المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث في مخصصات العموم المنفصلة - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٤

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني عشر في العموم والخصوص

- ‌المبحث الأول في العموم

- ‌المطلب الأول تعريف العام

- ‌المطلب الثاني بيان أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة

- ‌المطلب الثالث هل العموم من عوارض المعاني حقيقة أو لا

- ‌المطلب الرابع أقسام العام

- ‌المطلب الخامس هل للعموم صيغة في اللغة موضوعة له

- ‌المطلب السادس في صيغ العموم

- ‌المطلب السابع الجمع المنكر هل يفيد العموم إذا لم يقع في سياق النفي

- ‌المطلب الثامن هل نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواةبينهما من كل الوجوه

- ‌المطلب التاسع الفعل المتعدي إلى مفعول هل له عمومبالنسبة إلى مفعولاته أو لا

- ‌المطلب العاشر دلالة العام هل هي ظثية أو قطعية

- ‌المطلب الحادي عشر أقل الجمع ما هو

- ‌المطلب الثاني عشر هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب

- ‌المطلب الثالث عشر حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم

- ‌المطلب الرابع عشر حكاية الراوي لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "كان " هل يفيد العموم؛ وأن هذا الفعل يتكرر منه صلى الله عليه وسلم، أو لا

- ‌المطلب الخامس عشر هل يدخل العبد في الخطاب المضاف إلى الناسوالمؤمنين، والأمة، والمسلمين

- ‌المطلب السادس عشر الجمع الذي فيه علامة التذكير هل يتناول النساء

- ‌المطلب السابع عشر العام بعد التخصيص هل هو حقيقةفي الباقي أو يكون مجازاً

- ‌المطلب الثامن عشر هل العام المخصوص حُجَّة في الباقي

- ‌المطلب التاسع عشر هل يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد

- ‌المطلب العشرون المخاطِب - بكسر الطاء - هل يدخل في عموم خطابه

- ‌المطلب الواحد والعشرون هل يجب اعتقاد عموم اللفظقبل البحث عن المخصص

- ‌المطلب الثاني والعشرون الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع هل يقتضيالعموم في كل من المضاف والمضاف إليه

- ‌المطلب الثالث والعشرون هل المفهوم له عموم

- ‌المطلب الرابع والعشرون ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال هل ينزل منزلة العموم في المقال

- ‌المبحث الثاني في الخصوص

- ‌المطلب الأول تعريف التخصيص

- ‌المطلب الثاني هل يجوز تخصيص العموم

- ‌المطلب الثالث في مخصِّصات العموم المنفصلة

- ‌المطلب الرابع في المخصصات المتصلة

- ‌الفصل الثالث عشر المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول تعريف المطلق

- ‌المبحث الثاني في أي شيء يكون المطلق؛ والأمثلة على ذلك

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد

- ‌المبحث الرابع على أي شيء يطلق المقيد

- ‌المبحث الخامس مقيدات المطلق

- ‌المبحث السادس إذا اجتمع مطلق ومقيد فهل يحملالمطلق على المقيد أو لا

- ‌المبحث السابع إذا ورد لفظ مطلق، ثم قيده مرة، ثم قيده مرة ثانيةبخلاف التقييد الأول، فما الحكم

- ‌الفصل الرابع عشر في المنطوق والمفهوم

- ‌المبحث الأول في المنطوق

- ‌المطلب الأول تعريف المنطوق

- ‌المطلب الثاني أقسام المنطوق

- ‌المطلب الثالثأقسام المنطوق غير الصريح

- ‌المبحث الثاني في المفهوم

- ‌المطلب الأول تعريف المفهوم، وبيان قسميه

- ‌المطلب الثاني في مفهوم الموافقة

- ‌المطلب الثالث في مفهوم المخالفة

- ‌الباب الخامس في القياس

- ‌الفصل الأول في تعريف القياس

- ‌المبحث الأول في تعريف القياس لغة

- ‌المطلب الأول فيما يطلق عليه لفظ " القياس " لغة

- ‌المطلب الثاني في خلاف العلماء في لفظ " القياس " هل هو حقيقةفي هذين المعنيين، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر

- ‌المبحث الثاني في تعريف القياس اصطلاحا

- ‌المطلب الأول هل يمكن تحديد القياس بحد حقيقي

- ‌المطلب الثاني هل القياس دليل مستقل أو هو من فعل المجتهد

- ‌المطلب الثالث تعريف القياس المختار، وبيانه بالشرح والأمثلة

- ‌الفصل الثاني في حجية القياس، أو التعبد بالقياس

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الحجية، والتعبد

- ‌المبحث الثاني تحرير محل النزع

- ‌المبحث الثالث هل القياس حُجَّة؛ أي: هل يجوز التعبد بالقياسويكون دليلاً من الأدلة على إثبات الأحكام أو لا

- ‌المبحث الرابع النص على عِلَّة الحكم هل هو أمر بالقياس أو لا

- ‌المبحث الخامس هل التنصيص على العلَّة يوجب الإلحاق عن طريقالقياس، أو عن طَريق اللفظ والعموم

- ‌المبحث السابع في ما يجري فيه القياس وما لا يجري فيه

- ‌المطلب الأول في القياس في العقوبات

- ‌المطلب الثاني القياس في المقدرات

- ‌المطلب الثالث القياس في الأبدال

- ‌المطلب الرابع في القياس في الرخص

- ‌المطلب الخامس القياس في الأسباب والشروط والموانع

- ‌المطلب السادس القياس في العبادات وما يتعلَّق بها

- ‌المطلب السابع القياس في العاديات

- ‌المطلب الثامن القياس في العقليات

- ‌المطلب التاسع في القياس في كل الأحكام

- ‌المطلب العاشر في القياس في الأمور التي لا يراد بها العمل

- ‌المبحث الثامن هل القياس من الدين

الفصل: ‌المطلب الثالث في مخصصات العموم المنفصلة

‌المطلب الثالث في مخصِّصات العموم المنفصلة

لقد قلنا: إن التخصيص هو: قصر العام على بعض أفراده، فيكون

المخصص هو: القاصر للعام على بعض أفراده، أي: هو فاعل

التخصيص فهو المخرج، وهو: إرادة المتكلم الإخراج.

والمخصص ينقسم إلى قسمين:

مخصص منفصل وهو: ما يستقل بنفسه، بأن لا يكون مرتبطا بكلام

آخر.

ومخصص متصل وهو: ما لا يستقل بنفسه، بل هو مرتبط بكلام

آخر.

وإليك الكلام عن المخصصات المنفصلة في المسائل التالية:

المسألة الأولى: في التخصيص بالحس.

المسألة الثانية: في التخصيص بالعقل.

المسألة الثالثة: في تخصيص الكتاب بالكتاب.

المسألة الرابعة: في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة: قولية أو

فعلية.

المسألة الخامسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة،

والآحادية بالآحادية.

ص: 1599

المسألة السادسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحادية بالكتاب.

المسألة السابعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد.

المسألة الثامنة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم.

المسألة التاسعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بالإجماع.

المسألة العاشرة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم الموافقة.

المسألة الحادية عشر: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم المخالفة.

المسألة الثانية عشر: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بالقياس.

المسألة الثالثة عشرة: في تعارض الخاص مع العام.

المسألة الرابعة عشرة: قول الصحابي وفعله ومذهبه هل يخصص

العموم؟

المسألة الخامسة عشرة: العرف والعادة هل يخصص بها العموم؟

المسألة السادسة عشرة: هل يجوز تخصيص العام بذكر بعضه؟

المسألة السابعة عشرة: العام إذا قصد به المدح أو الذم هل يخصص

العام؟

المسألة الثامنة عشرة: عطف الخاص على العام هل يخصص العام؟

ص: 1600

المسألة الأولى: في التخصيص بالحس:

وهو الدليل المأخوذ من أحد الحواس الخمس، وهي: الرؤية

البصرية، أو السمع، أو اللمس، أو الذوق، أو الشم.

والحس قد أنجمع العلماء على جواز التخصيص به، دلَّ على

ذلك: الوقوع: حيث وقع أن الحس قد خصص اللفظ العام،

والوقوع دليل الجواز.

من أمثلة ذلك: قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمر ربها) ،

ونحن نشاهد أشياء كانت حين هبوب الريح لم تدمرها كالجبال،

والسماء، والأرض.

ومن ذلك: قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، ونحن

نعلم أن هناك أشياء كثيرة لم تؤت منها بلقيس كالسموات،

والأرض، وأن ما كان في يد سليمان عليه السلام لم يكن في

يدها، وهو شيء.

***

المسألة الثانية: في التخصيص بالعقل:

العقل هو: آلة إدراك الأشياء والتمييز بينها.

والعقل قد اختلف في جواز التخصيص به على مذهبين:

المذهب الأول: أن العقل يجوز تخصيص العموم به.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليل الوقوع؛ حيث

إنه قد وقع أن "العقل خصَّص وأخرج بعض أفراد العام، وبين أنهم

غير داخلين في عموم اللفظ، وهذا هو التخصيص، والوقوع دليل

الجواز.

