المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث في مفهوم المخالفة - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٤

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني عشر في العموم والخصوص

- ‌المبحث الأول في العموم

- ‌المطلب الأول تعريف العام

- ‌المطلب الثاني بيان أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة

- ‌المطلب الثالث هل العموم من عوارض المعاني حقيقة أو لا

- ‌المطلب الرابع أقسام العام

- ‌المطلب الخامس هل للعموم صيغة في اللغة موضوعة له

- ‌المطلب السادس في صيغ العموم

- ‌المطلب السابع الجمع المنكر هل يفيد العموم إذا لم يقع في سياق النفي

- ‌المطلب الثامن هل نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواةبينهما من كل الوجوه

- ‌المطلب التاسع الفعل المتعدي إلى مفعول هل له عمومبالنسبة إلى مفعولاته أو لا

- ‌المطلب العاشر دلالة العام هل هي ظثية أو قطعية

- ‌المطلب الحادي عشر أقل الجمع ما هو

- ‌المطلب الثاني عشر هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب

- ‌المطلب الثالث عشر حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم

- ‌المطلب الرابع عشر حكاية الراوي لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "كان " هل يفيد العموم؛ وأن هذا الفعل يتكرر منه صلى الله عليه وسلم، أو لا

- ‌المطلب الخامس عشر هل يدخل العبد في الخطاب المضاف إلى الناسوالمؤمنين، والأمة، والمسلمين

- ‌المطلب السادس عشر الجمع الذي فيه علامة التذكير هل يتناول النساء

- ‌المطلب السابع عشر العام بعد التخصيص هل هو حقيقةفي الباقي أو يكون مجازاً

- ‌المطلب الثامن عشر هل العام المخصوص حُجَّة في الباقي

- ‌المطلب التاسع عشر هل يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد

- ‌المطلب العشرون المخاطِب - بكسر الطاء - هل يدخل في عموم خطابه

- ‌المطلب الواحد والعشرون هل يجب اعتقاد عموم اللفظقبل البحث عن المخصص

- ‌المطلب الثاني والعشرون الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع هل يقتضيالعموم في كل من المضاف والمضاف إليه

- ‌المطلب الثالث والعشرون هل المفهوم له عموم

- ‌المطلب الرابع والعشرون ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال هل ينزل منزلة العموم في المقال

- ‌المبحث الثاني في الخصوص

- ‌المطلب الأول تعريف التخصيص

- ‌المطلب الثاني هل يجوز تخصيص العموم

- ‌المطلب الثالث في مخصِّصات العموم المنفصلة

- ‌المطلب الرابع في المخصصات المتصلة

- ‌الفصل الثالث عشر المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول تعريف المطلق

- ‌المبحث الثاني في أي شيء يكون المطلق؛ والأمثلة على ذلك

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد

- ‌المبحث الرابع على أي شيء يطلق المقيد

- ‌المبحث الخامس مقيدات المطلق

- ‌المبحث السادس إذا اجتمع مطلق ومقيد فهل يحملالمطلق على المقيد أو لا

- ‌المبحث السابع إذا ورد لفظ مطلق، ثم قيده مرة، ثم قيده مرة ثانيةبخلاف التقييد الأول، فما الحكم

- ‌الفصل الرابع عشر في المنطوق والمفهوم

- ‌المبحث الأول في المنطوق

- ‌المطلب الأول تعريف المنطوق

- ‌المطلب الثاني أقسام المنطوق

- ‌المطلب الثالثأقسام المنطوق غير الصريح

- ‌المبحث الثاني في المفهوم

- ‌المطلب الأول تعريف المفهوم، وبيان قسميه

- ‌المطلب الثاني في مفهوم الموافقة

- ‌المطلب الثالث في مفهوم المخالفة

- ‌الباب الخامس في القياس

- ‌الفصل الأول في تعريف القياس

- ‌المبحث الأول في تعريف القياس لغة

- ‌المطلب الأول فيما يطلق عليه لفظ " القياس " لغة

- ‌المطلب الثاني في خلاف العلماء في لفظ " القياس " هل هو حقيقةفي هذين المعنيين، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر

- ‌المبحث الثاني في تعريف القياس اصطلاحا

- ‌المطلب الأول هل يمكن تحديد القياس بحد حقيقي

- ‌المطلب الثاني هل القياس دليل مستقل أو هو من فعل المجتهد

- ‌المطلب الثالث تعريف القياس المختار، وبيانه بالشرح والأمثلة

- ‌الفصل الثاني في حجية القياس، أو التعبد بالقياس

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الحجية، والتعبد

- ‌المبحث الثاني تحرير محل النزع

- ‌المبحث الثالث هل القياس حُجَّة؛ أي: هل يجوز التعبد بالقياسويكون دليلاً من الأدلة على إثبات الأحكام أو لا

- ‌المبحث الرابع النص على عِلَّة الحكم هل هو أمر بالقياس أو لا

- ‌المبحث الخامس هل التنصيص على العلَّة يوجب الإلحاق عن طريقالقياس، أو عن طَريق اللفظ والعموم

- ‌المبحث السابع في ما يجري فيه القياس وما لا يجري فيه

- ‌المطلب الأول في القياس في العقوبات

- ‌المطلب الثاني القياس في المقدرات

- ‌المطلب الثالث القياس في الأبدال

- ‌المطلب الرابع في القياس في الرخص

- ‌المطلب الخامس القياس في الأسباب والشروط والموانع

- ‌المطلب السادس القياس في العبادات وما يتعلَّق بها

- ‌المطلب السابع القياس في العاديات

- ‌المطلب الثامن القياس في العقليات

- ‌المطلب التاسع في القياس في كل الأحكام

- ‌المطلب العاشر في القياس في الأمور التي لا يراد بها العمل

- ‌المبحث الثامن هل القياس من الدين

الفصل: ‌المطلب الثالث في مفهوم المخالفة

‌المطلب الثالث في مفهوم المخالفة

ويشتمل على المسائل التالية:

المسألة الأولى: في تعريفه.

المسألة الثانية: في أسمائه.

المسألة الثالثة: في أنواعه وحجية كل نوع.

المسألة الرابعة: في شروطه.

ص: 1763

المسألة الأولى: تعريف مفهوم المخالفة:

هو: دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف

للحكم الذي دلَّ عليه المنطوق نفياً وإثباتاً.

مثاله: قوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة "، فإن

اللفظ دلَّ بمنطوقه: أن الغنم السائمة فيها زكاة.

ودلَّ بمفهوم المخالفة: أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها.

فاللفظ - وهو الغنم السائمة - دلَّ على ثبوت حكم للمسكوت

عنه، وهو - هنا - الغنم المعلوفة - مخالف للحكم الذي دلَّ عليه

المنطوق - وهو وجوب الزكاة - وهذا الحكم المخالف هو: أن

المعلوفة لا زكاة فيها.

وقيل: هو: الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم

عما عداه.

ومعنى ذلك: أنه إذا خص شيء بالذكر ونطق به وصرح بحكمه،

فإنا نستدل بذلك على أن المسكوت عنه يخالفه في الحكم، فإن كان

المنطوق به قد أثبت حكمه، فالمسكوت عنه قد نفي عنه ذلك الحكم،

وإن كان المنطوق به قد نفي حكمه، فالمسكوت عنه قد أثبت له ذلك

الحكم.

فقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ،

فالمنطوق به: أن من قتل شيئاً وهو محرم متعمداً فيجب عليه المثل،

ومفهوم المخالفة: أن من قتل شيئاً وهو محرم خطأ، فلا يجب عليه

شيء.

ص: 1765

وقوله صلى الله عليه وسلم:

"الثيب أحق بنفسها من وليها ".

فالمنطوق: أن الثيب أحق بنفسها في أمر النكاح.

والمفهوم: أن البكر وليها أحق منها في أمر النكاح.

وقولك: " اعط السائل لحاجته " يفهم بمفهوم المخالفة: أن غير

المحتاج لا يعطى.

***

المسألة الثانية: أسماء مفهوم المخالفة:

مفهوم المخالفة يسمى بعدة أسماء عند العلماء، وهي كما يلي:

الاسم الأول: مفهوم المخالفة، وهذا هو المشهور عند جمهور

العلماء في كتبهم.

وسمي بذلك؛ لأنه استنتاج مجرد، غير مستند إلى منطوق،

فيكون مفهوماً، أي: أن المفهوم منه يخالف المنطوق به حكما.

الاسم الثاني: دليل الخطاب، وسمي بذلك لأحد أمور ثلاثة:

الأول: سمي بذلك إما لأن دليله من جنس الخطاب.

الثاني: أو سمي بذلك لأن الخطاب دال عليه.

الثالث: أو سمي بذلك لمخالفته منطوق الخطاب.

الاسم الثالث: تخصيص الشيء بالذكر، وهذا الاسم منتشر عند

الحنفية، واعتبروا التمسك به من التمسكات الفاسدة - كما سيأتي

ذكره -

ص: 1766

المسألة الثالثة في أنواع مفهوم المخالفة وبيان حجية كل نوع

وهي كما يلي:

النوع الأول: مفهوم الصفة.

