الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان أحد حجّاب الخليفة.
عُمّر حتّى رحل إِليْهِ النّاس، وكان ذا طريقةٍ جميلة وخصالٍ حميدة. وهو آخر من روى عنه الحمّاميّ. وسمع عَبْد المُلْك بْن بِشْران أيضًا.
روى عَنْهُ: ابنه أبو طاهر محمد، ومحمد بْن محمد السّنْجيّ، والسّلَفيّ، وخطيب المَوْصِل، وأبو بَكْر بْن الَّنُّقور، وخلق كثير.
وآخر مِن حدَّث عَنْهُ أبو السّعادات القزّاز.
وقال أبو بَكْر السّمعانيّ بعد أن ذكر مِن لحِق مِن أصحاب ابن بِشْران فسمّى ابن العلّاف، وقال: هُوَ أجلّ أصحابه عندي. سمعته يَقُولُ: ولدت في المحرّم سنة ستّ وأربعمائة، وسمعتُ مِن أَبِي الحُسَيْن بْن بِشْران.
وقال: وعظ والدي النّاس سبعين سنة.
تُوُفّي في الثّالث والعشرين مِن المحرَّم سنة خمسٍ. وكمّل تسعًا وتسعين سنة [1] .
-
حرف الميم
-
114-
المبارك بْن سعيد [2] .
أبو الحسن الأسديّ، والبغدادجي، التّاجر، ويُعرف بابن الخشّاب.
سمع: القُضاعيّ، وأبا بَكْر الخطيب.
ودخل الأندلس تاجرًا، فحدَّث «بتاريخ بغداد» .
سَمِعَ منه: أبو عليّ الغسّاني، والكبار.
وسمع هُوَ مِن أَبِي مروان بْن سِراج.
قَالَ ابن بَشْكُوال: كَانَ مِن أهل الثّقة والثّروة. رجع إلى بغداد.
وقال ابن السّمعانيّ: كَانَ أحد الشُّهُود المُعدّلين.
مات في ذي القعدة.
[1] وقال ابن الجوزي: وكان سماعه صحيحا ومُتِّع بسمْعه وبَصَره وجوارحه إلى أنّ تُوُفّي في هذه السنة عن ثمان وتسعين سنة. (المنتظم) .
[2]
انظر عن (المبارك بن سعيد) في: الصلة لابن بشكوال 2/ 634 رقم 1391.
115-
المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب [1] .
الأستاذ، إمام النَّحْو، أبو الكرم ابن الدّقّاق.
ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة [2] ، ولازم ابن برهان الأَسَديّ.
وروى عَنْ: الجوهري، وابن المسلمة، والقاضي أبي يَعْلَى، وغيره.
أخذ عَنْهُ: ابن ناصر، والسّلَفيّ، وابن السّجْزيّ.
وصنَّف، وتصدَّر، وبرع.
تُوُفّي في ذي القِعْدة.
حطّ عليه ابن ناصر وكذّبه [3] .
[1] انظر عن (المبارك بن فاخر) في: معجم الأدباء 17/ 54- 56، والمغني في الضعفاء 2/ 540 رقم 5163، وميزان الاعتدال 3/ 431 رقم 7047، ولسان الميزان 5/ 11 رقم 37، وبغية الوعاة 2/ 272، 273 رقم 1963.
[2]
وقع في (لسان الميزان) : سنة إحدى وثلاثين ومائة! وهو خطأ.
[3]
وقال أبو منصور بْن خَيْرُون: كانوا يقولون إنه كذّاب، واسم جدّه محمد بن يعقوب.
وذكر ابن النجار أن ابن ناصر كتب على بيت أبي الكرم بتكذيبه في معظم ما ادّعى سماعه.
وقال ياقوت: وجدت مولده كما تقدّم بخط ابن السمعاني، فإن صحّ لا يصحّ أخذه عن ابن برهان، فإنه مات سنة ست وخمسين، بل إن كان سمع منه شيئا جاز.
قال: ثم رأيت بخطّه أيضا في «المذيّل» ملحقا: قرأت بخط والدي: سألت المبارك عن مولده، فقال: سنة إحدى وثلاثين، فإن صحت هذه الرواية صحّ أخذه عن ابن برهان. وسمع الحديث من القاضي أبي الطيب الطبري، وغيره، وجرّحه الناس ورموه بالكذب والتزوير وادّعاء سماع ما لم يسمعه والتساهل إذا أخذ خطّه على كتاب، ويقصد بذلك اجتلاب الطلاب، لأن النفوس تميل إلى هذا الباب.
صنّف «المعلّم في النحو» ، و «شرح خطبة أدب الكاتب» . وكان يقوم لطلبته يكرمهم، وكان الخطيب التبريزي ينكر ذلك عليه، وينشد:
قصّر بالعلم وأزرى به
…
من قام في الدرس لأصحابه
وقال ياقوت: ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، ومات في ذي القعدة سنة خمسين وخمسمائة! (17/ 54) وجاء في (بغية الوعاة 2/ 273) : سنة خمسمائة! والاثنان غلط.
ومن شعره:
لا تغترر بأخي الوداد وإن صفا
…
وأراك منه البشر والإقبالا
أفلا ترى المرآة عند صقالها
…
تبدي لناظرها ريا ومحالا
ويسرّه منها الصفاء وقد يرى
…
فيها بعينيه اليمين شمالا
وكذا الصديق يسرّ بين ضلوعه
…
غشّا ينافي القول والأفعالا
116-
محمد بْن أحمد بْن أَبِي النَّضْر بْن موسى بن سعيد بن منذر بن صاحب [1] .
البَلَديّ، أبو بَكْر النَّسَفيّ.
محدّث ما وراء النَّهر.
قد ذكرناه في السّنة الماضية، والأصحّ وفاته في هذه، فينقل إلى هنا.
117-
محمد بْن حَيْدَرة بْن مفوَّز بْن أَحْمَد بْن مفوَّز [2] .
أبو بَكْر المَعَافِريّ، الشّاطبيّ.
روى عَنْ: عمّه طاهر، وأبي عليّ الغسّانيّ وأكثر عَنْهُمَا.
وأخذ أيضًا عَنْ: أبي مروان بْن سراج، ومحمد بْن فرج الطلّاع.
وأجاز له أبو عمر بن الحذاء، وأبو الوليد الباجي.
وكان حافظا للحديث وعلله، عارفا برجاله، متقنا، ضابطا، عارفا، بالأدب، والشعر، والمعاني، كامل العناية بذلك [3] .
أسمع الناس بقرطبة، وخلف أبا علي شيخه في مجلسه، و [أقرأ][4] على ابن حزم في جزء، وتصدر وعلم إلى أن توفّي سنة خمس وخمسمائة.
وكان مولده سنة ثلاثٍ وستّين، رحمه الله.
118-
محمد بْن عبد الرَّحْمَن بْن سَعِيد [5] .
أبو عَبْد الله بْن المحتسب القُرْطُبيّ، المقرئ.
أخذ عَنْ: أَبِي محمد بْن أَبِي شعيب، وأبي مروان بن سراج. وكان نحويا، لغويا، علامة.
[1] تقدّم في السنة السابقة، برقم (92) .
[2]
انظر عن (محمد بن حيدرة) في: الغنية للقاضي عياض 81، 107، 108، والصلة لابن بشكوال 2/ 567، 568 رقم 2249.
[3]
وقال القاضي عياض: حدّثني الوزير أبو العلاء ابن زهر أنّ الجيّاني حضّه على صحبة ابن المرخي أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي، وتصحيح الحديث عليه وعلى أبي بكر بن مفوّز. وقال لي: ليس من هنا إلى مكة في هذا الباب مثلهما. (الغنية 108) .
[4]
بياض في الأصل، والمستدرك يقتضيه السياق.
[5]
انظر عن (محمد بن عبد الرحمن) في: الغنية للقاضي عياض 89، 90 رقم 24، والصلة لابن بشكوال 2/ 568 رقم 1250.
أخذ الناس عنه [1] .
119-
مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم [2] .
أَبُو سعد الإصبهاني المديني، يعرف بسرفرتج الثاني.
كان من أجلاء الكتبة.
روى عَنْ: أَبِي نُعَيْم الحافظ.