ص: 1601

ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ،

فإن لفظ " الناس " صيغة عموم - حيث إنها جمع معرف بـ " أل " -

فيدخل فيه كل الأفراد، ولكن العقل اقتضى بنظره عدم دخول الصبي

والمجنون بالتكليف بالحج؛ لعدم فهمهما، بل هما من جملة الذين

لا يخاطبون بخطاب التكليف.

ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (الله خالق كل شيء) ، فإن

لفظ " كل " قد تناول بعمومه لغة كل شيء مع أن ذاته وصفاته أشياء

حقيقة، ومع ذلك فإنها لا تدخل في هذا العموم، وخرج ذلك

بدلالة ضرورة العقل من عموم اللفظ، وذلك مما لا خلاف فيه بين

العقلاء، ولا نعني بالتخصيص غير ذلك.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز التخصيص بالعقل.

ذهب إلى ذلك طائفة من المتكلمين.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن دليل العقل متقدم وسابق في الوجود على أدلة

السمع، والمخصِّص ينبغي أن يكون متأخراً عن المخصَّص، فلا

يصلح أن يكون العقل مخصصا للعموم وهو متقدم.

جوابه:

أن العقل يجب أن يكون متأخراً بالنظر إلى ذاته، أو بالنظر إلى

صفته، وهو كونه مبيناً ومخصصاً.

أما الأول - وهو: كون العقل متأخراً بالنظر إلى ذاته - فنحن

نسلم لكم أنه متقدم على النقل والسمع.

أما الثاني - وهو: كون العقل متأخراً بالنظر إلى صفته، وهو:

ص: 1602

كونه مخصصا -: فلا نسلم أنه لا يتأخر، بل يكون متأخراً عن

النقل والسمع؛ لأن العقل وإن كان متقدما في ذاته على الخطاب

العام غير أنه لا يوصف قبل ذلك بكونه مخصصا لا لم يوجد، وإنما

يصير مخصصاً ومبيناً بعد وجود الخطاب، فيصير التخصيص من

صفاته.

وذلك لأن المخصص هو: الدليل المعرف لإرادة المتكلم بهذا

اللفظ، وأنه أراد هذا التكلم بهذا اللفظ العام معنى خاصا، والعقل

يدل على ذلك بعد وجود الخطاب العام وإن كان متقدما في ذاته على

ذلك الخطاب.

الدليل الثاني: أن حقيقة التخصيص هي: إخراج بعض ما تناوله

اللفظ عنه، ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد بلفظه الدلالة

على ما هو مخالف لصريح العقل، فلا يكون لفظه دالًّا عليه لغة،

أي: لا يمكن تناول اللفظ لما يخالف صريح العقل، ومع عدم

الدلالة اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصاً.

فقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) نعلم منه ضرورة

بالعقل أن الصبي والمجنون لا يدخلان تحت لفظ " الناس " أصلاً،

فلا يكون متناولاً لهما لغة؛ لأنه لا يمكن أن يتناول البفظ لما يخالف

صريح العقل، فلا يكون هذا اللفظ عاما أصلاً للصبي والمجنون،

وبالتالي: لا يكون العقل مخصصا لهما.

جوابه:

لا نسلم ذلك، بل يدخل غير المعقول، والمخالف لصريح العقل

تحت اللفظ من حيث اللسان والوضع.

ص: 1603

بيان نوع هذا الخلاف:

القد اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: إن الخلاف معنوي، وهو الحق؛ وذلك لأنه أثر

في مسألة من مسائل أصول الفقه وهي: " العام بعد التخصيص هل

هو حقيقة في الباقي، أو يكون مجازاً؛ " - وقد سبقت في المبحث

الأول -.

فبناء على المذهب الأول: فإن تخصيص العموم بدليل العقل

يجري فيه الخلاف السابق في تلك المسألة هل هو حقيقة في الباقي،

أو مجاز.

وبناء على المذهب الثاني - وهو: عدم جواز التخصيص بالعقل -

فإن العام المخصوص بالعقل حقيقة بلا خلاف؛ لأن العقل لا

يخصص أصلاً، فيبقى اللفظ على ما هو عليه حقيقة.

القول الثاني: إن الخلاف لفظي، واختاره بعض العلماء -

كالباقلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، وإلكيا الهراسي،

والقرافي، والتاج ابن السبكي، والإمام الرازي، وغيرهم -،

ودليلهم: أن المعنى قد اتفق أصحاب المذهبين عليه.

ولكن اختلف في تسميته تخصيصا.

جوابه:

أنه يفهم من أدلة أصحاب المذهب الثاني: أن الأفراد المخصوصين

بالعقل لم يدخلوا في اللفظ العام أصلاً، فعلى مذهبهم: لا يوجد

شيء يخصص بالعقل، فإذا لم يتناول اللفظ العام هؤلاء المخرجين

ص: 1604

بالعقل، فإنه لا يصدق عليه تعريف التخصيص، وهو: قصر العام

على بعض أفراده، فيكون الخلاف معنوياً.

المسألة الثالثة: في تخصيص الكتاب بالكتاب:

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، وهو

مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: الو قوع؛ والوقوع دليل الجواز.

ومثال الوقوع: أن قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

ورد مخصصاً لقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) .

أي: كل مطلقة تعتد بثلاث حيض إلا الحامل، فإنها تعتد بوضع

الحمل ولو بعد ساعة من الطلاق، أو بعد سنة.

مثال آخر: أن قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) ورد مخصصا لقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) .

أي: أنه لا يجوز نكاح الكافرات والمشركات إلا نساء أهل

الكتاب، وهم اليهود والنصارى، فيجوز نكاحهن.

الدليل الثاني: أن العام والخاص من الكتاب إما أن يعمل بهما معا

أو لا يعمل بهما معا، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو يعمل

بالخاص وما بقي بعد التخصيص.

ص: 1605

أما الأول - وهو العمل بالخاص والعام - فهو باطل؛ لأن فيه

جمعاً بين متناقضين.

أما الثاني - وهو: عدم العمل بهما معا - فهو باطل - أيضا -؛

لأنه يستلزم ترك دليلين قد ثبتا، وهذا لا يجوز.

وأما الثالث - وهو: أن يعمل بالعام دون الخاص - فهو باطل -

أيضاً -؛ لأنه يستلزم ترك دليل بالكلية - وهو الخاص - وهذا لا

يجوز.

وأما الرابع - وهو: أن يعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص -

فهو الصحيح؛ لأنه يستلزم إعمال الدليلين على حسب القدرة،

وهذا أَوْلى من إبطال أحدهما بالكلية.

المذهب الثاني: أن الكتاب لا يخصص الكتاب، وهو مذهب

بعض أهل الظاهر.

دليل هذا المذهب:

قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .

وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى فوض البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والبيان هو التخصيص، وذلك يقتضي: أن لا يحصل البيان

والتخصيص إلا بقوله صلى الله عليه وسلم،

ولا يحصل بقول اللَّه تعالى.

جوابه:

يجاب عنه بجوابينْ:

الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه يلزم من تفويض البيان إليه أن لا

يحصل البيان منه تعالى، وهذا لأنه يجوز أن يفوض الشيء إلى

ص: 1606

شخص، ويحصل ذلك الشيء من غيره، والفائدة في التفويض

نصبه لذلك، لا أن غيره ممنوع منه.

الجواب الثاني: أنا لا نُسَلِّمُ أن المراد من الآية هو: البيان - كما

ذكرتم - بل المراد من الآية هو: إظهار ما نزل اللَّه، وإبلاغه إلى

الأُفَة يدل على ذلك: أنا لو حملنا قوله تعالى: (لتبين للناس)

على البيان، وهو: إزالة الإشكال لوقع تعارض بين تلك الآية،

وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ،

والتعارض خلاف الأصل، فوجب - للتخلص من هذا التعارض -

حمل الآية التي استدللتم بها على التلاوة، والإبلاغ، وإذا كان المراد

من تلك الآية: الإبلاع، والتلاوة: لم يلزم من تفويض البيان إلى

الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على أن يكون عدة

الحامل مطلقهَ هو: وضع حملها؛ لقوله تعالى:

(وأولات الأحمال) مع أنه قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ،

وللاتفاق على جواز نكاح نساء أهل الكتاب، لقوله تعالى:

(والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب

) مع قوله تعالى:

(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) ، لكن أصحاب المذهب الأول قالوا

بأن هذا من باب تخصيص الكتاب بالكتاب، وأصحاب المذهب

الثاني لم يجعلوه من هذا الباب، وإنما جعلوه من باب آخر وسموه

باسم آخر.

ص: 1607

المسألة الرابعة: في نخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة سواء

كانت السُّنَّة قولية أو فعلية:

هذا جائز بالاتفاق؛ لدليلين هما:

الدليل الأول: الوقوع، والوقوع دليل الجواز.

مثال تخصيص الكتاب بالسُّنَة القولية: قوله صلى الله عليه وسلم:

" لا يرث القاتل "، وقوله؛ " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "،

فإنهما وردا مخصصين لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)

أي: أن جميع الأولاد يرثون من آبائهم إلا القاتل لا يرث، والولد

الكافر.

اعتراض على ذلك:

قال قائل - معترضاً -: إن هذين الحديثين ليسا بمتواترين، بل

هما في مرتبة الآحاد، فكيف تقول: إنهما في مرتبة التواتر.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنهما في مرتبة الآحاد، بل كانا في

مرتبة التواتر في زمن التخصيص، وهو زمن الصحابة - رضي الله

عنهم - والعبرة بزمن التخصيص، لا بهذا الزمن.

