الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القوافل، وساروا فِي اللّيل، فتهيَّأت الفِرَنج لكبْسهم وكمنوا لهم، ثُمَّ بيَّتوهم بأرض الحسا. فطاف الإنكتير حول القَفَل فِي صورة بدويّ، فرآهم ساكنين، فكبسهم فِي السَّحر بخيله ورَجْله، فكان الشّجاع من نجا بنفسه. وكانت وقعة شنعاء لَمْ يُصب النّاس بمِثلها فِي هَذِهِ السّنين. وتبدَّد النّاس فِي البريَّة وهلكوا، وحازت الفِرَنج أموالا وأمتعة لا تحصى، وأسروا خمسمائة نفس، ونحو ثلاثة آلاف جَمَلٍ محمّلة، فقويت نفوس الملاعين بالظَّفَر والغنائم، وعزموا عَلَى قصد القدس [1] .
[المشورة فِي أمر القدس]
وسار كنْدهري إلى صور، وطرابُلُس، وعكّا يستنفر النّاس، فهيَّأ السّلطان القدس وحصَّنها للحصار، وأفسد المياه الّتي بظاهر القدس كلّها، وجمع الأمراء للمشورة، فَقَالَ القاضي بهاء الدّين بْن شدّاد [2] : فأمرني أن أحثّهم عَلَى الجهاد، فَذَكَرَتْ ما يسَّر اللَّه تَعَالَى، وقلت: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اشتد بِهِ الأمر بايع الصّحابة عَلَى الموت، ونحن أول من تأسّى بِهِ، نجتمع عِنْد الصَّخرة، ونتحالف عَلَى الموت. فوافقوا عَلَى ذَلِكَ. وسكت السّلطان طويلا، والنّاس كَأَنّ عَلَى رءوسهم الطّير، ثُمَّ قَالَ: الحمد للَّه والصّلاة على رسول الله. اعلموا أنّكم جُنْد الْإِسْلَام اليوم ومَنعته، وأنتم تعلمون أنّ دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم متعلّقة فِي ذمَّتكم [3] . وإنّ هَذَا العدوّ لَيْسَ لَهُ مَن يلقاه غيركم، فلو لوَيْتم أَعِنَّتكم، والعياذ باللَّه، طوى البلاد، وكان هَذَا من ذمّتكم، فإنّكم أنتم الّذين تصدَّيْتم لهذا، وأكلتم بيت مال المسلمين لحفْظ حَوْزتهم.
فانتدب جوابه سيف الدّين المشطوب وقَالَ: نَحْنُ مماليكك وعبيدك، وأنت الَّذِي أنعمت علينا وعظَّمتنا [4] ، وليس لنا إلّا رقابنا، وهي بين يديك،
[1] الكامل 12/ 82، مفرّج الكروب 2/ 284، تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 66- 68.
[2]
في النوادر السلطانية، وعنه ينقل ابن الفرات في تاريخه 4/ 2/ 69.
[3]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 69 «في ذممكم» .
[4]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 69 «وأعنتنا» .
واللَّه ما يرجع أحدٌ منَّا عَنْ نُصرتك إلى أن تموت [1] .
فَقَالَ الجماعة مثل ما قَالَ، فانبسطت نفس السّلطان وأطعمهم، ثُمَّ انصرفوا.
فَلَمَّا كَانَ عشاء الآخرة اجتمعنا فِي خدمته عَلَى العادة وسَمَرْنا وَهُوَ غير منبِسط. ثُمَّ صلّينا العشاء، وكانت الصَّلاة هِيَ الدُّستور العامّ، فصلّينا وأخذنا فِي الانصراف فاستدعاني وقَالَ: أَعَلِمتَ ما تجدَّد؟ قُلْتُ: لا.
قَالَ: قَالَ إنّ أَبَا الهيجا السّمين تقدَّم إليّ اليوم وقَالَ: اجتمع اليوم عنده الأمراء، وأنكروا موافقتنا عَلَى الحصار، وقالوا لا مصلحة فِي ذَلِكَ، فإنّا نُحصَر ويجري علينا ما جرى عَلَى أَهْل عكّا، وعند ذَلِكَ تؤخذ بلاد الْإِسْلَام أجمع. والرأي أنْ نعمل [2] مُصَافًّا، فإنْ هزمْناهم مَلَكْنا بقيّة بلادهم، وإنْ تكن الأخرى سلِم العسكر وذهب [3] القدس. وَقَدِ انحفظت بلاد الْإِسْلَام وعساكرها مدّة بغير القدس.
وكان السّلطان رحمه الله عنده منَ القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فشقَّت عليه هَذِهِ الرسالة.
وقمت تِلْكَ اللّيلة فِي خدمته إلى الصّباح، وهي منَ اللّيالي الّتي أحياها فِي سبيل اللَّه.
وكان ممّا قالوه فِي الرسالة: «إنّك إنْ أردتنا أن نقيم بالقدس فتكون أَنْت معنا أَوْ بعض أهلك، فالأكراد لا يدينون للأتراك، ولا الأتراك يدينون للأكراد» .
فانفصل الحال عَلَى أن يضمّ من أهله الملك الأمجد صاحب بِعْلَبَكّ.
وكان رحمه الله يحدِّث نفسه بالمُقام، ثُمَّ امتنع من ذلك لما فيه من
[1] في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 69 «يموت» .