وحدَّث عَنْهُ جماعة، منهم أبو موسى المدينيّ، وهو من كبار شيوخه.
توفي في آخر يوم من السنة.
وقد حدَّث ببغداد.
وروى عَنْهُ: أبو الفتح بْن البَطّيّ، والسّلَفيّ.
وقد خدم بالشّام.
120-
محمد بْن عليّ بْن محمد [3] .
شيخ الحنابلة، أبو الفتح الحلوانيّ، الزّاهد.
تُوُفّي يوم الأضحي [4] ، وشيّعه خلائق.
صحِب القاضي أبا يَعْلَى قليلًا، ثمّ بَرَع عَلَى الشّريف أَبِي جعفر.
وأفتى، ودرّس، وتعبّد، وتألّه [5] .
[1] وقال القاضي عياض: أقرأ بجامع قرطبة زمانا، وأخذ عنه الناس النحو والقراءات والأدب، وخرج عن قرطبة ثم عاد إليها. سمعت عليه بقراءة غيري بعض شيء مما عنده. (الغنية 89) .
[2]
لم أجده.
[3]
انظر عن (محمد بن علي الحلواني) في: طبقات الحنابلة 2/ 257 رقم 698، والمنتظم 9/ 170 رقم 278، (17/ 127 رقم 3800) ، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 106 رقم 50، والأعلام 7/ 164، ومعجم المؤلفين 11/ 50.
[4]
وكان مولده سنة 439 هـ-.
[5]
وقال ابن شافع: كان ذا زهادة وعبادة.
وقال السلفي وروى عنه في مشيخته: كان من فقهاء الحنابلة ببغداد، وكان مشهورا بالورع الثخين، والدين المتين
…
له كتاب «كفاية المبتدي» في الفقه، مجلّدة، ومصنّف آخر في الفقه أكبر منه، ومصنّف في أصول الفقه في مجلّدين، وله «مختصر العبادات» . (ذيل الطبقات 1/ 106) .
121-
محمد بْن عيسى [1] بْن حسن [2] .
القاضي أبو عَبْد الله التّميميّ، الفقيه، المالكيّ، السّبْتيّ.
أخذ عَنْ: أَبِي محمد المَسِيليّ، ولزمه مدّة.
وتفقَّه أيضًا عَلَى أَبِي عَبْد الله بْن العجوز.
وسمع بالمَريّة «صحيح الْبُخَارِيّ» عَلَى ابن المرابط.
ورحل إلى قُرْطُبَة، فأخذ عَنْ: عَبْد المُلْك بْن سِراج، وأبي عليّ الغسّانيّ، ومحمد بْن فرج.
وكان حسن السّمت، وافر العقل، ميلح المَلْبَس.
تفقَّه بِهِ أهل سَبْتَة، وكان يُسمّى: الفقيه العامل.
تفقَّه عَليْهِ: أبو محمد بْن شَبُونَة، والقاضي عِياض، وأبو بَكْر بْن صلاح.
ورحل إليه النّاس مِن النُواحي، وبَعُد صِيته، واشتهر اسمُه، ونَجَب مِن أصحابه خلْق.
وكان خيّرًا، رقيق القلب، سريع الدّمْعَة، مُؤْثرًا للطَّلَبَة.
بنى جامع سَبْتَة، وعَزَل نفسه مِن القضاء بأخرة. ثمّ ولّوه قضاء الجماعة بفاس، فلم تُعجبه الغُربة، فرجع، وتُوُفّي بسَبْتَة في جُمَادَى الآخرة.
قاله تلميذه أبو عَبْد الله محمد بْن حمادة الفقيه، وبالغ في تعظيمه حتّى قَالَ: كَانَ إمام المغرب في وقته. ولم يكن في قُطْر مِن الأقطار منذ يحيى بْن يحيى الأندلسيّ مِن حَمَل النّاس عَنْهُ أكثر منه، ولا أكثر نجابةً مِن أصحابه.
وقال عياض: [3] مولده سنة ثمان [4] وعشرين وأربعمائة [5] .
[1] انظر عن (محمد بن عيسى) في: ترتيب المدارك للقاضي عياض 4/ 584، والغنية، له 27- 46 رقم 1، والصلة لابن بشكوال 2/ 605 رقم 1327، وجذوة الاقتباس 252 رقم 255 و 253، 254 رقم 257، ومعجم شيوخ الصدفي 96 رقم 82، وأزهار الرياض 3/ 159، وسير أعلام النبلاء 19/ 266 رقم 166، وشجرة النور الزكية 124 رقم 358.
[2]
في الصلة، وترتيب المدارك، والغنية:«حسين» .
[3]
في ترتيب المدارك 4/ 584، ومثله ابن بشكوال في (الصلة 2/ 605) .
[4]
وفي (الغنية 29) للقاضي عياض: مولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
[5]
وقال ابن بشكوال: توفي سنة ثلاث أو أربع وخمسمائة. ثم كتب إليّ القاضي أبو الفضل يذكر
_________
[ () ] أنه توفي في صبيحة يوم السبت لسبع بقين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة. (الصلة 2/ 605) .
وقال القاضي عياض:
الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى بن حسين التميمي: أجلّ شيوخ بلدنا سبتة، رحمه الله، ومقدّم فقهائهم، مولده بمدينة فاس، انتقل به أبوه إلى سبتة وهو شاب، وأصله من تاهرت، وجدّه هو المنتقل إلى فاس، فطلب العلم بسبتة على شيوخنا أبي محمد المسيلي، وغيره. ورحل إلى الأندلس ثلاث رحل، إحداها في شبيبته إلى إشبيلية، فقرأ بها الأدب على إلى بكر ابن القصيرة، والثاني إلى المريّة سنة ثمانين وأربعمائة، فأخذ عن ابن المرابط، وأجازه الدلائي، والثالثة سنة ثمان وثمانين إلى قرطبة، فسمع الجياني، وابن الطلّاع، وأبا مروان ابن سراج، والعبسيّ. وأقام بها نحو عامين، واتّسع في الأخذ، وتقلّد الشورى أخريات أيام البرغواطي قبل رحلته، فاستمرّ رأسا في المفتين إلى أخريات أيامه، وسمع أيضا من ابن سعدون، وأبي القاسم ابن الباجي، وغيرهما.
وكان كثير الكتب، حافظا، عارفا بالفقه، مليح الخط والكتابة والمحاضرة، من أعقل أهل زمانه وأفضلهم وأسمتهم، تامّ الفضل، كامل المروءة، بعيد الصيت عند الخاصّة، والعامّة، عظيم القدر. لازمته كثيرا للمناظرة في «المدوّنة» و «الموطّأ» ، وسماع المصنّفات، فقرأت وسمعت عليه بقراءة غيري كثيرا، وأجازني جميع روايته.
وولي القضاء بسبتة نحو ست سنين، واستعفى من ذلك أخيرا فأعفي، وذلك في محرّم سنة ست وتسعين، ثم التزم القضاء بمدينة فاس بعد أن سجن على إبايته من ذلك، وذلك سنة ثلاث وخمسمائة، فنهض إليها، ثم انصرف زائرا إلى سبتة، وتلدّد بها رجاء تخلّصه من الخطّة، فتوفي بها صبيحة يوم السبت لتسع بقين لجمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة.
مولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
وكان من أحسن القضاة وأنزههم وأجرأهم على الطريقة القويمة، فمضى فقيرا حميدا، واحتفل الناس لجنازته، وولعت العامّة بنعشه مسحا بالأكفّ، ولمسا بأطراف الثياب تبرّكا به، رحمة الله عليه.
فمما سمعت عليه وقرأت، ومنه ما فاتني بعضه، فأجازنيه:
- موطّأ الإمام مالك بن أنس، رواية يحيى بن يحيى الليثي.. والمسند الصحيح من آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للبخاريّ، والمسند الصحيح المختصر من السنن لمسلم، ومصنّف السنن لأبي داود، وشرح غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، وإصلاح الغلط لابن قتيبة، وغريب الحديث لأبي سليمان البستي الخطابي، وعلوم الحديث للحاكم النيسابورىّ، والطبقات لمسلم، والضعفاء، والمتروكين للنسائي، والمدوّنة، والملخّص لمسند الموطّأ لأبي الحسن القابسي، والتقصّي لمسند الموطّأ لابن عبد البرّ، ومسند الموطّأ لأبي القاسم الجوهري، والرسالة لأبي محمد ابن أبي زيد.