الجواب الثاني: على فرض أنهما في مرتبة الآحاد، وأن العبرة

بهذا الزمن، فإن الآية قد خصصت بهما مع أنهما في مرتبة الآحاد،

وإذا خصصت الآية بهما مع أنهما في مرتبة الآحاد، فمن باب أوْلى

أن يخصص الكتاب بالمتواتر؛ لأن المتواتر أقوى من الآحاد.

ومثال تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفعلية: رجم ماعز بن مالك

ص: 1608

قد خصص قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وأصبحت الآية قاصرة على الزاني البكر، والزانية البكر.

الدليل الثاني: أن العام من الكتاب والخاص من السُّنَّة المتواترة

دليلان قد ثبتا، فإما أن يعمل بهما معاً، أو لا يعمل بكل واحد

منهما، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو يعمل بالخاص وما بقى بعد

التخصيص، والثلاثة الأولى باطلة، فيكون الرابع هو الصحيح كما

بينا ذلك في تخصيص الكتاب بالكتاب.

المسألة الخامسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة

وتخصيص السّنَّة الآحادية بالآحادية:

هذا قد اختلف فيه على مذهبين:

المذهب الأول: أن ذلك كله يجوز.

وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: وقوعه، والوقوع دليل الجواز، حيث إن قوله

صلى الله عليه وسلم: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق "

ورد مخصصا لقوله صلى الله عليه وسلم:

" فيما سقت السماء الزكاة ".

الدليل الثاني: أن العام من السُّنَّة المتواترة، والخاص منها دليلان

قد ثبتا فإما أن نعمل بكل واحد منهما، أو لا نعمل بهما، أو نعمل

بالعام دون الخاص، أو نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص

والثلاثة الأولى باطلة، فيكون الرابع هو الصحيح، وقد سبق بيان

ذلك في الدليل الثاني من أدلة تخصيص الكتاب بالكتاب.

ص: 1609

وكذلك يقال في العام من الأحاد والخاص منها.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة مطلقا.

وهو لبعض الجلماء.

دليل هذا المذهب:

قوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) .

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل مبيِّنا، فلا يحتاج كلامه إلى بيان.

جوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: أنه كما أن الكتاب يبين ويُخصص بعضه بعضا،

فكذلك السُّنَّة تبين وتخصص بعضها البعض الآخر ولا فرق،

بجامع: أن كلًّا منهما من اللَّه تعالى.

الجواب الثاني: أن المقصود بالآية هو: إظهار ما نزل اللَّه وإبلاغه

إلى الأُمَّة، وليس المراد: إزالة الإشكال، وبناء على ذلك فلا يصح

الاستدلال بالآية على ما ذكرتموه، ثم إنه قد وقع، ولا يترتب على

فرض وقوعه تنافي.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف لفظي؛ حيث لم يترتب على هذا الخلاف أثر في

الفروع، وأن تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة قد وقع، لكن أصحاب

المذهب الأول يسمونه تخصيصا وبيانا، وأصحاب المذهب الثاني لا

يسمونه بذلك، وقد يجعلونه مبينا ومخصصا بأي مخصص غير

السُّنَّة.

ص: 1610

المسألة السادسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحادية بالكتاب:

قد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحادية

بالكتاب.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) .

وجه الدلالة: أن السُّنَّة شيء من الأشياء، والتخصيص بيان،

فيكون الكتاب مخصصا لها.

الدليل الثاني: أن العام من السُّنَّة المتواترة والآحاد، والخاص من

الكتاب دليلان قد ثبتا، فإما أن نعمل بكل واحد منهما، أو لا نعمل

بكل واحد منهما، أو نعمل بالعام دون الخاص، أو نعمل بالخاص

وما بقي بعد التخصيص، والثلاثة الأولى - كلها - باطلة، فيصح

الرابع وهو المطلوب، وقد سبق بيان ذلك في الدليل الثاني من أدلة

تخصيص الكتاب بالكتاب.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحاد

بالكتاب، وهو مذهب بعض الشافعية، وقول بعض المتكلمين.

دليل هذا المذهب:

أن وصف الكتاب بكونه بياناً للسُّنَّة يوهم بأنه تابع للسُّنَّة؛ لأن

البيان تابع، فوصما أن لا يجوز؛ لئلا يقع إيهام.

ص: 1611

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أنا نمنع ذلك؛ لأن الله تعالى قد وصف الكتاب

بكونه (تبياناً لكل شيء) في معرض المدح له، فلو كان كونه بياناً

لغيره يوهم بالتبعية لما كان ذلك صفة مدح.

الجواب الثاني: على فرض تسليم ما قلتموه، فإن الإيهام زائل

بما علم بالضرورة من كون القرآن أصلاً غير تابع لكل ما يقع بيانا له،

وهو أقل رتبة منه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا أنه لو

جاء عام من السُنَّة وجاء خاص من الكتاب، فإن العام يخصص

بالخاص، ويعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص، أما أصحاب

المذهب الثاني فإنهم قصدوا أن العام من السُّنَّة لا يخصصه الخاص

من الكتاب، بل يكون له دلالة أخرى.

***

المسألة السابعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد:

ولقد اختلف فيه على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص العام من الكتاب والسُّنَّة

المتواترة بخبر الواحد مطلقاً.

وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث إنه

ص: 1612

كان البعض منهم يخصص العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر

الواحد، ولا ينكر عليه الَاخرون، فكان ذلك إجماعا على ذلك.

ومن أمثلة ذلك: أنهم خصصوا قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)

بما روى أبو بكر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "،

وبقوله: " لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين "،

وهما خبران من أخبار الآحاد.

ومنها: أنهم خصصوا قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم)

بما روي عنه عليه السلام أنه قال: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا

على خالتها ".

ومنها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: (حتى تنكح زوجا غيره)

بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لامرأة رفاعة:

" لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ".

ومنها: أنهم خصصوا قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة)

بما روى عنه عليه السلام أنه قال في حق المجوس:

" سنوا بهم سُنَّة أهل الكتاب "، ونحو ذلك مما لا يحصى كثرة.

الدليل الثاني: أن العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، والخاص

من خبر الواحد دليلان قد ثبتا، فإما أن نعمل بكل واحد منهما، أو

لا نعمل بكل واحد منهما، أو نعمل بالعام ونترك الخاص، أو نعمل

بالخاص وما بقي بعد التخصيص، والثلاثة الأولى باطلة، فيكون

الرابع هو الصحيح على ما فصلناه في الدليل الثاني من أدلة

تخصيص الكتاب بالكتاب.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة

بخبر الواحد مطلقة.

ص: 1613

وهو مذهب بعض الفقهاء وبعض المتكلمين.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: إجماع الصحابة على رد خبر الواحد إذا خالف

الكتاب؛ حيث روي أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت

قيس فيما روته أن النبي صلى الله عليه وسلم حين طلقها زوجها - لم يفرض لها النفقة ولا السكنى فقال - أي: عمر -: " لا ندع كتاب ربنا وسُنَّة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، أنسيت أم ذكرت " ولم

ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعا.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: لا نسلِّم حصول الإجماع الذي زعمتموه؛ لأن

عمر قال ذلك وسمعه بعض الصحابة الموجودين في المدينة، أما بقية

الصحابة وهم الذين خارج المدينة، فلم يسمعوا بهذا، فادعاء

الإجماع بعيد جداً.

الجواب الثاني: على فرض حصول الإجماع، فإن عمر - رضي

الله عنه - لم يرد خبرها لكونه خبر آحاد ولا يقوى على تخصيص

الكتاب، ولكنه ردَّ خبرها؛ لأنه شك في حفظها بدليل قوله: " لا

ْندري أنسيت أم ذكرت "، فلو لم يكن هذا هو سبب رده لخبرها لما

كان لهذه العبارة فائدة، ولا يمكن أن يأتي أي صحابي بعبارة لا فائدة

منها.

أي: يلزم لتحصيل فائدة هذه العبارة أن نجعلها هي سبب رده.

ولو قلنا بأن سبب ردِّه هو: كون خبر الواحد لا يخصص الكتاب

لما كان لهذه العبارة فائدة، وتكون عبثا، وهذا لا يجوز.

ص: 1614

الدليل الثاني: أن الكتاب والسُّنَّة المتواترة مقطوع بهما، وخبر

الواحد مظنون، فتقديمه على الكتاب والسُنَّة المتواترة تقديم المرجوح

على الراجح، وهو ممتنع عقلاً.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن خبر الواحد وإن كان ظني الثبوت إلا أن

دلالته على معناه - أقوى من دلالة العام من الكتاب والسُّنَّة

المتواترة -؛ لأن خبر الواحد خاص في مراده لا يحتمل غير المراد،

أما العام فهو يحتمل، وإذا كان دلالة الخبر أقوى في الدلالة على

معناه من العام، فإنه يكون راجحاً عليه، والعمل بالراجح متعين.

