الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا مع ما بذله حملة الحديث رحمهم الله من جهود عظيمة لجمع الحديث النبوي وتصنيفه وتأليفه، وحفظه عن ظهر قلب، فقد كانوا يسافرون المسافات الطويلة ويتحملون مشاق السفر والاغتراب لجمع الحديث النبوي، والبحث عن الأسانيد العالية «1» ولقاء أكابر العلماء ويبذلون في ذلك أموالهم وأوقاتهم وجهودهم رخيصة في سبيل جمعه، ويسافر أحدهم الليالي والأيام لطلب الحديث الواحد «2» ويقيمون المجالس العلمية لسماع الحديث النبوي وإملائه واختبار حفاظه، وإقامة المدارس لمدارسته وتعليمه للأبناء، مع ما يبذلون من جهود في تدوينه وترتيبه وتبويبه والفحص عن العلل التي قد تكون في إسناده أو متنه، والتحري في ألفاظه وجمع رواياته، والبحث في أحوال رواته وسيرتهم للتوثق من صحة ما ينقلونه من الحديث، حتى وجد في الأمة من يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلب، وكل ذلك يعملونه بنفوس راضية مطمئنة مستبشرة بما تناله من الأجر من الله سبحانه على ذلك، لأنه يشكّل بالنسبة لهم دينهم الذي تقوم عليه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ممتثلين أمر ربهم عز وجل القائل سبحانه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] .
منهج نقد الرواية:
ولما ظهر بعد جيل الصحابة بعض من لا يوثق بروايته، قيض الله أئمة الحديث والجرح والتعديل الذين شيدوا علم الرجال والتاريخ والجرح والتعديل، الذي ضم آلاف الرواة مبينا حال كل راو من حيث أنه معروف أو مجهول، ومن حيث مدى
(1) الإسناد العالي هو الأقرب صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
فقد رحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه شهرا لطلب حديث واحد، كما ذكره البخاري في صحيحه ك/ العلم ب/ الخروج في طلب العلم. ورحل أحد التابعين من المدينة إلى دمشق للقاء أبي ذر لسماع حديث نبوي واحد، كما أخرجه ابن ماجة في المقدمة ب/ فضل العلماء والحث على طلب العلم.
حفظه وضبطه وإتقانه وشيوخه وتلاميذه وسنة ولادته وسنة موته، وهل بقي حفظه كما هو أم تغير في آخر عمره لكبر سنّه، أو لحادث أصابه، وما أشبه ذلك من مقاييس الجرح والتعديل، بل وصل الأمر إلى جمع روايات الثقات العدول ومقارنتها لمعرفة إن كان أحدهم قد وهم في لفظة أو جملة، إلى أن استقر الأمر عند علماء الحديث والسّنّة فوضعوا شروطا للحديث الصحيح المقبول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كون الحديث المروي:
[1]
منقولا بنقل العدول الضابطين «1» .
[2]
متصل الإسناد بأن يكون كل راو قد سمع الحديث من شيخه، فلا يكون منقطعا.
[3]
سالما من الشذوذ «2» .
[4]
ومن العلة القادحة «3» .
فاستبعد علماء الحديث رحمهم الله في تعريفهم الحديث الصحيح من كان مجروحا من الرواة بأي سبب من أسباب الجرح، والتي لخصت في عشرة أسباب:
[1]
الكذب.
[2]
الجهالة سواء كانت جهالة عين أو جهالة حال «4» .
(1) العدل: السالم من الفسق وخوارم المروءة. والضبط نوعان، ضبط الصدر: وهو كون الراوي متقنا ذاكرا لما يحفظه تماما، وضبط الكتاب: وهو كون الراوي يصون كتابه لديه من حين سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه.
(2)
الشذوذ: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه.
(3)
الحديث المعلّ: ما فيه علة خفية قادحة في إسناده أو في متنه والعلة: سبب غامض خفي قادح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه، ولا يعرف ذلك إلا أئمة هذا العلم، انظر نزهة النظر ص 83 وتدريب الراوي.
(4)
جهالة العين: أن لا يعرف من هو هذا الراوي، بألا يعرف إلا من رواية شخص واحد عنه ولم يوثقه معتبر وجهالة الحال: أن تجهل عدالة الراوي وإن كان شخصه معروفا.
[3]
التهمة بالكذب.
[4]
فحش الغلط.
[5]
الفسق.
[6]
سوء الحفظ.
[7]
البدعة.
[8]
الغفلة.
[9]
الوهم.
[10]
مخالفة الثقات «1» .
ومما يبين صحة منهج المحدثين رحمهم الله ومنهجيتهم العلمية الدقيقة: عدم قبولهم الخبر المكذوب الذي زعم واضعه أنه قصد بوضعه نصرة الدين الإسلامي أو الحث على بعض فضائل الأعمال، بل اعتبروا ذلك ضلالا من فاعله وابتداعا في الدين «2» .
وبهذا يظهر لنا تميز منهج النقد والتوثيق في الحديث النبوي، الذي يشترط الشروط الدقيقة في الرواية، حتى يطمئن المحدث بأن كل من في سند الرواية عدل أمين في روايته، ضابط دقيق في نقله، كأن عينه آلة تصوير، وأذنه آلة تسجيل، وذاكرته وكتابه شريط صاف سجلت عليه الكلمات، وبهذه الطريقة الأمينة الدقيقة نقلت إلينا السّنّة النبوية، وأخبار المعجزات، ووجدنا المعجزة تروى من عدة طرق لرواتها عن الذين حضروها وشاهدوها، فتتكامل تلك الروايات ويصدّق بعضها بعضا، وتلتقي مع ما ذكره القرآن أو أشار إليه.
وليس هناك شخص في التاريخ توفرت لأمته تلك الدوافع والحوافز وقواعد الضبط والتحري لنقل أقواله وأفعاله غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين الذي جعله الله حجة على العالمين وتكفل بحفظ بيناته ومعجزاته في سجلات صادقة موثوقة لتقوم بها الحجة على من يأتي بعده إلى قيام الساعة.
(1) نخبة الفكر للحافظ ابن حجر مع شرحها نزهة النظر ص 116- 117 تحقيق: علي الحلبي.
(2)
تدريب الراوي 1/ 283 ونزهة النظر ص 121- 122.