(باختصار عن الغنية 27- 44) .
122-
مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد [1] .
الإمام زين الدّين أبو حَامد الغزّاليّ، الطّوسيّ، الفقيه الشّافعيّ، حُجّة الإسلام.
قرأ قطعة مِن الفقه بطُوس عَلَى أحمد الرّاذكَانيّ [2] ، ثمّ قِدم نيسابور في طائفة مِن طَلَبة الفقه، فجدّ واجتهد، ولزِم إمام الحرمين أبا المعالي حتّى تخرَّج
[1] انظر عن (محمد بن محمد الغزالي) في: تاريخ حلب للعظيميّ (بتحقيق زعرور) 365، و (تحقيق سويم) 31، وتاريخ الفارقيّ 278، وتبيين كذب المفتري 291- 306، والمنتظم 9/ 168- 170 رقم 277 (17/ 124- 127 رقم 3799) ، والمنتخب من السياق 73- 75 رقم 161، ومعجم البلدان 3/ 541، واللباب 2/ 379، والكامل في التاريخ 10/ 491، ووفيات الأعيان 4/ 216- 219، وآثار البلاد 330، 353، 377، 405، 407، 413، 417، ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي ج 8 ق 1/ 39، 40، وتاريخ الزمان 133، والروض المعطار 400، وطبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح 1/ 249- 264 رقم 70، والمختصر لأبي الفداء 2/ 225، وسير أعلام النبلاء 19/ 322- 346 رقم 204، والإعلام بوفيات الأعلام 208، والمعين في طبقات المحدّثين 149 رقم 1611، ودول الإسلام 2/ 34، والعبر 4/ 10، وتاريخ ابن الوردي 2/ 21، ومرآة الجنان 3/ 177- 192، والوافي بالوفيات 1/ 274- 277 رقم 176، وعيون التواريخ (مخطوط) 13/ 262- 267، (والمطبوع) 12/ 3- 7، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6/ 191- 289، وطبقات الشافعية للإسنويّ 2/ 242- 245، والبداية والنهاية 12/ 173، 174، وطبقات فقهاء الشافعية لابن كثير (مخطوط) 105 ب- 107 أ، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد 37، 38، وطبقات الأولياء لابن الملقّن 103، 104، والوفيات لابن قنفذ 266، 267، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 300، 301 رقم 261، والمقفّى الكبير للمقريزي 7/ 76- 84 رقم 3157، والنجوم الزاهرة 5/ 203، وتاريخ الخلفاء 431، والأنس الجليل 1/ 265، ومفتاح السعادة 2/ 332- 336 و 341- 343 و 347- 350 و 560- 562، وطبقات الشافعية لابن هداية الله 192- 195، وكشف الظنون 12، 23، 24، 36، 82، 84، 97، 104، وشذرات الذهب 4/ 10- 13، وإتحاف السادة المتقين 1/ 6- 53، وروضات الجنات 180- 185، وإيضاح المكنون 1/ 11، 171، 298، 300، 595 و 2/ 43، 103، 370، 536، 722، وهدية العارفين 2/ 79- 81، وديوان الإسلام 3/ 376- 378 رقم 1557، وأبجد العلوم 3/ 110، والتاج المكلّل للقنوجي 388، 389، والمجدّدون في الإسلام 181- 184، وكنوز الأجداد 272- 281، والفتح المبين 2/ 8- 10، وآداب اللغة العربية 3/ 97، والأعلام 7/ 22، ومعجم المؤلفين 11/ 266- 269.
[2]
الراذكاني: براء مهملة وذال معجمة مفتوحة، بينهما ألف، ثم كاف وألف ونون. نسبة إلى راذكان: بليدة بأعالي طوس. (الأنساب 6/ 37) .
وقد تصحّفت في الأصل إلى: «الراذياني» .
عن مدّة قريبة، وصار أنْظَرَ أهل زمانه، وواحد أقرانه، وأعادً للطّلبة، وأخذ في التّصنيف والتّعليق.
وكان الإمام أبو المعالي مَعَ عُلُوّ درجته وفرْط ذكائه، لَا يطيب لَهُ تصدّيه للتّصنيف، وإن كَانَ في الظّاهر مبتهجًا بِهِ [1] .
ثمّ إنّ أبا حامد خرج إلى المعسكر، فأقبل عَليْهِ نظام المُلْك، وناظر الأقران بحضرته، فظهر اسمُه، وشاع أمره، فولّاه النّظّام تدريس مدرسته ببغداد، ورسَم لَهُ بالمصير إليها، فقدِمها، وأعجبَ الكُلّ مناظرته. وما لَقِي الرجل مثل نفسه. ثمّ أقبل عَلَى عِلم الأصول، وصنَّف فيها وفي المذهب والخلاف، وعظُمَت حشْمته ببغداد، حتى كانت تغلب حشمة الأمراء والأكابر، فانقلب الأمر مِن وجهٍ آخر، وظَهَر عَليْهِ بعد مطالعة العلوم الدّقيقة، ومُمارسة التّصانيف طريق التّزهُّد والتّألُّه فترك الحشمة، وطرح الرُّتْبة، وتزوَّد للمَعَاد، وقصد بيت الله، وحجّ، ورجع عَلَى طريق الشّام، وزار القدس، وأقام بدمشق مدّة سِنين [2] ، وصنف بها «إحياء علوم الدّين» وكتاب «الأربعين» ، و «القسطاس» ، و «محكّ النّظر» ، وغيره ذَلِكَ.
وأخذ في مجاهَدَة النَّفْس، وتغيير الأخلاق، وتهذيب الباطن، وانقلب شيطان الرُّعونة، وطلب الرئاسة والتّخلُّق بالأخلاق الذّميمة، إلى سكون النَّفْس، وكرم الأخلاق، والفراغ عَنِ الرسوم، وتَزَيّا بزيّ الصّالحين.
ثمّ عاد إلى وطنه، لازمًا بيته، مشتغلًا بالتّفكير، مُلازِمًا للوقت، فبقي عَلَى ذَلِكَ مدّة. وظهرت لَهُ التّصانيف. ولم يبدُ في أيّامه مناقضةٌ لِما كَانَ فيه، ولا اعتراضٌ لأحدٍ عَلَى مآثره، حتّى انتهت نوبة الوزارة إلى فخر المُلْك، وقد سَمِعَ وتحقَّق بمكان أَبِي حامد وكمال فضله، فحضره وسمع كلامه، فطلب منه أن لَا تبقى أنفاسه وفوائده عقيمة، لا استفادة منها ولا اقتباس من أنوارها، وألحّ عليه كلّ الإلحاح، وتشدّد في الاقتراح إلى أن أجاب إلى الخروج، وقدم نَيْسابور.
وكان اللَّيْثُ غائبًا عَنْ عرينه، والأمر خافيا في مستور قضاء الله ومكنونه. ورسم
لَهُ بأن يُدرسّ بالمدرسة النّظامية، فلم يجد بُدًا من ذَلِكَ.
قَالَ هذا كلّه وأكثر منه عَبْد الغافر بْن إسماعيل في «تاريخه» [1] . ثمّ قَالَ:
ولقد زُرْته مِرارًا، وما كنتُ أحدُسُ في نفسي مَعَ ما عهِدْته في سالف الزّمان عَليْهِ مِن الزَّعارة [2] ، وإيحاش النّاس، والنّظر إليهم بعين الازدراء، والاستخفاف بهم كِبَرًا وخُيَلاء واغتِرارًا [3] بما رُزِق مِن البسْطة في النُّطْق، والخاطر، والعبارة، وطلب الجاه، والعُلُوّ في المنزلة أنّه صار عَلَى الضّدّ، وتصفيّ مِن تِلْكَ الكُدُورات. وكنت أظنّ أنّه متلفّعٌ بجلباب التّكلّف، متنمّس بما صار إليه، فتحقّقت بعد السَّبْرِ والتَّنقير أنّ الأمر عَلَى خلاف المظنون، وأنّ الرجل أفاق بعد الجنون.