النوع الثاني: مفهوم الشرط.

النوع الثالث: مفهوم الغاية.

النوع الرابع: مفهوم العدد.

النوع الخامس: مفهوم الاستثناء.

النوع السادس: مفهوم الحصر بـ " إنما ".

النوع السابع: حصر المبتدأ في الخبر.

النوع الثامن: مفهوم اللقب.

وإليك بيان كل نوع:

النوع الأول: مفهوم الصفة:

أولاً: بيان حجيته:

إذا كان للمنصوص عليه صفتان، فعلق الحكم بإحدى الصفتين

هل يدل هذا على نفي الحكم عما يخالفه في الصفة الأخرى؟

أو تقول: الخطاب العام المعلق حكمه على صفة لا توجد في كل

مدلول هل يدل على نفي ذلك الحكم عما انتفت عنه تلك الصفة؛

كقوله عليه السلام: " في الغنم السائمة زكاة "، فهل يدل على نفي

ص: 1767

الزكاة عن غير السائمة وهي المعلوفة أو لا؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين هما:

المذهب الأول: أنه يدل على النفي، أي: أن مفهوم الصفة حُجَّة.

فإذا علق الحكم على صفة، فإن هذا يدل على نفي ذلك الحكم

إذا انتفت تلك الصفة.

وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر

أصحابهم، وبعض أهل العربية كأبي عبيدة - معمر بن المثنى - وهو

اختيار أبي الحسن الأشعري، وهو الحق عندي لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: أن تخصيص الحكم بالصفة لا بدَّ له من فائدة

صوناً للكلام عن اللغو، فإن لم يكن هناك فائدة سوى انتفاء الحكم

عما عدا الموصوف بتلك الصفة وجب حمله عليه، وإن لم يحمل

عليه: كان التخصيص بتلك الصفة لغواً، وكلام الشارع يصان عن

اللغو، ولأجل ذلك يحمل تخصيص الحكم بتلك الصفة على نفيه

عند عدم تلك الصفة.

الدليل الثاني: قياس تقييد الخطاب العام بالصفة على تقييده

بالاستثناء، وقد ثبت أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات

نفي، فكذا التقييد بالصفة يجب أن يفيد النفي فيما عدا الموصوف

بتلك الصفة إن كان الكلام موجبا، أو بالعكس إن كان منفيا.

الدليل الثالث: أن الحكم المرتب على الخطاب المقيد بالصفة

معلول بتلك الصفة؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية -

كما سيأتي بيان ذلك في باب القياس - وانتفاء العلة يوجب انتفاء

الحكم، فيلزم من ذلك انتفاء الحكم فيما انتفت عنه تلك الصفة.

ص: 1768

الدليل الرابع: أنه روي عن أبي عبيد - القاسم بن سلام - أنه لما

سمع قوله صلى الله عليه وسلم: " لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ "، قال: إن من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته،

وروي عنه - أيضا - أنه لما سمع قول صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم " قال: مطل غير الغني ليس بظلم، فأبو عبيد - وهو من فصحاء العرب وأهل اللغة - قد فهم أن تعليق الحكم وتخصيصه بصفة يدل على نفي ذلك الحكم عما

إذا انتفت تلك الصفة عنه.

الدليل الخامس: أن ابن عباس رضي الله عنهما قد منع

توريث الأخت مع وجود البنت مستدلاً بمفهوم المخالفة من قوله

تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)

حيث رضي الله عنه قد فهم من توريث الأخت مع عدم الولد:

امتناع توريثها مع البنت؛ لأنها ولد، وهو من فصحاء العرب،

وهو أفقه الناس في الدين، وأعلمهم بالتأويل، وترجمان القرآن.

الدليل السادس: أنه لما روى أبو ذر قوله صلى الله عليه وسلم:

"يقطع صلاة الرجل: الحمار، والكلب الأسود، والمرأة "،

قال له عبد اللَّه بن الصامت: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟

وجه الدلالة: أن عبد اللَّه بن الصامت فهم من تخصيص الكلب

الأسود بالحكم نفي هذا الحكم عن غيره، وأن الكلب الأبيض، أو

الأحمر لا يقطع الصلاة، ولم ينكر عليه أبو ذر - راوي الحديث -

بل قال: يا ابن أخي، سالت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال:

"الكلب الأسود شيطان "، فقد فهم عبد اللَّه وأبو ذر من تعليق

الحكم - وهو قطع الصلاة - على الكلب الموصوف بالسواد انتفاء

الحكم عن غير الكلب الأسود، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لسانا، وعبد الله وأبو ذر من فصحاء العرب.

ص: 1769

الدليل السابع: أن العربي لو قال لوكيله: " اشتر لي حصانا

أسود " لفهم منه: عدم شراء الأبيض، ولو أنه اشترى أبيض لم

يكن ممثلاً، ولو قال لزوجاته:" الداخلة منكن لهذه الغرفة طالق "

لطلقت كل واحدة تدخل هذه الغرفة، وفهم منه انتفاء الطلاق عند

عدم الدخول.

المذهب الثاني: أنه لا يدل على النفي، أي: أن مفهوم الصفة

ليس بحُجَّة.

فإذا علق الحكم على صفة، فإن هذا لا يدل على نفي ذلك

الحكم إذا انتفت تلك الصفة، وهو مذهب أبي حنيفة، وأتباعه.

وهو اختيار بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والآمدي، وابن

شريح، وبعض المالكية كأبي بكر الباقلاني، وأكثر المعتزلة، وبعض

أهل العربية كالأخفش.

أدلة هذا المذهب: -

الدليل الأول: أن المقيَّد بالصفة لو دلَّ على نفي الحكم عما عدا

الموصوف بها: لما حسن الاستفهام عن الحكم فيه لا نفيا ولا إثباتا

كما هو الواقع في مفهوم الموافقة، حيث إنه في مفهوم الموافقة لا

يحسن الاستفهام فيه، فمثلاً لو قال السيد لعبده: " لا تقل لزيد

أف " لا يحسن من العبد أن يسأل ويقول: هل أضربه؟

ولكنه في مفهوم الصفة - وهو من مفهوم المخالفة - يحسن فإنه

لما قال صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة" حسن أن يقال: هل في المعلوفة زكاة أو لا؟

فهو إذاً غير دال على الحكم فيه لا نفيا ولا إثباتا.

ص: 1770

جوابه:

أن مفهوم الموافقة لم يحسن الاستفهام فيه؛ لأن دلالته قطعية،

أما مفهوم الصفة فدلالته ظنية، لذلك حسن الاستفهام، فلا يلزم

من قبح الاستفهام في مفهوم الموافقة قبحه في مفهوم الصفة.

أما إذا كانت دلالة مفهوم الموافقة ظنية - كما قلنا فيما سبق - فإن

السؤال حسن للتأكيد، والتأكيد يكون لإزالة الاتساع في الفهم،

وهذا قلناه في باب العموم.

الدليل الثاني: أن المقيد بالصفة لو كان دالاً على نفي الحكم عما

عداه، فإما أن يعرف ذلك بالعقل، أو بالنقل، وهما باطلان.

بيان ذلك:

أنه إن زُعم أن ذلك معروف بالعقل فهو باطل؛ لأن العقل لا

مدخل له في اللغات.

وإن زعم أن ذلك معروف بالنقل فهو باطل أيضاً - لأن النقل

قسمان: " متواتر "، و " آحاد ":

فإن زُعم أن ذلك معروف بالمتواتر فهذا باطل؛ لأنه لو كان

معروفاً بذلك، لاشترك الناس في علمه، ومنهم المخالف؛ نظراً

لاشتراكهم في أسباب العلم كسلامة الحاسة، ومخالطة أهل اللغة،

والاقتباس منهم، ولكنه لم يعلم بذلك، فبطل أن يكون معلوما من

جهة التواتر.

وإن زعم أن ذلك معروف بالآحاد، فعلى تقدير صحته وسلامته

عن المعارض، فإنه غير كاف؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والظن لا

يقوى على إثبات قاعدة أصولية كمفهوم الصفة، أي: لا يمكن

إثبات مثل هذا الأصل الذي نزل عليه كلام اللَّه، وكلام رسوله بما لا

يفيد إلا الظن.

ص: 1771

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: نسلم لكم أن هذا غير معروف بالعقل، ولا

بالتواتر، ولكن لا نُسَلِّمُ قولكم: " إن الظن لا يثبت القاعدة

الأصولية " على إطلاقه، ولكن في ذلك تفصيل، إليك بيانه:

إن كانت القاعدة الأصولية علمية فنحن معكم بأنها لا تثبت

بالظن، وإن كانت القاعدة الأصولية عملية، فإنها تثبت بالظن؛

قياسا على إثبات الفروع العملية بالآحاد.

