الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: مجيء وذهاب واضطراب (قلق) :
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب) وقال: مرج الخاتم في الأصبع: قلق. وقياس الباب كله منه (ومرجت أمانات القوم وعهودهم)«1»
: اضطربت واختلطت «2»
وجاء نفس المعنى في الصحاح للجوهري «3»
ولسان العرب «4»
وبذلك قال الزبيدي «5» والأصفهاني «6» .
(البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) :
البحر العذب «7» هو النهر، ووصفه القرآن الكريم بوصفين: عذب «8» ، وفرات «9» ومعناهما: أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف (فرات) ، وبهذا الوصف خرج ماء المصب الذي يمكن أن يقال إن فيه عذوبة، ولكن لا يمكن أن يوصف بأنه فرات.
وما كان من الماء ملحا أجاجا فهو ماء البحار، ووصفه القرآن الكريم بوصفين (ملح)«10» و (أجاج)«11» وأجاج معناه شديد الملوحة، وبهذا خرج ماء المصب لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة فلا ينطبق عليه وصف: ملح أجاج.
(1) رواه أحمد 2/ 162 في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(2)
معجم مقاييس اللغة: 5/ 316.
(3)
الصحاح: 1/ 341.
(4)
لسان العرب: 2/ 364- 365.
(5)
تاج العروس: 2/ 99.
(6)
المفردات: 465.
(7)
قال ابن جرير الطبري: " يعنى بالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار" 191، وقال أيضا: فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب، نفس المصدر، وقال النسفي:" وسمي الماءين الواسعين الكثيرين بحرين" مجموعة التفاسير: 4/ 451، وبمثله الزمخشري 3/ 96، والألوسي 9/ 33، والبقاعي 13/ 406.
(8)
عذب فرات: شديد العذوبة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة.
(9)
عذب فرات: شديد العذوبة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة.
(10)
ملح أجاج: شديد الملوحة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة.
(11)
ملح أجاج: شديد الملوحة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة.
وبهذه الأوصاف الأربعة تحددت حدود الكتل المائية الثلاث:
[1]
هذا عَذْبٌ فُراتٌ: ماء النهر.
[2]
وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ: ماء البحر.
[3]
وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً: البرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصب. فما هو الحجر المحجور؟.
الحجر والحجر: هو المنع «1» والتضييق.
يسمى العقل حجرا: لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي «2» . قال تعالى هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)[الفجر: 5] والسفيه يحجر عليه القاضي من التصرف في ماله فماله في حجر أو حجر والكسر أفصح «3» .
وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: " لقد تحجرت واسعا" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد «4» .
قال ابن منظور: (لقد تحجرت واسعا) أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك «5» . ونستطيع أن نفهم الحجر هنا: بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر.
(1) لسان العرب: 4/ 167، المفردات للأصفهاني:109.
(2)
معجم مقاييس اللغة 2/ 138 قال: " الحاء والجيم والراء أصل واحد، وهو المنع والإحاطة على الشيء
…
" ويقال حجر الحاكم على السفيه حجرا، وذلك منعه إياه من التصرف في ماله، والعقل يسمى حجرا لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي، قال تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) .
(3)
سنن النسائي 3/ 14، ح 1216- 1217، مسند أحمد 2: 239، 283.
(4)
انظر: سنن أبي داود 1/ 264، ح 380، تحفة الأحوذي 1/ 458، ح 147، سنن النسائي 3/ 14، ح 1216- 1217، مسند أحمد 2: 239، 283.
(5)
لسان العرب: 4/ 166.
ووصفت هذه المنطقة أيضا بأنها محجورة أي ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلا عن الأول أي أنها أيضا منطقة ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها فهي: حجر (حبس، محجر) على الكائنات التي فيها. محجورة على الكائنات الحية بخارجها.
ويكون المعنى عندئذ: وجعل بين البحر والنهر برزخا مائيّا هو: الحاجز المائي المحيط بماء المصب، وجعل الماء بين النهر والبحر حبسا على كائناته الحية ممنوعا عن الكائنات الحية خارجه الخاصة بالبحر والنهر.
ولم يتيسر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية؛ لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم لذلك تعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية:
فقال بعضهم في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان: 53] أي خلطهما فهما يلتقيان.
ويستند هذا القول إلى المعنى اللغوي للفظ: مَرَجَ.
وقررت طائفة أخرى من المفسرين أن معنى وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي (وهو الّذي أرسلهما في مجاريهما فلا يختلطان) .
قال ابن الجوزي: قال المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما فما يلتقيان، ولا يختلط الملح بالعذب، ولا العذب بالملح «1» .
وقال أبو السعود: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: أي خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان، من: مرج دابته: أخلاها «2» .
وبمثله قال البيضاوي «3» والشنقيطي في أحد قوليه «4» وطنطاوي جوهري
(1) زاد المسير: 6/ 90.
(2)
تفسير أبو السعود: 6/ 225.
(3)
مجموعة التفاسير: 4/ 451.
(4)
ج 24 ص 18.
في تفسير الجواهر. والذين قرروا هذا المعنى نظروا إلى قوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً.
وتقرير اختلاط الماءين يبدو متعارضا مع وجود البرزخ والحجر المحجور.
ولذلك رجح بعض المفسرين معنى الخلط، ورجح الآخرون معنى المنع.
وكذلك الحال في تفسير البرزخ، فقد قرر بعض المفسرين أن معنى بَرْزَخاً: حاجزا من الأرض «1» ، وبمثله قال أبو حيان «2» والرازي «3» والآلوسي «4» والشنقيطي «5» .