وحكى لنا في ليالٍ كيفيّة أحواله، مِن ابتداء ما ظهر لَهُ بطريق التّألُّه، وغَلَبة الحال عليه، بعد تبحُّره في العلوم، واستطالته عَلَى الكلّ بكلامه، والاستعداد الّذي خصّه الله بِهِ في تحصيل أنواع العلوم، وتمكّنه مِن البحث والنَّظَر، حتّى تبرَّم بالاشتغال بالعلوم العَريَّة عَنِ المعاملة، وتفكَّر في العاقبة، وما ينفع في الآخرة، فابتدأ بصُحبة أبي عليّ الفارْمَذيّ [4] ، فأخذ منه استفتاح الطّريقة، وامتثل ما كَانَ يشير بِهِ عَليْهِ مِن القيام بوظائف العبادات، والإمعان في النّوافل، واستدامة الأذكار والاجتهاد والجدّ، طلبًا للنّجاة، إلى أن جاز تِلْكَ العِقاب، وتكلّف تِلْكَ المشاقّ، وما حصل عَلَى ما كَانَ يرومه.
ثمّ حكى أنّه راجع العلوم، وخاض في الفنون، وعاود الْجَدّ في العلوم الدّقيقة، والتقى بأربابها، حتّى تفتَّحت لَهُ أبوابها، وبقي مدّةً في الوقائع، وتكافؤ الآداب، وأطراف المسائل.
ثمّ حكى أنّه فُتِح عَليْهِ بابٌ مِن الخوف، بحيث شغله عن كلّ شيء،
[1] انظر طبقات ابن الصلاح 1/ 260- 262، وتبيين كذب المفتري 291- 294.
[2]
الزّعارة: الشراسة وسوء الخلق.
[3]
في سير أعلام النبلاء 19/ 324: «واعتزازا» .
[4]
الفارمذيّ: بسكون الراء وفتح الميم. نسبة إلى فارمذ. قرية من قرى طوس. وأبو علي الفارمذي هو: الفضل بن محمد بن علي، لسان خراسان وشيخها. توفي سنة 477 هـ-. وقد تقدّمت ترجمته في الطبقة الثامنة والأربعين.
وحمله عَلَى الإعراض عمّا سواه، حتّى سهل ذَلِكَ عَليْهِ. وهكذا إلى أن ارتاض كلّ الرياضة، وظهرت لَهُ الحقائق، وصار ما كنّا نظن به ناموسا وتخلّقا، طَبْعًا وتحقُّقًا. وأنّ ذَلِكَ أثر السّعادة المُقَدَّرة لَهُ مِن الله تعالى.
ثمّ سألناه عَنْ كيفية رغبته في الخروج مِن بيته، والرجوع إلى ما دُعيَ إليه مِن أمر نَيْسابور. فقال معتذرًا: ما كنت أجوّز في ديني أن أقف عَنِ الدّعوة، ومنفعة الطّالبين، وقد خفَّ عليَّ أن أبوح بالحقّ، وأنطق بِهِ، وأدعو إِليْهِ. وكان صادقًا في ذَلِكَ [1] .
فلمّا خفّ أمر الوزير، وعلم أنّ وقوفه عَلَى ما كان فيه ظهور وحشة وخيال طلب جاهٍ وحِشْمة، ترك ذَلِكَ قبل أن يُتْرَك، وعاد إلى بيته، واتَّخَذَ في جواره مدرسة لطَلَبَة العِلْم، وخانقاه للصُّوفيّة، ووزّع أوقاته عَلَى وظائف الحاضرين، مِن ختْم القرآن، ومجالسته أصحاب القلوب، والقعود للتّدريس لطالبه، إلى أن توفّاه الله بعد مُقاساة أنواع مِن القَصْد، والمناوأة مِن الخصوم، والسّاعين بِهِ إلى الملوك، وكفاية الله إيّاه، وحِفْظه وصيانته عَنْ أن تنوشه أيدي النَّكَبَات، أو يُنتهكَ سِتْرُ دينه بشيءٍ مِن الزّلّات [2] .
وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومجالسة أهله، ومطالعة «الصّحيحَين» . ولو عاش لسبق الكلّ في ذَلِكَ الفنّ بيسيرٍ مِن الأيّام. ولم يتَّفق لَهُ أن يروي، ولم يُعْقِبْ إلّا البنات.
وكان لَهُ مِن الأسباب إرثًا وكسْبًا ما يقوم بكفايته، وقد عُرِضَت عليه أموال فما قَبِلَها [3] .
وممّا كَانَ يُعترض بِهِ عَليْهِ، وقوعُ خَلَلٍ مِن جهة النَّحْو يقع في أثناء كلامه، ورُوجع فيه، فأنْصف من نفسه، واعترف بأنّه ما مارسه، واكتفى بما كَانَ يحتاج إليه في كلامه، مَعَ أنّه كَانَ يؤلّف الخُطَب، ويشرح الكُتُب بالعبارة التّي يعجز الأدباء والفقهاء عن أمثالها.
[1] طبقات ابن الصلاح 1/ 262، تبيين كذب المفتري 294، 295.
[2]
انظر: طبقات ابن الصلاح 1/ 263، وتبيين كذب المفتري 295، 296.
[3]
تبيين كذب المفتري 296.
وممّا نُقِم عَليْهِ أيضًا ما ذَكَر مِن الألفاظ المستبشعة بالفارسيّة في كتاب «كيمياء السّعادة والعلوم» ، وشرح بعض الصُّوَر والمسائل، بحيث لَا يوافق مراسم الشّرع، وظواهر ما عَليْهِ قواعد الإسلام.
وكان الأَوْلَى بِهِ، والحقّ أحقّ ما يُقال، ترك ذَلِكَ التّصنيف، والإعراض عَنِ الشّرح لَهُ [1] ، فإنَّ العَوام ربّما لَا يُحكمون أُصول القواعد بالبراهين والحُجَج، فإذا سمعوا أشياء مِن ذَلِكَ تخيَّلوا منه ما هُوَ المُضِرّ بعقائدهم، ويَنْسِبُون ذَلِكَ إلى بيان مذهب الأوائل عَلَى أنّ المنصف اللّبيب إذا رَجَع إلى نفسه، علم أنّ أكثر ما ذكره ممّا رمز إليه إشارات الشّرع، وإنْ لم يَبُحْ بِهِ. ويوجد أمثاله في كلام مشايخ الطّريقة مرموزةً، ومصرَّحًا بها، متفرّقة. وليس لفظٌ منه إلّا وكما يُشعر أحدُ وجوهه بكلامٍ موهوم، فإنّه يُشِعر بسائر وجوهه بما يوافق عقائد أهل الملة، فلا يجب إذا حمْله إلّا عَلَى ما يوافق، ولا ينبغي أن يتعلَّق بِهِ في الرّدّ عَليْهِ متعلّق، إذا أمكنه أن يبيّن لَهُ وجهًا. وكان الأَوْلَى بِهِ أن يترك الإفصاح بذلك كما تقدم.
وقد سَمِعْتُ أنّه سمع مِن «سنن أَبِي داود» ، عَنِ القاضي أَبِي الفتح الحاكميّ الطّوسيّ.
وَسَمِعَ مِن أَبِي عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن أحمد الخُوَاري، مَعَ ابنيه الشّيخين: عَبْد الجبّار، وعبد الحميد، كتاب «المولد» لابن أَبِي عاصم، عَنْ أبي بَكْر أحمد بْن محمود بْن الحارث، عَنْ أَبِي الشّيخ، عَنْهُ [2] .
قلت: ما نقم عَبْد الغافر عَلَى أَبِي حامد مِن تِلْكَ الألفاظ الّتي في «كيمياء السّعادة» فلأبي حامد أمثاله في بعض تواليفه، حتّى قال فيه، أظنّه تلميذه ابن العربيّ: بلع شيخنا أبو حامد الفلاسفة، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع. رَأَيْت غير واحدٍ مِن الأئمّة يقولون، إنّه ردّ عَلَى الفلاسفة في مواضع، ووافقهم عليها في بعض تواليفه، ووقع في شكوك، نسأل الله السّلامة واليقين، ولكنّه مثال حسن القصد.
وللإمام أَبِي عَبْد الله محمد بْن عليّ المازريّ الصَّقَلّيّ كلام عَلَى «الإحياء» يدلّ عَلَى تبحُّره وتحقيقه، يَقُولُ فيه: وبعد فقد تكرّرتْ مكاتبتُكُم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجَم «بإحياء علوم الدّين» ، وذكرتم أنّ آراء النّاس فيه اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصّبت لإشهاره، وطائفة منه حذّرت وعنه نفّرت، وطائفة لعَيْبِه أظهرت، وكُتُبه حرّقت، ولم تنفردوا أهل المغرب باستعلام ما عندي، بل كاتبني أهل المشرق مثل ذَلِكَ، فوجب عندي إبانة الحق. ولم نتقدّم إلى قراءة هذا الكتاب سوى نُبَذٍ منه. فإن [نَفَّس][1] الله في العُمر، مَدَدْتُ في هذا الكتاب للأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس. واعلموا أنّ هذا الرجل، وإن لم أكن قرأت كتابه، فقد رَأَيْت تلامذته وأصحابه، فكلٌ منهم يحكي لي نوعًا مِن حاله وطريقته، استلْوح منها مِن مذاهبه وسيرته، ما قام لي مقام العِيان، فأنا أقتصر في هذا الإملاء عَلَى ذِكر حال الرجل، وحال كتابه، وذِكر جُمِل مِن مذاهب الموحّدين، والفلاسفة، والمتصوّفة وأصحاب الإشارات. فإنّ كتابه متردّد بين هذه الطّرائق الثّلاث، لَا تعدوها، ثمّ أُتْبع ذَلِكَ بذِكر حيَل أهل مذهبٍ عَلَى أهل مذهب آخر، ثُمَّ أبين عن طرق الغرور، وأكشف عما فيه من خيال الباطل، ليُحذَر مِن الوقوع في حبائل صائده.
ثمّ أثنى المازَريّ عَلَى أَبِي حامد في الفقه، وقال: هُوَ بالفقه أعرف منه بأُصُوله، وأمّا عِلم الكلام الَّذِي هُوَ أُصول الدّين، فإنّه صنَّف فيه أيضًا، وُلّيس بالمستبحر فيها، ولقد فطنت لسبب عدم استبحاره، وذلك لأنّه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فنّ الأُصُول، فِأكسَبَتْه قراءةُ الفلسفة جُرأةً عَلَى المعاني، وتسهُّلًا للهجوم عَلَى الحقائق، لأنّ الفلاسفة تمرّ مَعَ خواطرها، وليس لها حُكْم شَرْع يزَعُها [2] ، ولا يَخاف [3] مِن مخالفة أئمّة تتعبها [4] . وعرّفني بعض أصحابه أنّه كَانَ لَهُ عُكُوف عَلَى رسائل إخوان الصّفاء، وهي إحدى وخمسون رسالة،
[1] في الأصل بياض. والمستدرك من (سير أعلام النبلاء 19/ 341) .
[2]
في طبقات ابن الصلاح 1/ 256: «يردعها» .
[3]
في الأصل: «يخاف» .
[4]
في طبقات ابن الصلاح زيادة: «فلذلك خامرة ضرب من الإدلال على المعاني، فاسترسل فيها استرسال من لا يبالي بغيره» .
ومصنّفها فيلسوف قد خاض في عِلْم الشّرْع والنَّقْل، فخرج ما بين العِلْمَيْن، وذكر الفلسفة، وحسّنها في قلوب أهل الشّرع بآياتٍ يتلو عندها، وأحاديث يذكرها.
ثمّ كَانَ في هذا الزّمان المتأخّر رجلٌ مِن الفلاسفة يُعرف بابن سينا، ملأ الدُّنيا تواليف في علوم الفلسفة، وهو فيها إمامٌ كبير، وقد أدّاه [1] قُوتُه في الفلسفة إلى أن حاول ردّ أُصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطّف جَهْدَه حَتَّى تم لَهُ ما لم يتم لغيره. وقد رَأَيْت جملا من دواوينه، ووجدت هَذَا الغَزَالِي يعوّل عليه في أكثر ما يشير إِليْهِ مِن علوم الفلسفة [2] .
إلى أن قَالَ: وأمّا مذاهب الصُّوفيّة، فلست أدري عَلَى مِن عوَّل فيها [3] ، ولكنّي رَأَيْت فيما علّق عَنْهُ بعضُ أصحابه، أنّه ذكر كُتُب ابن سينا وما فيها، وذكر بعد ذَلِكَ كُتُب أَبِي حَيّان التّوحيديّ، وعندي أنّه عَليْهِ عوّل في مذاهب الصُّوفيّة.
وقد أُعْلِمتُ أنّ أبا حَيّان ألّف ديوانًا عظيمًا في هذا الفنّ، ولم يُنقل إلينا شيءٌ منه.
ثمّ ذكر المازَرِيّ تَوَهُّنَه أكثر ما في «الإحياء» مِن الأحاديث. وقال: عادة المتورّعين أن لَا يقولوا: قَالَ مالك، قَالَ الشّافعيّ. فيما لم يثبُت عندهم. وفي كتابه مذاهب وآراء في العمليّات هِيَ خارجة عَنْ مذاهب الأئمّة. واستحسانات عليها طلاوة، لَا تستأهل أن يُفتى بها. وإذا تأمّلتَ الكتابَ وجدتَ فيه مِن الأحاديث والفَتْوى ما قلته، فَيَستحسن أشياء مبناها عَلَى ما لَا حقيقة لَهُ، مثل قصّ الأظْفار أن تبدأ بالسَّبّابة، لأنّ لها الفضل عَلَى بقيّة الأصابع، لأنّها
[1] كذا في الأصل وطبقات ابن الصلاح 1/ 257، وفي (السير 19/ 341) :«أدّته» .
[2]
في طبقات ابن الصلاح زيادة: «حتى أنه في بعض الأحايين ينقل نصّ كلامه من غير تغيير، وأحيانا يغيّره بنقله إلى الشرعيّات أكثر من نقل ابن سينا، لكونه أعلم بأسرار الشرع منه، فعلى ابن سينا ومؤلّف «رسائل إخوان الصفا» عوّل الغزالي في علم الفلسفة» .
[3]
قال السبكي: «لم يكن عمدته في «الإحياء» بعد معارفه وعلومه وتحقيقاته التي جمع بها شمل الكتاب ونظم بها محاسنه إلّا على كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكّي، وكتاب الرسالة للأستاذ أبي القاسم القشيري المجمع على جلالتهما، وجلالة مصنّفيهما. وأما ابن سينا فالغزالي يكفّره، فكيف يقال: إنه يقتدي به؟» . (طبقات الشافعية الكبرى 6/ 247) .
المُسَبّحة، ثمّ نقصّ ما يليها مِن الوسطى [1] ، لأنّها ناحية اليمين، ونختم بإبهام اليمنى. وذَكَر في ذَلِكَ أثرًا [2] .
وقال: مِن مات بعد بلوغه ولم يعلم أنّ البارئ قديم، مات مسلمًا إجماعًا. ومن تَساهلَ في حكاية الإجماع في مثل هذا الَّذِي الأقرب أن يكون فيه الإجماع يعكس ما قَالَ، الحقيق أن لَا يوثَّق بما فعل.
وقد رَأَيْت لَهُ في الجزء الأوّل أنّه ذكر أنّ في علومه هذه ما لَا يسوغ أن تُودَع في كتاب. فليت شِعْري، أحقٌ هُوَ أو باطل؟ فإنْ كَانَ باطلًا فصَدق، وإن كَانَ حقًا، وهو مُرادُه بلا شكّ، فلِمَ لَا يودَع في الكُتُب، أَلغُمَوضه ودِقّته؟ فإن كَانَ هُوَ فَهْمُه، فما المانع لأن يفهمه غيره [3] .