الجواب الثاني: أنا نقلب ذلك عليكم، ونقول لكم مثل ما قلتم

لنا درهو: أن مفهوم الصفة ليس بحُجَّة إما أن يعرف عن طريق العقل

أو النقل، وكل ذلك باطل، وجوابكم هو جوابنا.

الدليل الثالث: أن المقيد بالصفة لو كان دالًّا على نفي الحكم عما

عدا الموصوف بالصفة لذل عليه إما من جهة صريح الخطاب، وإما

من جهة أن تخصيص الحكم بالصفة لا بد له من فائدة، ولا فائدة

سوى نفي الحكم عندْ عدم الصفة، وإما من جهة أخرى، وكلها

باطلة.

بيان ذلك:

إن قلتم: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة

صريح الخطاب فهو باطل؛ لأنه ليس في الخطاب إلا إثبات الحكم

في الموصوف فقط.

وإن قلتم: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة أن

تخصيص الحكم بالصفة لا بد له من فائدة، ولا فائدة سوى نفي

ص: 1772

الحكم عند عدم الصفة، فهذا باطل؛ لأن تخصيص الحكم بالصفة

له فوائد كثيرة، ومنها:

الفائدة الأولى: تكثير أبواب الاجتهاد، بيان ذلك:

أن الشارع لو استوعب جميع محل الحكم، ونص على كل حكم

لم يبق للاجتهاد مجال، ولكنه يخصص بعض الأحكام بالذكر

ويعلقها على أوصاف، ويخصص بعض الحوادث بالأحكام معللاً

بعلة ظاهرة، أو غير ظاهرة مريداً من ذلك أن يحصل النظر

والاجتهاد فيها، وبذلك الاجتهاد يحصل الثواب الجزيل للمجتهدين.

الفائدة الثانية: عدم إخراج المذكور من عموم اللفظ، بيانه:

أن الشارع قد ذكر هذا الشيء الموصوف تأكيداً عليه، وللاحتياط

من أن يأتي بعض ألناس ويجتهد ويخرجه عن اللفظ بالتخصيص.

فمثلاً لو قال: " في الغنم زكاة "، ولم يخصص " السائمة "

بالذكر لجاز لأي مجتهد أن يخرج السائمة عن العموم بالاجتهاد،

فخص " السائمة " بالذكر، لئلا تكون محلًّا للاجتهاد، وتكون

غيرها محل الاجتهاد.

الفائدة الثالثة: تأكيد الحكم في المسكوت عنه، بيانه:

أنه إذا كان قد ذكر الحكم وهو معلق بتلك الصفة وذلك المعنى،

فإنه إذا وجدت تلك الصفة وذلك المعنى في المسكوت، عنه بصورة

أقوى، فإن حكم المنطوق به يكون للمسكوت من باب أوْلى مثل ما

قلنا في مفهوم الموافقة.

الفائدة الرابعة: أن يكون مقصود صاحب الشرع تكثير ألفاظ

النصوص ليكثر ثواب القارئ.

ص: 1773

وغير ذلك من الفوائد.

وإن قلتم: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة

أخرى، فهذا باطل؛ لأن الأصل عدمه، فلا يمكن أن يصار إليه إلا

لدليل يحققه.

جوابه:

نحن نقول: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة

أنه لا بد للتخصيص من فائدة، لكن لا لأنه لا فائدة سوى نفي

الحكم عما عدا الموصوف، بل لما ذكرتموه من الفوائد أيضا، ولكن

هذه الفائدة التي ذكرناها - وهي: دلالة ذلك على نفي الحكم عما

عدا الموصوف - هي الأسبق إلى الذهن والأقوى، فيكون الحمل

عليه أَولى.

أما الباقي مما ذكرتموه من الفوائد فهي تنقدح في الذهن، ولكن

أضعف من انقداح الفائدة التي ذكرناها، فلا تمتنع، وقلنا ذلك

تكثيراً لفوائد الكلام؛ حيث إن تكثير فوائد الكلام أوْلى من الإقلال

منها.

الدليل الرابع: قياس مفهوم الصفة على مفهوم اللقب، بيانه:

أنه لو دلَّ تقييد الحكم بألصفة على نفي الحكم عما عدا الموصوف

بها، لدلَّ تقييد الحكم بالاسم على نفيه عما عداه بجامع: التمييز؛

حيث إن القصد من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عن غيره،

فكذا المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره، أو بجامع:

صيانة التخصيص عن الإلغاء، أو بجامع: حمله على تكثير الفائدة.

ولكن تقييد الحكم بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، فكذلك

تقييد الحكم بالصفة لا يدل على نفيه عما عداه.

ص: 1774

جوابه:

أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن

نفي الحكم في صورة التقييد بالصفة أسبق إلى الفهم من سائر

الفوائد، وهو غير حاصل في صورة التقييد بالاسم.

أي: أن شعور الذهن عند سماع اللفظ العام المقيد بالصفة

الخاصة بما ليس له تلك الصفة أزم من شعوره بما يغاير مدلول اسم

"ما " عند سماعه.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يلزم من دلالة مفهوم الصفة على

النفي دلالته على النفي في صورة التقييد بالاسم.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي؛ لأنه قد ترتب على هذا خلاف في بعض

الفروع، ومنها إذا قال:" وقفت هذا على أولادي الفقراء "، فإن

غير الفقراء لا يدخلون بناء على المذهب الأول.

ويدخل غير الفقراء بناء على المذهب الثاني.

ولهذا فروع كثيرة في أبواب الوقف، والوصايا، والنذور والأيمان

وهو واضح ولا داعي لذكره.

ثانياً: اختلف أصحاب المذهب الأول في أن تقييد الحكم بالصفة

هل يدل على نص الحكم عما عداه مطلقا، سواء كان من جنس

المثبت فيه أو لم يكن من جنسه، أو يختص فيما إذا كان من جنسه،

فمثلاً إذا قلنا: " إن في سائمة الغنم الزكاة " هل يدل ذلك على نفي

الزكاة عن المعلوفة مطلقا، سواء كانت معلوفة الغنم أم الإبل، أم

البقر، أو يختص النفي بمعلوفة الغنم؟

اختلف في ذلك على قولين:

ص: 1775

القول الأول: إن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي

الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك الجنس لا غير.

وهذا قول أكثر أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون بحجية

مفهوم الصفة - وهو الحق عندي؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن دلالة المفهوم تابعة لدلالة المنطوق، والتابع لا

يزيد على المتبوع، ولا يتعداه.

الدليل الثاني: أن دلالة المفهوم مخالفة لدلالة المنطوق، وهو لم

يتناول إلا الجنس المذكور، فمخالفه كذلك لا يخالف إلا الجنس

المذكور؛ تحقيقا لمعنى المخالفة.

القول الثاني: أن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي

الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك الجنس وفي غيره.

وهو قول الأقل من أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون

بحجية مفهوم الصفة -.

دليل هذا القول:

أن الوصف المذكور في الحكم علَّة الحكم، فإذا انتفت العلَّة انتفى

الحكم؛ لأن الأصل اتحاد العِلَّة.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الوصف المذكور علَّة الحكم؛ لأنه

يحتمل أن يكون شرطاً له.

الجواب الثاني: سلمنا أن الوصف المذكور علَّة الحكم، لكن

يكون عِلَّة في الجنس المذكور ولا يكون عِلَّة مطلقا.

ص: 1776

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:

أنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم الزكاة "، فإن مفهومه: أنه لا زكاة في معلوفة الغنم، أما معلوفة الإبل والبقر ففيها

الزكاة؛ وهذا بناء على القول الأول - وهو: أن تقييد الحكم بالصفة

في جنس يدل على نفيه عما عداه في ذلك الجنس -.

أما بناء على القول الثاني: فإنه لا زكاة في معلوفة الغنم والإبل

والبقر، لأن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي الحكم عما

عدا الموصوف بها في ذلك الجنس وفي غيره.

ثمالثما: صور مفهوم الصفة.

مفهوم الصفة له صور وهي كما يلي:

الصورة الأولى؛ أن يذكر اسم عام، ثم يذكر بعده وصف خاص

مثل قوله صلى الله عليه وسلم:

"في الغنم السائمة زكاة " - وهو كما سبق -.

الصورة الثانية: تخصيص الحكم بصفة عارضة، والمراد منها:

تعليق الحكم على صفة لا تستقر، بل تطرأ أحيانا وتزول أحيانا

أخرى مثل قوله صلى الله عليه وسلم:

"الثيب أحق بنفسها من وليها "،

فهنا اقترن الحكم - وهو كون المرأة أحق بنفسها من وليها - بوصف - وهو

الثيوبة - وهذا الوصف طارئ على المرأة.

الصورة الثالثة: مفهوم التقسيم وهو: أن يذكر قسمين، ويذكر

حكم أحد القسمين، فإن هذا يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم

الآخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:

" الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن "،

فهنا قسم المرأة إلى قسمين:

ص: 1777

الأول: " ألي م "، وهي التي فارقت زوجها وتسمى " الثيب ".

الثاني: " بكر "، وهي التي لم تتزوج.

