المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (33) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ - تفسير العثيمين: النور

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌نُبْذَةٌ مُخْتَصَرَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين 1347 - 1421 هـ

- ‌نَسَبُهُ وَمَوْلِدُهُ:

- ‌نَشْأَتُهُ العِلْمِيَّةِ:

- ‌تَدْرِيسُهُ:

- ‌آثَارُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌أَعْمَالُهُ وجُهُودُهُ الأُخْرَى:

- ‌مَكانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌عَقِبُهُ:

- ‌وَفَاتُهُ:

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌الآية (4)

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الآية (8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌الآية (16)

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌الآية (23)

- ‌الآية (24)

- ‌الآية (25)

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌الآيتان (30، 31)

- ‌الآية (32)

- ‌الآية (33)

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآية (39)

- ‌الآية (40)

- ‌الآية (41)

- ‌الآية: (42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية: (44)

- ‌الآية (45)

- ‌الآية (46)

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌الآية (49)

- ‌الآية (50)

- ‌الآية (51)

- ‌الآية (52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌الآية (59)

- ‌(الآية: 60)

- ‌الآية (61)

- ‌الآية (62)

- ‌الآية (63)

- ‌الآية (64)

الفصل: ‌ ‌الآية (33) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ

‌الآية (33)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)} [النور: 33].

* * *

قَوْلهُ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مَا يَنْكِحُونَ بِهِ مِنْ مَهْر وَنَفَقَة عَنِ الزِّنَا {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله} يُوَسِّع عَلَيْهِمْ {مِنْ فَضْلِهِ} فَيَنْكِحُونَ] اهـ.

لما أَمَرَ الله بالتزويج وبيَّن أنهم إِنْ كانوا فقراء أغناهم الله من فضله، أمر من كَانَ فقيرًا بأن يستعفف حَتَّى يغنيه الله من فضله، يعني لايطلق لنفسه العَنَان بالنَّظر المحرم والمباشرة المحرمة وتتبع النِّساء وما أشْبَه ذَلِك، بل يَجب علَيْه أن يستعفف عن الزِّنَا وأسبابه ومقدماته، فالمُراد بالْعِفَّة البُعْدُ عن الزِّنَا وأَسْبَابِه ومقدماته.

وقَوْلهُ: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ} لأنه إِذَا أغناهم الله من فضله تزوجوا إِذْ لم يمنعهم من الزواج إلا ذَلِك.

وقَوْلهُ: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} المُفَسِّر فسَّره بقَوْلهُ: [مَا يَنْكِحُونَ به]، والصَّواب أن الآية أعمُّ من ذَلِك ولهذَا قَالَ:{لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} فيشملُ ما ذَكَرَه المُفَسِّر رحمه الله، ويشمل ما إِذَا لم يَجِدْ امرأة يتزوجها، قد يَكُون الْإِنْسَان غنيًّا وعنده مَهْرٌ وعنده نفقة

ص: 207

ولكن يَخْطُب ولا يُقبل، فهَذَا لم يجد نكاحًا، فتَخْصِيص عدم النكاح بما ذكره المُفَسِّر فيه نظر، فالآية أعم، فقَوْلهُ:{لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: لا يجدون نفقة له، ولا يجدون امرأة يتزوجونها أيضًا فإنَّه داخل في عُمُوم الآية.

لو قَالَ قَائِلٌ: في وقَوْلهُ: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أَرْشَد الله سبحانه وتعالى إلى الْعِفَّة لمن لا يجد النكّاح، فهل هَذَا يعارض قَوْل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ"

(1)

هل بين الآية والحديث تعارض؟

الجواب: لا، فالآية أمر الله فيها بالْعِفَّة والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ الطَّريق إلى العفة بأن يصوم الْإِنْسَان فإن ذَلِك يقطع شهوة النكاح، وإذا انقطعت شهوة النكاح فهَذَا من أفضل أَسْبَاب الْعِفَّة، إِذْ الْإِنْسَان لا يَحْدُوه إلى عدم الْعِفَّة إلا الشَّهوة، فإذا انقطعت زالت أَسْبَاب وجود عدم الْعِفَّة.

وبهَذَا نعرف أن الحَديث لا ينافي الآية؛ لأَن الله أمر بالاستعفاف والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَيَّن لنا طريقًا من طرق الاستعفاف، ثم إن الَّذِي لا يجد نكاحًا قد يَكُون ذا شَهْوَة قوية ربما تغريه بانتهاك المحرم، فدواء ذَلِك بالصوم.

أما الْإِنْسَان الَّذِي شهوته عادية وبعيد أن تغريه فهَذَا لَيْسَ له أن يصوم؛ لأَن قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ" لو أخذنا بظاهره لقُلْنا: كل إِنْسَان فقير لا يجد نكاحًا وله شَهْوَة فإنَّه يصوم، ولكن الْأَمْر لَيْسَ كَذلِكَ، لكن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "من استطاع

"، حديث رقم (5065)؛ ومسلم كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد، حديث رقم (1400)، عن ابن مسعود.

ص: 208

إِذَا لم يجد الْإِنْسَان طريقًا إلى الْعِفَّة سوى الصَّوم فليصم، أما إِذَا كَانَ الْإِنْسَان معتدلًا طبيعيًا ولا يخشى علَى نفْسِه المحذور فإنَّه لا حاجة إلى الصَّوم، ولهذَا قَالَ:"فَعَلَيْهِ" و (على) هذه للإغراء، فدل ذَلِك على أنَّه في حالة يحتاج إلى ما يدُلّه على كبح جماح الشَّهْوَة وَذلِك بالصوم.

وفي قَوْلهُ: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ} إِشارَة إلى أن الْعِفَّة سبب للغنى كما أن الزواج أيضًا سبب للغنى فكَذلِكَ الْعِفَّة، فإذا صبر الْإِنْسَان وأَعَفَّ نفسه وابتعد عما حرم الله علَيْه كَانَ ذَلِك سببًا للغنى، وقد قَالَ اللهُ تَعَالَى في القُرْآن:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

وقَوْلهُ: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله} هل المُراد غنى المال أو غنى النِّكاح؟

المُراد غنى النِّكاح لأنَّه قَالَ: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} لماذا؟ لأنَّه مثل ما أشرنا إلَيه قد يَكُون الْإِنْسَان غَنَيَّ المال لكن لا يجد نكاحًا فلا يتزوج، فيشمل ذَلِك الغنى بالمال والغنى بالزَّوْجَة.

إن كَانَ عدم وجود النِّكاح من أجل الفقر فالغنى يَكُون بالمال، وإن كَانَ عدم وجود النِّكَاح من أجل المنع فالغنى يَكُون بالطَّاعة؛ بأن يُيسر الله له مَنْ يُطيعه ويزوجه.

لما ذَكَرَ الله جَلَّ وَعَلَا أحكام النِّكَاح وما يَتعلَّق به انتقل إلى أمر آخر مهم وهو ما يَتعلَّق بالإماء، بل بالمماليك عُمومًا؛ لأنَّه قَالَ:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فأشار إلى المماليك ثم انتقل إلى مَسْأَلة مهمة جدًّا وهي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بِمَعْنَى المُكَاتَبَة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنَ الْعَبِيد

ص: 209

وَالْإِمَاء {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أَي أَمَانَة وَقُدْرَة عَلَى الْكَسْب لِأَدَاءِ مَال الْكِتَابَة وَصِيغَتُهَا مَثَلًا: كَاتَبْتُك عَلَى ألفَيْنِ فِي شَهْرَيْنِ كُلّ شَهْر ألف، فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْت حُرّ، فَتقُول: قَبِلْت] اهـ.

قَوْلهُ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} بمَعْنى يطلبون و {الْكِتَابَ} بمَعْنى المكاتبة، والمكاتَبة هي أن يبيع السيدُ عبدهَ علَى نفْسِه، وسميت مكاتبة لأنَّها في الغالِب تجري بكتاب، يكتب السيد بينه وبين عبده كتابًا بهَذَا العقد فإذا طلب العَبْد من سيده أن يكاتبه فقد قَالَ اللهُ:{فَكَاتِبُوهُمْ} .

وقَوْلهُ: {فَكَاتِبُوهُمْ} الفاء رابطة للخبر بالمبتدأ، وربط الخبر بالمبتدأ لا يُحتاج إلَيْه تقول:"زيد قائم""الكتاب جميل""السَّماء رفيعة" لكن إِذَا كَانَ المبتدأ يشبه الشَّرط في العُموم فإنَّه يربط خَبَره بالفاء، وهنا المبتدأ اسم موصول يشبه الشَّرط في العُموم، وتقدَّم سابقًا أن النَّحويين يمثلون بقولهم: الَّذِي يأتيني فله درهم، وأن هَذَا في القُرْآن كثير منه هذه الآية:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} .

وقَوْلهُ: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (مِنْ) هذه بَيان للموصول في قَوْلهُ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} لأَن الموصول حَتَّى وإن وجدت صلته فهو مبهم في الواقِع، فـ (مِنْ) بَيانية لبَيان المبهم في الموصول.

وقَوْلهُ: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في هَذَا إِثْبات الملك للبشر.

فإذا قَالَ قَائِلٌ: ألَيْسَ الله يَقُول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189]، فحصر الملك لنفسه فكَيْفَ يتفق هَذَا مع إِثْبات الملك للبشر؟

ص: 210

فالجواب: أن الملك المطلَق لله وأن ملك البشر لِمَا يملكون لَيْسَ مطلقًا بل هو مقيد بنوع الملك ومقيد بنوع التصرُّف ومقيد بكل شَيْء، عنْدَما يَكُون لي مال هل أملك مطلق التصرف فيه؟ لا، أتصرف فيه بنوع معين وعلى حدود معينة، لِذَلك لَيْسَ ملكي تامًّا من كل جهة، فلهَذَا نقول: الملك المطلَق لله وحده، وملكي أنا يضاف إليَّ لكنَّه ملك مقيد محدد، فإن ملكت العين والمنفعة سميت مالكًا، وإن ملكت المنفعة دون العين سميت مستأجرًا، وهَكَذا كل نوع من الملك له اسم خاص.

وقَوْلهُ: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (الأيمان) جمع يمين وهي مقابل الشِّمال، لكن هل معنى ذَلِك أن الْإِنْسَان يملك عبدَه بيده اليمنى فقط والَيْسَرى لا تملك؟ الجواب: لا، هَذَا تغليب مثل قَوْله تَعَالَى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، فلمَّا كَانَ الغالِب في الأخذ والإعطاء والبيع والشِّراء والعَمَل باليد اليمنى قَالَ:{مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فأضاف الله سبحانه وتعالى الملك إلى الْيَمِين، وإلا فالحَقيقَة أنا مالكه لَيْسَ بيميني فقط.

وقَوْلهُ: {فَكَاتِبُوهُمْ} هَذَا أمر، وهل الْأَمْر هُنا للوُجوب أو للاستحباب؟ اختلف فيه أهْل العِلْم، فالجمهور على أن الْأَمْر للاستحباب، وحجتهم في ذَلِك أن العَبْد مملوك لك، ولا يَجب عَليْك إخراج ملكك إلا برضًا منك، فكَما أن الْإِنْسَان لا يَجبر على بيع بيته وعلى بيع دابته لا يَجبر كَذلِكَ على بيع عبده، فإذا طلب مني المكاتبة فأنا حر لأنَّه مالي، ولهذَا سماه الله تَعَالَى ملكًا فلا يَجبر على إخراج ملكه من ملكه "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"

(1)

، وإذا كَانَ كَذلِكَ فإن الْأَمْر هُنا للاستحباب.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 72)(20714)؛ والبيهقي في الكبرى (6/ 100)(11325)، عن عم أبي حرة الرقاشي.

ص: 211

وذهب بعض أهْل العِلْم ومنهم أهل الظَّاهِر إلى أنَّ الْأَمْر للوُجوب وأنَّ العَبْد إِذَا طلب المكاتبة فإنَّه يَجب على السيد إجابته، وَذلِك لأَن الأَصْل في الْأَمْر الوُجوب وقولهم:"إن المالك لا يَجبر على إخراج ملكه من ملكه" هَذَا لَيْسَ على إطلاقه؛ فإن المالك يَجبر على إخراج ملكه من ملكه في الْأُمُور الَّتِي أوجب الله، ألَيْسَ يَجب على الْإِنْسَان أن يخرج الزَّكاة وهو إخراج شَيْء من ملكه، ألَيْسَ يَجب علَيْه الْكُفَّارة، ألَيْسَ يَجب علَيْه الإنفاق على غيره من أقارب وزوجات وغيرهم، ألَيْسَ الْإِنْسَان إِذَا تعلق بماله حق الغرماء وصَارَ دينه أكثر من ماله يحجر علَيْه ويَجبر على أن يبيع ماله ويصرف إلى الغرماء.

فإِذَنْ عِبارَة: "لا يَجب على الْإِنْسَان أن يخرج ملكه من ملكه" لَيْسَت على إطلاقها، وما أكثر المَسائِل الَّتِي يَجبر فيها الْإِنْسَان على إخراج ملكه من ملكه.

فعَلَى كُلِّ حَالٍ نقول: هذه المَسْأَلة لَيْسَت على إطلاقها وكم من مسائل صَارَت واجبة وهي متضمنة لإخراج الْإِنْسَان ملكه من ملكه، وهَذَا في الحقيقَة دافع لما يحتج به الجمهور، ثم إنه يقوي أن الْأَمْر للوُجوب أنهم قالوا: إن الشَّارع متطلع إلى العتق، والرق وارد في الحقيقَة على البشر ولَيْسَ أصيلًا فيهم، فإذا أَرَادَ الْإِنْسَان أن يتخلص من هَذَا الرق ويعيد نفسه إلى الأَصْل فإن الشَّارع يتطلع إلى ذَلِك.

ولهذَا تجدون أن الشَّارع رغب في العتق كثيرًا حَتَّى إنه أخبر أن "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ الله بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"

(1)

، وهَذَا

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له، كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وأي الرقاب أزكى، حديث رقم (6715)؛ ومسلم، كتاب العتق، باب فضل العتق، حديث رقم (1509)، عن أبي هريرة.

ص: 212

ترغيب عَظِيم، كَذلِكَ أيضًا أوجب الله سبحانه وتعالى عتق الرقبة في كفارات متعددة مثل كفارة الظهار وكفارة الْيَمِين وكفارة القتل، كل هَذَا دَليل على أن الشَّارع له تَشَوّف لتحرير الْعَبِيد فكَيْفَ لا نجعل هَذَا الْأَمْر للوُجوب لا سيَّما مع طلب العَبْد، فالعبد هو الطالب الآن، ويعرف من نفسه أنه سيستغني عن سيده ويريد أن يخلص نفسه فكَيْفَ نمنعه؟

فإذا قَالَ السيد: هَذَا عبدي ولا أستطيع أن أتخلص منه قُلْنا له: إِذَا اتقيت الله سبحانه وتعالى جعل لك من أمرك يسرًا، وإذا حررته تستأجره إِذَا كنت محتاجًا إلَيْه، أو ييسر الله لك سواه.

عَلَى كُلِّ حَالٍ ما دام أن الله أمر به، فالأَصْل في أوامر الله ورسوله الوُجوب.

قَوْلهُ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} هَذَا شرط في الْأَمْر فجعل الله سبحانه وتعالى ذَلِك مشروطًا بعلم الخيْر فيهم، ولكن ما هو الخَيْر؟ يَقُول المُفَسِّر رحمه الله:[أَي أَمَانَة وَقُدْرَة عَلَى الْكَسْب لِأَدَاءِ مَال الْكِتَابَة] اهـ.

فسره بعض السَّلف بقَوْلهُ: "صلاحًا في دينهم وكسبًا" ويُمْكِن أن يَكُون قَوْلهُ: [أمانة] يشير إلى ذَلِك، لكن إِذَا قُلْنا:"صلاحًا في دينهم" صَارَ أعم من كَلِمة أمانة، وهل الأمانة هي الصَّلاح في الدِّين أو من الصَّلاح؟ من الصَّلاح ولهذَا نقول: المُراد بالخيْر الصَّلاح في الدِّين والكسب، الصَّلاح في الدِّين بأن نعرف أنه مقيم للصلاة، مقيم للصوم، تارك للمحرمات، مستقيم، ومن الصَّلاح في الدِّين الأمانة، فنعرف أيضًا أنَّنا إِذَا أعتقناه لن يذهب يسرق من النَّاس؛ أي: أنه أمين، والكسب صلاح الدُّنْيَا؛ أي: نعرف أن هَذَا العَبْد إِذَا أعتق صَارَ قادرًا على الكسب ولَيْسَ كَلًّا على غيره؛ لأنَّه إِذَا كَانَ غير قادر على الكسب وأعتقه سيده فمن أين يأكل؟ يَكُون

ص: 213

كَلًّا على النَّاس، وربما يَكُون عنْدَه قوة فيسرق وينهب، لهذَا لا بُدَّ من هَذَا الشَّرط الصَّلاح والكسب.

وأما قَوْل المُفَسِّر: [لأداء مال الكِتابَة] هَذَا فيه نظر، فلا يكفي أن يَكُون عنْدَه كسب لأداء مال الكِتابَة بل لأداء مال الكِتابَة وللإنفاق علَى نفْسِه في المستقبل.

إِذَنْ الوُجوب أو الْأَمْر مشروط بأن نعلم فيهم الخيْر.

إذا لم أعلم فيه خيرًا هل يَجب عليَّ مكاتبته إِذَا طلب؟ لا يَجب.

وهل يجوز؟

إِذَا قُلْنا: يجوز، كَيْفَ يجوز وأنا أعرف أنه لَيْسَ فيه خير، أعرف أني إِذَا أعتقته يُرِيد أن يفسد إما أن يلحق بالْكُفَّار إِذَا كَانَ كافرًا أصلًا، وإلا فإنَّه يُفسد في الأَرْض بالمعاصي، وعندي محفوظ، لكن إِذَا صَارَ حرًّا من الَّذِي يسْتَطيع أن يأمره وينهاه، لَيْسَ لأحد أمر عليه.

فالصحيح أن نقول: إِذَا لم نعلم فيه خيرًا لم نؤمر بمكاتبته هذه واحدة، ثم إِذَا لم نؤمر هل يجوز لنا أن نكاتبه؟

الجواب: إن علمنا أن في إجابته شرًّا ومفسدة صَارَت إجابته حرامًا، وإن لم نعلم فيها شرًّا ومفسدة فإجابته جائزة، فصَارَ المَفْهُوم فيه تفصيل: أنْ علمنا أَنَّ فيه خيرًا فتجب المكاتبة، وضد ذَلِك أَنْ نعلم أَنَّ فيه شرًّا فتحرم المكاتبة، وإن لم نعلم فيه لا هَذَا ولا هَذَا فهي محل جَواز.

بقي الجواب عن هَذَا السؤال: إِذَا قَالَ السَّيِّد: أنا لا أعلم فيه خيرًا فلا يَجب عليَّ كتابته ماذا نقول؟

ص: 214

نقول: أنت وأمانتك، الله سبحانه وتعالى هو الَّذِي سيحاسبك وقد وكل الْأَمْر إليك، فإذا قلت: أنا لا أعلم فيه خيرًا، بالنِّسْبَةِ لنا نوافق ولا نجبرك على الكِتابَة.

فعَلَى كُلِّ حَالٍ الْأَمْر موكول إلى السَّيِّد في علم الخير وعدمه، بالنِّسْبَةِ لنا أحكام الدُّنْيَا على الظَّاهِر إِذَا قَالَ: أنا لا أعلم في هَذَا العَبْد خيرًا، وأنا أعرف إن تركته سيَفْسَد ويُفسد، نقول: بالنِّسْبةِ للظاهر لا نجبرك، ولا نقول: يَجب عَليْك، لكن بالنِّسْبَةِ لله لا ينفعك إِذَا كنت تعلم أن فيه خيرًا وادعيت أنك لا تعلم أن فيه خيرًا، يعني إِذَا كَانَ الله يعلم أنك تعلم أن فيه خيرًا فإن دعواك هذه مردودة ولا تقبل، إلا إِذَا كَانَ الواقِع يكذبه بأن علمنا من هَذَا العَبْد أنَّه صالح دائمًا يصلي وأمين بين النَّاس ويعرف الكسب هَذَا طبعًا لا نقبل دعواه.

لو قَالَ قَائِلٌ: ما الحُكْم إِذَا طلبت الأَمة المكاتَبة ولَيْسَ لها كسب؟

الجواب: لا يَجب على سيِّدِها أن يُكاتبها، وهَذَا بخلاف المعتِق؛ لأنَّه إِذَا أعتقها إن كَانَ لها أقارب فهم أوْلياؤُها، وإن لم يكن له أقارب فهو وليُّها، ويزوجها إِذَا أَرَادَت أن تتزوج، فإن لم يكن أهلًا لِذَلك فوليها القَاضِي.

يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [وَصِيغَتُهَا مَثَلًا -يعني الكِتابَة- كَاتَبْتُك عَلَى ألفَيْنِ فِي شَهْرَيْنِ كُلّ شَهْر ألف فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْت حُرّ، فَتقُول: قَبِلْت] ذَلِك.

قول المُفَسِّر: [صيغتها مثلًا] يعني لَيْسَ هذه هي الصّيغة الوَحْيدة بل كل ما دل على ذَلِك أجزأ، لكن قَوْلهُ:[على ألفين في شهرين] هل المُراد الألفان يحلان بنجم، واحد في الشَّهرين أو كل واحد في شهر؟

يَقُول العُلَماء: إنه من باب التيسير على العَبْد أن يَكُون المال الَّذِي يكاتب علَيْه

ص: 215

منجمًا بأجلين فأكثر، يعني لا يَقُول: كاتبتك مثلًا على عشرة آلاف تحل بعد سنة، لا؛ لأَن هَذَا فيه صعوبة على العَبْد بل يجعله منجمًا بأجلين فأكثر، مثلًا عشرة آلاف إما أنْ يقولَ: كل شهرين ألف ريال أو كل شهر ألف ريال، أو في ستة أشهر خمسة آلاف، المُهِمّ أنَّه لا بُدَّ أن يَكُون منجمًا بأجلين فأكثر؛ مُراعَاة لحال العَبْد ورفقًا به.