قَالَ الطُّرْطُوشيّ محمد بْن الوليد في رسالة لابن المظفَّر: فأمّا ما ذكرت مِن أمر الغزّاليّ، فرأيت الرجل وكلّمته، ورأيته جليلًا مِن أهل العِلْم، قد نَهَضَت بِهِ فضائلُه، واجتمع فيه العقل والفَهْم، وممارسة العلوم طول عُمره. وكان عَلَى ذَلِكَ مُعْظَم زمانه، ثمّ بدا لَهُ عَنْ طريق العالم، ودخل في غُمار العُمّال، ثمّ تصوّف، فهجر العلومَ وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب العقول [4] ، ووساوس الشّيطان، ثم شابَها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلّاج، وجعل يطعن عَلَى الفقهاء والمتكلّمين. ولقد كَاد أن ينسلخ مِن الدّين. فلمّا عمل «الإحياء» عمد يتكلّم في عُلُوم الأحوال ومرامز الصُّوفيّة، وكان غير أنيسٍ بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط عَلَى [أمّ رأسه][5] وشحن كتابه بالموضوعات.
[1] في الأصل: «الواسطي» .
[2]
قال الإمام النووي في (شرح المهذّب 1/ 345) : قال الغزالي في (الإحياء 1/ 141) : «يبدأ بمسبّحة اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم خنصر اليسرى إلى الإبهام، ثم إبهام اليمنى، وذكر فيه حديثا وكلاما في حكمته، وهذا الّذي قاله مما أنكره عليه الإمام أبو عبد الله المازري المالكي الإمام في علم الأصول والكلام والفقه، وذكر في إنكاره عليه كلاما لا يؤثر ذكره، والمقصود أن الّذي ذكره الغزالي لا بأس به إلّا في تأخير إبهام اليمنى فلا يقبل قوله فيه، بل يقدّم اليمنى بكمالها، ثم يشرع في اليسرى، وأما الحديث الّذي ذكره فباطل لا أصل له» .
[3]
انظر: طبقات ابن الصلاح 1/ 255- 259.
[4]
في (السير 19/ 339) : «القلوب» .
[5]
في الأصل: «فسقط على الإثم» وبعدها بياض، والمستدرك من: سير أعلام النبلاء 19/ 339.
وقال أبو عَمْرو [1] بْن الصّلاح: فصْلٌ [لبيان أشياء مهّمة][2] أُنْكِرتْ عَلَى الغزّاليّ في مصنَّفَاته، ولم يَرْتضِها أهلُ مذهبه وغيرهم مِن الشّذوذ في تصرّفاته، منها قولُه في المنطق:[3] هُوَ مقدّمة العلوم كلّها، ومن لَا يحيط بِهِ، فلا ثقة لَهُ بمعلومه [4] أصلًا، وهذا مردودٌ، فكلّ صحيح الذّهْن مَنْطِقيّ بالطَّبْع، وكيف غفل الشّيخ أبو حامد حال مشايخه مِن الأئمّة، وما رفعوا بالمنطق رأسا [5] .
[1] في الأصل: «أبو عمر» .
[2]
في الأصل بياض. والمستدرك من (طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح 1/ 252) .
[3]
عند ابن الصلاح: «قوله في مقدّمة المنطق في أول «المستصفى» .
[4]
عند ابن الصلاح: «بعلومه» .
[5]
قال ابن الصلاح: سمعت الشيخ عماد الدين ابن يونس يحكي عن يوسف الدمشقيّ مدرّس نظامية بغداد- وكان من النّظّار المعروفين- أنه كان ينكر هذا الكلام ويقول: فأبو بكر وعمر وفلان وفلان- يعني أن أولئك السادة- عظمت حظوظهم من البلج واليقين، ولم يحيطوا بهذه المقدّمة وأشباهها.
قال ابن الصلاح: تذكّرت بهذا ما حكى صاحب كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أنّ الوزير ابن الفرات احتفل مجلسه ببغداد بأصناف من الفضلاء من المتكلّمين وغيرهم، وفيهم الأشعري رحمة الله عليه، وفي المجلس متّى الفيلسوف النصراني، فقال الوزير: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متّى في قوله: إنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والحجّة من الشبهة، والشكّ من اليقين، إلّا بما حويناه من المنطق، واستفدناه من واضعه على مراتبه، فانتدب له أبو سعيد السيرافي، وكان فاضلا في علوم غير النحو، فكلّمه في ذلك حتى أفحمه وفضحه، وليس هذا موضع التطويل بذكره. وغير خاف استغناء العلماء والعقلاء- قبل واضع المنطق أرسطاطاليس وبعده- ومعارفهم الجمّة عن تعلّم المنطق، وإنما المنطق عندهم- بزعمهم- آلة صناعية تعصم الذهن من الخطأ، وكلّ ذي ذهن صحيح منطقيّ بالطبع، فكيف غفل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين فمن قبله من كل إمام هو له مقدّم، ولمحلّه في تحقيق الحقائق رافع له ومعظّم، ثم لم يرفع أحد منهم بالمنطق رأسا، ولا بنى عليه في شيء من تصرّفاته أسّا، ولقد أتى بخلطه المنطق بأصول الفقه بدعة عظم شؤمها على المتفقّهة حتى كثر بعد ذلك فيهم المتفلسفة، والله المستعان.
وقد علّق الشيخ عبد القادر بدران على هامش أصل طبقات ابن الصلاح بقول:
«أقول: قول حجّة الإسلام: ومن لا يحيط بها، أي علما، سواء كان ذلك بالطبع أو بالتعليم، وهذا نظير قول النحويّ وصاحب علم المعاني فيمن لا فقه له في هذه العلوم، لا ثقة بما فهمه، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أعلم الناس بالنحو والمعاني طبعا وسليقة، وكذلك كانت قواعد المنطق مركوزة في طباعهم ولو لم يعبّروا عنها بالقواعد المشهورة، كما أنهم ما كانوا يعبّرون عن النحو والمعاني بالعبارات المدوّنة اليوم، ألا ترى إلى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22، وما فيه من البلاغة بحيث لو اجتمع علماء المنطق بأجمعهم لم
قَالَ ابن الصّلاح: [1] وأمّا كتاب «المضْنوُن بِهِ عَلَى غير أهله» ، فَمَعَاذ الله أن يكون لَهُ. شاهدتُ عَلَى نسخة بخطّ القاضي كمال الدِّين محمد بْن عَبْد الله ابن الشّهْرزُوريّ أنّه موضوعٌ عَلَى الغزاليّ، وأنّه مخَتَرعٌ مِن كتاب «مقاصد الفلاسفة» ، وقد نقضه بكتاب «التّهافُت» [2] .
وقال أبو بَكْر الطُّرْطُوشيّ: شحن الغزاليّ كتابه «الإحياء» بالكذِب عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا أعلم كتابًا عَلَى بسطة الأرض أكثر كذبا على رسول الله منه.
ثمّ شبّكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصَّفَاء وهم قومٌ يرون النُّبُوَّة اكتسابًا. فليس نبيّ في زعمهم أكثر مِن شخص فاضل، تخلَّق بمحاسن الأخلاق، وجانَبَ سفاسفها، وساس نفسه، حتّى مَلَك قيادها، فلا تغلبه شهواته، ولا يقهره سوء أخلاقه، ثمّ ساس الخلق بتلك الأخلاق. وزعموا أنّ المعجزات حيل ومخاريق [3] .
[ () ] يقدروا على الإتيان بمثلها، وكثير من قواعد المنطق جار عليها، فالتحامل على حجّة الإسلام في هذه المقولة إنما هو من فرط جهالة بمقامه، على أن قوله: فلا ثقة له بعلومه أصلا، المراد به العلوم المأخوذة من الكتب التي بنيت قواعدها على قواعد المنطق لا العلوم المأخوذة من غيرها، والصحابة قد أحاطوا بهذه المقدّمة علما ذوقيّا، ولم يكن عندهم كتب أخذوا منها علومهم، بل كانت كتبهم القرآن العظيم المشتمل على جميع العلوم، وما فهموه من مشكاة نور صاحب الرسالة المعصوم، فحقّق ما أمليته لك تكن من الفائزين» . (طبقات ابن الصلاح 1/ 252، 253 بالحاشية رقم 3) .
[1]
في طبقاته 263.
[2]
هو: تهافت الفلاسفة. طبع عدّة طبعات، أجودها بتحقيق الدكتور سليمان دنيا، طبعة القاهرة 1955 م.
وزاد ابن الصلاح عن القاضي الشهرزوريّ: أنه نفذ في طلب هذا الكتاب إلى البلاد البعيدة، فلم يقف له على خبر.
قال ابن الصلاح: وهذه النسخة ظهرت في هذا الزمان الغريب، ولا يليق بما صحّ عندنا من فضل الرجل ودينه.