[2]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 70 «أن نلقي» .
[3]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 70 «ومضى» .
خطر للإسلام، فَلَمَّا صلّينا الصُّبح قُلْتُ لَهُ: ينبغي أن ترجع إلى اللَّه تَعَالَى، وهذا يوم جمعة، وفيه دعوة مُستجابة، ونحن فِي أَبْرك موضع. فالسّلطان يغتسل الجمعة ويتصدَّق بشيء سرّا [1] ، وتصلّي بَيْنَ [2] الأذان والإقامة ركعتين تناجي فيهما ربَّك، وتفوِّض مقاليد أمورك إِلَيْهِ، وتعترف بعجْزك عمّا تصدَّيْت لَهُ، فلعلّه يرحمك ويستجيب لك.
وكان رحمه الله حَسَن الاعتقاد، تامّ الْإِيمَان، يتلقّى الأمور الشرعيَّة بأحسن انقياد [3] .
فَلَمَّا كَانَ وقت الجمعة صلّيت إلى جانبه فِي الأقصى، وصلّى ركعتين، ورأيته ساجدا ودموعه تتقاطر [4] .
ثُمَّ انقضت الجمعة. فَلَمَّا كَانَ العشِيّ وصلت رقعة من عزّ الدّين جرديك، وكان فِي اليَزَك، يَقُولُ فيها: إنّ القوم قَدْ ركبوا بأسرهم، ووقفوا فِي البرّ عَلَى ظهر، ثُمَّ عادوا إلى خيامهم، وَقَدْ سيّرنا جواسيس تكشف [أخبارهم][5] .
ولمّا كَانَ منَ الغد يوم السّبت، وَهُوَ الحادي والعشرين من جُمادى الآخرة، وصلت رقعةٌ أخرى تُخْبر أنّ الجواسيس رجعوا، وأخبروا أنّ القوم اختلفوا فِي الصُّعود إلى القدس أَوِ الرحيل إلى بلادهم، فذهب الفرنسيسة إلى الصّعود إلى القدس وقالوا: إنّما جئنا بسببه فلا نرجع [6] . وقَالَ الأنكتير إنّ هَذَا الموضع قَدْ أُفسِدت مياهُه ولم يبق حوله ماء [7]، فمن أين نشرب؟ قالوا:
[1] في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 71 «خفية» .
[2]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 71 «من» .
[3]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 71 «بأكمل انقياد ومثول» .
[4]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 71 زيادة: «على مصلّاه» .
[5]
إضافة على الأصل من: تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 71.
[6]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 72 «إنما جئنا من بلادنا بسبب القدس ولا نرجع دونه» .
[7]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 72 زيادة: «أصلا» .
نشرب من نهر نقوع، وَهُوَ عَلَى فرس منَ القدس، فَقِيل [1] : كيف نذهب إِلَيْهِ؟ قَالُوا: قسم يذهب إلى السَّقْيِ، وقسم يبقى عَلَى البلد، فَقَالَ: إذا يأخذ العسكر البرّانيّ الَّذِي لهم منَ الَّذِي يذهب مَعَ الدّوابّ، ويخرج عسكر البلد عَلَى الباقين [2] .
فانفصل الحال عَلَى أنّهم حكّموا ثلاثمائة من أعيانهم، وحكّم الثّلاثمائة اثني عشر منهم، وحكَم الاثنا عشر ثلاثة منهم، وَقَدْ باتوا عَلَى حكم الثّلاثة.
فَلَمَّا أصبحوا حَكَموا عليهم بالرحيل، فلم يمكنهم المخالفة، فرحلوا ليومهم، وَهُوَ يوم السّبت المذكور، نحو الرملة، ناكصين عَلَى أعقابهم.
ثُمَّ نزلوا الرملة، وتواتر الخبر بِذَلِك إلى السّلطان، وكان يوم فرحٍ وسرور.
ثُمَّ ورد رسول الأنكتير فِي الصُّلْح يَقُولُ: قَدْ هلكنا نَحْنُ وأنتم، والأصلح حَقْن [3] الدّماء، ولا تغترّ بتأخيري عَنْ منزلتي، فالكبش يتأخَّر لينطح. وهذا ابن اختي كنْدهري قَدْ ملَّكْته هَذِهِ الدّيار، وسلّمته إليك يكون بحكمك [4] . وإنّ جماعة منَ الرُّهْبان قَدْ طلبوا منك كنائس، فَمَا بخلت بها عليهم، وأنا أطلب منك كنيسة فِي القدس، وأنا أرسلتك [5] بِهِ مَعَ الملك العادل قَدْ تركته، يعني من طلبه القدس وغيرها، ولو أعطيتني قرية أَوْ مقرعة [6] لقبِلْتها [7] .
فاستشار السّلطان الأمراء، فأشاروا بالصّلح لما بهم من الضّجر والتّعب
[1] في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 72 «فقال» .
[2]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 72 زيادة: «ويذهب دين النصرانية» .
[3]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 72 «نحقن» .
[4]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 73 «يكون وعسكره بحكمك» .
[5]
كذا في الأصل، والصحيح «راسلتك» .
[6]
هكذا في الأصل، وأيضا في أصل تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 73 انظر الحاشية رقم 279 وأثبتها محقّقه في المتن:«مزرعة» .
[7]
في تاريخ ابن الفرات 4/ 2/ 73 «قبلتها وقبلتها» .