الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو في غار حراء «1» .
الذين أسلموا بسبب البشارات:
وأما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فقد شاهدنا سرعة إقبال أهل المدينة على الإسلام يحثهم على ذلك ما كانوا يسمعونه من اليهود عن مقدمه، وما كانوا يستفتحون به على أعدائهم كما بينا، بينما كان أهل مكة يصدون عنه ويحاربونه.
وكان عبد الله بن سلام ممن أسلم أيضا على هذه البشارات وهو أعلم أحبار اليهود القاطنين في المدينة المنورة باعتراف اليهود أنفسهم، وهو ممن قال الله تعالى فيه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)[الأحقاف: 10] ، وكان عبد الله بن سلام قد بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو أمه؟، قال: أخبرني به جبريل آنفا. فقال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد» ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عنى قبل أن يعلموا باسلامي. فجاءت اليهود؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا مثل
(1) البخاري ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا يحيى بن بكير.
ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه. قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله «1» .
وكان زيد بن سعنة ممن أسلم على هذه البشارات أيضا، وهو من علماء اليهود حيث تعرف على صفات النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما «2» .
(1) أخرجه البخاري ك/ مناقب الأنصار ب/ حدثني حامد بن عمر.
(2)
أخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد بن سعنة قال زيد ابن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلما. قال زيد بن سعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الحجرات- ومعه علي بن أبي طالب- فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدا. وقد أصابهم سنة وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله- أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا؛ فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء يغيثهم به فعلت. فنظر إلى رجل إلى جنبه- أراه عليا- فقال: يا رسول الله ما بقي منه شيء. قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرا معلوما في حائط بني فلان إلى أجل معلوم، إلى أجل كذا وكذا. قال:" لا تسم حائط بني فلان" قلت: نعم، فبايعني، فأطلقت همياني فاعطيته ثمانين مثقالا من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاه الرجل وقال:" اعدل عليهم وأغثهم". قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته، فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت له: يا محمد، ألا تقضيني حقي؟ فوالله، ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلا، ولقد كان بمخالطتكم علم. ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟، فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى في سكون وتؤده فقال:" يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه. اذهب به يا عمر، فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته". قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟! قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك. قال: قلت: وتعرفني يا عمر؟! قال: لا قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت، وقلت له ما قلت؟! قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين، لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده-
وممن أسلم على ذلك أيضا من اليهود كعب الأحبار بعد معرفته بتلك البشارات، وقد سأله عبد الله بن عباس كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة ويهاجر إلى طابة ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا صخاب بالأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون يحمدون الله في كل سراء وضراء ويكبرون الله على كل نجد، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويّهم في مساجدهم كدوي النحل، يستمع مناديهم في جو السماء" «1» .
وكان ممن أسلم- أيضا- على هذه البشارات جماعة من أهل الكتاب من نصارى الحبشة، ذكرهم الله- سبحانه- بقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54)[القصص: 52- 54] .
وقد ورد في الروايات التاريخية أن وفدا من نصارى الحبشة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن الدين فأجابهم وعرفوا من أوصافه ما في كتبهم فأسلموا فكان ذلك مثار حنق وأذية المشركين لكن هذا الوفد أعرض عنهم كما قال تعالى:
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)[القصص: 55] .
شدة الجهل عليه إلا حلما. وقد اختبرتهما، فأشهدك- يا عمر- أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وأشهدك أن شطر مالي- فإني أكثرها مالا- صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال عمر: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وآمن به وصدقه وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة؛ ثم توفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر. رحم الله زيدا. قال الهيثمي 8/ 240: رواه الطبراني ورجاله ثقات؛ وروى ابن ماجه منه طرفا.
(1)
سنن الدارمي ج 1/ 17.
وكان ممن أسلم على البشارات في الكتب السابقة سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي لقي أحد رهبان النصارى فذكر له علامات النبي المنتظر، وصفة المدينة ذات النخل التي سيهاجر إليها النبي وهيأ الله لسلمان الفارسي أسبابا ساقته إلى المدينة المنورة فانطبقت عليها أوصاف المدينة التي ذكرها له الراهب فمكث فيها حتى جاءها النبي مهاجرا فتعرف على صفاته التي ذكرت له وأسلم بعد أن رأى التطابق بين الوصف والحقيقة.
وكان ممن صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ورقة بن نوفل القرشي الذي كان على الديانة النصرانية، فعند ما قصّ له النبي صلى الله عليه وسلم ما جاءه من الوحي بواسطة الملك جبريل قال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى
…
، ثم تمنى أن يطول به العمر لنصر النبي صلى الله عليه وسلم حين يعاديه الناس «1» .
وكان ممن صدق النبي صلى الله عليه وسلم من النصارى ملك الحبشة، حيث سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة دين الإسلام المطابق لما جاء به عيسى عليه السلام «2» ، ولذلك دخل في الإسلام، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين وفاته.
وممن أسلم من النصارى أيضا عديّ بن حاتم الطائي عندما سمع نقد بعض الأمور في ديانته من النبي صلى الله عليه وسلم «3» .
وممن أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يدخل في الإسلام هرقل ملك النصارى الروم الذي قال لأبي سفيان بن حرب (بعد أن سأله عن أحوال وصفات محمد صلى الله عليه وسلم :
قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه
(1) البخاري ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا يحيى بن بكير.
(2)
انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/ 374 دار إحياء التراث العربي.
(3)
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت بلى. قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل. انظر السيرة النبوية لابن كثير 4/ 123 دار إحياء التراث العربي.
لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه «1» . ومثله المقوقس عظيم القبط في مصر الذي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وأهدى له أيضا بغلة يركبها.
وكذلك دخل في الإسلام على أساس هذه البشارات عدد كبير من الأحبار والرهبان وغيرهم من أهل الديانات عبر التاريخ وإلى يومنا هذا.
ومما يؤسف له أن تلك البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم قد تعرضت للتحريف والاخفاء من قبل بعض علماء اليهودية والنصرانية عبر التاريخ، وما زالت تلك التغيرات تطرأ على الكتب إلى يومنا هذا.
ويوجد كثير من البشارات التي تعرضت للإخفاء والتحريف في النسخ التي كان يحتج بها علماء المسلمين عبر التاريخ على اليهود والنصارى، كما كان يحتج بها من أسلم منهم على قومه، كما سيأتي بيانه.
وبالرغم من هذا التحريف فقد أبقى الله في هذه الكتب من نور البشارات بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم ما يقيم الحجة في عصرنا على أهل هذه الكتب، ويثبت إيمان المؤمنين، فهيا لنرى ماذا بقي من نور هذه البشارات التي اشتملت عليها الكتب السابقة الموجودة الآن بين يدي أتباعها، وما قالته هذه البشارات عن النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا أبو اليمان.