ولقد رد ابن جرير الطبري هذا القول، فقال:(لأن الله تعالى ذكره أخبر في أول الآية أنه مرج البحرين، والمرج هو الخلط في كلام العرب على ما بينت قبل فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما. وبين البرزخ فقال: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً: (حاجزا لا يراه أحد)«6» .
وقال ابن الجوزي عن هذا البرزخ: (مانع من قدرة الله لا يراه أحد)«7» .
وقال الزمخشري «8» : (حائلا من قدرته) كقوله تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد: 2] وبمثلهم، قال: القرطبي «9» والبقاعي «10» وأكثر المفسرين.
فتأمل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم.
فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضا أو يبسا (حاجز من الأرض)«11» .
(1) ابن كثير: 3/ 322.
(2)
البحر المحيط: 6/ 506.
(3)
التفسير الكبير: 24/ 100.
(4)
روح المعاني: 19/ 33.
(5)
أضواء البيان: 6/ 339.
(6)
جامع البيان: 19/ 25.
(7)
زاد المسير: 6/ 90.
(8)
الكشاف: 3/ 96.
(9)
جامع الأحكام: 13/ 58.
(10)
نظم الدرر: 13/ 406.
(11)
جامع البيان: 19/ 24- 25، روح المعاني: 19/ 34، التفسير الكبير: 24/ 101، زاد المسير: 6/ 96، ابن كثير: 4/ 424، 3/ 315.
ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله فقال: (هو حاجز لا يراه أحد) ، وهذا يبين لنا أن العلم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد عصره بقرون.
وكذلك الأمر في الحجر المحجور. فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية.
قال الزمخشري: (فإن قلت، حجرا محجورا ما معناه) قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول: وَحِجْراً مَحْجُوراً «1» وبمثل ما قال الزمخشري قال غيره من المفسرين كأبي حيان «2» والرازي «3» والآلوسي «4» ، والشنقيطي «5» مع أنه من المفسرين المتأخرين.
عند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان:
53] لم يكتف النص القرآني بقوله تعالى هذا عذب لأنه قد يختلط على القارئ تحديد المنطقة المقصودة فيدخل فيها منطقة المصب لأن فيها شيء من العذوبة فجاء القرآن بقيد وصف فيه البحر العذب المقصود بشدة العذوبة بلفظ أخرج منطقة المصب، وحصر المعنى في النهر الصافي بقوله تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ.
وكما أخرج النص القرآني منقطة المصب بزيادة فُراتٌ على الماء العذب، أخرج منطقة المصب مرة ثانية من جهة البحر الملح الشديد الملوحة بإضافة وصف
(1) الكشاف: 3/ 101.
(2)
البحر المحيط: 6/ 507.
(3)
التفسير الكبير: 24/ 100.
(4)
روح المعاني: 19/ 33.
(5)
أضواء البيان 6/ 439.
للبحر الملح بقوله: أُجاجٌ حتى لا يدعي شخص أن المصب فيه ملوحة وأنه داخل في المقصود فأخرج النص القرآني بزيادة أُجاجٌ ليدل المعنى على البحر الصافي فتحدد بذلك مناطق ثلاث: بحر صاف شديد الملوحة، وبحر عذب شديد العذوبة، ومنطقة المصب وهي مزيج بين العذوبة والملوحة.
فانظر كيف حارت العقول الكبيرة عدة قرون- بعد نزول القرآن الكريم- في فهم الدقائق والأسرار، وكيف جاء العلم مبينا لتلك الأسرار، وصدق الله القائل:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها [النمل: 93] .
وانظر كيف استقر المعنى بعد أن كان قلقا عند المفسرين.
قال تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)[الأنعام: 67] .
وقال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)[ص: 88] .
فمن أخبر النبي الأمي في الأمة الأمية في البيئة الصحراوية، حيث لا وجود لنهر ولا لمصبه عن هذه الأسرار الدقيقة المتعلقة بالكتل المائية المختلفة التركيب:
عذب فرات، ملح أجاج، وبينهما برزخا وحجرا محجورا؟!.
والحجر: هو المكان المحجور عن كائنات حية تعيش في هذه البيئات المائية الثلاث.
وكم استغرق الإنسان من الزمن؟، وكم استخدم من الآلات الدقيقة والأجهزة الحديثة حتى تمكن من الوصول إلى هذه الحقائق التي جرت على لسان النّبيّ الأمي قبل ألف وأربعمائة عام بأوجز تعبير وأوضح بيان؟.
نأمل في الفرق الدقيق الذي يميز التقاء بحرين ملحين عن حالة اللقاء بحر ملح وآخر عذب فسترى أنه في حالة البحرين الملحين لا وجود لمنطقة الحجر المحجور لأن الاختلاف في الضغط التناضحي (الاسموزي) بين البحرين متقارب
مما يسمح بانتقال الكائنات الحية بين البحرين أما في حالة اللقاء بين البحر الملح والبحر العذب (النهر) فإنه لابد من وجود منطقة المصب التي يكون الماء فيها مزيجا بين العذوبة والملوحة، مما ينشأ عنه فوارق كبيرة في درجات الضغط التناضحي الأسموزي الذي يجعل من منطقة المصب منطقة حجر (حبس) على ما فيها من الكائنات الحية فلا يسمح بخروجها لا إلى البحر ولا إلى النهر كما يجعل منطقة المصب أيضا منطقة محجورة على كائنات البحر والنهر فلا يسمح بدخول أي منها إلى منطقة المصب وتأمل كيف عبر القرآن الكريم عن هذه الحقائق بأوضح وأوجز وأجمل بيان فقال في وصف اللقاء بين البحرين الملحين:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) وقال في وصف اللقاء بين البحر الملح والبحر العذب: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)[الفرقان: 53] .
فمن أين جاء هذا العلم لمحمد عليه الصلاة والسلام إن لم يكن من عند الذي أحاط بكل شيء علما؟!!.