المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سنة ست وثمانين وخمسمائة - تاريخ الإسلام - ت تدمري - جـ ٤١

[شمس الدين الذهبي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الحادي والأربعون (سنة 581- 590) ]

- ‌الطبقة التاسعة والخمسون

- ‌ذكر الوقائع الكائنة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

- ‌[وقوع البَرَد]

- ‌[تدريس النظامية]

- ‌[منع الوعّاظ]

- ‌[مولود بأذن واحدة]

- ‌[خطبة الملثّم للناصر لدين اللَّه]

- ‌[مسير السلطان إِلَى الموصل]

- ‌[منازلة صلاح الدين ميّافارقين]

- ‌[منازلة المَوْصِل]

- ‌[مرض السلطان]

- ‌[وفاة صاحب حمص]

- ‌[مصالحة أَهْل خلاط للبهلوان]

- ‌[فتنة التركمان والأكراد]

- ‌[استيلاء ابن غانية عَلَى بلاد إفريقية]

- ‌سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

- ‌[اعتدال صحَّة السلطان]

- ‌[رواية المنجّمين عَنْ خراب العالم]

- ‌[فتنة عاشوراء]

- ‌[خِلاف الفرنج]

- ‌[غدْر أرناط صاحب الكَرَك]

- ‌[خروج طغتكين عَنْ طاعة صلاح الدين]

- ‌[مزاعم المنجّمين]

- ‌[عقد قران الخليفة الناصر]

- ‌[الفتنة بَيْنَ الرافضة والسُّنَّة]

- ‌[الفِتَن بأصبهان]

- ‌[إمرة الركْب العراقي]

- ‌كثرة الخُلْف بَيْنَ الأمم والطوائف]

- ‌[تصادم الطيور فِي الجوّ]

- ‌سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

- ‌[اتفاقات الأوائل]

- ‌[نقابة النقباء]

- ‌[قتل مجد الدين ابن الصاحب]

- ‌[إحراق النقيب]

- ‌[نيابة الوزارة]

- ‌[وفاة ابن الدامغانيّ]

- ‌[هدم مملكة السلطان طغرل]

- ‌[الحرب بَيْنَ الركْب العراقي والركْب الشامي]

- ‌[وفاة ابن المقدَّم]

- ‌[إحراق ضياع الكرك والشوبك]

- ‌[الإغارة عَلَى طبريَّة]

- ‌[هزيمة الفِرَنج بصفُّوريَّة]

- ‌[موقعة حِطّين]

- ‌[رواية ابن الأثير]

- ‌[رواية ابن شدّاد]

- ‌[إنشاء العماد]

- ‌[تتابع الفتوحات]

- ‌[فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل]

- ‌[فتح بيت المَقْدِس]

- ‌[تطهير قبة الصخرة والمسجد الأقصى]

- ‌[عمل منبر الأقصى]

- ‌[رواية سبط ابن الجوزي]

- ‌[فتح عسقلان]

- ‌[الصَّلاة فِي المسجد الأقصى]

- ‌[وقعة حِطّين يصفها العماد]

- ‌[حصار صور]

- ‌سنة أربع وثمانين وخمسمائة

- ‌[فتح بلاد الساحل الشمالية]

- ‌[فتح برزية ودربساك وبغراس]

- ‌[مهادنة صاحب أنطاكية]

- ‌[دخول السلطان حلب ودمشق]

- ‌[فتح تبنين والشوبك]

- ‌[فتح صفد]

- ‌[فتح حصن كوكب]

- ‌[تعبيد السلطان فِي القدس]

- ‌[رواية سبط ابن الجوزي]

- ‌[فتح صهيون]

- ‌[فتح الحصون الشمالية]

- ‌[مهادنة صاحب أنطاكية]

- ‌[رواية ابن الأثير عَنْ فتوحات الشمال]

- ‌[نيابة الوزارة]

- ‌[المصافّ بَيْنَ طغرل والوزير ابن يُونُس]

- ‌[رواية سبط ابن الجوزي عَنِ ابن يُونُس]

- ‌[العزل عَنْ نيابة الوزارة]

- ‌[وزارة بغداد]

- ‌[قضاء القضاة]

- ‌[ضعف تدبير الوزارة]

- ‌[ولاية الأستاذ دارية]

- ‌[ظهور الباطنية بالقاهرة]

- ‌[استرجاع السلطان عسقلان]

- ‌سنة خمس وثمانين وخمسمائة

- ‌[اعتذار شحنة أصبهان]

- ‌[الخطبة لوليّ العهد]

- ‌[ولاية ابن يُونُس المخزن]

- ‌[عزْل ابن حديدة]

- ‌[وصول صليب الصلبوت إلى باب النوبيّ]

- ‌[محاصرة قلعة الْحَدِيثة]

- ‌[تقليد نيابة الوزارة]

- ‌[مقتل زعيم قلعة تكريت]

- ‌[عزل صدر المخزن]

- ‌[وصول شباب منَ الفِرَنج]

- ‌[تسليم أرناط حصن الشقيف وغدره]

- ‌[مقتل الفِرَنج عِنْد صيدا وعكا]

- ‌[القتال عَلَى عكا]

- ‌[نيابة دمشق]

- ‌[رواية ابن الأثير عَنْ تحشّدات الفِرَنج]

- ‌[ذكر الوقعة الكبرى]

- ‌[محاصرة الفِرَنج عكا]

- ‌[ذكر وصول ملك الألمان إلى الشّام]

