الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصاحة القرآن وبلاغته
قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] ، بين الله سبحانه أن القرآن العظيم أحسن الكلام وأجوده لأنه نزل بعلمه، وذلك أن الله سبحانه يعلم أي لفظة هي أدل على المعنى المقصود، وأي لفظة تصلح أن تليها أو تسبقها، بل ومناسبة كل حرف لموضعه، فجاء القرآن العظيم في غاية الفصاحة والبلاغة في مفرداته وتراكيبه «1» .
سر فصاحة القرآن وبلاغته:
لقد كان القرآن العظيم غاية في الفصاحة والبلاغة؛ لأنه كلام الله الذي يحمل العلم الإلهي، وينم عن العظمة والصفات الإلهية التي لاتحد بحد، فأعجز الفصحاء والبلغاء فلم يجدوا إلا أن يقولوا: إنه سحر، كما حكى الله عنهم قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)[المدثر: 24] .
ومن وجوه فصاحته وبلاغته ما يأتي:
[أ] تضمنه أصح المعلومات وأدقها وأكملها، وأصدق المعاني وأوضحها، وأحسن الكلام والتعبير بأفصح المفردات والتراكيب وأبلغها وأعذبها، وسريان ذلك فيه من أوله إلى آخره، وإنه ليستحيل على بشر أن يصل إلى هذا السمو، فإنه إن راعى دقة المعلومة فاته رونق اللفظ وعذوبته غالبا، وإن أراد تنميق الألفاظ وتزيينها لم يصل إلى مراده في دقة المعلومة التي يوردها.
وإنك لتلاحظ عذوبة ألفاظه حتى في المواضع العقدية والتشريعية التي تستلزم البعد عن اللفظ البديع غالبا.
(1) انظر علم الإيمان الجزء الثاني ق 1/ 160- 174.
[ب] جمعه بين صفتي العذوبة والجزالة «1» : مع كونهما كالصفتين المتضادتين لا تكادان تجتمعان في الكلام.
[ج] إرواؤه لمطلب العقل والعاطفة معا: بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
[د] قصده في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى: فإنه يجلي المعنى كاملا واضحا في كلمات وعبارات قاصدة ليست بالطويلة المملة، أما البشر فإنه إن أراد الاقتصاد في اللفظ قصر في التعبير عن المعنى المطلوب، وإن أحب تجلية المعنى قاده ذلك إلى التطويل في العبارة، وإن قدّر أنه ضبط اللفظ مع المعنى في جملة أو جملتين، فإن الكلل والإعياء سيلحقه بعد ذلك في بقية الكلام، وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا الفينة بعد الفينة.
[هـ] جودة سبكه وإحكام سرده: مع أنه حوى موضوعات كثيرة مختلفة شاملة لحاجات البشر في الدنيا والآخرة من تشريع وقصص ومواعظ وبراهين عقلية ووجدانية ومناقشات وأمثال وحكم وغير ذلك، فقد سبك هذه الموضوعات جميعا وغيرها سبكا حكيما، فتراه مترابطا ترابط الجسم الواحد والروح الواحدة.
[و] إشباعه العامة والخاصة على السواء: فالجميع يتذوق حلاوته ويجد فيه من بغيته ما يمتع عقله وقلبه، فالعامة يلتذون به ويفهمون منه على قدر استعدادهم وما تبلغه عقولهم وقلوبهم، والخاصة يجدون حلاوته ويفهمون منه أكثر مما تفهم منه العامة، بخلاف غيره من كلام البشر فتجد منه ما يرضي العامة لسهولته ولكن الخاصة تمجّه لكونه دون مستواهم، وإن أرضى الخاصة لارتفاع مستواه لم يرض العامة لكونهم لا يفهمونه.
(1) العذوبة هي رقة اللفظ وسلاسته، والجزالة: قوته ومتانته.
[ز] مسحته اللفظية المميزة: فهي مسحة خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي، فأما نظامه الصوتي فإنك تجده متسقا مؤتلفا في حركاته وسكناته ومدوده وغنّاته، واتصالاته وسكتاته، اتساقا عجيبا وائتلافا رائعا، يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور.
فجرسه الصوتي يجذب السامع له ويلفت انتباهه، حتى لو كان أعجميا لا يعرف اللغة العربية، ولعل هذا هو الذي حمل بعض العرب في عهد النبوة أن يقولوا: إنه شعر، ثم عادوا إلى أنفسهم فعلموا أنّه فوق الشعر وأنه لا يسير على منهج الشعر ومنواله فقالوا: هو سحر.
وأما جماله اللغوي فيظهر فيما امتاز به في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا بديعا، بحيث أنك تجد لذة حين تسمع حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة، فحرف يصفر وآخر ينقر، وهذا يخفى وذاك يظهر، وهذا يهمس وذاك يجهر، فخرج للناس بمجموعة مختلفة مؤتلفة، جامعة بين اللبن والشدة، والخشونة والرقة، والجهر والخفية على وجه دقيق محكم، وضع كلا من الحروف المتقابلة في موضعه بميزان، حتى تألف من مجموع ذلك قالب لفظي مدهش بلغ جماله اللغوي قمة الإعجاز، بحيث لو أدخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه «1» .
[ح] إحكام ترابطه وكمال تناسقه: مع كونه قد نزل مفرقا حسب الحوادث في ثلاث وعشرين عاما، بينما البشر يعجزون أن يصنفوا كلاما مترابطا كترابط القرآن إذا كان قد قيل في مناسبات مختلفة وفي أزمنة متباعدة.
(1) مناهل العرفان 2 331/- 335 بتصرف، وانظر كتاب" النبأ العظيم" لمحمد عبد الله دراز، لزيادة التوضيح والتفصيل في إعجاز القرآن وروعته اللغوية.