الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البينة العلمية في القرآن
مقدّمة
لقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة على اختلاف عصورهم وثقافاتهم ومداركهم، وأيده ببينات متنوعة تتناسب مع جميع من أرسل إليهم إلى يوم القيامة، فمعجزة الفصاحة في كتاب الله أخضعت فصحاء العرب، ومعجزة البشارات أقامت الدليل لأهل الكتاب على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعجزات الخوارق أرغمت الكافرين المعاندين وأوضحت لهم حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الساطعة، ومعجزة الإخبار بالغيب تجلت ولا تزال تتجلى وتتحقق على مر القرون والعصور.
فهيا لنرى بعض الأبحاث من معجزة وعد بها القرآن وتجلت في عصرنا وشاهد حقائقها أهل الاختصاصات الكونية العلمية الدقيقة في عصرنا، كعلم الفلك وعلوم الأرض والأرصاد والنبات والحيوان وعلوم الطب المختلفة وعلوم البحار وغيرها من العلوم الكونية، ليكون ذلك دليلا لكل عاقل في عصرنا أن هذا القرآن من عند الله، وأن العلامة الإلهية الشاهدة بأنه من الله هي العلم الذي تحمله الآيات وتجليه الاكتشافات العلمية الدقيقة بعد رحلة طويلة من البحث والدراسة، وباستخدام أدق الآلالات التي لم تصنع إلا في عصر الثورة الصناعية الحاضرة، ولقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الإعجاز ووعد بإظهاره في قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)[فصلت: 53] .
إن البينة (المعجزة) القرآنية الموجودة بين أيدينا والباقية بعدنا إلى ما شاء الله
تحمل الرسالة الإلهية إلى البشر، كما تحمل الدليل على صدق هذه الرسالة؛ فهي الشاهد والمشهود عليه كما قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17]«1» .
والقرآن معجز بلفظه ومعناه، لأنه من عند الله، فألفاظه إلهية ومعانية وعلومه إلهية، وكل منها يدل على المصدر الذي جاء منه هذا القرآن.
وهو بذلك أكبر دليل وشهادة بين أيدينا. قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] فهو رسالة ومعجزة لمن نزل عليهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.
وقد جعل الله العلم الإلهي الذي تحمله آيات القرآن هو البينة الشاهدة على كون هذا القرآن من عند الله كما قال تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
(166)
[النساء: 166] أي أنزله وفيه علمه «2» .
ففي هذه الآية بيان لطبيعة المعجزة العلمية، التي نزلت ردا على إنكار الكافرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تبقى بين يدي الناس، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي.
قال الخازن عند تفسير هذه الآية: " لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة،
(1) معنى الآية: أفمن كان على بينة من ربه كمن ليس كذلك، والبينة البرهان الذي يدل على الحق، والمعنى ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله عز وجل والشاهد هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات النبوية. فتح القدير للشوكاني بتصرف وبنحوه قال الشنقيطي فيما نقله عنه تلميذه القادري في تفسير سورة هود، وفي الشاهد أقوال أخرى انظرها مجموعة في زاد المسير لابن الجوزي.
(2)
انظر سبب النزول: ابن الجوزي، الطبري، ابن كثير، تفسير الجلالين.
بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك" «1» .
وقال ابن كثير- رحمه الله:
" فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم.. ولهذا قال: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ: أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضي والمستقبل"«2» .
وقال أبو العباس ابن تيمية «3» : فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه «4» ، فما فيه من الخبر، هو خبر عن علم الله، ليس خبرا عمن دونه، وهذا كقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)[هود: 14] .
وكل آية من كتاب الله تحمل علما إلهيا يعرفه البشر عند ارتقائهم بأسباب العلوم والمعارف في ذلك الميدان الذي تتحدث عنه الآية القرآنية.
والقرآن مليء بالآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون، وحديثه عن الكون هو حديث من يعلم أسراره ودقائقه، مع أن البشرية كلها في وقت النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تعلم معظم تلك الأسرار، وكان يغلب على تفكيرها الأسطورة والخرافة.
