس من حيث القوة والضعف إلى
قسمين:
" القياس الجلي "، و " القياس الخفي ".
فالقسم الأولى، وهو القياس الجلي هو: ما كانت العِلَّة فيه
منصوصة أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع
بنفي تأثيره، وهو صادق بالقياس الأولى، والقياس المساوي.
فقياس الأولى: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق
به كقياس تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف بجامع: الأذى
في كل منهما.
وقياس المساوي: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به
كقياس الأَمة على العبد في وجوب تقويم النصيب على معتق بعضها؛
حيث لم نعلم وجود فارق بينهما سوى الذكورية والأنوثة، وهما لا
يلتفت إليهما الشارع في أحكام العتق، ومثال آخر: قياس إحراق
مال اليتيم على أكله بجامع الإتلاف.
أما القسم الثاني وهو: القياس الخفي فهو: ما كانت علَّته
مستنبطة من حكم الأصل، واحتمال تأثير الفارق فيه قوي كقياس
النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، وقياس القتل بالمثقل على القتل
بالمحدد في وجوب القصاص بجامع: أن كلًّا منهما يعتبر قتلاً عمداً
عدواناً.
التقسيم الثاني: ينقسم القياس من حيث القطع والظن إلى قسمين:
" قياس قطعي "، و " قياس ظني ".
أما القسم الأول وهو: القياس القطعي فهو: ما قطع فيه بعلية
الوصف في الأصل، وقطع بوجودها في الفرع، ويشمل القياس
الأولى والقياس المساوي - كما سبق بيانه -.
أما القسم الثاني وهو: القياس الظني فهو: ما كانت إحدى
المقدمتين فيه أو كلتاهما ظنية، أي: أنا ظننا ظنا غالبا أن هذه هي
علَّة الأصل، وقطعنا بوجودها في الفرع، أو أنا ظننا أن هذه هي
علَّة الأصل، وظننا وجودها في الفرع - كما ذكرنا ذلك في تحرير
محل النزاع، وهذا هو المقصود بباب القياس مثل: قياس النبيذ على
الخمر بجامع الإسكار، وكقياس التفاح على البر بجامع الطعم.
وهذا التقسيم لا ينفي قول بعضهم: " إن القياس لا يكون إلا
ظنياً "، حيث إن مقصود هذا: أن القياس المختلف في حجيته لا
يكون إلا كذلك، فلم ينف وجود القياس القطعي، وإنما حصر
الخلاف في الظني.
والقياس القطعي قد اختلف في تسميته بذلك، فبعضهم سماه
بذلك، وبعضهم سماه بمفهوم الموافقة بقسميه، وبعضهم سماه،
بدلالة النص كما ذكرنا ذلك أثناء كلامنا عن المفهوم.
التقسيم الثالث: ينقسم القياس باعتبار ذكر نفس العِلَّة فيه أو ذكر
ما يدل عليها، أو عدم ذلك إلى ثلاثة أقسام:" قياس عِلَّة "،
و"قياس دلالة "، و " قياس في معنى الأصل ".
أما القسم الأولى وهو: قياس العِلَّة فهو: ما صرح فيه بها،
وذلك كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة بجامع الإسكار، وقد
يظهر وجه الحكمة معها كالفساد الذي في الخمر، وما فيها من الصد
عن ذكر اللَّه، وقد لا يظهر، بل يستأثر اللَّه عز وجل به كالكيل
والوزن والاقتيات في تحريم الربا.
وأما القسم الثانىِ وهو: قياس الدلالة فهو: ما جمع فيه بين
الأصل والفرع بلازم العِلَّة، أو أثرها أو حكمها.
فمثال ما جمع فيه بين الأصل والفرع بلازم العِلَّة: قياس النبيذ
على الخمر في الحرمة بجامع الرائحة المشتدة في كل؛ حيث إن
الرائحة المشتدة لازمة عادة أو عقلاً للإسكار.
ومثال الجمع بينهما بأثر العلَّة: قياس القتل بالمثقل على القتل
بالمحدد في وجوب القصاص بجامع الإثم في كل؛ حيث إنه أثر
العِلَّة التي هي القتل العمد العدوان، وهو لازم شرعي.
ومثال الجمع بينهما بحكم العِلَّة: قياس قطع الجماعة بالواحد
على قتلهم به بجامع: وجوب الدية عليهم فيما لو كان غير عمد،
وهو حكم العلَّة التي هي القطع منهم خطأ في الصورة الأولى،
والقتل منهم خَطأ في الصورة الثانية، فقتل الجماعة بالواحد في
العمد ووجوب الدية بالقطع عليهم في الخطأ أمر ثابت من الشارع.
وأما قطعهم به في العمد فلم يرد حكمه في النصوص الشرعية،
لذلك أثبتناه بما هو معلوم من الشارع وهو: وجوب الدية عليهم
بالقطع فيما لو كان خطأ.
والجمع يلازم العِلَّة في هذا القسم أقوى من الجمع بأثرها،
والجمع بأثر العِلَّة أقوى من الجمع بحكمها.
وأما القسم الثالث وهو القياس في معنى الأصل فهو: الذي لم
يصرح فيه بالعلَّة، ولا يلازمها، ولا بأثرها، ولا بحكمها، وإنما
جمع فيه بين الأصل والفرع بنفي الفارق كقياس صب البول في الماء
على التبول فيه في المنع بجامع: عدم الفارق بينهما في مقصود المنع،
وهو: تقذير الماء وإفساده وتنجيسه.
وسبب تسمية هذا القسم بالقياس في معنى الأصل: أن الفرع فيه
بمنزلة الأصل، حيث لم يوجد فارق بينهما.
التقسيم الرابع: ينقسم القياس إلى " قياس أولى "، و " قياس
مساو "، و " قياس أدنى ".
أما القسم الأول - وهو: القياس الأولى - فهو: ما كان فيه
ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل كقياس ضرب
الوالدين على التأفيف لهما في الحرمة بجامع: الإيذاء، وكقياس
الشاة العمياء على العوراء في عدم الاكتفاء بها في التضحية بجامع:
وجود النقص المنافي للمقصود من الأضحية، وكقياس الجنون
والإغماء والسكر وكل ما أزال العقل على النوم في نقص الوضوء،
فإن الأمور المذكورة أولى بالحكم من الأصل.
وأما القسم الثاني - وهو: القياس المساوي - فهو: ما كان حكم
الفرع فيه مثل حكم الأصل، وذلك كقياس إحراق مال اليتيم على
أكله في التحرلي م بجامع: الإتلاف في كل من غير وجه حق،
وكقياس المرأة على الرجل في أنها إذا أفلست وعندها شيء لم تدفع
ثمنه، فإن صاحب المال يكون أحق به من غيره.
والقياس الأولى والقياس المساوي يسميان بالقياس الجلي،
وبالقياس القطعي، وقد اختلف في تسميته قياسا كما سبق بيانه.
أما القسم الثالث - وهو القياس الأدنى - فهو: ما عدا القسمين
السابقين.
وهو المسمى بالقياس الخفي، وبالقياس الظني، وهو المقصود
بالقياس عند الإطلاق، وهذا متفق على تسميته قياسا.
وبعض العلماء ذكروا أقساما كثيرة لكني لم أذكرها هنا؛ لأنها إما
إنها تدخل ضمن ما ذكرت، أو أنها تعتبر عن مسالك العلَّة،
فوضعها هناك أولى - كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى -.