الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (9)
• قَالَ اللهُ عز وجل: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [النور: 9].
قَوْلهُ: {وَالْخَامِسَةَ} ، يعني: وتشهد الخَامِسَة {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
قَوْلهُ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} في مقابل قَوْلهُ: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، والغضبُ أشدُّ من اللَّعْنة، فالغضبُ -والعِيَاذ باللهِ- يَلْزَم منه اللَّعْنة وزيادة، بخلاف اللَّعْنة فهي طردٌ وإبعادٌ عن الرَّحمة، لكن هَذَا طردٌ وإبعادٌ مع غضبٍ، وإنما اختير لها ذَلِك -أي: الغَضَب- لسببين:
السَّبب الأوَّل: أن رَمْيَ الزَّوج إياها بالزِّنَا أقربُ إلى الصدق من إنكارها، ولأنَّهُ يبعد أن يرميَ الزَّوجُ زوجتَه بالزِّنَا وهي حليلته، فهَذَا بعيد جدًّا، إلا إِذَا تَيَقَّنَ ذَلِك، لكنَّ إنكارَها أمرٌ متوقع؛ لأنَّها تَدْرَأُ عن نفسها عارَ الْفَاحِشَة، وكَذلِك عن أهلها، كما قالتِ المَرْأَة:"لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ"
(1)
.
السَّبب الثَّاني: أنَّه إِذَا كَانَ الزَّوجُ صادقًا والمَرْأَة تنكر صَارَت تَرُدُّ الحَقّ مع علمها به، ومن رَدَّ الحَقّ مع علمه به فجزاؤه الغَضَب، كحال اليهود الَّذِينَ ردوا
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة النور، حديث رقم (4747)، عن ابن عباس.
الحَقّ مع علمهم به، فاستحقوا الغَضَب، وأمَّا الضالون فهم الَّذِينَ لَمْ يقولوا الحقَّ لجهلهم به.
لو قَالَ قَائِل: يستطيعُ الزَّوجُ أن يطلقَ زوجتَه ويتخلصَ؟ نقولُ: هو لا يريدُ أن يطلقَها، ولو أَرَادَ ذَلِك ما احتاجَ أن يأتيَ ويرميَها، بل يطلقها.
ولو قَالَ قَائِلٌ: هل يُمْكِن أن يرمىَ الزَّوجُ زوجتَه كاذبًا؟
الجواب: لا يُمْكِن أن يُقْدِمَ الْإِنْسَان على رمي زَوْجَته بالزِّنَا لمجرد ظنون أبدًا، لا يَكُون ذَلِك إلا بشَيْء رآه ولا يسْتَطيع أن يصبرَ عليه؛ لأَن هَذَا عارٌ عليه، ولهَذَا -كما سيأتي إِنْ شَاء اللهُ- فالْإِنْسَان العفيفُ -في الغالِب- لا يُمْكِن أن يبتليَهُ اللهُ بامرأةٍ تزني، قَالَ تَعَالَى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]، فلهَذَا فالزَّوجُ نفسُه يجد أن مِنَ العَار أن يشهرَ عند النَّاس أنَّ امرأتَه زانيةٌ، لكن المَرْأَة تجد أنَّه مِنَ العَار أنْ تُقِرَّ علَى نفْسِها؛ ولذا فهي تحاول أن تنكر.
لو قَالَ قَائِلٌ: ما الحُكْم لو قالت المَرْأَة لزوجها: طلقني؟
الجواب: هو لن يطلقها لأنَّها ربما تُقِرُّ ويثبت عَلَيْها حد الزِّنَا، وحينئذٍ يتخلص بدون طلاق، لكن إِذَا كَانَ يُرِيد الطَّلاقَ لا يُمْكِن رَدُّهُ؛ لأَنه يجوز له أن يطلقها وإن لم تزنِ.
ماذا يَجب على الرَّجل إِذَا زنت زَوْجَته وأَرَادَ إمساكها؟
الجواب: يَجب إِذَا حصل هَذَا أن يَسْتَبْرِئَها بحَيْضَةٍ، فإن قُدِّرَ أنَّه لمَّا اسْتَبْرَأَها لم تَحِضْ بل حَمَلَتْ فالْوَلَد له؛ لأَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "الْوَلَد لِلْفِرَاشِ
وَللْعَاهِرِ الحَجَرُ"
(1)
، حَتَّى لو فوضنا أنَّه حسب تقدير الله من هَذَا الزَّاني فهو ولده؛ لأَن الْوَلَد لِلْفِراشِ.
فإذا لاعنَ لنفي الْوَلَد انتهى الموضوع، لكن اللِّعَان لنفي الْوَلَد فيه خلافٌ، المذهبُ أنَّه لا يجوز أن يُلاعن لنفي الْوَلَد، بل لا بُدَّ أن يقذفها أوَّلا بالزِّنَا، ثم يُلاعِنُ وينفي الْوَلَد.
والصحيحُ أنَّه يجوز أن يُلاعِنَ لنفي الْوَلَد فقط، بأنْ يقولَ: أنا لم أقل: زنت، لكن هَذَا الْوَلَد لَيْسَ مني، وأُلاعِنُ على ذَلِك، ويقول في اللِّعَان: أشهدُ باللهِ، ويشهد أربعَ شَهادَات إنه لمِنَ الصَّادقينَ في أن الْوَلَد لَيْسَ منه، وأنَّ لعنةَ الله علَيْه إن كَانَ من الكاذِبين؛ لأَن المَرْأَة قد تَكُون مُكْرَهَةً لم تَزْنِ، أو مُشْتبَهًا فيها مثلًا؛ لأنَّ مَسْأَلة الزِّنَا صعبةٌ؛ ولهَذَا أوجبَ اللهُ فيه الحدَّ.
وهَذَا الرَّجل لو نفى ولده لا يَجب علَيْه الحْدُّ، ولا على المَرْأَة، ولا يُقالُ لها: إن هَذَا الْوَلَد ابن زنا، ولا يُقالُ له: هَذَا العَمَلُ يُعَدُّ قَذْفًا.
فَعلَى القَوْلِ الصَّحيح، إِذَا حملتْ ولَيْسَ لها زوج فإنها تحدُّ إلا إِذَا ادَّعَتْ شُبْهَةً، أما الَّتِي لها زوج فلا يُمْكِن أن نأتيَها أو نَقْرَبَها.
ولو قَالَ قَائِلٌ: هل ينتفي الْوَلَد عن الزَّوج باللِّعان أو لا ينتفي؟
الجواب: إن نفاه في لِعانه انتفى وإلا فهو ولدُه.
(1)
أخرجه البخاري كتاب الفرائض، باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة، حديث رقم (6749)، ومسلم كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، حديث رقم (1457)، عن عَائِشَة رضي الله عنه.
إِذَنْ لا بُدَّ من أن يصرح بنفيه وإلا فهو ولده؛ لأنَّ "الْوَلَد لِلْفِرَاشِ"، كما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَللْعَاهِرِ الحَجَرُ".
إذا سكتَ عن الْوَلَد فهو ولده، وإن نفاه انتفى، لكن إِذَا نفى الزَّوجُ الْوَلَد، فَمَنْ يَكُون أبوه؟
الجواب: لَيْسَ له أبٌ شرعًا، ويُنْسَبُ إلى أُمِّه، وهل ترثه أمه ميراثَ أُم أو ميراثَ أُم وأب؟ بما أنَّه يُنْسَب إلى أمه، فتكون أمُّه أمًّا وأبًا، وينبني على ذَلِك صُورَة: لو مات هَذَا الْوَلَد عن أمه الَّتِي ولدته وعن إخوتِه من أُمِّه، كَيْفَ يَكُون الميراثُ؟
الجواب: إِذَا قُلْنا: إن الأمَّ أمٌّ وأب، حَجَبَتْهُم الأم، وصَارَ الميراث لها ولَيْسَ لإخوته شَيْءٌ، فيَكُون لها السُّدس على أنَّها أم، والباقي لها تَعْصِيبًا على أنَّها أب، وهَذَا هو الصَّحيح لحديث:"تَحُوزُ المَرْأَة ثَلَاَثةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقَهَا وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ"
(1)
.
والمَذْهَب يَقُولُونَ: إنها ترثُه ميراثَ أُمٍّ فقط، ويَكُون العاصبُ له عصبةَ أمه، وعلى هَذَا فيَكُون للأم هُنا السُّدسُ، والباقي لإخوته من أمه؛ لأنهم أبناؤها، فهم عصبة الأم، فيَكُون الباقي لهم.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الفرائض، باب ميراث ابن الملاعنة، حديث رقم (2906)، والنسائي في الكبرى، كتاب الفرائض، باب ميراث ولد الملاعنة، حديث رقم (6360)؛ والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء، حديث رقم (2115)؛ وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب تحوز المَرْأَة ثلاث مواريث، حديث رقم (2742)، وأحمد (4/ 106)(17022)؛ عن واثلة بن الأسقع.
مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكَرِيمَةِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: الحكْمَةُ في اللِّعان حيث خُصَّ الرَّجل بالدُّعاء علَى نفْسِه بِاللَّعْنِة، والمَرْأَة بالدُّعاء علَى نفْسِها بالْغَضب، وهَذَا سبقت الإِشَارَة إلَيْه، فكَوْنُ الزَّوج يَلْعَن نفسه إنْ كَذَبَ لأَن في اتهامه إياها بالزِّنَا إبعادًا لها عن العفة وعن نفسه وأولاده، فناسب أن يدعو علَى نفْسِه بِاللَّعْنِ الَّذِي هو الطَّرْد والإبعاد.
الفَائِدة الثَّانية: الحكْمَةُ في المُغايَرَة بين الزَّوج والزَّوْجَة فيما يدعو أحَدهما به علَى نفْسِه؛ المَرْأَة بالْغَضب والزَّوج بِاللَّعْنِة.
لو أنَّه عكس وقال الزَّوج: غضب الله عليه، وقالت الزَّوْجَة: لعنة الله عَلَيْها، هل يصحُّ أو لا يصِحُّ؟
الجواب: لا يصِحُّ، حَتَّى قَالَ العُلَماء: لو أبدلتِ الغضبَ بالسّخطِ، أو أبدلَ اللعنةَ بالطَّرْدِ والإبعادِ عن رحمة الله، فإنَّه لا يصِح اتّباعًا للفظ، وهَذَا في الحَقيقَة مَحَلُّ نظرٍ خصوصًا في الطَّرْد والإبعاد، وأما السّخطُ فقد يَكُون بينه وبين الغَضَب فرقٌ، لكن الطَّرْد والإبعاد عن رحمة الله هو معنى اللعن، إلا أنَّنا مع ذَلِك نقول: لا يَنْبَغِي العُدولُ عما جاء به القُرْآن، ونقول للزوج: قل: لعنة الله عَليْك، وللزوجة: غضب الله عَلَيْها.
هل يُشترط أنْ يقولَ: فيما رميتُها به من الزِّنَا، وتقول هي: فيما رماني به من الزِّنَا، أو لا يُشترط؟
الجواب: ظاهرُ القُرْآن أنَّه لا يُشترط، وكَذلِك ظاهرُ السُّنَّة؛ وَذلِك لأنَّه حينما لاعنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بين هِلالِ بن أُمَيَّةَ وزوجتِه لم يقل: لمن الصَّادِقينَ فيما رميتُها به،
ولا قالت هي: لمن الكاذِبِين فيما رماني به، ولهَذَا فالصحيح أن هَذَا لَيْسَ بشرطٍ.
فإذا قِيل: ألَيْسَ مِنَ الجائِزِ أنْ يَتَأَوَّلَ (لمِنَ الصَّادقينَ) في قَضيَّةٍ أُخْرَى؟
الجواب: بلى، لا شَك أنَّه مِنَ الجَائِزِ أنْ يَتَأَوَّلَ ويقولَ: إنه لمَنَ الصَّادقينَ؛ أي: في أمرٍ آخَرَ، لكنَّ هَذَا التَّاويلَ لا ينفعُه؛ لأَن تأويلَ الظَّالِم لا ينفعه، فإن يمينَه على ما يصدق به صاحبُه
(1)
وعلى ما يَقْتَضيه المقامُ، ولكن لو قَالَ الزَّوج: فيما رميتُها به من الزِّنَا، وقالت هي: فيما رماني به من الزِّنَا، لكان هَذَا أَبْيَنَ وأوضحَ، إلا أنَّه لَيْسَ بواجبٍ.
وأما غير الظَّالِم، فقد ذكرنا أن المظْلُوم ينفعه قولًا واحدًا، ومن لَيْسَ بظالم ولا مظلوم محل خلاف بين العُلَماء، والأَوْلَى ألا يَتَأَوَّلَ لأنَّه يؤدي إلى تهمتِه؛ وإذا تبيَّنَ الْأَمْر على خلاف ما أظهر تبين تهمته وربما يسقط كلامُه، وكلما قَالَ شيئًا قالوا: نخشى أنَّه يَتَأَوَّلُ مثل تِلْك المرة، أما لو كَانَ مظلومًا فهَذِهِ ضرورةٌ.
(1)
أخرجه مسلم كتاب الأيمان، باب يمين الحالف على نية المستحلف، رقم الحديث (1653)، عن أبي هريرة.