وجعل لكل قسم حكماً معيناً، فحكم " الأيم " أنها أحق بنفسها،

أي: تستأمر، وحكم البكر: أنها تستأذن.

فتخصيص " الأيم " بأنها أحق بنفسها يدل على نفيه عن البكر،

وتخصيص البكر بالاستئذان يدل على نفيه عن الأيم.

الصورة الرابعة: مفهوم العِلَّة وهو: دلالة اللفظ المقيد بالعلة على

ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفت عنه تلك العِلَّة كقوله:

" حرمت الخمرة لإسكارها "، فإن هذا يدل بمفهومه على أن ما لا

إسكار فيه لا يحرم.

الصورة الخامسة: مفهوم الحال، وهو دلالة اللفظ المقيد بحال من

الأحوال على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي عدمت فيه

تلك الحال كقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في

المساجد) ، فحرمت المباشرة في حالة معينة وهي: الاعتكاف،

ودل بمفهومه المخالف: حل المباشرة إذا انتفى فيه تلك الحال.

الصورة السادسة: مفهوم المكان، وهو: دلالة اللفظ الذي علق

الحكم فيه بمكان معين على ثبوت نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه

الذي انتفى عنه ذلك كقوله تعالى: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) .

الصورة السابعة: مفهوم الزمان، وهو: دلالة اللفظ الذي علق

الحكم فيه بزمان معين على ثبوت نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه

الذي انتفى عنه ذلك الزمان كقوله تعالى:

ص: 1778

(الحج أشهر معلومات)، فإنه يدل بمفهومه المخالف:

عدم صحة الحج إذا وقع في غير زمانه.

وكل هذه الصور تجمعها عبارة " مفهوم الصفة "، وكلها حُجَّة

عندنا والأدلة على ذلك هي نفس الأدلة على حجية الصفة.

النوع الثاني: مفهوم الشرط:

والمراد هنا: الشرط اللغوي، دون الشرعي والعقلي، فالحكم

المعلق على شيء بكلمة " إن " هل هو عدم عند عدم ذلك الشيء أو

لا؟

اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن مفهوم الشرط حُجَّة.

أي: يوجد الحكم بوجود الشرط، وينتفي الحكم إذا انتفى

الشرط.

وهو مذهب القائلين: لمفهوم الصفة، وبعض المنكرين له كابن

سريج، وأبي الحسن الكرخي، وأبي الحسين البصري، والإمام

فخر الدين الرازي.

وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: أنه روي أن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب:

ما لنا نقصر وقد أمنا، وقد قال تعالى: (فليس عليكم جناح أن

تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) .

وجه الدلالة: أن أبا يعلى قد فهم من تخصيص القصر بحالة

الخوف عدم القصر عند عدم الخوف، ولم ينكر عليه عمر، بل

قال: قد عجبت مما عجبت منه، فسألت صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:

" صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ".

ص: 1779

فيعلى وعمر قد فهما من تعليق إباحة القصر في حالة الخوف

وجوب الإتمام في حالة الأمن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر هذا الفهم، بل أقره.

ما اعترض به على ذلك:

الاعتراض الأول: أن أبا يعلى وعمر إنما عجبا؛ لأن الإتمام

واجب بحكم الأصل، حيث إن الآيات أمرت بإتمام الصلاة، وإنما

استثنى حالة الخوف، وأباح فيها القصر لهذا العذر، وهو:

الخوف، فبقيت حالة الأمن على ما هي عليه يجب فيها الإتمام،

فثبت أنهما عجبا نظراً لمخالفة الأصل.

جوابه:

لا يوجد في القرآن آية تدل على وجوب إتمام الصلاة بلفظها

خاصة، ولهذا يقال: إن الأصل في الصلاة القصر، فروي عن

عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " كانت صلاة السفر والحضر

ركعتين فأقرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر "، فدل على

أنهما فهما وجوب الإتمام عند الأمن بسبب مفهوم الشرط.

الاعتراض الثاني: أن الآية حُجَّة لنا؛ حيث لم يثبت انتفاء الحكم

عند انتفاء الشرط، فيجوز القصر عند عدم الخوف.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن مفهوم الشرط قد دلَّ على منع القصر عند عدم

الخوف، وإنما ترك العمل بمفهوم الشرط لدليل آخر أباح القصر ولو

لم يوجد خوف؛ قياساً على ظاهر العموم، فإنه يترك أحيانا لدليل

آخر.

ص: 1780

الجواب الثاني: أنه يحتمل أنه ذكر الشرط يبين فيه: أن السبب في

نزول إباحة القصر كان الخوف، ثم عممت الإباحة كما في قوله

تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) ،

فبين أن ذلك سبب الارتهان، لا أنه شرط في الارتهان.

الدليل الثاني: أن كتب النحو بأسرها ناطقة بأن كلمة " إنْ "

تسمى عند أهل اللغة بحرف الشرط، والشرط هو: ما ينتفي الحكم

عند انتفائه، فيقال: الطهارة شرط لصحة الصلاة، والحول شرط

وجوب الزكاة، والاستطاعة شرط وجوب الحج، والحياة شرط العلم

والقدرة؛ فيلزم من انتفاء الطهارة، وانتفاء الحول، وانتفاء

الاستطاعة، وانتفاء الحياة: انتفاء صحة الصلاة، ووجوب الزكاة،

ووجوب الحج، وانتفاء العلم والقدرة.

فيكون انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط معنى عاما في جميع موارد

استعماله، فوجب جعله حقيقة فيه؛ دفعا للاشتراك، والتجوز.

المذهب الثاني: أن مفهوم الشرط ليس بحُجَّة.

أي: أن أداة الشرط لا تدل على انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه،

وإنما انتفاء المشروط عنذ انتفاء الشرط يعلم من البراءة الأصلية.

وهو مذهب أكثر الحنفية، والإمام مالك، واختاره أبو بكر

الباقلاني، والغزالي، وأكثر المعتزلة منهم القاضي عبد الجبار، وأبو

عبد اللَّه البصري، وهو مذهب الآمدي.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن الرجل لو قال لزوجته: " إن دخلت الدار

فأنت طالق "، فإن هذا لا ينفي وقوع الطلاق بدون دخول الدار؛

حيث إنه لو نجز أو علق بشيءآخر فإنه يقع.

ص: 1781

جوابه:

لا نسلم أنه لا ينتفي وقوع الطلاق بدون دخول الدار إذا نظرنا إلى

قوله فقط.

أما استدلالكم على قولكم بوقوع المنجز أو المعلق بتعليق آخر:

فهذا استدلال غير صحيح؛ لأن ذلك غير المطلق بدخول الدار.

الدليل الثاني: أن أداة الشرط لو دئَت على انتفاء المشروط عند

انتفاء الشرط لكان قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) دالاً على أن الإكراه على الزنا غير حرام عند إرادة

الزنا، أي: أن الآية - لم تدل على نفي حرمته عند إرادته، لكن

الآية لا تدل على ذلك، وعليه: لا تكون أداة الشرط دالة على نفي

المشروط عند انتفاء الشرط.

جوابه:

أن تخصيص الشرط بالذكر هنا قد ظهر له فائدة أقوى من فائدة

نفي الحكم عند انتفائه، وتلك الفائدة هي: التقبيح والتشنيع على

هؤلاء الذين يكرهون الإماء على الزنا، ويحملونهن عليه مع أن

الإماء أنفسهن لا رغبة لهن فيه، فتكون الآية - على ذلك - ليست

من باب مفهوم الشرط.

بيان. نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية ومنها:

1 -

أن أصحاب المذهب الأول قالوا: إن الطلقة ثلاثا الحائل لا

تجب النفقة عليها؛ أخذاً بمفهوم الشرط في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فهنا قد جعلت

ص: 1782

الآية النفقة للبائن بشرط أن تكون حاملاً، فينتفي الحكم عند انتفاء

الشرط، فيثبت عدم وجوب النفقة للمطلقة ثلاثا الحائل.

أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: تجب النفقة للمطلقة ثلاثاً

مطلقا، أي: سواء كانت حاملاً أو حائلاً، ولم يأخذوا بمفهوم

الشرط في هذه الآية، وقالوا: إذا كانت الآية قد صرحت بوجوب

النفقة للحامل، فهي ساكتة عن نفقة الحائل، فيبقى الحكم على

أصله، وهو الوجوب للنفقة؛ لأن الزوجة قبل الطلاق كانت نفقتها

واجبة على الزوج، فيستمر ذلك ما دامت في العدة.

النوع الثالث: مفهوم الغاية:

مد الحكم إلى غاية ونهاية محددة بواسطة لفظ " إلى "، كقوله

تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ، أو بلفظ " حتى "، كقوله

تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، أو مد الحكم بصريح

الكلام كقولك: " صوموا صوماً آخره الليل "، هل يدل على نفي

الحكم فيما بعد الغاية أو لا؟

لفد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن مفهوم الغاية حُجَّة.

أي: أن الحكم إذا قيد بغاية، فإن ذلك يدل على نفي الحكم فيما

بعد الغاية، فحكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها.

وهو مذهب القائلين بمفهوم الشرط، وبعض المنكرين له كالقاضي

أبي بكر، والقاضي عبد الجبار، والغزالي.

وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: أن ما بعد الغاية في مثل قوله تعالى:

ص: 1783

(فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ،

وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)

ليس كلاماً تاماً، ولا يستقل بنفسه؛ لأنه لو ابتدأ قائلاً: " حتى

تنكح زوجاً غيره "، و " حتى يطهرن "، وسكت، لم يحسن

السكوت عليه، ولا يصح ذلك حتى يتعلق بما قبله، وهو قوله:

(فلا تحل له)، وقوله:(ولا تقربوهن) .

إذن: لا بد فيه من إضمار، وذلك الإضمار إما ضد ما قبله أو

غيره.

أما الثاني - وهو: أن يضمر غير الضد - فهو باطل؛ لأنه ليس

في الكلام ما يدل عليه عيناً.

فتعيَّن الأول - وهو: "إضمار الضد - فيكون تقدير الكلام في

المثال الأول: " فلا تقربوهن حتى يطهرن فاقربوهن "، وتقدير

الكلام في المثال الثاني: " حتى تنكح زوجا غيره فتحل له "، فإذا

ثبت ذلك في هذه الصورة ثبت في غيرها لعدم القائل بالفرق.

الدليل الثاني: أن ما بعد الغاية يقبح الاستفهام عنه، فلو قال

السيد لعبده: " لا تعط زيداً درهما حتى يقوم "، و " اضرب عمراً

حتى يتوب "، فإنه يقبح من العبد أن يسأل ويقول: إذا قام هل

أعطيه درهما؛ وإذا تاب هل أضربه؟

وسبب هذا القبح هو: أن الجواب قد فهم بدون ذلك، فالسؤال يكون تحصيل حاصل، فلو لم يفهما لما قبح الاستفهام عنهما.

الدليل الثالث: أن غاية الشيء: نهايته، ونهاية الشيء:

منقطعه، ومعروف أن الشيء إذا انقطع وانتهى صار خاصا بحكم،

وصار ما بعده خاصا بحكم آخر، وهو ضده، وإن لم يكن ضده

لم يتحقق مفهوم الغاية، ففي الأمثلة السابقة: ضد تحريم الزوجة

ص: 1784

بعد الطلقة الثالثة هو: حلها بعد الزواج بزوج آخر، وضد وجوب

الصوم في النهار هو: عدم وجوبه في الليل، وضد عدم قربان

الزوجة قبل الطهر هو: حلها بعد الطهر.

المذهب الثاني: أن مفهوم الغاية ليس بحُجَّة.

أي: أن الحكم إذا قيد بغاية فإنه لا يدل على نفي هذا الحكم فيما

بعد الغاية، وهو مذهب كثير من الحنفية، وبعض الشافعية

كالآمدي، وبعض المالكية كالباجي.

دليل هذا المذهب:

أن النطق واللفظ خاص بحكم ما قبل الغاية، أما ما بعد الغاية

فهو مسكوت عنه: لم يتعرض له اللفظ والنطق لا بنفي، ولا

بإثبات، فيبقى على النفي الأصلي، وهو الأصل فتبقى الذمة بريئة

من التكليف فيه.

جوابه:

نسلم لكم أن الأصل هو بقاء الذمة بريئة من التكاليف، ولكن إذا

جاء دليل يغير هذه الحالة ويرفع هذا الأصل أخذنا به، وعندنا قد قام

دليل على أن حكم ما بعد الغاية يكون ضد ما قبلها، وهي الأدلة

الثلاثة السابقة الذكر.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا هو معنوي، حيث إنه أثر على بعض الفروع،

ومنها: الأمثلة السابقة.

وأيضا: أن الغسل يجزئ عن الوضوء بدليل مفهوم الغاية في قوله

تعالى: (حتى تغتسلوا)، فإن مفهومه: إن اغتسلتم فلكم أن

ص: 1785

تقربوا الصلاة، فلولا أن الغسل يجزئ عن الوضوء لم يكن

للمغتسل أن يقرب الصلاة.

النوع الرابع: مفهوم العدد:

إذا خصص الحكم بعدد معين وقيد به، فهل يدل هذا على نفي

ذلك الحكم عن غير ذلك العدد، سواء كان ذلك الغير زائداً عليه أو

ناقصاً عنه أو لا؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن مفهوم العدد حُجَّة.

أي: أن تقييد الحكم بعدد مخصوص يدل على نفي ذلك الحكم

فيما عدا ذلك العدد، سواء كان زائداً أو ناقصا.

وهو مذهب أكثر القائلين بمفهوم المخالفة، وهو اختيار بعض

الحنفية، وداود الظاهري، وبعض الشافعية، وعلى رأسهم الإمام

الشافعي.

وهو الحق عندي لكن بشرط وهو: أن لا يكون قد قصد بالعدد

التكثير أو المبالغة نحو قولك: " جئتك ألف مرة ولم أجدك ".

والأدلة على حجية مفهوم العدد هي كما يلي:

الدليل الأول: أن قتادة رضي الله عنه قال:

لما نزل قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"قد خيرني ربي فواللهِ لأزيدن على السبعين "، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية أن نفي المغفرة مقيد بالسبعين، فإذا زاد العدد عن السبعين فقد انتفى الحكم - وهو عدم المغفرة - رجاء أن يبدله بحكم آخر وهو المغفرة، ولذلك قال:

لأزيدن على السبعين فيكون تخصيص الحكم بعدد "، على نفي

الحكم عن غير هذا العدد المعين.

ص: 1786

ما اعترض به على هذا الدليل:

الاعتراض الأول: أن هذا الحديث ضعيف لم يدون في الصحاح،

والحديث الضعيف لا يحتج به في إثبات قاعدة أصولية، قال ذلك

أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، وأشار إليه الغزالي.

جوابه:

إن هذا غير مسلَّم، بل أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب

التفسير، باب: قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم

) عن

ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفى عبد اللَّه بن أُبي جاء

ابنه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني اللَّه فقال:

(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة

) ،

وسأزيد على السبعين

"، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب

فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر، وأخرجه الترمذي،

والنسائي. إذن: يكون الحديث صحيحا؛ حيث إن أصح الأحاديث

ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهذا قد اتفق عليه البخاري ومسلم.

الاعتراض الثاني: على فرض صحته، فإنه خبر واحد؛ وخبر

الواحد لا يقوى على إثبات قاعدة أصولية كمفهوم العدد.

جوابه:

إن خبر الواحد يثبت القاعدة الأصولية إذا كانت وسيلة إلى العمل

مثل هذه القاعدة، كما قلنا ذلك أكثر من مرة.

ص: 1787

الدليل الثاني: أن الحكم لو ثبت فيما زاد على العدد المذكور لم

يكن لذكر العدد فائدة، وكلام الشارع لا يجوز أن يعرى عن الفائدة

ما أمكن، كما لا يجوز أن يخلى ذكر الصفة، والشرط عن

الفائدة، فثبت أن فائدة ذكر العدد هي: أن ينفى الحكم عما عدا

المقيد بعدد، وهذا هو مفهوم العدد.

الدليل الثالث: أن الأمة قد عقلت من تحديد حد القاذفِ بثمانين

نفي وجوب الزيادة، وعدم جواز النقصان.

المذهب الثاني: أن مفهوم العدد ليس بحُجَّة.

أي: أن تقييد الحكم بعدد مخصوص لا يدل على نفي ذلك

الحكم فيما عدا ذلك العدد.

وهو مذهب أبي حنيفة، وأكثر الحنفية، وأكثر الشافعية كالآمدي،

وفخر الدين الرازي، وأكثر المعتزلة، وأكثر الظاهرية.

دليل هذا المذهب:

أن تعليق الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد، ولا عما

نقص، لاحتمال أن يكون في تعليقه بذلك العدد فائدة سوى نفيه عما

زاد أو نقص.

جوابه:

لا شك أنه توجد فوائد كثيرة في تعليق الحكم على العدد - كما

قلنا فيما سبق - ولكن أقوى الفوائد انقداحا في الذهن وأقربها إليه

هو: أنه يدل على نفي الحكم عما زاد أو نقص، وهذا هو مفهوم

العدد.

تنبيه: أكثر الأدلة على حجية مفهوم الصفة والشرط تصلح

ص: 1788

للاستدلال بها على حجية مفهوم العدد، وأكثر أدلة المخالفين فيهما

تصلح للاستدلال بها على عدم حجية هذا المفهوم، والجواب نفس

الجواب.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:

1 -

أنه لو قال لوكيله: " بع هذا الثوب بمائة ريال "، فإن باع

وكيله هذا الثوب بأكثر من مائة أو أقل فإنه لا يصح البيع؛ هذا بناء

على المذهب الأول؛ لأن مفهوم العدد حُجَّة.

أما على المذهب الثاني: فإنه لو باع بأكثر صح البيع؛ لأنه لا

مفهوم للعدد.

2 -

أن النجاسة إذا أصابت ما دون القلتين نجسته، وحمل

الخبث؛ استدلالاً بمفهوم العدد من قوله صلى الله عليه وسلم:

" إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ".

وبناء على المذهب الثاني فإن ما دون القلتين يحمل الخبث.

3 -

أنه يجب الوضوء من ثلاث قطرات من الدم، بناء على

المذهب الأول؛ استدلالاً بمفهوم العدد من قوله صلى الله عليه وسلم:

" ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلاً "، بخلاف المذهب الثاني؛ حيث لا يقولون بمفهوم العدد.

النوع الخامس: مفهوم الاستثناء من النفي:

لقد اختلف العلماء في الاستثناء من النفي هل هو إثبات أو لا؟

مثل قوله: " لا عالم في البلد إلا زيد " على مذهبين:

المذهب الأول: أن الاستثناء له مفهوم، أي: أن الاستثناء من

النفي إثبات، فإذا قلنا:" لا عالم في المدينة إلا زيد "، فإنه يدل

على نفي كل عالم سوى زيد، وإثبات كون زيد عالما.

ص: 1789

وهو مذهب جمهور العلماء، وأكثر منكري المفهوم.

وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: أن القائل: " لا إله إلا اللَّه " يُعتبر موحداً مثبتا

للألوهية لله تعالى، ونافيا لها عما سواه بالإجماع، ولو كان نافيا

للألوهية عما سوى اللَّه تعالى غير مثبت لها بالنسبة إلى اللَّه تعالى لما

كان ذلك توحيداً لله تعالى؛ لعدم إشعار لفظه بإثبات الألوهية لله

تعالى، وذلك خلاف الإجماع.

الدليل الثاني: أن كون الاستثناء من النفي إثباتا يتبادر إلى فهم كل

سامع، فمثلاً لو قال:" لا عالم إلا زيد "، و " لا فتى إلا علي "،

و" لا سيف إلا ذو الفقار "، فإنه يتبادر إلى ذهن كل سامع لغوي:

أن هذا من أدل الألفاظ على علم زيد وفضله، ومن أدل الألفاظ

على فتوة علي، وعلى أنه لا سيف قاطع إلا المسمى بذي الفقار.

الدليل الثالث: أنه ثيت عن أهل اللغة أنهم قالوا: الاستثناء من

الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، وكلامهم حُجَّة؛ حيث إنهم أعلم

الناس بما وضعت له الألفاظ، وبذلك يكون الاستثناء دالاً على ثبوت

نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى، فيكون الاستثناء من النفي إثباتا،

ومن الإثبات نفياً.

المذهب الثاني: أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات، فقولك: "لا

عالم إلا زيد " لا يدل على كون زيد عالما.

وهو مذهب أبي حنيفة، وأكثر أصحابه.

دلبل هذا المذهب:

أنه لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لكان قوله عليه الصلاة والسلام:

ص: 1790

" لا صلاة إلا بطهور "، وقوله:" لا نكاح إلا بولي "

مقتضيا تحقق الصلاة عند وجود الطهارة، وتحقق النكاح عند وجود

الولي؛ حيث إن الطهور والولي مستثنى من نفي الصلاة، ونفي

النكاح، والاستثناء من النفي إثبات - على زعمكم - فيلزم من ذلك

صحة الصلاة عند وجود الطهارة، وصحة النكاح عند وجود الولي،

وهذا ليس بصحيح باتفاق العلماء؛ لأن الطهارة قد تكون موجودة،

ومع ذلك لا تصح الصلاة؛ نظراً لفقدان شرط آخر، وكذلك قد

يوجد الولي، ومع ذلك لا يصح النكاح؛ نظراً لفقدان شرط آخر،

وهكذا.

فإذا كان الأمر كذلك فليس الاستثناء من النفي إثبات، بل إن

الاستثناء هو: إخراج المستثنى عن دخوله في المستثنى منه، وأنه غير

متعرض لنفيه ولا إثباته.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أنه يحتمل أن يكون قد قصد بهذين الحديثين وما

شابههما: بيان أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، وأن الولي

شرط في صحة النكاح، فإن هذا لا يفيد ثبوت صحة الصلاة عند

الطهارة، وثبوت صحة النكاح عند وجود الولي؛ قياساً على قولنا:

" لا قضاء إلا بعلم وورع "، فإن هذا القول لا يفيد ثبوت القضاء

لكل ورع وعالم، وإنما يفيد اشتراط العلم والورع فيمن يتولى

القضاء.

الجواب الثاني: أنه يحتمل أنه قد قصد بالحصر في هذين الحديثين

المبالغة والاهتمام بالشيء، وبيان أنه أهم شروطه؛ حيث إن أهم

ص: 1791

شروط الصلاة: الطهارة، وأهم شروط النكاح: وجود الولي؛

قياساً على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة ".

فهذا الحديث لم يقصد منه ثبوت الحج عند الوقوف، ونفيه عند

عدم الوقوف؛ لأن الحج قد يبطل مع الإتيان بالوقوف؛ لكونه قد

ترك ركناً آخر من أركانه، ولكنه ذكر ذلك لأن الوقوف بعرفة أهم

أركان الحج.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ لأنه أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:

1 -

إذا قال المقر: " ليس له عليّ شيء إلا درهما "، فإن

أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الاستثناء من النفي

إثبات - يوجبون على المقر درهماً، لأن الاستثناء من النفي إثبات.

وأما أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية - فلا يوجبون شيئا

على المقر؛ لأن الاستثناء من النفي ليس بإثبات، ويقولون: إن

المستثنى مسكوت عنه، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات.

2 -

إذا قال: " والله لا آكل إلا هذا الرغيف "، فإن على

المذهب الأول يحنث إن لم يأكل الرغيف؛ لأن الاستثناء من النفي

إثبات.

أما بناء على المذهب الثاني: فإنه إذا لم يأكل شيئاً من الرغيف

فإنه لا يحنث؛ لأن الاستثناء من النفي ليس بإثبات.

النوع السادس:. مفهوم " إنما ":

هل تقييد الحكم بهذا اللفظ - وهو إنما - كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق ": وقوله: " إنما الأعمال بالنيات "،

ص: 1792

وقوله: "إنما الربا في النسيئة "

يدل على الحصر، وإثبات الحكم، ونفيه عما عداه أو لا؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن " إنما " يدل على الحصر، وإثبات المذكور،

ونفي ما عداه، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن لفظة " إنما " مركبة من جزئين هما: " إن "

المشددة، و " ما ".

و" إنَّ " للإثبات مثل: " إن زيداً ناجح ".

و" ما " للنفي مثل: " ما زيد بناجح ".

وإذا كانت " إن " للإثبات، و " ما " للنفي حال انفرادهما،

فيجب استصحاب ذلك وإبقاء ما كان على ما كان في حال

اجتماعهما في التركيب، إذن لفظ " إنما " موضوع للأمرين:

للإثبات، والحصر، ونفي ما عدا المذكور.

أي: أن لفظ " إنما " يفيد الإثبات إذا نظرنا إلى " إنَّ "، ويفيد

الحصر ونفي ما عدا المذكور إذا نظرنا إلى " ما ".

الدليل الثاني: أن المتبادر إلى أفهام أهل اللغة والعارفين بأساليب

اللغة العربية من لفظ " إنما " هو: الحصر، وإثبات المذكور ونفي ما

عدا المذكور، فلم تستعمل في موضع من النصوص الشرعية، أو

الأشعار العربية إلا ويحسن فيه الحصر والنفي، والأصل في

الاستعمالِ الحقيقة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، حيث حصر الله

سبحانه نفسه في صفة الوحدة مع أنه له صفات كثيرة، ولكنه

حصرها هنا باعتبار خاص، وهو المعلوم من سياق الآية، حيث قال

ص: 1793

تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) .

ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، فقد

حصر الخشية على العلماء وإن كان يوجد من العباد من يخشاه

سبحانه من غير العلماء، ولكنه حصر ذلك في العلماء؛ لكونهم

أشد خشية لله بسبب علمهم بالآيات.

ومنها: قوله تعالى: (إنما أنا منذر) ، فقد فسَّره بصريح الحصر

في غير موضع كقوله تعالى: (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ)، وقوله:(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) .

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم:

"إنما الأعمال بالنيات "،

وقد فسَّره بقوله: " لا عمل إلا بنية " وهو حصر.

ومنها: قول الفرزدق:

أنا الضامن الراعي عليهم وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

فحصر المدافعة فيه أو في مثله.

المذهب الثاني: أن تقييد الحكم بلفظ " إنما " لا يدل على الحصر،

بل يدل على إثبات الحكم المذكور - فقط - ولا يدل على نفي ما

عداه.

وهو مذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية كالآمدي، وبعض

الحنابلة كالطوفي.

دليل هذا المذهب:

أن لفظ " إنما " مركبة من جزأين هما: " إنَّ " و " ما ".