الجواب الثاني: أن هذا منقوض بالبراءة الأصلية، فإنها يقينية مع

أنها تترك بخبر الواحد، فكذلك العام من الكتاب والسُنَّة المتواترة

يترك بخبر الواحد.

الدليل الثالث: قياس التخصيص على النسخ، بيان ذلك:

أنه كما لا يجوز نسخ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد،

فكذلك لا يجوز تخصيصهما به؛ لأن النسخ تخصيص في الأزمان.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن هذا القياس صحيح لو لم يرد دليل أقوى منه

قد ألغى هذا القياس، وهو: الإجماع، فإن الصحابة قد أجمعوا

على رد خبر الواحد إذا كان ناسخا للمقطوع، كما أجمعوا على

قبوله إذا كان مخصصا له.

ص: 1615

الجواب الثاني: سلمنا عدم حصول هذا الإجماع، لكن هذا

القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن التخصيص

أهون من النسخ، لأن التخصيص دفع، والنسخ رفع، والدفع

أسهل من الرفع.

المذهب الثالث: التفصيل بين ما خُصَّ بقطعي، وبين ما خُصَّ

بظني، بيانه:

إن كان العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة قد خُصَّ بدليل متفق عليه

- وهو الدليل القطعي -: فإنه يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

وإن كان العام منهما لم يخص بقطعي، فإنه لا يجوز تخصيصه

بخبر الواحد، وهو مذهب عيسى بن أبان، وكثير من الحنفية.

دليل هذا المذهب:

أن ما دخله التخصيص بدليل قطعي صار مجازاً فيما بقي وصارت

دلالة العام ظنية، وحينئذ يقوى خبر الواحد على تخصيصه؛ لأن

كلا الأمرين مظنون، والظق يعارضه ظن مثله.

أما إذا لم يدخله التخصيص أصلاً فهو باق على حقيقته في

الاستغراق؛ حيث إن دلالة العام عند أكثر الحنفية قطعية وحينئذٍ لا يقوى

خبر الواحد على تخصيصه، لأنه قطعي وخبر الواحد ظني، والظني

لا يقوى على تخصيص القطعي.

جوابه:

إن هذا الكلام مبني على قاعدتكم - أي: قاعدة الحنفية وهي:

أن دلالة العام قطعية - ونحن نخالفكم في هذه القاعدة؛ حيث قلنا

هناك: إن دلالة العام ظنية، وهي أضعف من دلالة الخاص - وهو:

ص: 1616

خبر الواحد -؛ حيث إن الخاص - كخبر الواحد - لا يقبل

التخصيص بخلاف العام، فإنه يقبل التخصيص ويرد عليه، فيكون

خبر الواحد أقوى من العام، فإذا كان الأمر كذلك فإن خبر الواحد

يقوى على تخصيص العام.

المذهب الرابع: التفصيل بين المخصَّص بالمتصل، وبين المخصَّص

بغيره.

بيانه: أن العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة إن لم يخص أصلَاّ أَو

خص بمتصل كالشرط والغاية والاستثناء، فلا يخصصه خبر الواحد.

أما إذا خص بمنفصل كالنص، أو القياس، أو الإجماع، فإن

خبر الواحد يخصصه، وهو مذهب أبي الحسن الكرخي.

دليل هذا المذهب:

أن العام إذا لم يخصص أصلاً، فإن دلالته على الأفراد قطعية،

فلا يقوى خبر الواحد على تخصيصه، وإن خص بالمخصص المتصل

فإنه أيضا تكون دلالته قطعية؛ لأنه لا يحتمل غير ما قُيِّد به من

الأفراد الموصوفة بالصفة، أو الشرط، ونحو ذلك، فتكون دلالته

على الباقي قطعية، وإذا كانت دلالة العام قطعية، فإن خبر الواحد

لا يقوى على تخصيصه.

أما إذا خصص العام: بمنفصل كالنقل والقياس، فإنه يصبح ظني

الدلالة على الباقي؛ لأنه يحتمل أن تخرج منه بعض الأفراد الباقية

بدليل كما خرج بعض الأفراد في المرة الأولى، وإذا كان العام ظني

الدلالة وخبر الواحد كذلك، فإنهما يتساويان في الظن، فيتعارضان،

فيقدم - حينئذ - خبر الواحد؛ لأن فيه عملاً بالدليلين؛ لأنه يعمل

ص: 1617

بالخاص، وما بقى بعد التخصيص، أما لو عملنا بالعام للزم إبطال

دليل قد ثبت وهو الخاص، فلا يجوز.

المذهب الخامس: أن العام يعمل فيه فيما عدا الفرد الذي دلَّ عليه

خبر الواحد الخاص، أما الفرد الخاص الذي دلَّ عليه خبر الواحد،

فإنه يتعارض مع ما دلَّ عليه اللفظ العام، وحينئذ لا نرجح أحدهما

على الآخر، ونتوقف حتى يرد دليل يرجح أحدفما، وهو مذهب

القاضي أبي بكر الباقلاني.

دليل هذا المذهب:

أن خبر الواحد والعام قد اجتمع في كل واحد منهما قطع من وجه

وظن من وجه آخر، فوقفا موقفاً سواء، ولم يترجح أحدهما على

الآخر.

بيانه:

أن خبر الواحد مقطوع الدلالة والمعنى، حيث إنه خاص، ولكنه

من جهة أخرى مظنون السند والأصل.

واللفظ العام الوارد في الكتاب والسُّنَّة المتواترة مقطوع السند

والأصل، ولكنه من جهة أخرى مظنون المعنى والدلالة والشمول.

فخبر الواحد قطعي الدلالة ظني الثبوت، والعام من الكتاب

والسُّنَّة المتواترة قطعي الثبوت ظني الدلالة، فكل واحد منهما قوي

من جهة وضعيف من جهة أخرى، فهما - إذن - متقابلان،

ومتساويان في القوة، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر، ولا دليل

على ترجيح أحدهما على الآخر، فوجب التوقف.

ص: 1618

جوابه:

إن خبر الواحد أرجح من العام؛ لما ذكرناه كثيراً فيما سبق،

وهو: أن العمل بالخاص - وهو ما دلَّ عليه خبر الواحد - فيه إعمال

للدليلين.

حيث يتضمن: العمل بالخاص، وما بقي بعد التخصيص من

العام، أما العمل بالعام ففيه إبطال للخاص - وهو ما دلَّ عليه خبر

الواحد -، ومعروف أن إعمال الدليلين إن أمكن أوْلى من إعمال

أحدهما دون الآخر.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع الفقهية،

ومنها:

قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ،

فقد خصَّصه أصحاب المذهب الأول بما روت عائشة - رضي الله

عنها -: أن قوما قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم لا

ندري أذكر اسم اللَّه عليه أم لا؛ فقال: " سموا عليه وكلوا "، وما

روي أنه قال: " ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللَّه أو لم يذكر "،

ونحوهما.

فعند أصحاب المذهب الأول: أن التسمية سُنَّة، وأن متروك

التسمية عمداً حلأل كله، وعموم تلك الآية قد خصص بما ذكرناه من

أخبار الآحاد.

أما عند أصحاب المذهب الثاني والثالث والرابع فلم يُخصِّصوا

الآية السابقة بتلك الأحاديث، وقالوا: إن هذه الأحاديث ظنية،

ص: 1619

ودلالة العام قطعية، والظني لا يخصص القطعي، وبناء على ذلك

قالوا: أن متروك التسمية عمداً ليس بحلال، ولا يجوز أكله؛ أخذاً

بعموم الآية السابقة.

أما أصحاب المذهب الخامس فقد توقفوا في ذلك حتى يأتي دليل

يرجح أحدهما.

المسألة الثامنة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم.

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن التقرير يخصص العموم مطلقا، سواء كان

اللفظ العام ورد في الكتاب أو السُّنَّة.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الواحد على ذلك الفعل، وسكوته عن الإنكار دليل واضح

على جواز ذلك الفعل له، وإلا كان فعله منكراً، ولو كان كذلك

لاستحال من النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عنه، وعدم النكير عليه؛ لأنه لا يحل له الإقرار على الخطأ، وهو معصوم، وإذا لم ينكر عليه كان سكوته دليلاً من أدلة الشرع، وهو مقابل بالنص العام، إذن هما

دليلان قد ثبتا، وحينئذ نقول: إما أن نعمل بكل واحد منهما، أو

لا نعمل بواحد منهما، أو نعمل بالعام ونترك الخاص، أو نعمل

بالخاص وما بقي بعد التخصيص، والثلاثة الأولى باطلة، فيصح

الرابع وهو: أن نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص؛ جمعا بين

الدليلين كما سبق بيانه في الدليل الثاني من أدلة تخصيص الكتاب

بالكتاب.

ص: 1620

المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص العموم بتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهو مذهب بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أن التقرير لا صيغة له، فلا يقع في مقابلة ما له صيغة، فلا

يكون مخصصاً للعموم.

جوابه:

إن التقرير وإن كان لا صيغة له غير أنه حُجَّة قاطعة في جواز

الفعل؛ نفياً للخطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم،

بخلاف العام، فإنه ظني محتمل للتخصيص، فيكون التقرير أقوى،

والأقوى يخصص الأضعف، فالتقرير يخصص العام.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، وهو واضح؛ حيث إنه لو وجد عام من

النص، وأقر صلى الله عليه وسلم على فعل يخالف دلالة ذلك العام، فإن العام لا يكون حكمه متناولاً لهذا الفرد، بل يكون مراداً به غيره، هذا

عند أصحاب المذهب الأول.