- ‌[رواية ابن واصل]

- ‌[استشهاد الأمير جمال الدين بن ألدكز]

- ‌سنة ست وثمانين وخمسمائة

- ‌[العفو عَنِ الملك طُغْرُل]

- ‌[ولادة ابنين وبنتين فِي بطن واحد]

- ‌[مقتل آلاف الفِرَنج أمام المصريين]

- ‌[موت ملك الألمان]

- ‌[دخول بُطْسة المسلمين عكا]

- ‌[خروج كمين المسلمين عَلَى الفِرَنج]

- ‌[اشتداد الغلاء عَلَى الفِرَنج]

- ‌[تبديل عسكر عكا]

- ‌[كسرة مراكب القوت عِنْد عكا]

- ‌سنة سبع وثمانين وخمسمائة

- ‌[استيلاء الفِرَنج عَلَى عكا]

- ‌[رواية ابن شدّاد]

- ‌[تحصين القدس]

- ‌[وقعة نهر القصب]

- ‌[هدم عسقلان وتخريب الرملة ولُدّ]

- ‌[إقطاع الدينور للماهكي]

- ‌[أستاذ داريّة الخلافة]

- ‌[السعي من تكريت إلى بغداد فِي يوم]

- ‌[جاثليق النَّصارى]

- ‌[خروج عسكر الخليفة إلى خوزستان]

- ‌[إحراق السَّهْرُوَرْديّ الساحر]

- ‌[تراجع الفِرَنج إلى الرملة]

- ‌[انتحار تاجر حلبي]

- ‌[حجّ طاشتكين]

- ‌[إمارة مكة]

- ‌سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

- ‌[استتابة ابن عَبْد القادر]

- ‌[عزل قاضي القضاة]

- ‌[ترسُّل السَّهْرُوَرْديّ]

- ‌[حبْس أمير الحاج طاشتِكِين]

- ‌[بناء دار الخلافة]

- ‌[عمارة الفِرَنج عسقلان]

- ‌[قَتْلُ المركيس صاحب صور]

- ‌[تملُّك كندهري صور]

- ‌[انتهاب البصرة]

- ‌[انصباب البلاء عَلَى الفِرَنج]

- ‌[غزو الهند وقتل ملكها]

- ‌[كسرة المسلِمين]

- ‌[المشورة فِي أمر القدس]

- ‌[عمارة سور القدس]

- ‌[موت ابن المشطوب]

- ‌[أَخَذَ الفِرَنج للداروم]

- ‌[فتح يافا وقلعتها]

- ‌[الهدنة بَيْنَ السلطان والفِرَنج]

- ‌[امتناع جُند السلطان عن القتال]

- ‌[توثيق الهدنة]

- ‌[مقتل سلطان الروم]

- ‌سنة تسع وثمانين وخمسمائة

- ‌[قدوم ابن شملة عَلَى الخليفة]

- ‌[إمرة الحاجّ]

- ‌[إعادة ابن الْبُخَارِيّ للقضاء]

- ‌[مقتل بكتمر]

- ‌[مرض السلطان طُغْرُل]

- ‌[الخِلعة عَلَى قيماز]

- ‌[وفاة السلطان صلاح الدين]

- ‌[افتتاح مدرسة ببغداد]

- ‌[فتوحات أيبك]

- ‌[انقضاض كوكبين]

- ‌سنة تسعين وخمسمائة

- ‌[ولاية شحنكية بغداد]

- ‌[الحرب بَيْنَ ملك غزنة وسلطان الهند]

- ‌[مقتل السلطان طُغْرُل]

- ‌[التجاء خوارزم شاه إلى الجبال]

- ‌[ولاية الأستاذ دارية]

- ‌[قُتِلَ متولّي الحلَّة]

- ‌[وزارة ابن القصّاب]

- ‌[حبس ابن الجوزي]

- ‌[السلاطين الأيوبيّون وبلادهم]

- ‌[قصد الملك الْعَزِيز دمشق]

- ‌[استعادة الفِرَنج جُبَيل]

- ‌[الصلح بَيْنَ الأخوين الأفضل والعزيز]

- ‌[زواج الْعَزِيز منَ ابْنَة عمّه]

- ‌[دهاء الملك العادل]

- ‌[المصالحة بَيْنَ الأيوبيّين]

- ‌[الإفساد عَلَى الأفضل]

- ‌الموتى في هذه الطبقة

- ‌الموتى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف الثاء

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الياء

- ‌[مواليد السنة]

- ‌سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الضاد

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الواو

- ‌الكنى

- ‌[مواليد السنة]

- ‌سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الهاء

- ‌سنة أربع وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف الظاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الياء

- ‌سنة خمس وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف التاء

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الراء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف الياء

- ‌سنة ست وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الياء

- ‌سنة سبع وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الياء

- ‌الكنى

- ‌سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الزين

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الياء

- ‌سنة تسع وثمانين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الدال

- ‌ حرف الراء

- ‌ حرف الزاي

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف الظاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الياء

- ‌سنة تسعين وخمسمائة

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف التاء

- ‌ حرف الجيم

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الزاي

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الواو

- ‌ حرف الياء

- ‌وممن كَانَ فِي هَذَا الوقت ولم تتصل بِي وفاته

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف الياء

الفصل: ‌سنة ست وثمانين وخمسمائة

‌سنة ست وثمانين وخمسمائة

استهلّت والفرنج مُحدِقون بعكّا محاصرون لها، والسّلطان بعساكره فِي مقابلتهم، والقتال عمَّال، فتارة يظهر هَؤُلَاءِ، وتارة يظهر هَؤُلَاءِ.