و" إنَّ " للتأكيد.

ص: 1794

و" ما " كافة، وليست نافية.

أي: أن " ما " تكف " إنَّ " وأخواتها عن العمل فيما بعدها،

وتقلبها من اختصاصها بالدخول على الأسماء - فقط - إلى دخولها

على الفعل:

فلفظ " إنَّ " مختصة بالدخول على الأسماء فقط فيقال: " إن

زيداً مسافر "، ولا تدخل على الأفعال فلا يقال: " إنَّ قام زيد ".

ولكن لما وردت لفظة " ما " بعد " إن " أفادت أمرين:

أولهما: أنها كفتها عن العمل.

ثانيهما: أنها جعلت " إن " تدخل على الفعل فتقول: " إنما قام

زيد".

وإذا كانت " ما " كذلك فليست نافية، ولا تدل على النفي

كقولنا: " إنما النبي محمد "، فإن هذا يدل على إثبات النبوة

لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تنفي النبوة عن غيره من الأنبياء.

جوابه:

لا نسلم ما ذكرتموه، لأن " إنما " تفيد الإثبات والنفي؛ لوجود ما

يقتضيهما وهما: " إنَّ. " المؤكدة المثبتة، و " ما " النافية؛ قياسا على

الاستثناء من النفي الذي هو إثبات، فكما أن قولنا: " لا فتى إلا

علي" يفيد نفي الفتوة عن غير علي، وتأكيد الفتوة لعليّ، فكذلك

هنا فقولنا: " إنما العالم زيد " يفيد إثبات العلم الصحيح لزيد

والتأكيد على ذلك، ونفي العلم الصحيح عن غيره.

أما قولكم: " إنما " النبي محمد، فهذا كلام من إنشاءكم، وهو

ص: 1795

اختراع على اللغة لم يسمع به، فلا يقوى على معارضة ما ورد في

القرآن وكلام العرب.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث تأثرت بهذا الخلاف بعض الفروع الفقهية،

ومنها: لو أخبر مخبر قائلاً: " إنما العالم زيد "، فإن هذا يُفهم أن

العلم محصور على زيد، وأن غيره لا علم عنده، هذا بناء على

المذهب الاءول.

أما على المذهب الثاني: فإن هذا لا يفيد الحصر، بل يفيد تأكيد

الإثبات، فالعلم يوجد عند زيد وعند غيره.

النوع السابع: حصر المبتدأ في الخبر:

قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

"الشفعة فيما لم يقسم "، وقوله:"تحريمها التكبير وتحليلها التسليم "،

وقولنا: " العالم زيد "، و " صديقي زيد "

هل يدل ذلك على حصر الشفعة فيما لم يقسم، وعلى حصر

تحريم الصلاة في التكبير، وتحليل الصلاة في التسليم، وعلى حصر

الحلم في زيد، وعلى حصر الصداقة فى زيد أو لا؟

اختلف العلماء

في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن ذلك يدل على الحصر ويفيده.

أي: أن ذلك يدل على حصر الشفعة فيما لم يقسم، وحصر

التحريم في التكبير، وحصر التحليل في التسليم، وحصر العلم

والصداقة في زيد.

وهو مذهب كثير من العلماء منهم الغزالي، وإلكيا الهراسي،

وابن قدامة.

ص: 1796

وهو الحق عندي؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن أهل اللغة يُفرقون بين قول القائل: " زيد

صديقي "، وبين قوله: " صديقي زيد " بأن الثاني يفيد الحصر،

ولولا أن الثاني يفيد الحصر لما حصلت التفرقة بينهما، فكل من قال

بالتفرقة بينهما قال: إن تلك التفرقة بإفادة الحصر وعدم إفادته.

الدليل الثاني: أن الاسم إذا دخلت عليه " أل " كقوله صلى الله عليه وسلم:

"الشفعة فيما لم يقسم "، أو أضيف إلى معرفة

كقوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم "، وقولنا:" صديقي زيد "، فإن هذا الاسم يفيد الاستغراق،

وبالتالي فإن ذلك يفيد الحصر، وهو ظاهر فيه،

بيان ذلك:

أنه أفاد الحصر؛ لأن المحكوم به - وهو الخبر - يجب أن يكون

مساويا للمحكوم عليه - وهو المبتدأ - أو أعم منه.

فمثال المساوي: قولنا: " الإنسان بشر "، فالإنسان - هنا -

وهو المبتدأ - محكوم عليه بأنه بشر - وهو الخبر - وهو مساوٍ له.

ومثال الأعم قولنا: " الإنسان حيوان "، فالإنسان هنا. وهو

المبتدأ - محكوم عليه " بأنه حيوان وهو أعم من الإنسان، وإذا ثبت

ذلك فإن " التحريم " الوارد في حديث: " تحريمها التكبير " مبتدأ،

و" التكبير " خبره، فيكون " التكبير " مساويا للتحريم، فينحصر

التحريم في التكبير كما حصرنا " الإنسان " في " الحيوان "، وكما

حصرنا الإنسان في البشرية.

وعلى ذلك: فإن التحريم يجب أن ينحصر في التكبير، والتحليل

يجب أن ينحصر في التسليم، والشفعة يجب أن تنحصر فيما لم

يقسم، والصداقة يجب أن تنحصر في زيد.

ص: 1797

المذهب الثاني: أن ذدك لا يدل على الحصر ولا يفيده.

أي: أن ذلك لا يدل على حصر الشفعة فيما لم يقسم، وحصر

التحريم في التكبير، وحصر التحليل في التسليم، وحصر العلم

والصداقة في زيد في الأمثلة السابقة.

وهو مذهب أكثر الحنفية، رالقاضي أبي بكر، وبعض المتكلمين.

دليل هذا المذهب:

أن مثل ذلك لو أفاد الحصر: لكان قول القائل: " صديقي زيد

وعمرو " تناقضاً، لأن قوله: " صديقي زيد " يفيد الحصر - على

زعمكم - وقوله: " وعمرو " يقتضي أن لا تكون صداقته منحصرة

في زيد، بل توجد فيه وفي عمرو، فثبت التناقض.

جوابه:

أننا قلنا: إن هذا يفيد الحصر إذا كان مجرداً عن القرائن، أما إذا

اقترن به ما يغيره عنه، فلا يفيد الحصر " لأجل هذه القرينة،

و"عمرو " معطوف على " زيد " فهو يغيره، فيصير - حينئذ -

المعطوف والمعطوف عليه كأنه جملة واحدة، والمعطوف عليه بدون

المعطوف بعض الكلام، وبعض الكلام لا اقتضاء له على الانفراد،

وهذا قياساً على ما قلناه في الاستثناء، فإن المستثنى منه مع المستثنى

جملة واحدة، فإن المستثنى منه لو لم يقترن بالمستثنى كان المستثنى منه

تمام الكلام، وبتقدير الاقتران به يصير بعض الكلام.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، حيث إن هذا الخلاف قد أثر في بعض الفروع،

ومنها ما سبق من الأمثلة، فإنه بناء على المذهب الأول، فإن

ص: 1798

التحريم يجب أن ينحصر في التكبير، والتحليل يجب أن ينحصر في

التسليم، والشفعة يجب أن تنحصر فيما لم يقسم، والصداقة،

والعلم يجب أن ينحصرا في زيد، هذه القاعدة، ولكن إذا وجد

دليل أو قرينة تدل على غير ذلك، فإنه يؤخذ بها.

أما بناء على المذهب الثاني - وهو أن مثل هذا لا يفيد الحصر -

فإنه يترتب على ذلك - في الأمثلة السابقة -: أن بعض الشفعة فيما

لم يقسم، وبعض التحريم التكبير، وبعض التحليل التسليم،

وبعض العلم عند زيد، وبعض الأصدقاء زيد.

هذه القاعدة عندهم - في مثل هذا التعبير - ولكن إذا وجدت

قرينة تدل على غير ذلك كأن تدل على أن التحرلي م منحصر في التكبير

فإنه يؤخذ بها.

النوع الثامن: مفهوم اللقب:

إذا قيد الحكم أو الخبر بالاسم فهل يدل على نفي الحكم عما عداه؟

اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن مفهوم اللقب ليس بحُجَّة.

أي: أنه إذا قيد الحكم أو الخبر باسم فلا يدل ذلك على نفي

الحكم عما عداه، مطلقاً: أي: سواء كان هذا الاسم علماً أو اسم

جنس.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من

الأدلة:

الدليل الأول: أن تقييد الحكم بالاسم لو كان دليلاً على نفي

الحكم عما عداه لكان قول القائل: " عيسى رسول اللَّه " كفراً؛

ص: 1799

لأنه يدل بمفهومه على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء ليسوا برسل، وهذا كفر صريح.

الدليل الثاني: أنه لو كان تقييد الحكم بالاسم يدل على نفي

الحكم عما عداه لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيداً يأكل إلا بعد

علمه أن غيره لم يأكل، وإلا كان مخبراً بما يعلم أنه كاذب فيه، أو

ربما لا يأمن فيه من الكذب، وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم

علمه بذلك دلَّ على عدم دلالته على نفي الأكل من غير زيد.