وقد نقل كتاب آخر مختصر نسب إليه، ولما بحثنا عنه تحقّقنا أنه وضع عليه، وفي آخر هذه النسخة بخطّ آخر: هذا منقول من كتاب حكاية «مقاصد الفلاسفة» حرفا بحروف، والغزالي إنما ذكره في «المقاصد» حكاية عنهم غير معتقد له، وقد نقضه بكتاب «التهافت» وهذا الكتاب فيه التصريح بقدم العالم، ونفي الصفات، وبأنه لا يعلم الجزئيات سبحانه وتعالى، والإشارة إلى إحالة حشر الأجساد بإثبات التناسخ، ولم يكن هذا معتقده. (الطبقات 1/ 263، 264) .
[3]
اختصره في (سير أعلام النبلاء 19/ 334) .
وقال الحافظ أبو القاسم بْن عساكر في ترجمته [1] : ثمّ حجّ، ودخل الشّام، وأقام بها نحوًا مِن عشر سِنين، وصنَّف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مُقامه بدمشق في المنارة الغربيّة مِن الجامع.
وقد سَمِعَ «صحيح الْبُخَارِيّ» من أبي سهل محمد بْن عُبَيْد الله الحفْصيّ.
وقدم دمشق في سنة تسعٍ وثمانين.
قلتُ: وجالس بها الفقيه نصر المقدسيّ.
وقال القاضي شمس الدّين بْن خَلّكان: [2] إنّه لزِم إمامَ الحرمين، فلمّا تُوُفّي خرج إلى نظام المُلْك، فبالغ في إكرامه، وولّاه نظاميّة بغداد، فسا إليها في سنة اربعٍ وثمانين، وأقبل عَليْهِ أهْل العراق، وارتفع شأنه. ثمّ ترك ذَلِكَ في سنة ثمانٍ وثمانين، وتزهَّد، وحجَّ، ورجع إلى دمشق، فاشتغل بها مدّة بالزّاوية الغربيّة، ثمّ انتقل إلى بيت المقدس، وجُدَّ في العبادة، ثمّ قصد مصر، وأقام مدّة بالإسكندرية، ويقال إنّه عزم عَلَى المُضِيّ إلى الأمير يوسف بْن تاشفين سلطان مَرّاكُش، فبلغه نَعيُّه.
ثمّ أنّه عاد إلى وطنه بطُوس.
وصنَّف التّصانيف: «البسيط» ، و «الوسيط» ، و «الوجيز» ، و «الخلاصة» في الفقه، و «إحياء علوم الدّين» .
وفي الأصول: «المستصفى» ، و «المنخول» ، و «اللّباب» ، و «بداية الهداية» ، و «كيمياء السّعادة» ، و «المأخذ» ، و «التّحصين» ، و «المعتقد» ، و «إلجام العوامّ» ، و «الرّدّ على الباطنيّة» ، و «الإقتصاد في اعتقاد الأوائل» ، و «جواهر القرآن» ، و «الغاية القصوى» ، و «فضائح الإباحيّة» ، و «عود الدّور» .
وله: «المِنْجَل في عِلم الْجَدَل» ، وكتاب «تهافت الفلاسفة» ، وكتاب «محكّ النّظر» ، و «معيار العلم» ، و «المضنون به على غير أهله» .
[1] قول ابن عساكر ليس في (تاريخ دمشق) و (تبيين كذب المفتري) . وقال السبكي: كذا نقل شيخنا الذهبي، ولم أجد ذلك في كلام ابن عساكر، لا في تاريخ الشام ولا في التبيين.
(طبقات الشافعية الكبرى 6/ 197) .
[2]
في وفيات الأعيان 4/ 216.
و «شرح الأسماء الحسنى» ، و «مشكاة الأنوار» ، و «المنقذ من الضّلال» ، و «حقيقة القولين» ، وغير ذلك من الكتب. وقد تصدّر للإملاء.
ولد سنة خمسين وأربعمائة.
وقال عَبْد الغافر [1] : تُوُفّي يوم الإثنين رابع عشر جُمَادَى الآخرة سنة خمس، ودُفِن بمقبرة الطّابران، وهي قصبة بلاد طوس.
وقولهم: الغزّاليّ، والعطّاريّ، والخبّازيّ، نسبة إلى الصَّنائع بلغة العجم، وإنّما ينبغي أن يقال الغزّال، والعطّار، ونحوه.
وللغزاليّ أخٌ واعظ مدرّس لَهُ القَبُول التّامّ في التّذكير واسمه:
- أبو الفتوح أحمد.
درّس بالنظاميّة ببغداد، نيابة عن أخيه لمّا ترك التّدريس، قليلًا، وبقي إلى حدود سنة عشرين وخمسمائة.
وقال ابن النّجّار في «تاريخه» : الغزّاليّ إمام الفُقهاء عَلَى الإطلاق، وربّانيّ الأمة بالاتّفاق، ومجتهد زمانه، وعين أوانه. برع في المذهب، والأُصول، والخلاف، والْجَدَل، والمنطق، وقرأ الحكمة، والفلسفة، وفهم كلامهم، وتصدّى للرّدّ عليهم. وكان شديد الذّكاء، قويّ الإدراك ذا فِطْنة ثاقبة، وغوص عَلَى المعاني، حتى قِيلَ إنّه ألّف كتابه «المنخول» ، فلمّا رآه أبو المعالي قَالَ: دَفنتني وأنا حيّ، فهلّا صبرتَ حتّى أموت، لأنّ كتابك غطّى عَلَى كتابي [2] .
ثمّ روى ابن النّجّار بسنده، أنّ والد الغزّاليّ كَانَ رجلًا مِن أرباب المِهَن يغزل الصُّوف، ويبيعه في دُكّانه بطُوس، فلمّا احتضر أوصى بولديه محمد وأحمد إلى صديقٍ لَهُ صوفيّ صالح، فعلّمهما الخطّ، وفني ما خلَّف لهما أبوهما، وتعذّر عليهما القُوت، فقال: أرى لكما أن تلجأ إلى المدرسة كأنّكما طالبَيْن للفِقْه، عسى يحصل لكما مقدار قوتكما. ففعلا ذلك.
[1] في المنتخب 74، 75.
[2]
المنتظم 9/ 168، 169 (17/ 125) .
وقال أبو العبّاس أحمد الخطيبيّ: كنت يومًا في حلقة الغزّاليّ، رحمه الله، فقال: مات أَبِي، وخلّف لي ولأخي مقدارًا يسيرًا، ففني، بحيث تعذّر القُوت علينا، وصرنا إلى مدرسةٍ نطلب الفقه، لَيْسَ المراد سوى تحصيل القُوت. وكان تعلُّمنا لذلك لَا للَّه. فأبى أن يكون للَّه.
وقال أسعد المَيْهنيّ: سَمِعْتُ الغزّاليّ يَقُولُ: هاجرت إلى أَبِي نصر الإسماعيلي بجُرْجان، فأقمت إلى أن أخذت عَنْهُ «التّعليقة» [1] .
قَالَ ابن النّجّار: وقرأتُ عَلَى أبي القاسم الأَسَديّ العابد بالثّغر، عن أَبِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عليّ الأشيريّ [2] قال: سمعت أبا محمد عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ، سمعت أبا عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن تُومرْت السُّوسيّ يَقُولُ: أبو حامد الغزّاليّ قرع الباب وفُتِح لنا.
قَالَ ابن النّجّار: بلغني أنّ أبا المعالي الْجُوَيْنيّ كَانَ يصف تلامذته يَقُولُ:
الغزّاليّ بحرٌ مُغْرِق، إلْكِيا أسدٌ مخرِق [3] ، والخَوَافي [4] نارٌ تحرق [5] .
وقال أبو محمد العثمانيّ، وغيره: سمعنا محمد بْن يحيى بْن عبد المنعم العَبْدَريّ المؤدّب يَقُولُ: رأيت بالإسكندريّة سنة خمسمائة كأن الشّمس طلعت مِن مغربها، فعبّره لي عابرٌ ببدعةٍ تَحْدُث فيهم، فبعد أيّامٍ وصل الخبر بإحراق كُتُب الغزّاليّ بالمَرِية.