وقدِمت العساكر البعيدة مَدَدًا للسّلطان صلاح الدّين، فقدِم صاحب حمص أسد الدّين، وصاحب شَيْزَر سابق الدّين عُثْمَان ابن الدّاية، وعزّ الدّين ابن المقدَّم، وَغَيْرُهُمْ [1] .

ثُمَّ قدِمت عساكر الشّرق مَعَ مظفَّر الدّين صاحب إربل، ومع عماد الدّين ابن صاحب سنجار، ومعزّ الدّين سنجر شاه بْن غازي. واشتدّ الأمر، وجدَّت الفِرَنج فِي الحصار، وأتتهم الأزواد منَ الجزائر البعيدة حَتَّى ملئوا البرّ والبحر فتُوُفّي صاحب إربل زين الدّين يوسف بْن زين الدّين عليّ كَوْجَك، ففوّض السلطان مملكة إربل من حينئذٍ إلى أَخِيهِ مظفَّر الدّين كَوْكُبرى بْن عليّ.

ودام الحصار والنّزال عَلَى عكّا حَتَّى فرغت السَّنة.

ومن كتابٍ فاضليّ إلى بغداد: «ومن خبر الفِرَنج أنّهم الآن عَلَى عكّا يمدّهم البحر بمراكب أكثر عدّة من أمواجه، ويخرج للمسلمين أمرّ من أجَاجه، وَقَدْ تعاضدت ملوك الكُفْر عَلَى أن يُنهضوا إليهم من كُلّ فرقة طائفة، ويرسلوا إليهم من كُلّ سلاح شوكة، فإذا قُتِلَ المسلمون واحدا فِي البرّ بعثوا ألفا عِوَضه فِي البحر، فالزَّرع أكثر منَ الحصاد، والثّمرة أنْمى منَ الجذاذ.

وهذا العدوّ قَدْ زرَّ عليه منَ الخنادق دروعا متينة، واستجنّ منَ الجنوبات بحصونٍ حصينة، فصار معجزا، وممتنعا حاسرا، ومدرّعا، ومواصلا،

[1] تاريخ ابن الفرات، مجلّد 4 ج 1/ 209، مفرّج الكروب 2/ 313.

ص: 55

ومنقطعا، وعددهم الجمّ قَدْ كاثر القتل، ورفا بهم الغلب، قَدْ قطعت النّصل لشدّة ما قطعها النصْل. وأصحابنا قَدْ أثَّرت فيهم المدّة الطّويلة، والكِلَف الثّقيلة فِي استطاعتهم لا فِي طاعتهم، وَفِي أحوالهم لا فِي شجاعتهم، وكلّ من يعرفهم يُناشد اللَّه فيهم المناشدة النبويَّة فِي الصّحابة البدريّة، اللَّهمّ أن تهلك هَذِهِ العصابة، ويخلص الدّعاء ويرجوا عَلَى يد مولانا أمير المؤمنين الإجابة. وَقَدْ حرَّم باباهم، لعنه اللَّه، كُلّ مباح، واستخرج منهم كُلّ مدحور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبس الحِداد، وحكم أن لا يزالوا كذلك أَوْ يستخلصوا المقبرة. فيا عُصْبة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أخلفه فِي أمّته بما تطمئنّ بِهِ مضاجعه، ووفِّه الحقّ فينا، فَإِنا والمسلمون عندك ودائعه، ولولا أنّ فِي التّصريح ما يعود عَلَى العدالة بالتّجريح، لقال الخادم ما يُبْكي العيون وينْكي القلوب، لكنّه صابر محتسب، منتظر للنصر مرتقب. ربِّ إنّي لا أملك إلّا نفسي، وها هي فِي سبيلك مبذولة، وأخي وَقَدْ هاجر هجرة يرجوها مقبولة، وولدي وَقَدْ بِذَلت للعدوّ صفحات وجوههم، وهان عَلَى عيونك بمكروههم.

ونقف عِنْد هَذَا الحد، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد» .

وقَالَ الموفّق عَبْد اللّطيف: إنّ الفِرَنج عاثوا فِي سوق العسكر وَفِي الخِيَم، فرجع عليهم السّلطان فطحنهم طحنا، وأحصى قتلاهم بأنْ غرزوا فِي كُلّ قتيل سهما، ثُمَّ جمعوا السّهام، فكانت اثني عشر ألفا وخمسمائة. والّذين لحِقوا بأصحابهم هلك منهم تمام أربعين ألفا [1] . وبلغت الغرارة عندهم مائة وعشرين دينارا.

قَالَ: وخرجوا مرّة أخرى، فَقُتِلَ منهم ستّة آلاف ونيّف، ومع هَذَا فصبرهم صبرهم. وعمروا عَلَى عكّا بُرجين من خشب، كُلّ برج سبْع طبقات، بأخشاب عاتية، ومسامير هائلة، يبلغ المسمار نصف قنطار، وضبّات [2] عَلَى هَذَا القياس، وصُفِّح كُلّ برج منها بالحديد، ولُبِّس الجلود، ثمّ اللّبود المشربة

[1] مشارع الأشواق 2/ 941.

[2]

في مشارع الأشواق 2/ 941 «صبّات» وهو تحريف.