الدليل الثالث: أنه لو كان تقييد الحكم بالاسم يدل على نفي

الحكم عما عداه لأفضى ذلك إلى سد باب القياس، لأنه إذا قال

- في حديث الأشياء الستة -: " لا تبيعوا البر بالبر " يجب أن لا

يقاس الأرز عليه، لأن تخصيص البر بالذكر يوجب إباحة ربا الفضل

في غيره من الأرز وغيره، فلما كان هذا مانعاً من القياس الثابت

وجب تركه.

المذهب الثاني: أن مفهوم اللقب حُجَّة.

أي: أنه إذا قيد الحكم أو الخبر باسم، فإنه يدل على نفي الحكم

عما عداه.

وهو مذهب بعض المالكية، وبعض الشافعية كأبي بكر الدقاق،

وبعض الحنابلة كأبي يعلى، وهو رواية عن الإمام أحمد.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قياس تقييد الحكم بالاسم على تقييده بالصفة،

فإن الصفة تميز الموصوف من غيره، وكذلك الاسم وضع لتمييز

المسمى من غيره، ثم إذا علق الحكم على صفة دلَّ على أن ما عداه

ص: 1800

بخلافه، فكذلك إذا علق الحكم على الاسم، فإنه يدل على أن ما

عداه بخلافه ولا فرق، فإذا قال:"اعط هذا الكتاب لزيد"، فإنه يفهم

منه: أنه لا يعطيه إلى عمرو، ولا إلى غيره، بل يعطى لزيد فقط.

جوابه:

أن قياسكم الاسم على الصفة قياس فاسد، لأنه قياس مع

الفارق، والفرق بينهما من وجهين:

أولهما: أن الصفة يجوز أن تكون علَّة يعلق الحكم عليها بخلاف

الاسم فلا يجوز أن يكون عِلَّة، فلا يعلق الحكم عليه.

ثانيهما: أن الصفة تذكر مع اسم فلا تفيد إلا تخصيصه.

بخلاف الاسم، فإنه يعدل عن اسم إلى اسم كل واحد منهما

يقع به التعريف، فلا يوجب ذلك التخصيص.

الدليل الثانيْ أنه لو تخاصم رجلان فقال أحدهما: " أما أنا

فليست أمي ولا أختي ولا زوجتي زانية "، فإنه يتبادر إلى الفهم أنه

ينسب الزنا إلى أم خصمه، وأخته، وزوجته، ولذلك يجب حد

القذف على الأول عند بعض العلماء.

جوابه:

أن ذلك إن فهم منه، فإنما يفهم من قرينة حاله، وهي الخصومة،

لا من دلالة مقاله.

ولو فرض ذلك في غير الخصومة، فنحن نمنع فهمه، لذلك لا

يجوز إقامة حد القذف على القائل بذلك.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، حيث إن بعض الفروع قد تأثرت بهذا الخلاف ومنها:

ص: 1801

1 -

أنه لو قال في الخصومة: " إن زوجتي ليست بزانية "، فإن

هذا لا يعتبر قذفاً لزوجة خصمه عند أصحاب المذهب الأول؛ لأن

مفهوم اللقب ليس بحجة، لذلك لا يجوز إقامة حد القذف على

القائل.

أما بناء على المذهب الثاني، فإن هذا يعتبر قذفا لزوجة خصمه،

فتجب إقامة حد القذف على القائل، لأن مفهوم اللقب حُجَّة.

2 -

إذا أوصى بعين لزيد، ثم قال بعد ذلك: أوصيت بها

لعمرو، فإنه بناء على المذهب الأول لا يُعتبر ذلك رجوعاً عن الوصية

لزيد، بل يشرك بينهما؛ لأنه لا يفهم من كونه أوصى بها لزيد أنه ما

أوصى بها لعمرو، ولا يجعل التعبير بالاسم الثاني دالاً على نفي

غيره.

أما أصحاب المذهب الثاني، فإنهم قالوا: يكون هذا رجوعاً عن

الوصية لزيد، وتصح وصية عمرو، فيجعل التعبير بالاسم الثاني -

وهو عمرو - دالاً على نفي غيره.

المسألة الرابعة: شروط مفهوم المخالفة:

إنني لما قلت: إن مفهوم الصفة، والتقسيم، والغاية، والحال،

والمكان، والزمان، والشرط، والغاية، والعدد، والاستثناء،

والحصر بإنجا، وحصر المبتدأ في الخبر كلها حُجَّة ليس هذا على

إطلاقه، بل يشترط في ذلك شروط هي كما يلي:

الشرط الأول: أن لا يرجع حكم المفهوم المخالف على أصله

ص: 1802

المنطوق به بالإبطال؛ لأن المفهوم فرع المنطوق، ولا يجوز أن يُقدم

الفرع على الأصل، ويُسقطه.

الشرط الثاني: أن لا تظهر أولوية المسكوت عنه بالحكم، أو

مساواته فيه للمنطوق، وإلا استلزم ثبوته في المسكوت عنه، فكان

مفهوم موافقة، ولا يكون مفهوم مخالفة.

الشرط الثالث: أن لا يوجد في المسكوت - المراد إعطاؤه حكما -

دليل خاص يدل على نقيض حكم المنطوق، فإن وجد ذلك الدليل

الخاص كان هو طريق الحكم المعمول به، لا المفهوم المخالف، كما

قلنا في قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إنه لم يعمل بمفهوم الشرط هنا؛

حيث لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فيجوز القصر عند

عدم الخوف، وذلك لوجود دليل آخر قد أباح القصر ولو لم يوجد

الخوف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:

"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ".

الشرط الرابع: أن يذكر القيد مستقلاً، فلو ذكر على وجه التبعية

لشيء آخر فلا مفهوم له مثل قوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ، فتقييده بالمساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف

ممنوع من المباشرة مطلقاً.

الشرط الخامس: أن لا يكون هناك تقدير جهالة بحكم المسكوت

عنه من جهة المخاطب.

الشرط السادس: أن لا يكون القيد قد خرج مخرج الأغلب المعتاد

كقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، وذلك لأن الخلع إنما يكون عند خوف عدم القيام بما

ص: 1803

أمر اللَّه به من قبل كل من الزوجين، فلا يفهم منه: أنه عند عدم

الخوف لا يجوز الخلع، فهذا الوصف لا مفهوم له، كذلك قوله

تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ، فإن وصف الربائب

بكونهن في الحجور جار وموافق للغالب لمن تزوج امرأة معها ابنتها،

فإنه يربيها في بيته، فهذا الوصف لا مفهوم له؛ إذ لا يجوز للرجل

أن يتزوج من ابنة امرأته، ولو تربت في غير بيته.

الشرط السابع: أن لا يكون المقصود من القيد هو: المبالغة في

التكثير كقولك: " جئتك ألف مرة " - وقد سبق التنبيه عليه - فهذا

لا مفهوم.

الشرط الثامن: أن لا يكون المقصود من القيد: المبالغة في التنفير

كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)

فهذا لا مفهوم له، حيث لا يدل بالمفهوم المخالف: أن الربا القليل

حلال، ولكن سيق هذا لبيان أن الربا كان جاريا على الأغلب

وللتنفير منه.

الشرط التاسع: أن لا يكون المقصود من القيد: الحث على

الامتثال كقوله صلى الله عليه وسلم:

" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت

فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً "،

فالوصف بالإيمان لا مفهوم له؛ لأنه سيق للحث على

الامتثال لأوامر اللَّه في الإحداد ثلاث ليال على الميت، وليس

المقصود منه جواز ما زاد إن كانت لا تؤمن بالله.

الشرط العاشر: أن لا يكون المقصود من القيد: إظهار الامتنان

كقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) ،

فإن هذا لا مفهوم له، لأنه سيق لإظهار المنة بطيب اللحم الطري،

ص: 1804

وليس المقصود من ذلك الوصف - وهو قوله: (لَحْمًا طَرِيًّا) كون

اللحم غير الطري ممتنع أكله.

الشرط الحادي عشر: أن لا يكون الكلام الذي ورد فيه القيد

جواباً لسؤال سائل، أو حادث معين، فإن كان كذلك فإنه لا يعمل

بالمفهوم؛ لأن فائدة المنطوق قد وردت خاصة بذلك السؤال، أو

الحادثة، كما لو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سائمة الغنم، فأجاب بوجوب الزكاة في سائمة الغنم، فإنه لا يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها من هذا اللفظ.

الشرط الثاني عشر: أن لا يكون الشارع قد ذكر القيد للقياس

عليه، فإن وجد فيه شروط القياس - كلها - فلا مفهوم له، كقوله

صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب الأسود، والحدبا "،

فلا مفهوم لذلك؛ حيث إن الشارع إنما ذكرهن لما فيهن من الأذى،

فيجوز أن نلحق بهن كل ما فيه أذى.

هذه أهم شروط مفهوم المخالفة.

ص: 1805