أما عند أصحاب المذهب الثاني: فإن العام يكون حكمه متناولاً

لهذا الفرد وغيره؛ لأن التقرير لا يقوى على تخصيص العام عندهم.

***

المسألة التاسعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بالإجماع:

هذا جائز باتفاق العلماء المعتد بأقوالهم، دلَّ عليه ما يلي:

الدليل الأول: الوقوع، والوقوع يدل على الجواز، بيانه:

ص: 1621

أنه لما قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإنهم خصصوا هذه الآية بالإجماع على أن العبد يجلد

خمسين جلدة على النصف من الحر؛ قياساً على الأمة، وبيانه:

أن اللَّه تعالى قال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) ، فهنا قد صرح بأن على الأمة

نصف ما على الحرة، فيقاس على الأمة العبد، فيكون عليه نصف ما

على الحر، وأجمعوا على هذا فخصص به قوله تعالى: (الزانية

والزاني..) ، فتكون الآية مخصصة بالإجماع، وقد يكون مستند

الإجماع غير ذلك القياس، لكن غير المجمعين لا يلزمهم البحث عن

هذا المستند، بل يكفيهم الإجماع على التخصيص.

الدليل الثاني: أن الإجماع أوْلى من عام الكتاب والسُّنَّة المتواترة؛

لأنهما نصوص، والنص قابل للتأويل، والإجماع غير قابل لذلك،

فيكون الإجماع أقوى، وحينئذ يخصص عام الكتاب والسُّنَّة

المتواترة.

تنبيه: لا يجوز تخصيص الإجماع بالكتاب والسُّنَّة المتواترة،

لاستحالة أن ينعقد الإجماع على خلاف الكتاب والسُّنَّة المتواترة.

***

المسألة العاشرة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم الموافقة:

لقد اتفق العلماء على أن مفهوم الموافقة - وهو: دلالة اللفظ

على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه وموافقته له - يخصص

العموم من الكتاب والسُّنة، وذلك لأن مفهوم الموافقة دليل خاص

ص: 1622

من أدلة الشرع، والعام دليل كذلك، فإذا تعارض الدليلان، فإنا

نعمل بالخاص، وما بقي بعد التخصيص؛ جمعا بين الدليلين، وهو

أَوْلى من العمل بالعام، وترك الخاص، لأن فيه إهمال لدليل قد

ثبت، وقد سبق هذا مراراً.

مثاله: لو قال: " كل من دخل داري فاضربه "، ثم قال: " إن

دخل زيد فلا تقل له أف "، فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد

وإخراجه من العموم.

***

المسألة الحادية عشرة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم المخالفة:

لقد اختلف العلماء في مفهوم المخالفة - وهو: دلالة اللفظ على

ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دلَّ عليه المنطوق - هل

يُخصص العام من الكتاب والسُّنَّة أو لا؛ على مذهبين:

المذهب الأول: أن مفهوم المخالفة يخصص العام من الكتاب

والسُّنَّة.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما ذكرناه من الدليل

على جؤاز تخصيص العام بمفهوم الموافقة، وقد سبق.

المذهب الثاني: أن مفهوم المخالفة لا يخصص العام من الكتاب

والستُنَّة.

وهو مذهب بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أن العام منطوق به، والمنطوق أقوى من المفهوم؛ نظراً لافتقار

ص: 1623

المفهوم فى دلالته إلى المنطوق، وعدم افتقار المنطوق فى دلالته إلى

المفهوم.

فيكون المفهوم أضعف، فلو خص العام به للزم من ذلك العمل

بالأضعف وترك الأقوى، وهو خلاف المعقول.

جوابه:

نسلم لكم أن المفهوم أضعف من المنطوق، لكن الذي جعلنا

نعمل بالمفهوم الخاص هو أنه لا يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقا؛

حيث إنا نعمل به وما بقي بعد التخصيص، أما العمل بالعموم فإنه

يلزم منه إبطال العمل بالمفهوم الخاص، ولا يخفى أن الجمع بين

الدليلين ولو من وجه أَوْلى من العمل بظاهر أحدهما، وإبطال

الآخر.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي.

فإنه بناء على المذهب الأول، فإن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:

"فى سائمة الغنم زكاة " يخصص عموم قوله غيهيم: "فى أربعين شاة شاة "،

فتكون الزكاة واجبة فى الغنم السائمة فقط، أما المعلوفة فتخرج عن

الوجوب، والذى أخرجها المفهوم.

أما بناء على المذهب الثانى، فإن هذا المفهوم لا يخصص ذلك

العموم.

****

المسألة الثانية عشرة في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بالقياس:

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

ص: 1624

المذهب الأول: أن القياس يخصص عموم الكتاب والسُّنَّة مطلقاً.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن القياس دليل شرعي خاص، والعام دليل

شرعي، ولا يمكن أن نقدم العام على الخاص؛ لأنه يلزم منه إلغاء

الخاص بالكلية، أما تقديم الخاص عليه، فلا يوجب ذلك، فكان

تقديم الخاص - وهو القياس - أَوْلى.

وقد سبق بيان ذلك كثيراً.

الدليل الثاني: أن صيغة العموم قد ضعفت بسبب كثرة تعرضها

للتخصيص، وكثرة احتمالات دخول المخصصات عليها حتى قيل:

"ما من عام إلا وقد خص منه البعض " فى حين أن القياس لا يحتمل

ذلك، والمحتمل أضعف من غير المحتمل، فيكون القياس أقوى من

العام، والقوي يخصص الضعيف.

المذهب الثاني: أن القياس لا يخصص عموم الكتاب والسُّنَّة

مطلقاً.

وهو مذهب بعض المعتزلة كالجبائي، وبعض الفقهاء، ووجه عند

الإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة كأبي إسحاق بن شاقلا.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: حديث معاذ رضي الله عنه حيث رتب الأدلة

فكان الكتاب أولاً، ثم السُّنَّة، ثم الاجتهاد - ومنه القياس -

فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم، فالقياس يعمل به بشرط: عدم وجود كتاب ولا سُنّة.

ص: 1625

فلا يمكن على هذا تقديم القياس على عموم النص من الكتاب

والسئُنَة.

فالفول بتخصحص عموم الكتاب والسُّنَّة بالقياس تقديم للقياس

على الكتاب والسُّنَّة، وأنه خلاف النص فكان باطلاً.

جوابه:

أن كلامكم هذا يقتضي: أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسُّنَة

المتواترة؛ لأن الكتاب متقدم عليها، وهذا باطل؛ حيث قلنا هناك:

إنه يجوز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة، فإذا جاز تخصيص

الكتاب بالسُّنة المتواترة مع تأخرها في الرتبة عنه، فإنه يجوز

تخصيص النص بالقياس مع تأخره عنه في الرتبة.

الدليل الثاني: أن النص العام أصل - حيث إنه ثبت بكتاب أو

سُنَّة - والقياس فرع لذلك النص العام؛ حيث إنه يلحق به،

والفرع لا يمكن أن يسقط أصله، أي: لو خصصنا النص العام

بالقياس للزم من ذلك تقديم الفرع على الأصل، ولزم إسقاط الفرع

للأصل، وهذا لا يجوز.

جوابه:

إنا لم نترك الأصل بفرعه، وإنما القياس هو فرع لنص آخر،

وليس فرعا للنص المخصوص، والنص تارة يخصص بنص آخر،

وتارة يخصص بمعقول نص آخر، ولا معنى للقياس إلا معقول النص.

فمثلاً: لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

" لا تبيعوا البر بالبر " قسنا عليه الأرز،

وقلنا بأنه لا يجوز الربا فيه، قياسا على البر، خصصنا بهذا

القياس عموم قوله تعالى: (وأحل اللَّه البيع) ، فهنا لم يخصص

الأصل بفرعه.

ص: 1626

الدليل الثالث: أن النصوص العامة تفيد ظن الحكم فائدة أقوى

وأكثر من إفادة القياس لظن الحكم، فلا يجوز تقديم الأضعف

والأقل فائدة - وهو القياس - على الأقوى والأكئر فائدة - وهو

العموم -.

جوابه:

لا نسلم ذلك على الإطلاق، بل قد تكون الظنون المستفادة من

القياس أقوى، وقد تكون الظنون المستفادة من العموم أقوى في نفس

المجتهد، إذن: لا يبعد أن يوجد قياس قوي أغلب على الظن من

عموم ضعيف.

المذهب الثالث: الفرق بين القياس الجلي، والقياس الخفي، بيانه:

إن كان القياس جلياً، فإنه يخصص العموم.

وإن كان القياس خفيا، فإنه لا يخصص العموم.

وهو مذهب ابن سريج، والإصطخري من الشافعية، وبعض

المتكلمين.

ثم اختلف هؤلاء في تفسير الجلي والخفي على أقوال:

فقيل: إن الجلي هو قياس العِلَّة - وهو إثبات الحكم في الفرع

بعفَة الأصل - ولا يوجد له إلا أصل واحد، والقياس الخفي هو:

قيَاس الشبه وهو: تردد الفرع بين أصلين، ويكون شبهه بأحدهما

أكثر فنلحق الفرع بأكثرهما شبها.