ص: 56

بالخلّ، وجُلِّل ذَلِكَ بشِباك من حبال القِنَّب لتردّ حدّة المنجنيق، وكلّ واحدٍ يعلو سور عكّا بثلاث طبقات. وزحفوا بهما [1] إلى السّور، وَفِي كُلّ طبقة مقاتلة، فيئس المسلمون بعكّا، فَقَالَ دمشقيّ يُقَالُ لَهُ ابن النّحّاس: دَعُوني أضربها بالمجانيق. فسخروا منه، فطلب من قراقوش أن يمكّنه منَ الآلات، ورمى البرج حَتَّى خَلْخَلَه، ثُمَّ رماه بقِدْر نِفط، ثُمَّ صاح: اللَّه أكبر، فعلا الدُّخانُ، فضجّ المسلمون، وبرزوا من عكّا، وعملت النّار فِي أرجائه، والفِرَنج ترمي أنفسها منَ الطّبقات، واشتعلوا، فأحرق المسلمون السّتائر والعُدَد، وانكسرت صولتهم [2] .

ثُمَّ اجتمعت هِمَمُهم نوبة، وعملوا كبْشًا هائلة، رأسه قناطر منَ الحديد ليبعجوا [3] بِهِ السُّور فينهدم، فَلَمَّا سحبوه وقُرِّب منَ السّور ساخ فِي الرمل لِثقله، وعجزوا عَنْ تخليصه.

وكان المسلمون فِي عكّا فِي مرضٍ وجوع قَدْ ملّوا منَ القتال، ما يحملهم سوى الْإِيمَان باللَّه تَعَالَى. وَقَدْ هدمت الفِرَنج برجا وبدنة، ثُمَّ سدّ ذَلِكَ المسلمون فِي اللّيل ووثّقوه [4] .

وكان السّلطان يكون أوّل راكب وآخر نازل.

قُلْتُ: ولعلّه وجبت لَهُ الْجَنَّة برباطه هذين العامين.

ذكر العماد الكاتب [5] أَنَّهُ حُزِر [6] ما قُتِلَ منَ الفِرَنج فِي مدّة الحرب عَلَى عكّا، فكان أكثر من مائة ألف [7] .

ومن كتاب إلى بغداد: «وَقَدْ بُلي الْإِسْلَام منهم بقومٍ استطابوا الموت،

[1] في مشارع الأشواق 2/ 941 «بها» وهو غلط.

[2]

مشارع الأشواق 2/ 941، 942 وفيه «فانكسرت همتهم» .

[3]

في مشارع الأشواق 2/ 942 «لينطحوا» .

[4]

مشارع الأشواق 2/ 942.

[5]

في الفتح القسّي.

[6]

في تاريخ ابن الفرات، مجلّد 4 ج 1/ 213 «حرر» .

[7]

تاريخ ابن الفرات، مجلّد 4 ج 1/ 213، 214.

ص: 57

واستجابوا الصّوت، وفارقوا الأوطان والأوطار، والأهل والدّيار، طاعة لقِسِّيسهم وغيرة لمعبدهم وحميَّة لمعتقدهم، وتهالكا عَلَى مقبرتهم، وتحرُّقًا عَلَى فخامتهم، حَتَّى خرجت النّساء من بلادهنّ متبرّزات، وسِرْن فِي البحر متجهّزات، وكانت منهنّ ملكة استتبعت خمسمائة مقاتل، والتزمت بمئونتهم، فأُخِذت برجالها بقرب الإسكندريّة. ومنهنّ ملكة وصلت مَعَ ملك الألمان، وذوات المقانع منَ الفِرَنج مقنّعات دارعات، يحملن الطّوارق والقنطاريّات. وَقَدْ وُجدت فِي الوقعات الّتي جرت عدّة منهنّ بَيْنَ القتلى. وما عُرِفنَ حَتَّى سُلِبن. والبابا الَّذِي بروميّة قَدْ حرَّم عليهم لذَّاتهم وقَالَ: مَن لا يتوجَّه إلى القدس فهو محرم، لا ملح لَهُ ولا مَطْعَم، فلهذا يتهافتون عَلَى الورود، ويتهالكون عَلَى يومهم الموعود» . وقَالَ:«إنّي واصل فِي الرَّبِيع، جامع عَلَى الاستنفار شمل الجميع. وَإِذَا نهض هَذَا اللّعين فلا يقعد عَنْهُ أحد، ويصل معه كُلّ من يَقُولُ للَّه تعالى ولد» .

ومن كتاب فاضليّ إلى السّلطان: «فَلَيْس إلّا الدّعاء والتّجلُّد للقضاء، فلا بُدَّ من قدر مفعول، ودعاء مقبول.

نَحْنُ الّذين إذا علوا لم يبطروا

يوم الهجاج وإنْ عُلوا لَمْ يضجروا

ومَعَاذ اللَّه أن يفتح علينا البلاد، ثُمَّ يغلقها، وأن يسلم عَلَى أيدينا القدس، ثُمَّ ينصِّره، ثُمَّ مُعَاذ اللَّه أن يغلب عَنِ النّصر، ثُمَّ مَعَاذ اللَّه أن يُغلب عَلَى الصَّبر. وَإِذَا كَانَ ما يُقدمنا الله إِلَيْهِ لا بُدَّ منه وَهُوَ لقاؤه، فلأن نلقاه والحجّة لنا خيرٌ من أن نلقاه والحجّة علينا. ولا تعظم هَذِهِ الفتون عَلَى مولانا فتبهر صبره، وتملأ صدره، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ 47: 35 [1] . وهذا دِين ما غُلِب بكثرَة وإنّما اختار اللَّه لَهُ أَرباب بنات، وروى قلوب رجالات، فليكن الوليّ نِعْمَ السَّلَف، لذلك الخَلَف، واشتدّي أزمة تنفرجي، والغمرات تذهب ثُمَّ لا تجيء، والله يسمعنا ما يسرّ القلوب،

[1] سورة محمد، الآية 35.