لذلك رأينا الجراح الفرنسي العالمي الشهير الدكتور: موريس بوكاي يتقدم إلى البشرية بأطروحة قال فيها: لقد قامت الأدلة على أن القرآن الذي نقرأه اليوم،
(1) الخازن في مجموعة من التفاسير.
(2)
تفسير ابن كثير.
(3)
الفتاوى: 14/ 196.
(4)
وإلى هذا المعنى ذهب كثير من المفسرين: ابن الجوزي، الزمخشري، أبو حيان، الآلوسي، الشوكاني، البيضاوي، والنسفي، والخازن، الجلالان (جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي) .
هو نفس القرآن الذي قرأه النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الصحابة. وما دام أن القرآن قد أفاض في الحديث عن الكون وأسراره، فإننا نستطيع بهذه الحقيقة أن نعرف منها إذا كان القرآن من عند الله باختبار يعرفه كل عاقل في عصرنا.
فإذا كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مملوء بالوصف لمظاهر الكون:
الأرض، السماء، الجبال، البحار، الأنهار، الشمس، القمر، النبات، الحيوان، الإنسان، الرياح، الأمطار.. وغير ذلك، فإن حديثه عن هذه المظاهر الكونية سيعكس لنا علم محمد صلى الله عليه وسلم وثقافته عن المخلوقات وأسرارها، كما يعكس لنا علم مجتمعه وبيئته، وعلوم عصره في ذلك المجال، وهي علوم غلبت عليها السذاجة والخرافة والأسطورة، وسنجد القرآن عندئذ مملوآ بالخرافة والأسطورة والخبر الساذج عند حديثه عن الكون وأسراره، كما هو شأن كل الكتب التي دونت في تلك الأزمنة بما فيها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى (التوراة والإنجيل) التي طرأ عليها التحريف، هذا إذا كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان القرآن من عند الله فسنراه في حديثه عن المخلوقات وأسرارها يسبق مقررات العلوم الحديثة، وسنرى الاكتشافات العلمية تلهث وراءه فتقرر ما فيه من حقائق وتؤكد ما فيه من مقررات في شتى المجالات.
ولقد قضى الدكتور موريس بوكاي لتحقيق هذا الاختبار عشر سنوات يتعلم فيها القرآن واللغة العربية، ويقارن بين القرآن وبين الكشوف العلمية الحديثة، ثم ألف كتابا سمّاه:" دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة".
وقد أثبت فيه سلامة القرآن من التحريف، ودخول التحريف على التوراة والإنجيل وأثبت تعارض التوراة والإنجيل مع العلوم الحديثة؛ كما أثبت سبق القرآن لهذه العلوم وبين أن هذا مما اشتمل عليه وعد الله القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)[فصلت: 53] .
يقول د. بوكاي: " إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل بل هو يظهر أيضا- لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم- طابعه الخاص وهو التوافق مع المعطيات العلمية الحديثة. بل أكثر من ذلك، وكما أثبتنا، يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمد صلى الله عليه وسلم قد استطاع أن يؤلفها، وعلى هذا فالمعارف الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن «1» .
فها هو ذا الحق يتبين كما وعد الله، وها هي ذي المعاني التفصيلية التي تضمنتها الآيات القرآنية عن الحقائق الكونية ترى وتتجلى فتعلم، كما قال تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)[ص: 87- 88] .
قال الفراء «2» في تفسير الحين الذي ذكرته الآية أنه: " بعد الموت وقبله، أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول [بعد حين] أي في المستأنف"«3» . وذهب السدي «4» الكبير إلى هذا المعنى «5» .
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة/ موريس بوكاي ص 285- 286/ دار المعارف 1977.
(2)
العلامة صاحب التصانيف أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسدي مولاهم الكوفي النحوي صاحب الكسائي، له كتاب" معاني القرآن" توفي عام 207 هـ.
(3)
تفسير القرطبي.
(4)
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الحجازي ثم الكوفي إمام مفسر من التابعين توفي عام 127 هـ.
(5)
تفسير أبي حيان.