وقيل: إن الجلي هو: ما يظهر فيه المعنى الجامع بين الأصل

والفرع، والقياس الخفي هو: ما كانت فيه العِلَّة مستنبطة من حكم

الأصل، وقيل غير ذلك.

ص: 1627

دليل هذا المذهب:

أن القياس الجلي أقوى من عموم الكتاب والسُّنَّة، فيقوى على

تخصيصه.

أما القياس الخفي فهو أضعف من العموم فلا يقوى على تخصيصه.

وعلى المجتهد اتباع الأقوى من الدليلين.

جوابه:

أنه لا فرق بينهما؛ حيث إن القياس الخفي دليل، فكان حكمه

حكم القياس الجلي ولا فرق؛ حيث إنه من جنسه في تخصيص

العموم؛ قياسا على خبر الواحد: لما كان دليلاً كان حكمه حكم

الجلي، وهو: خبر المتواتر في التخصيص.

المذهب الرابع: أن العام المخصوص يخصص بالقياس، أما غيره

فلا، وهو مذهب عيسى بن أبان، وهو اختيار أكثر الحنفية.

دليل هذا المذهب:

أنا ما دخله التخصيص من اللفظ العام يصير مجازاً، فيكون بذلك

ضعيفا فيقوى القياس على تخصيصه.

أما العام الذي لم يدخله التخصيص فهو باق على حقيقته في

الاستغراق - حيث تكون دلالته قطعية - فلا يقوى القياس على

تخصيصه؛ لأن القياس ظني فهو أضعف من القطعي.

جوابه:

أن هذا مبني على قاعدتكم، وهي: أن دلالة العام قطعية،

ونحن نخالفكم فيها، فإن دلالة العام عندنا ظنية - كما سبق بيان

ذلك - وإذا كانت كذلك، فإن القياس يقوى على تخصيص العام؛

ص: 1628

لتساويهما في الدلالة، ولا فرق عندنا بين العام المخصوص، وبين

غيره في ذلك.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث إنه قد تأثر بهذا الخلاف بعض الفروع

الفقهية، ومنها:

أن قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) قد أجراه أصحاب

المذهب الثاني والثالث والرابع على عمومه، حيث إنهم قالوا: إن

من وجب عليه حد في النفس، ثم لجأ إلى الحرم لا يقتص منه داخل

الحرم، ولكنه يلجأ إلى الخروج بعد إطعامه، وسقياه، ومعاملته،

وكلامه حتى إذا خرج اقتص منه.

وهذا مذهب الحنفية.

أما أصحاب المذهب الأول فإنهم قالوا: إنه يُقتص منه،

وخصَّصوا ذلك من عموم الآية السابقة بالقياس؛ حيث قاسوه على

من جنى في داخل الحرم، فإن قتله جائز أخذاً من قوله تعالى:

(وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح.

المسألة الثالثة عشرة: تعارض الخاص مع العام:

إذا كان الخاص يثبت حكماً في بعض أفراد العام، وهذا الحكم

يخالف حكم العام كقول السيد: " أكرم الطلاب "، و " لا تكرم

ص: 1629

زيداً "، فما الحكم هنا؛ لقد اختلف العلماء في ذلك على

مذهبين:

المذهب الأول: أن النص الخاص يخصص اللفظ العام مطلقا.

أي: سواء علمنا تاريخ نزول كل واحد منهما، أو لم نعلم،

وسواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ فلا نعلم

أيهما المتقدم والمتأخر؛ أو كانا متقارنين في النزول، أو غير ذلك.

وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق، لدليلين:

الدليل الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا تعارض

العام مع الخاص، فإنهم يقدمون الخاص مطلقا ولا ينظرون إلى كون

أحدهما متقدماً أو متأخراً ولا إلى غير ذلك، ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى: (يوصيكم اللَّه في أولادكم) ، فهذا النص عام

يدل على أن جميع الأولاد يرثون من اَبائهم فخصصوه أولاً بما روي

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يرث الكافر من المسلم، ولا المسلم من الكافر "، فخرج الولد الكافر، فإنه لا يرث من أبيه المسلم،

وخصصوه ثانياً بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يرث القاتل "، وخصصوه ثالثا بما رواه أبو بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" نحن الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "، فخرج أولاد الأنبياء.

وكذلك قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ، فهو عام

يدل على جواز الزواج - بغير المذكورات في الآية -: فيجوز - على

ذلك - الزواج بعمة الزوجة، وبخالتها، وبابنة أختها وابنة أخيها،

ولكن الصحابة قد خصصوا هذه الآية بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 1630

"لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "، فأخرج هذا الحديث

أربع نساء -: خالة الزوجة، وعمتها، وابنة أختها، وابنة أخيها،

ونحو ذلك، مما لا يحصى عنهم ولم ينقل إلينا أنهم بحثوا هل العام

نزل قبل الخاص، أو الخاص قبله، فدل على أن الخاص يخصص

العام مطلقا، سواء تقدم على العام، أو تأخر عنه، أو جهل

التاريخ.

الدليل الثاني: أن تخصيص العام بالخاص فيه عمل بكل واحد من

الدليلين معاً، وذلك لأن الخاص يعمل فيه فيما دلَّ عليه من الأفراد،

والعام يعمل به فيما بقي بعد التخصيص، وفي هذا جمع بين

الدليلين - وهما العام والخاص -.

وهو أَوْلى من أن يقال: إن المتأخر ينسخ المتقدم إن علم تاريخ

نزولهما؛ لأنه يلزم منه إهمال وإبطال دليل قد ثبت.

وهو أَوْلى من التوقف إن جهل التاريخ؛ لأنه يلزم منه: ترك

دليلين قد ثبتا.

فكان القول بأن الخاص يُخصِّص العام مطلقا هو الراجح؛ لئلا

يلزم ترك وإبطال الدليلين أو أحدهما.

المذهب الثاني: الفرق بين أن يعلم تاريخ نزولهما، أو أن يجهل،

أو يكون الخاص والعام مقترنين بيانه:

إن علمنا أن الخاص نزل وورد بعد العام، فإن الخاص ينسخ

العام فنعمل بما دلَّ عليه الخاص.

ص: 1631

وإن علمنا أن العام والخاص نزلا معاً، فإن الخاص يخصص العام

كما سبق.

وإن علمنا أن العام نزل وورد بعد الخاص، فإن العام يكون

ناسخاً للخاص، ويثبت الحكم لجميع الأفراد.

وإن لم نعلم التاريخ، حيث لم نعلم تقدم أحدهما، ولا كون

أحدهما مقارناً للآخر، فإنا نتوقف عن العمل بكل واحد منهما حتى

تأتي قرينة تدل على المراد.

وهو مذهب جمهور الحنفية، وإمام الحرمين، والقاضي عبد الجبار.

دليل هذا المذهب:

أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنا نأخذ الأحدث

بالأحدث من أعمال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ".

وجه الدلالة: أن هذا ظاهر أن المتأخر أوْلى بالعمل من المتقدم

عند العلم أن أحدهما متأخر عن الآخر، ولم يفرق هذا الأثر بين أن

يكون المتقدم الخاص، أو المتقدم العام، فيكون المتأخر منهما هو

المعمول به، فيكون المتأخر ناسخا للمتقدم.

أما إذا علمنا مقارنة الخاص للعام، فلم يوجد مقتضى النسخ

- وهو العلم بالتأخر - فيكون الخاص مخصصا للعام على ما سبق.

أما إذا جهلنا التاريخ فلم نعلم المتقدم منهما فإنا نتوقف؛ لأن كلاً

من العام والخاص دلالته قطعية: فهما متساويان، فإذا عملنا

بأحدهما دون الآخر نكون قد رجحنا واحداً منهما بدون مرجح،

والترجيح بدون مرجح لا يجوز، فيلزمنا التوقف حتى يأتى دليل

يرجح أحدهما.

ص: 1632

جوابه:

يجاب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: أن هذا الأثر هو قول صحابي واحد، فيكون

ضعيف الدلالة.

الجواب الثاني: على فرض صحته فإنا نحمله على ما إذا كان

الأحدث خاصاً، فيخصص العام؛ جمعا بين الدليلين.

الجواب الثالث: أنا لا نُسَلِّمُ تساوي الدليلين - العام والخاص -

عند جهل التاريخ، بل هذا الزعم مبني على قاعدتكم وهي -: أن

دلالة العام قطعية، وهذا لا نسلمه لكم، بل إن دلالة العام ظنية،

وإذا كانت ظنية، فإن الخاص يكون أقوى من العام؛ لأن دلالة

الخاص قطعية، وحينئذٍ يقوى الخاص على تخصيص العام.