ص: 58

ويصرف عَنِ الْإِسْلَام غاشية هَذِهِ الكروب. ونستغفر اللَّه فَإنَّهُ ما ابتلى إلّا بذنب» .

ومن كتاب آخر يَقُولُ: «ولَسْتُ بملك هازم لنظيره، ولكنّك الْإِسْلَام للشِّرْك هازم» . يشير رحمه الله إلى أَنَّهُ وحده بعسكره فِي مقابلة جميع دين النّصرانيّة، لأنّ نفيرهم إلى عكّا لَمْ يكن بعده بعد، ولا وراءه حدّ.

ثُمَّ قَالَ: «وليس لك منَ المسلمين مساعد إلّا بدعوة، ولا خارج بَيْنَ يديك إلّا بأجرة، تشتري منهم الخطوات شبرا بذراع، تدعوهم إلى الفريضة، وكأنّك تكلّفهم النّافلة، وتعرِض عليهم الْجَنَّة، وكأنّك تريد أن تستأثر بها دونهم.

والآراء تختلف بحضرتك، فقائل يَقُولُ: لَمْ لا يتباعد عَنِ المنزلة؟

وآخر: لَمْ لا يميل إلى المصالحة؟ ويشير بالتّخلّي عَنْ عكّا، حَتَّى كَأَنّ تركها تعليق المعاملة، ولا كأَنَّها طليعة الجيش، ولا قفل الدّار، ولا خَرزة السِّلْك إنْ وَهَت تَدَاعى السّلك. فألهمك اللَّه قتلَ الكافر، وخلاف المجدّل، فكما لَمْ يُحدِثِ استمرار النِّعم لك بَطَرًا، فلا تُحدث لَهُ ساعات الامتحان ضجرًا» .

وما أحسن قول حاتم:

شربنا كأس الفقر يوما وبالغِنى

وما فينا إلّا سقانا بِهِ الدهرُ

فَمَا زادانا تعبا عَلَى ذِي قرابةٍ

غِنانا ولا أزرى بأحسابِنا الفقر

وقَالَ الآخر:

لا بطرا إنْ تتابعت نِعَمٌ

وما يرقي البلا محتسبُ

وقيل للمهلّب: أَيَسُرُّك سفرٌ لَيْسَ فِيهِ تعب؟ فَقَالَ: أكره عادة العجز.

ونحن في ضرّ قد مسّنا، ولا نرجو لكشفه إلّا منَ ابتلى. وَفِي طوفان فتنة، قَالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا من رَحِمَ 11: 43 [1] ، ولنا ذنوب قد سدّت

[1] سورة هود، الآية 43.

ص: 59

طريق دعائنا، فنحن أَوْلَى أن نلوم أنفسنا، وللَّه قدر لا سلام لنا فِي دفعه إلّا لا حول ولا قوَّة إلّا باللَّه. وَقَدْ أشرفنا عَلَى أهوال قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمن كُلِّ كَرْبٍ 6: 64 [1] . وَقَدْ جمع لنا العدوّ، وقيل لنا: اخشوه فنقول: حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 3: 173 [2] . وليس إلّا الاستغاثة باللَّه، فَمَا دأبنا فِي الشّدائد إلّا عَلَى طروق بابه، وعلى التضرُّع لَهُ فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ 6: 43 [3] نعوذ باللَّه منَ القسوة، ومنَ القنوط منَ الرحمة.

وما شرَّد الكَرَى، وطوَّل عَلَى الأفكار السّرى، إلّا ضائقة القُوت بعكّا.

وهذه الغَمَرات هِيَ نعمة الله عليه، وهي درجات الرّضوان، فاشكر اللَّه كَمَا تشكره عَلَى الفتوحات.

واعلم أنّ مثوبة الصَّبْر فوق مثوبة الشُّكر. ومِن ربط جأْش عُمَر رضي الله عنه قوله: لو كَانَ الصَّبْر والشُّكر بعيرَين ما باليت أيُّهما ركِبت. وبهذه العزائم سبقونا فلا تطمع بالغبار، وامتدّت خُطاهم، ونعوذ باللَّه منَ العثار.

ومن (

) [4] أن ترق بك ماضيه جبل فلا تعجز، وإن نزل بك ما لَيْسَ فِيهِ حيلة فلا تجزع» .

ولمّا اشتدّ الأمر بعكّا وطال أرسل السّلطان كتابا إلى شمس الدّين بْن منقذ يأمره بالمسير إلى صاحب المغرب يعقوب بْن يوسف بْن عَبْد المؤمِن يستنصر به، ليقطع عنه مادّتهم من جهة البحر [5] . وأمر ابن منقذ أن يستقرئ فِي الطّريق والبلاد ما يُحيي بِهِ الملك يعقوب وكيف عاداتهم. وأن يقصّ عليه: من أوّل وصولنا إلى مصر، وما أزلنا بها منَ الإلحاد، وما فتحنا من بلاد الفِرَنج وغيرها وتفصيل ذَلِكَ كلّه، وأمر عكّا، وأنّه لا يمضي يوم إلّا عَنْ قوَّة تتجدَّد، وميرة فِي البحر تصل، وأنّ ثغرنا حصروه، ونحن حصرناهم، فما

[1] سورة الأنعام، الآية 64.

[2]

سورة آل عمران، الآية 173.

[3]

سورة الأنعام، الآية 43.

[4]

في الأصل بياض.

[5]

مرآة الزمان 8/ 405، مفرّج الكروب 2/ 361، تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 23، 24.

ص: 60

تمكَّنوا من قتال الثّغر، ولا تمكّنوا من قتالنا، وخندقوا عَلَى نفوسهم عدّة خنادق، فَمَا تمكنّا من قتالهم. وقدَّموا إلى الثّغر أبرجة [1] من خشب أحرقها أهله. وخرجوا مرَّتين إلينا يبغون غرَّتنا، ينصرنا اللَّه عليهم، ونقتلهم قتلا ذريعا، أجلت إحدى النَّوبتين عَنْ عشرين ألف قتيل منهم. والعدوّ وإن حصر الثّغر فَإنَّهُ محصور، ولو أبرز صفحته لكان بإذن اللَّه هُوَ المكسور.

ويذكر ما دخل الثّغر من أساطيلنا ثلاث مرّات واحتراق مراكبهم، وهي الأكثر، ودخولها بالسّيف الأظهر ينقل إلى البلد الميرة. وإنّ أمر العدوّ قَدْ تطاول، ونجدته تتواصل، ومنهم ملك الألمان فِي جموع جماهيرها مجمهرة وأموالها مقنطرة. وإنّ اللَّه سبحانه وتعالى قَدْ قصم طاغية الألمان، وأخذه أخْذ فرعون بالإغراق فِي نهر الدُّنْيَا، وإنّهم لو أرسل اللَّه عليهم أسطولا قويّا مستعدّا يقطع بحرة، ويمنع ملكه، لأخذنا العدوّ بالجوع والحصر، والقتال والنّصر.

فَإِن كَانَتْ بالجانب الغربيّ الأساطيل ميسَّرة، والرجال فِي اللّقاء فارهة غير كارهة، فالبدار البدار.

وأنت أيُّها الأمير أوّل منَ استخار اللَّه وسار، وما رأينا أهلا لخطابنا، ولا كفؤا لإنجادنا، إلّا ذَلِكَ الجانب، فلم ندعه إلّا لواجبٍ عليه. فقد كَانَتْ تتوقّع منه همّة تَقِدُ فِي الغرب نارها، ويستطير فِي الشّرق سناها، ويغرس فِي العُدْوة القصوى شجرتها، فينال من في العُدْوة الدُّنْيَا جناها، فلا ترضى همَّته أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الْإِسْلَام الْإِسْلَام. واختُص بالاستعانة لأنّ العدوّ جاره، والجار أقدر عَلَى الجار، وأهل الْجَنَّة أَوْلى بقتال أَهْل النّار.

ولأنّه بحر والنّجدة بحريّة، ولا غرو أن تجيش البحار.

وأن يذكر ما فعل بوزبا وقراقوش فِي أطراف المغرب، فيعرّفه أنّهما ليسا من وجوه الأمراء، ولا منَ المعدودين فِي الطُّواشيَّة والأولياء، وإنّما كسدت سوقهما، وتبِعَهما ألفافٌ أمثالُهما. والعادة جارية أنّ العساكر إذ طالت ذيولها، وكثُرت جُمُوعها، خرج منها وانضاف إليها، فلا يظهر مديدها ولا نقصها.

[1] في الأصل: «برجة» .

ص: 61

ولا كَانَ هذان المملوكان مِمَّنْ إذا غاب أُحْضِر، ولا إذا ذهب افْتُقِد، ولا يُقّدَّر فِي أمثالهما أنّهما مِمَّنْ يستطيع نكاية، ولا يأتي بما يوجب شكوى من جناية.

ومعاذ اللَّه أن يأمر مفسدا يفسد فِي الأرض. واللَّه يوفّق الأمير، ويهدي دليله، ويسهِّل سبيله. وكتب فِي شعبان سنة ستٍّ وثمانين» .

وأمّا الكتاب إِلَى صاحب المغرب فعنوانه: «بلاغ إلى محلّ التّقوى الطّاهر منَ الذَّنْب، ومستقرّ حزب اللَّه الظّاهر منَ الغرب، أعلا اللَّه بِهِ كلمة الْإِيمَان، ورفع بِهِ منار الإحسان» .

وأوّله: بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحيم.

الفقير إلى رحمة ربه يوسف بْن أيّوب.

أمّا بعد، فالحمد للَّه الماضي المشيّة، المُمْضي القضيّة، البَرُّ بالبريَّة، الحفيّ بالحنيفيَّة، الَّذِي استعمل عليها منَ استعمر بِهِ الأرض، وأغنى من أهلها من ماله القرض، وأنجد من أجرى عَلَى يده النّافلة والفَرْض، وصلّى اللَّه عَلَى مُحَمَّد الَّذِي أنزل عليه كتابا فِيهِ الشّفاء والتّبيان.

إلى أن قال: وهذه التّحيّة الطّيّبة وفادة عَلَى دار الملك، ومدار النُّسك، ومحلّ الجلالة، وأصل الأصالة، ورأس السّياسة، ونفس النّفاسة، وعلم العلم، وقائم الدّين وقيّمه، ومقدّم الْإِسْلَام ومقدّمه، ومثبت المتّقين عَلَى اليقين، ومُعْلي الموحّدين عَلَى الملحدين، أدام اللَّه لَهُ النُّصرة، وجَهَّز بِهِ العُسْرة، وبسط لَهُ باع القدرة. تحيّة استتر فيها الكتاب، واستنيب عَنْهَا الجواب، وحفز بها حافزان، أحدهما شوق قديم كَانَ مطل غيمه ممكنا إلى أن تتيسّر الأسباب، والآخر مُرام عظيم كرّه إذا استفتِحت بِهِ الأبواب. وكان وقت المواصلة وموسم المكاتبة عناءه بفتح بيت المقدس وعدّة منَ الثّغور، ولم تتأخّر المكاتبة إلّا لُيتِم اللَّه ما بدا من فضله، والمفتتح بيد اللَّه مُدُن وأمصار، وبلاد كبار وصغار، والباقي بيد الكُفْر مِنها أطرابُلُس، وصور، وأنطاكية، يسّر اللَّه أمرها بعد أن كسر اللَّه العدوّ الكسرة الّتي لَمْ يُجْبر بعدها، ولم يؤجر فتح هَذِهِ المُدُن الثّلاثة، إلّا أنّ فرع الكُفار بالشّام استصرخ بأصله،

ص: 62

فأجابوهم رجالا وفرسانا، وزرافات ووحدانا، وبرّا وبحرا، ومركبا وظهرا، وسهلا ووعرا. وخرج كُلّ يلبّي دعوة بطرَكه، ولا يحتاج إلى عزمة ملكه.

ونزلوا عَلَى عكّا يمدّهم البحر بأمداده، ويصل إلى المقاتل ما يحتاجه من سلاحه وأزواده، وعدّتهم مائة ألف أو يزيدون، كلّما أفناهم القتْل أخلفتهم النّجدة.

قَالَ: واستمرَّ العدوّ يحاصر الثّغر محصورا مِنَّا أشدّ الحصر، لا يستطيع قتال الثّغر لأنّا من خلفه، ولا يستطيع الخروج إلينا خوفا من حتفه، ولا نستطيع الدّخول إِلَيْهِ لأنّه قَدْ سوّر وخندق، وحاجز من وراء الحجرات وأغلق. ولمّا خرج ملك الألمان بجيشه وعاد عَلَى رسم قديم إلى الشّام، فكان العَوْد لأُمَّة أحمد أَحْمَد. فظنّوا أَنَّهُ يزعجنا، فبعثنا إِلَيْهِ مَن تلقّاه بعسكرنا الشّماليّ، فسلك ذات الشّمال متوعّرا، وأظهر أَنَّهُ مريض. وكان أَبُوه الطّاغية قَدْ هلك فِي طريقه غرقا، وبقي ابنه المقدّم المؤخّر، وقائد الجميع المكسّر، وربّما وصلهم إلى ظاهر عكّا فِي البحر، تهيُّبًا أن يسلك البرّ، ولو سبق عساكرنا إلى عساكر الألمان قبل دخولها إلى أنطاكية لأخذوهم، ولكنّ للَّه المشيئة.

ولمّا كَانَتْ حضرة سلطان الْإِسْلَام، وقائد المجاهدين إلى دار السلام، أَولى من توجَّهَ إِلَيْهِ الْإِسْلَام بشكواه وبثّه، واستعان بِهِ عَلَى حماية نسْله وحَرْثه، وكانت مساعيه ومساعي سَلَفه فِي الجهاد الغُر المحجَّلة، الكاشفة لكلّ مُعْضِلة، والأخبار بِذَلِك سائرة، والآثار ظاهرة.

إلى أن قَالَ: وكان المتوقَّع من تلك الدّولة العالية، والعزمة العارية، مَعَ القدرة الوافية، والهمَّة المهديَّة الهادية، أن يمدّ غرب الْإِسْلَام المسلمين بأكثر ممّا أمدّ به غرب الكفّار الكافرين. فيملؤها عليهم جواري كالأعلام، ومُدُنًا فِي الحجّ كأَنَّها اللّيالي مقلعة بالأيّام، تطلع علينا آمالا، وعلى الكفر آجالا، وتردّنا إمّا جملة وإمّا أَرسالًا ولمّا استبطأت ظُنَّ أنّها قَدْ توقّفت عَلَى الاستدعاء، فصرّحنا بِهِ فِي هذه التّحيّة، وسُيِّر لحضور مجلسه الأطهر، ومحلّه

ص: 63

الأنور، الأمير الأجلّ المجاهد شمس الدّين أَبُو الحَرَم عَبْد الرَّحْمَن بْن منقذ، الهديَّة إِلَيْهِ ختمة في ربعة، وثلاثمائة مثقال مسك، وستّمائة حبّة عنبر، عشرة منارهن بلسان مائة دِرْهَم، مائة فؤوس بأوتارها، عشرون سرجا، عشرون سيفا، سبعمائة سهم.

وكان دخوله عَلَى يعقوب فِي العشرين من ذِي الحجّة بمرّاكُش، فأقام سنة وعشرين يوما، وخرج وقدم الإسكندريّة فِي جُمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثمانين، ولم يحصل الغرض، لأنّه عزَّ عَلَى يعقوب كونه لَمْ يُخَاطب بأمير المؤمنين.