وقال أبو عامر العَبْدري الحافظ: سَمِعْتُ أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد
[1] انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6/ 195.
[2]
الأشيري: بفتح الهمزة، وكسر الشين، وسكون الياء. نسبة إلى أشير، حصن بالمغرب.
(اللباب) .
وهو: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن علي الأشيري الصنهاجي. توفي سنة 561 بالشام، ودفن ببعلبكّ ظاهر باب حمص شماليّ البلد، وقبره ظاهر ببعلبكّ. (وفيات الأعيان 7/ 86، شذرات الذهب 4/ 198، موسوعة علماء المسلمين- تأليفنا- القسم الثاني- ج 2/ 274 رقم 617) .
[3]
في سير أعلام النبلاء 19/ 336: «أسد مطرق» .
[4]
الخوافي: بفتح الخاء المعجمة والواو، وفاء نسبة إلى خواف، ناحية من نواحي نيسابور كثيرة القرى. وهو أبو المظفّر أحمد بن محمد بن المظفّر الفقيه الشافعيّ.
[5]
وكان الجويني يقول في تلامذته: إذا ناظروا: التحقيق للخوافي، والحدسيات للغزالي، والبيان للكيا. (طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6/ 2- 2) .
القاهر الطّوسيّ يحلف باللَّه أنّه أبصر في نومه كأنّه ينظر في كُتُب الغزّاليّ، فإذا هِيَ كلّها تصاوير.
قلت: للغزّاليّ غَلَط كثير، وتناقض في تواليفه، ودخولٌ في الفلسفة، وشُكوك. ومن تأمَّل كُتُبُه العقْليّة رَأَى العجائب. وكان مزجيّ البِضاعة مِن الآثار، عَلَى سعة علومه، وجلالة قدره، وعظمته.
وقد روى عَنْهُ أبو بَكْر بْن العربيّ الإمام «صحيح الْبُخَارِيّ» ، بروايته عَنِ الحفصيّ، فيما حكى ابن الحدّاد الفاسي، ولم يكن هذا بثقة، فاللَّه أعلم [1] .
[1] وقال ابن الجوزي: إن الغزالي أقام ببيت المقدس ودمشق مدّة يطوف المشاهد، وأخذ في تصنيف كتاب «الإحياء» في القدس، ثم أتمّه بدمشق إلّا أنه وضعه على مذهب الصوفية، وترك فيه قانون الفقه، مثل أنه ذكر في محو الجاه ومجاهدة النفس أن رجلا أراد محو جاهه فدخل الحمّام، فليس ثياب غيره، ثم لبس ثيابه فوقها، ثم خرج يمشي على مهل حتى لحقوه فأخذوها منه، وسمّي سارق الحمّام، وذكر مثل هذا على سبيل التعليم للمريدين قبيح، لأن الفقه يحكم بقبح هذا، فإنه متى كان للحمّام حافظ وسرق سارق قطع، ثم لا يحلّ لمسلم أن يتعرّض بأمر يأثم الناس به في حقّه، وذكر أن رجلا اشترى لحما فرأى نفسه تستحيي من حمله إلى بيته، فعلّقه في عنقه ومشى، وهذا في غاية القبح، ومثله كثير ليس هذا موضعه. وقد جمعت أغلاط الكتاب وسمّيته «إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء» ، وأشرت إلى بعض ذلك في كتابي المسمّى «تلبيس إبليس» مثل ما ذكر في كتاب النكاح أن عائشة قالت للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الّذي تزعم أنك رسول الله! وهذا محال، وإنما كان سبب إعراضه فيما وضعه عن مقتضى الفقه أنه صحب الصوفية، فرأى حالتهم الغاية وقال: إني أخذت الطريقة من أبي علي الفارمذي وامتثلت ما كان يشير به من وظائف العبادات واستدامة الذكر إلى أن جرت تلك العقبات وتكلّفت تلك المشاق، وما حصّلت ما كنت أطلبه.
ثم إنه نظر في كتاب أبي طالب المكيّ وكلام المتصوّفة القدماء فاجتذبه ذلك بمرّة عمّا يوجبه الفقه. وذكر في كتاب «الإحياء» من الأحاديث الموضوعة وما لا يصح غير قليل، وسبب ذلك قلّة معرفته بالنقل، فليته عرض تلك الأحاديث على من يعرف، وإنما نقل نقل حاطب ليل.
وكان قد صنّف للمستظهر كتابا في الردّ على الباطنية، وذكر في آخر مواعظ الخلفاء فقال:
روي أن سليمان بن عبد الملك بعث إلى أبي حازم: ابعث إليّ من إفطارك، فبعث إليه نخالة مقلوّة، فبقي سليمان ثلاثة أيام لا يأكل، ثم أفطر عليها، وجامع زوجته، فجاءت بعبد العزيز، فلما بلغ ولد له عمر بن عبد العزيز. وهذا من أقبح الأشياء، لأن عمر ابن عمّ سليمان، وهو الّذي ولّاه، فقد جعله ابن ابنه، فما هذا حديث من يعرف من النقل شيئا أصلا.
وكان بعض الناس شغف بكتاب «الإحياء» فأعلمته بعيوبه، ثم كتبته له، فأسقطت ما يصلح إسقاطه، وزدت ما يصلح أن يزاد.
سمعت إسماعيل بن علي الموصلي الواعظ يحكي عن أبي منصور الرزّاز الفقيه قال: دخل أبو
أَنَا صَبٌّ مُسْتهامُ
…
وهمومٌ لي عظامُ
طال ليلي دون صحبتي
…
سهرتْ عينيّ وناموا
بي غليلٌ وعليل
…
وغريم وغرامُ
ففؤادي لحبيبي
…
ودمي لَيْسَ حرامُ
ثمّ عِرضي لعَذُولي
…
أمّة العشق كرام [1]
123-
مقاتل بْن عطيّة بْن مقاتل [2] .
أبو الهَيْجا البكْريّ، الحجازي.
الأمير شبْل الدّولة. مِن أولاد أمراء العرب.
دخل خُرَاسان، وغَزْنَة لوحشةٍ وقعت بينه وبين إخوته، واختصّ بالوزير نظام المُلْك وصاهره، ثمّ عاد إلى بغداد لمّا قُتِل النّظام.
وله شِعْر جيد.
ثمّ قصد كَرْمان ليمتدح وزيرَها ناصر الدّين مُكْرَم بْن العلاء، فوفد عَليْهِ،
[ () ] حامد بغداد، فقوّمنا ملبوسه ومركوبة خمسمائة دينار، فلما تزهّد وسافر وعاد إلى بغداد فقوّمنا ملبوسه خمسة عشر قيراطا.
وحدّثني بعض الفقهاء عن أنوشروان، وكان قد وزر للخليفة، أنه زار أبا حامد الغزالي، فقال له أبو حامد: زمانك محسوب عليك، وأنت كالمستأجر، فتوفّرك على ذلك أولى من زيارتي، فخرج أنوشروان وهو يقول: لا إله إلّا الله، هذا الّذي كان في أول عمره يستزيد في فضل لقب في ألقابه كان يلبس الذهب والحرير، فآل أمره إلى هذا الحال. (المنتظم) .
[1]
وردت هذه الأبيات هنا في الأصل دون نسبتها إلى أحد.
وقيل إن تصانيف الغزالي وزّعت على أيام عمره، فأصاب كلّ يوم كرّاس. (آثار البلاد 413) .
ورثاه الأبيوردي:
بكى على حجّة الإسلام حين ثوى
…
من كلّ حيّ عظيم القدر أشرفه
مضى وأعظم مفقود فجعت به
…
من لا نظير له في الناس يخلفه
(آثار البلاد 415) .
وأنشد أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن يوسف الطرابلسي في أبي حامد الغزالي:
هذّب المذهب حبر
…
أحسن الله خلاصه
«بسيط» و «وسيط»
…
و «وجيز» و «خلاصه»
(طبقات الشافعية الكبرى 4/ 115) .
[2]
انظر عن (مقاتل بن عطية) في: وفيات الأعيان 5/ 257- 260، وسير أعلام النبلاء 19/ 271 رقم 171، وعيون التواريخ 12/ 7- 9. ومرآة الجنان 3/ 197، 198، والنجوم الزاهرة 5/ 204.