الجواب الرابع: أن العام والخاص إذا تعارضا فإن الخاص أرجح

- وإن جهل التاريخ -؛ لأن العمل به فيه إعمال للدليلين معاً؛ حيث

إنه يعمل بالخاص، وما بقي بعد التخصيص من العام، أما إذا تركنا

العمل. به، ففيه ترك لأحدهما، والإعمال خير من الإهمال والترك.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي، حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن

الخاص يخصص العام بدون البحث عن تأخر أحدهما أو تقدمه أو

نحو ذلك، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قصدوا: أنه إذا ورد

خاص وعام، فإنهم يبحثون هل العام نزل قبل الخاص، أو

العكس، أو جهل ذلك، أو كانا مقترنين وكل قسم له حكم قد سبق

بيانه، وقد انبنى على ذلك بعض الفروع الفقهية، ومنها؛

ص: 1633

أن قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ،

وقوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)

إلى آخر آيات القصاص: فإنها تفيد العموم، سواء كان القاتل أو

المقتول مسلماً أو كافراً، وعلى هذا فإنه يجب القصاص على المسلم

إذا قتل كافراً مطلقاً، وهو من أفراد العموم.

إلا أن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قد خصَّصوا هذا

العموم وقالوا: إنه لا يقتل المسلم بالكافر الذمي، والمخصص لذلك

أحاديث منها: "

ألا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده "،

وكذلك ما جاء فيما رواه أبو جحيفة قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم

شيء من الوحي ما ليس في القرآن؛ قال: لا، والذي فلق الحبة

وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه اللَّه رجلاً في القرآن، وما في هذه

الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؛ قال: العقل، وفكاك

الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ".

أما أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية - فلم يخصصوا تلك

الآيات بتلك الأحاب يث الخاصة، وذهبوا إلى أن المسلم يقتل إذا قتل

ذمياً؛ وأوَّلوا الحديث بأن المراد: لا يقتل مسلم بكافر حربي - فقط -

وللجمهور وللحنفية استدلالات أخرى يمكن أن تراجع في كتب

الفروع.

***

المسألة الرابعة عشرة: قول الصحابي وفعله ومذهبه هل يخصِّص العموم؟

لقد اختلف فى ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن قول الصحابي ومذهبه لا يُخصص العموم.

ص: 1634

وهو مذهب أكثر الشافعية، والمالكية، وكثير من العلماء، وهو

الحق؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن العام دليل ظاهر فيما اقتضاه من التعميم، ولم

يوجد له ما يصلح أن يكون معارضا له سوى فعل الصحابي وقوله،

وهو غير صالح لمعارضته؛ حيث إن فعله غير مستند إلى نص يدل

على أن المراد بذلك العام الخاص، بل يكون مستنداً إلى ما يظنه

دليلاً أقوى منه، فيحتمل أن يكون دليلاً، ويحتمل أن لا يكون

دليلاً، وبتقدير أن يكون دليلاً يحتمل أن يكون أقوى منه، ويحتمل

أن لا يكون، وهذه الاحتمالات متساوية، ولا مرجح؛ أما العام

فهو دليل لا يحتمل شيئاً، فيقدم غير المحتمل على المحتمل، وعليه:

فلا يقوى قول الصحابي ومذهبه على تخصيص العام.

الدليل الثانى: أن الواقع من الصحابة رضي الله عنهم يشهد

بأن قول الصحابي لا يخصص العموم؛ حيث إنه كان الواحد منهم

إذا سمع العموم من الكتاب والسُّنَّة، فإنه يترك قوله ومذهبه من

أجل هذا العموم، وما نقل عن أحد منهم أنه خص عموما بقول

نفسه، فهذا يدل على أن قوله أضعف من عموم كلام الشارع.

فانظر مثلاً إلى ابن عمر، حيث ترك مذهبه لحديث رافع بن

خديج في المخابرة، فروي أن ابن عصر قال: كنا نخابر أربعين سنة

لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم

نهى عن المخابرة، فإذا كان ابن عمر قد ترك قوله ومذهبه، وهو من فقهاء الصحابة فغيره أوْلى بالترك.

المذهب الثاني: أن قول الصحابي ومذهبه يخصص به العموم.

وهو مذهب الحنفية والحنابلة.

ص: 1635

دليل هذا المذهب:

أن قول الصحابي حُجَّة يقدم على القياس، وتخصيص العموم

بالقياس جائز - كما سبق - فقول الصحابي المقدم عليه أَوْلى أن

يخصص به.

جوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أنا قلنا في الباب الثالث - في دليل قول

الصحابي -: إن قول الصحابي حُجَّة إذا لم يعارض نصا من كتاب

أو سُنَّة، أما إذا عارض ذلك فلا يحتج به.

الجواب الثاني: أن قياسكم قول الصحابي على القياس، قياس

فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين:

الوجه الأول: أن الاحتمالات تتطرق في قول الصحابي ومذهبه

أكثر من تطرق الاحتمالات في القياس كما سبق بيانه في دليلنا الأول

من المذهب الأول، وكما سبق في دليلنا الثاني من المذهب الأول من

مسألة تخصيص الكتاب والسُّنَّة بالقياس.

الوجه الثاني: أن القياس ثبت اعتماداً على أصل ثابت بكتاب أو

سُنَة، فجاز التخصيص به لمعرفتنا للدليل الذي اعتمد عليه، أما

قول الصحابي ومذهبه المخصص للعموم فلا نعرف مستنده لذلك

رددناه، ونعمل بما ثبت وعلمناه، وهو العموم.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث أثر هذا الخلاف في بعض الفروع، ومنها:

أن ابن عباس رضي الله عنهما قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

ص: 1636

قال: " من بدل دينه فاقتلوه "، فهذا عام في الرجال والنساء، لكن

روي عنه - أي: عن ابن عباس - أن مذهبه: أن المرأة إذا ارتدت لا

تقتل، فهل يخصص عموم الحديث بمذهبه أو لا؛

على المذهبْ الأول: لا يخصص عموم الحديث بقول ومذهب

ابن عباس وعليه: تقتل المرأة إذا ارتدت.

وعلى المذهب الثاني: يخصص ذلك العموم بقول ابن عباس،

وعلى ذلك: لا تقتل المرأة إذا ارتدت.

وقد تكلمت عن مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف

مخالفة كلية، أو مخالفة لبعضه من حيث تخصيصه في كتابي:

"مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف - دراسة نظرية تطبيقية -

ورجحت فيه: أنه لا يلتفت إلى قول ومذهب الصحابي، بل يعمل

بعموم قول الشارع من الكتاب أو السُّنَّة، وذكرت أدلة كثيرة على

ذلك، وناقشت أدلة المخالفين، مع بيان نوع الخلاف هناك وتكثير

الأمثلة، فراجعه إن شئت فهو مطبوع في مجلد ومنتشر في المكتبات

العامة والخاصة.

***

المسألة الخامسة عشرُة: العرف والعادة هل يُخصَّص بها العموم؟

للكلام عن هذه المسألة لا بد التفصيل الآتي:

أولاً: إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب أو حرم

أشياء بلفظ عام، ثم رأينا العرف والعادة جارية بترك بعضها،

أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك العادة في تخصيص ذلك العام حتى يقال: المراد من ذلك العام

ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه، أو بفعله أم لا تؤثر

في ذلك، بل هو باق على عمومه متناول لذلك الفعل ولغيره؛

ص: 1637

الجواب فيه تفصيل:

1 -

إن علم أن العادة كانت حاصلة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه بها، وعدم منعهم عنها: كانت مخصصة، لكن المخصص في الحقيقة ليس العرف ولا العادة بل تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

وإن علم أنها ما كانت حاصلة في عصره، أو ما علم بها،

أو كان يمنعهم من ذلك، أو لم يثبت شيء من ذلك: فإنه لا يجوز

التخصيص بها؛ لأن أفعال الناس ليست بحُجَّة على الشرع.

3 -

إذا فرضت العادة بحيث تكون مجمعاً عليها بأن يستمر عليها

كل واحد من العلماء وغيرهم: كانت مخصصة، لكن المخصص

في الحقيقة هو الإجماع، وليست العادة والعرف.

ثانيا: إذا كانت العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلاً،

ثم إنه سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهاهم عنه بلفظ تناوله وغيره مثل قوله: " نهيتكم عن أكل الطعام "،

فهل يكون النهي مقتصراً على أكل ذلك الطعام فقط،

أم يجري على عمومه، ولا تؤثر عادتهم في ذلك؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن العرف والعادة لا يخصص بها العموم.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن أفعال الناس

وعاداتهم وأعرافهم لا تكون حُجَّة على الشرع، واللفظ عام، ولم

يوجد له معارض، والعادات لا تصلح أن تكون معارضة؛ لما قدمنا،

فوجب العمل بعموم اللفظ.

المذهب الثاني: أن العرف والعادة يخصص بها العموم.

ص: 1638

وهو مذهب الحنفية.

دليل هذا المذهب:

أن العرف يُعتبر من أدلة الشريعة، فإذا دلَّ هذا الدليل على شيء

خاص، وعارض عموم آية أو حديث، فإنا نعمل بالخاص وما بقي

بعد التخصيص من العام؛ جمعاً بين الدليلين، وهو أوْلى من العمل

بالعام وترك الخاص - الذي هو العرف -؛ لأنه يلزم منه: العمل

بأحد الدليلين وترك الآخر.