وقد مدحه ابن منقذ بقصيدةٍ منها:

سأشكر بحرا ذا عبابٍ قطعته

إلى بحر جود ما لنعماه ساحِلُ

إلى معدن التّقوى إلى كعبة الهدى

إلى مَن سَمَت بالذِّكْر منه الأوائِلُ

وكان السّلطان صلاح الدّين قَدْ هُمْ بأن يكتب إِلَيْهِ بأمير المؤمنين، فكتب إلى السّلطان القاضي الفاضل يَقُولُ:«والمملوك لَيْسَ عِنْد المولى من أَهْل الاتّهام، والهديّة المغربيّة نجزت كَمَا أمر» . وكتب الكتاب عَلَى ما مثّل، وفخّم الوصف فوق العادة.

وعند وصول الأمير نجم الدّين فاوضته فِي أَنَّهُ لا يمكن إلّا التّعريض لا التّصريح بما وقع لَهُ أَنَّهُ لا تنجح الحاجة إلّا بِهِ من لفظة أمير المؤمنين، وأنّ الَّذِي أشاروا بهذا ما قَالُوا نقلا، ولا عرفوا مكاتبة المصريّين قديما. وآخر ما كتب فِي أيّام الصّالح بْن رُزّيك، فخوطب بِهِ أكبر أولاد عَبْد المؤمن ووليّ عهده بالأمير الأصيل النِّجار، الجسيم الفخار. وعادت الأجوبة إلى ابن رُزيك الَّذِي فِي أتباع مولانا مائة مثله، مترجمة بمعظِّم أمره، وملتزِم شكره. هَذَا والصّالح يتوقَّع أن يأخذ ابن عَبْد المؤمنَ البلاد من يديه، ما هُوَ أن يهرب مملوكان طريدان مِنَّا فيستوليان عَلَى أطراف بلاده، ويصل المشار إِلَيْهِ بالأمر من مَرّاكُش إلى القيروان، فيلقاهم فيُكسر مرّة ويتماسك أخرى. وأُعلم نجم الدّين بِذَلِك، فأمسك مقدار عشرة أيّام. ثُمَّ أنفذ نجم الدّين إِلَيْهِ عَلَى يد ابن

ص: 64

الجليس بأنّ الهدية أُشير عليه بأنّ لا يستصحبها، وإن استصحبها تكون هديّة برسم مَن حواليه، وأنّ الكتاب لا يأخذه إلّا بتصريح أمير المؤمنين، وأنّ السّلطان- عزّ نصرُه- رسم بِذَلِك، والملك العادل بأن لا يسير إلا بِذَلِك، وأَنَّهُ إذا لقي القوم خاطبهم بهذه التّحيّة عَنِ السّلطان من لسانه، فأجابه المملوك بأنّ الخَطَّاب وحده يكفي، وطريق جحده ممكن، وإنّ الكتابة حجّة تقيّد اللّسان عَنِ الإنكار، فلا ينبغي. ومتى قُرِئت عَلَى منبر الغرب جُعِلنا خالعين شاقّين عصا المسلمين، مطيعين مَن لا تجوز طاعته، ويفتح باب يعجز موارده عَنِ الإصدار، بل تمضي وتكشف الأحوال، فإنْ رَأَيْت للقوم شَوْكة، ولنا زبدة، فِعدْهم بهذه المخاطبة، واجعل كلّما يأخذه ثمنا للوعد بها خاصّة، فامتنع وقَالَ: أَنَا أقضي أشغالي، وأتوجّه للإسكندريّة، وأنتظر جواب السّلطان.

وإلى أن أنجز أمر الموكب وأمر الرّكاب، فسيَّر المملوك النّسخة فَإِن وافقت فيتصدَّق المولى بترجمة يلصقها عَلَى ما كتبه المملوك، ويأمر نجم الدّين بتسلّم الكتاب، مَعَ أنّ ابن الجليس حدَّثه عَنْهُ أَنَّهُ ممتنع منَ السّفر إلّا بالمكاتبة بها. فأمّا الَّذِي يترجم بِهِ مولانا فيكون مثل الَّذِي يُدعى بِهِ عَلَى المنبر لمولانا، وَهُوَ الفقير إلى الله تَعَالَى يوسف بْن أيّوب. وَإِذَا كتب إليهم ابن رُزّيك منَ السّيّد الأجَلّ، الملك الصّالح، قُبح أن يكتب إِلَيْهِ مولانا الخادم. وهذا مبلغ رأي المملوك. وَقَدْ كتبت النّسخة، ولم يبق إلّا تلك اللّفظة، وليست كتابة المملوك لها شركا، والمملوك وعقبه مستجيرون باللَّه، ثُمَّ بالسّلطان من تعريضهم لكدر الحياة، ومعاداة مَن لا يُخفى عَنْهُ خبر، ولا تُقال بِهِ عَثْرَة. والكُتّاب الّذين يشتغلون بتبييض النّسخة موجودون، فينوبون عَنِ المملوك» .

ومن كتاب لَهُ رحمه الله إلى السّلطان: «تبرَّمَ مولانا بكثرة المطالبات، لا أخلاه اللَّه منَ القُدْرَة عليها، وهنيئا لَهُ. فاللَّه تَعَالَى يطالبه بحفظ دينه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطالبه بِحُسن الخلافة فِي أمّته، والسَّلَف يطالبونه بمباشرة ما لو حضروه لما زادوا عَلَى ما يفعله المولى، وأهل الحزب يطالبونه بالذّهب

ص: 65