الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الخطابي رحمه الله: القرآن صار معجزا، لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، متضمنا أصح المعاني
…
«1» .
اعتراف العرب الفصحاء ببلاغة القرآن وفصاحته:
وقد اعترف العرب الفصحاء بعظيم نظم القرآن وبلاغته وأسلوبه من خلال تأثرهم به، حتى كانوا يحذّرون من قدم إلى مكة من سماع القرآن خشية أن يتأثر به فيسلم، بل تواصوا فيما بينهم باللغو (التشويش) عند سماع القرآن حتى لا يتأثر به السامع. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)[فصلت: 26] .
قال مجاهد: الغوا فيه بالمكاء «2» والتصدية «3» والتخليط في الكلام حتى يصير لغوا.
قال الشوكاني: عارضوه باللغو الباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له «4» .
ولما جاء الطفيل بن عمرو إلى مكة لم يزل به الكفار يحذرونه من سماع القرآن حتى وضع في أذنيه قطنا خشية أن يسمع شيئا من القرآن، وأبى الله سبحانه إلا أن يسمعه شيئا منه مع وجود ذلك القطن، فهدى الله قلبه لسماع القرآن ومن ثمّ شرح الله صدره للإسلام «5» .
ولما سمع الوليد بن المغيرة القرآن فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه
(1) بيان إعجاز القرآن ص 27.
(2)
المكاء: الصفير.
(3)
التصدية: التصفيق.
(4)
انظر تفسير الشوكاني.
(5)
السيرة النبوية لابن هشام 2/ 226- 227.
فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوه لك، فإنك أتيت محمدا لتعرّض لما قبله «1» ، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا! قال:
فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال: وماذا أقول؟!، فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته!!.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه!!. قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره!! فنزلت الآيات في الوليد قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)[المدثر: 11- 26]«2» .
فقول الوليد: إن القرآن سحر، يبين عميق التأثير الذي أحدثه القرآن في نفسه.
وقال الزهري: حدّثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فلما طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض
(1) أي: أتيت محمدا تريد شيئا من العطاء من جهته.
(2)
أخرج هذه الحادثة الحاكم في المستدرك 2/ 550 وقال صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وعن الحاكم أخرجها البيهقي في شعب الإيمان 1/ 156- 157.
سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك.
قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا «1» على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال:
فقام عنه الأخنس وتركه «2» .
فحرصهم على الحضور ليلا لسماعه مما يدّلّ على تأثرهم به وتعجبهم منه لكونه ليس ككلام البشر، ولكن العناد والمكابرة حملهم على تركه كما قال أبو جهل.
ومما يدل على تميز القرآن الذاتي عن كلام العرب ما شهد به أنيس بن جنادة
(1) تجاذينا: مأخوذ من قولهم: جذا الرجل إذا جلس على ركبتيه.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 337- 338.
الغفاري قبل إسلامه، حيث سأله أخوه أبو ذرّ عما يقول الناس في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر- وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء «1» الشعر فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون
…
" «2» .
وقدم جبير بن مطعم رضي الله عنه إلى المدينة قبل إسلامه في فداء أسارى بدر فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور «3» قال: فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن «4» ، وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي «5» .
فهؤلاء من قريش أفصح العرب يشهدون ببلاغة القرآن وفصاحته من خلال تأثرهم به «6» .
وما أحسن ما سطره الرافعي في تصويره تأثير القرآن في العرب الذين كانت الفصاحة والبلاغة من أبرز مفاخرهم، وأنه لولا فصاحة ألفاظه التي بلغت حد
(1) أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه.
(2)
مسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل أبي ذر، وأحمد في مسند الأنصار من حديث أبي ذر الغفاري.
(3)
أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ فداء المشركين، ومسلم ك/ الصلاة ب/ القراءة في الصبح.
(4)
أخرجه أحمد في أول مسند المدنيين من حديث جبير بن مطعم، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 444، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 211- 212، والطبراني في المعجم الكبير 2/ 116 والصغير 2/ 265 وغيرهم، وذكره الحافظ في فتح الباري 2/ 492.
(5)
أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ شهود الملائكة بدرا.
(6)
بل إن بعض نصارى العرب المتأخرين ممن لهم تضلع في اللغة العربية وآدابها قد اعترفوا بذلك، ومنهم الكاتب البليغ: إبراهيم اليازجي وكذلك الشاعر المعروف خليل مطران كما نقله عنهما الرافعي رحمه الله في وحي القلم وكذلك الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة في الجامعة الأمريكانية في كتاب الخواطر الحسان كما نقله عنه الأستاذ: محمد رشيد رضا رحمه الله. انظر علوم القرآن الكريم للدكتور نور الدين عتر ص 201.