الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية، وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة، اشترك فيها المئات من الباحثين، واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة.
بينما جلى القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرنا، قال تعالى:
مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22)[الرحمن: 19- 22] .
وقال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً [النمل: 61] .
المعاني اللغوية وأقوال المفسرين:
مَرَجَ:
قال ابن فارس: مَرَجَ: الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب، ومرج الخاتم في الإصبع: قلق، وقياس الباب كله منه ومرجت أمانات القوم وعهودهم: اضطربت واختلطت، والمرج: أصله أرض ذات نبات تمرج فيها الدواب «1» .
الْبَحْرَيْنِ:
قال ابن فارس: الباء والحاء والراء، قال الخليل: سمي البحر بحرا لاستبحاره وهو انبساطه وسعته
…
ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبته استبحر، وماء بحري أي مالح «2» .
وقال الأصفهاني «3» : وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للماء المالح
(1) معجم المقاييس في اللغة: لابن فارس مادة مرج.
(2)
معجم المقاييس في اللغة، لسان العرب، المفردات للراغب الأصفهاني.
(3)
العلامة المحقق أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني الملقب بالراغب صاحب تصانيف مفيدة توفي عام 502 هـ.
دون العذب «1» .
وقال ابن منظور «2» : وقد غلب على المالح حتى قلّ في العذب «3» .
فإذا أطلق البحر دل على البحر المالح، وإذا قيّد دل على ما قيّد به.
والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة الكثيرة الجارية.
ويستعمل لفظ البحر ليدل على البحر المالح. قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ [إبراهيم: 32] .
وكذلك يستعمل لفظ البحر في الحديث للدلالة على الماء الملح، فقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا أفنتوضّأ من ماء البحر؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» «4» .
البرزخ: هو الحاجز: وقد ذهب أكثر المفسرين «5» إلى أنه لا يرى.
البغي: قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد «6» ، وبمثله قال
(1) المفردات.
(2)
محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري، لغوي، عمر وكبر وحدث، له" لسان العرب" وهو من أوسع المعاجم في اللغة العربية توفى عام 711 هـ.
(3)
لسان العرب.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 237 ورواه الترمذي في الطهارة ب/ ماء البحر أنه طهور، وابن الجارود في المنتقى 1/ 23، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 59، وابن حبان في صحيحه 4/ 49، والحاكم في المستدرك 1/ 237، وأبو داود في السنن ك/ الطهارة ب/ ماء البحر وابن ماجة ك/ الطهارة وسننها ب/ الوضوء بماء البحر، ومالك في الموطأ 1/ 22، وقال في تلخيص الحبير 1/ 9- 10 وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي، وقال (الحافظ ابن حجر) : إن ابن عبد البر حكم بصحته لتلقي العلماء له بالقبول، ونقل (الحافظ أيضا) عن ابن منده ترجيحه صحته، قال: وصححه أيضا ابن المنذر وأبو محمد البغوي. وكذلك ذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي.
(5)
منهم: ابن الجوزي، الزمخشري، وأبو حيان، والقاسمي، والخازن، والنسفي.
(6)
لسان العرب.
الجوهري «1» والأصفهاني «2» .
المرجان: قال ابن الجوزي «3» : وحكى القاضي أبو يعلي أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان وروي عن الزجّاج «4» قوله: المرجان أبيض شديد البياض «5» .
وقال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر.
ونقل أبو حيان «6» عن بعضهم أن المرجان هو الحجر الأحمر «7» .
وقال القرطبي: وقيل المرجان عظام اللؤلؤ وكباره، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضا بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره وقاله الضحاك وقتادة «8» .
وقال الألوسي «9» : وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان، وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانيا فيهما «10» . أي
(1) الصحاح. والجوهري هو إمام اللغة أبو نصر إسماعيل بن حماد التركي صنف كتاب" الصحاح" وهو معجم في اللغة، توفي بنيسابور عام 393 هـ.
(2)
المفردات.
(3)
عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي التيمي البكري، محدث مؤرخ حافظ مفسر واعظ فقيه وله مؤلفات متعددة توفي ببغداد عام 597 هـ.
(4)
إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، نحوي لغوي مفسر، من كتبه" معاني القرآن" توفي عام 311 هـ.
(5)
زاد المسير.
(6)
محمد بن يوسف بن علي بن ابن حيان الغرناطي الجياني، نحوي مفسر له تاليف منها البحر المحيط في التفسير توفي بالقاهرة عام 745 هـ.
(7)
البحر المحيط.
(8)
الجامع لأحكام القرآن.
(9)
محمود بن عبد الله محمود الحسيني الألوسي مفسر محدث لغوي أشهر تاليفه" روح المعاني" في تفسير القرآن توفي ببغداد عام 1270 هـ.
(10)
روح المعاني.
أن اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار.
والحاصل أن المرجان نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة بيضاء وحمراء، ويكون كبيرا وصغيرا، وهو حجر يكون كالقضبان، وقد يكون صغيرا كاللؤلؤ أو الخرز، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينها يقتضي المغايرة.
هذا والمرجان لا يوجد إلا في البحار الملحة.
والآيات ترينا دقائق الأسرار التي كشف عنها اليوم علم البحار؛ فهي تصف اللقاء بين البحار الملحة ودليل ذلك ما يلي:
أولا: لقد أطلقت الآية لفظ البحرين بدون قيد، فدل ذلك على أن البحرين ملحان.
ثانيا: بينت الآيات في سورة الرحمن أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين، قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، أي يخرج من كل منهما.
فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس؛ فكلها (ملحة، زرقاء، ذات أمواج، وفيها الأسماك وغيرها) وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟، والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير؟.
والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين يختلف كل منهما عن الآخر، إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر لكانا بحرا واحدا، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلاف بينهما مع كونهما ملحين.
ومَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أي أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجا ومتنقلا في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح.
ومن يسمع هذه الآية فقط، يتصور أن امتزاجا واختلاطا كبيرا يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) أي ومع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزا يحجز بينهما يمنع كلّا منهما أن يطغى ويتجاوز حده.
وهذا ما شاهده الإنسان بعد ما تقدم في علومه وأجهزته، فقد وجد ماء ثالثا حاجزا بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما.
ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه؛ لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المنتقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)[الرحمن: 19- 20] .
ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين هو حاجز من قدرة الله لا يرى «1» .
وقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ؛ إذ أن وجود البرزخ (الحاجز) يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط
(1) منهم: ابن الجوزي، الزمخشري، وأبو حيان، والقاسمي، والخازن، والنسفي.