جوابه:

نحن معكم أن العرف دليل من أدلة الأحكام، لكن بشرط أن لا

يعارض نصاً من النصوص الشريعة، فإن عارضه: فلا يكون دليلاً،

ولا يؤخذ به.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:

ما ذكرناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قال: " نهيتكم عن أكل الطعام "

وكانت العادة جارية بأكل طعام معين كالأرز - مثلاً - فإنه على

المذهب الأول: فإن النهي يكون على جميع الأطعمة، ولا تؤثر

على هذا العموم عادتهم.

أما على المذهب الثاني، فإن النهي يكون مقتصراً على أكل ذلك

الطعام وهو الأرز فقط؛ لأن العادة مخصصة للعموم.

***

المسألة السادسة عشرة: هل يجوز تخصيص العام بذكر بعضه؛

مثال ذلك: قوله عليه السلام: " أي إهاب دبغ فقد طهر "،

ص: 1639

فإنه عام في كل جلد غير مدبوغ؛ حيث إن الإهاب اسم لذلك،

وقال عليه السلام في شأن ميمونة: " دباغها طهورها "، فهل ذكر

هذا يعتبر تخصيصا لذلك العام؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن المخصص يجب

أن يكون منافياً للعام، وذكر بعض العام بحكم العام غير مناف له،

فحكمهما واحد فامتنع التخصيص؛ لعدم وجود ما يقتضيه.

المذهب الثاني: أنه يجوز تخصيص العام بذلك الفرد المذكور.

وهو مذهب قد نسب إلى أبي ثور رحمه الله فيكون المراد من

الإهاب جلد الشاة.

دليل هذا المذهب:

أن المفهوم مخصِّص كما سبق، وتخصيص الشيء بالذكر يدل

على نفي الحكم عما عداه بطريق مفهوم المخالفة، وعلى ذلك:

يكون تخصيص جلد الشاة بالذكر يدل على نفي ذلك الحكم عما

عداه، وإذا ورد عام متناول لكل الجلود، فإنه يقع التعارض بينه

وبين مفهوم ذلك الخاص، ويقع التنافي بينهما، إذن يكون المقتضي

للتخصيص موجود، فيكون ذكر بعض العام مخصصا للعام،

ويحصر على هذا البعض المذكور فقط.

جوابه:

إن مفهوم المخالفة الذي قلنا بأنه مخصص هو: الذي اعتبر دليلاً

من أدلة الشرع، وهو: مفهوم الصفة ومفهوم الشرط والعدد وغيرها

ص: 1640

من أنواع المفاهيم إلا مفهوم اللقب فليس بدليل، - لذلك لا يخصص

العام، وهذا الذي ذكرتموه هو من قبيل مفهوم اللقب، حيث إن

ذكر جلد الشاة إنما يدل على عدم ما عداه بطريق مفهوم اللقب، فلا

يرد ذلك علينا.

ولو سلم أن مفهوم اللقب حُجَّة، لكنه في غاية الضعف، فلا

يصلح أن يكون مقاوماً للعموم، فالتمسك بالعموم أوْلى.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع، ومنها ما سبق؛

حيث إن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قد أخذوا بعموم

قوله عليه السلام: " أيما إهاب دبغ فقد طهر "، ولم يخصصوه بما

روي أنه صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميمونة فوجدها ميتة،

فقال: " هلا أخذوا جلدها فانتفعوا به دباغها طهورها "،

وقالوا: إن كل جلد ميتة يطهر بالدباغ من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره، وقالوا ذلك بناء على قاعدتهم.

أما أصحاب المذهب الثاني - وهو: أبو ثور ومن تبعه - فإنهم

قد خصصوا ذلك العموم بالحديث الخاص وهو حديث شاة ميمونة

وقالوا: إن الحديث يحمل على الشاة دون غيرها من مأكول اللحم

- كالبقر والإبل، قالوا ذلك بناء على قاعدتهم.

***

المسألة السابعة عشرة: العام إذا قصد به المدح أو الذم هل

يخصص ذلك العام؟

مثال ذلك: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)

ص: 1641

، فهل قصد الذم يخرج هذا اللفظ عن عمومه أو لا؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: إن قصد الذم والمدح من اللفظ العام لا يخصص

العام، وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق؛ لأن قصد المدح

والذم وإن كان مطلوباً ومقصوداً للمتكلم، فلا يمنع ذلك من قصد

العموم معه؛ لأنه لا منافاة بين قصد المدح والذم وبين العموم، وقد

أتى بالصيغة الدالة على العموم، وقصد المدح والذم ليس من

مخصصاتها فتبقى على ما هي عليه مفيدة للعموم.

المذهب الثاني: أن قصد الذم والمدح من اللفظ العام، يخصص

العام، وهو محكي عن الإمام الشافعي.

دليل هذا المذهب:

أن اللفظ لم يقصد به العموم، وإنما قصد به المدح - فقط -

مبالغة في الحث على الامتثال، أو قصد به الذم مبالغة في الزجر

عنه، وما دام أنه لم يقصد باللفظ العموم فلا يكون عاما.

جوابه:

أنا لا نعلم مقصد الشارع، فقد يكون قد قصد الأمرين معا،

فالاحتياط هو: الجمع بين المقصودين معا، وهو أوْلى من العمل

بأحدهما وتعطيل الآخر.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي؛ خيث أثر ذلك في بعض الاستدلالات من

النصوص، فبناء على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور -.

فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)

ص: 1642

يصلح للاستدلال به على وجوب زكاة الحلي لكون العموم مقصوداً والذم لم يخرج اللفظ عن العموم.

وبناء على المذهب الثاني: فإن تلك الآية لا تصلح للاستدلال بها

على وجوب زكاة الحلي، لكون العموم غير مقصود، بل المقصود

في ذلك هو والذم، وهو قد أخرج اللفظ عن عمومه.

***

المسألة الثامنة عشرة: عطف الخاص على العام هل يخصص العام؟

مثاله: قوله عليه السلام: " لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهدٍ

بعهده ".

فهل يعمل على أن لفظ " كافر " عام وشامل لجميع الكفار:

الذمي، والمستأمن، والحربي، فإذا قتل مسلم أحد هؤلاء الثلاثة،

فإنه لا يقتل به قصاصا، أو أن قوله:" ولا ذو عهد في عهده "

معطوف عليه، وهو خاص بالمعاهد وهو: الذمي والمستأمن،

فيخصص ذلك عموم لفظ " كافر "، فيكون المقصود: لا يقتل

مسلم بكافر حربي فقط.

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن عطف الخاص على العام لا يخصص العموم.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن المقتضي للتعميم

قائم، وهو اللفظ العام - وهو بالمثال: النكرة في سياق النفي -

والمعارض الموجود، وهو عطف الخاص عليه لا يصلح أن يكون

ص: 1643

معارضا له؛ لأن مقتضى العطف هو الاشتراك بين المعطوف

والمعطوف عليه في أصل الحكم الذي عطف عليه، لا الاشتراك فيه

من جميع الوجوه، وإذا كان كذلك لم يكن عطف الخاص منافيا

لتعميم المعطوف عليه، فلم يصلح معارضا له، وإذا وجد المقتضي

للتعميم ولم يوجد المعارض له وجب القول بالتعميم.

المذهب الثاني: أن عطف الخاص على العام يخصص العموم.

وهو مذهب الحنفية.

دليل هذا المذهب:

أن حرف العطف يجعل المعطوف والمعطوف عليه كالشىء الواحد،

وذلك يقتضي التسوية بينهما في الحكم وتفاصيله.

جوابه:

نسلِّم أن حرف العطف يقتضي ذلك، لكن في الحكم العام، لا

في تفاصيل الحكم.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي؛ حيث ترتب على هذا الخلاف أثر في بعض

الفروع.

ومنها ما سبق: فعلى المذهب الأول: أن المسلم لا يقتل بالكافر

العام، أي: جميع الكافرين، سواء كانوا ذميين أو حربيين، وذلك

لأن لفظ " كافر " نكرة في سياق نفي فاقتضت العموم، وقوله:

"ولا ذو عهد في عهده " معطوف على لفظ " لا يقتل "، فيكون

التقدير، وأيضا لا يقتل ذو عهد، وهو ما يزال في عهده.

وعلى المذهب الثاني: فإن المسلم يقتل بالذمي والمستأمن، أما

ص: 1644

الكافر الحربي فلا يقتل به؛ لأن قوله: " ولا ذو عهد في عهده "

خاص، وقد عطف على عام فيخصصه، فيكون التقدير: لا يقتل

مسلم بكافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي.

وبما أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في كل المتعلقات: يكون

قوله: " لا يقتل مسلم بكافر " مشاركا للمعطوف وهو: " ولا ذو

عهد في عهده بكافر حربي "، وما دام أن المعطوف عليه قد قصد به

الخاص وهو الحربي، فكذلك المعطوف يكون المقصود به الحربي؛

حيث خصصناه به، فلا يقتل مسلم بكافر حربي، أما الذمي

والمستأمن إذا قتلهما المسلم فإنه يُقتل بهما.

ولا بد من قول ذلك حتى يكون لعبارة: " ولا ذو عهد في عهده "

فائدة؛ حيث إن هذه العبارة ليس كلاما مستقلاً قصد به النهي عن

قتل المعاهد ما دام في عهده؛ لأن هذا معلوم بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ، فتكون هذه العبارة قد قصد بها بيان حكم القصاص عند قتل المستأمن.

ص: 1645