وظاهر كلام أهْل العِلْم في هذه المَسْأَلة حَتَّى لو فرض أن العَبْد عنْدَه قدرة على أن يسلمها في أجل واحد فإنَّه لا بُدَّ من الأجلين، يعني لو فرضنا أن العَبْد جاءه إِنْسَان وقال له: تَعَالَى اشترٍ نفسك من سيدك وأنا أنقدك دراهم حالَّة فإنَّه لا يصِح، ولكن في هذه المَسْأَلة نظر، وقَضيَّة عَائِشَة رضي الله عنها مع بريرة حيث كاتبت أهلها على تسع أواق فقالت عَائِشَة رضي الله عنها:"إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لهمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لي فَعَلْتُ"

(1)

، يدُلّ على الجَواز، وإن كَانَت عَائِشَة تريد أن تشريها شراء، لكن يدُلَّ على أنَّه إِذَا أَرَادَ أحد أن يعجل ما كاتب علَيْه العَبْد لسيده واتفقا على ذَلِك فإنَّه يصح.

لكن في هذه الحال يلْزَم أن يحتاط العَبْد لنفسه لأنَّه قد يأتيه هَذَا الرَّجل ويقول له ذَلِك ثم يتراجع، مع أنه لو تراجع لا يضر العَبْد شيئًا، وآخر أمره أنَّه إِذَا عجز عن أداء مال الكِتابَة يَعود إلى سيده رقيقًا، وهَذَا في الحَقيقَة لا يضر.

لو قَالَ قَائِلٌ: إِذَا كاتب العَبْد سيده هل يَجب على سيده أن ينفق عليه؟

الجواب: إِذَا صَارَ مكاتبًا لا يَجب على السَّيِّد الإنفاق عليه، بل يملك كسبه وكل شَيْء، والعتق يبدأ من بداية الكِتابَة لكن لا يتم إلا بأداء مال الكِتابَة.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء، حديث رقم (2729)؛ ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم (1504)، عن عَائِشَة.

ص: 216

قَوْلهُ: {وَآتُوهُمْ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [أَمْر لِلسَّادَةِ {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي أَدَاء مَا الْتَزَمُوهُ لَكُمْ وَفِي مَعْنَى الْإِيتَاء حَطّ شَيْء مِمَّا الْتَزَمُوهُ] اهـ.

قول المُفَسِّر رحمه الله: [أَمْر لِلسَّادَةِ] ويجوز أن يَكُون الْأَمْر لغير السَّادة أو للسادة وغيرهم فيجوز أن يَكُون الْأَمْر للمُسْلِمين كلهم.

قَوْلهُ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} إِذَا كَانَ الْأَمْر موجهًا للسادة ففي كَيْفِيَّة الإتيان صورتان:

الصُّورة الأولى: إِذَا كاتبه أعطاه مالًا لأجل أن يَكُون أساسًا لكسبه.

والصُّورَة الثَّانية: إِذَا أدى ما علَيْه يحط عنه.

ولكن هل يحط عنه من النَّجم الأوَّل؛ أي: من القسط الأوَّل أو من النَّجم الأَخِير؟ بعض السَّلف اختار أن يضع عنه من النَّجم الأوَّل؛ لأَن ذَلِك أيسر له، وبعض السَّلف اختار أن يضع عنه من النَّجم الأَخِير، وقال: إنني إِذَا وضعت عنه من النَّجم الأوَّل أو أعطيته من النَّجم الأوَّل ثم عجز وعاد إليَّ عادت صدقتي إليَّ، بخلاف ما إِذَا أعطيته من النَّجم الأَخِير لأنَّه إِذَا أدى النَّجم الأَخِير يعتق، فإذا أعطيته من النَّجم الأَخِير لم يعد إلي شَيْء من صدقتي، وهَذَا هو الأرجح أنه يعطيه من النَّجم الأَخِير، والصَّحيح: أن الْأَمْر في قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} شامل للأسياد ولغيرهم، أي: إِذَا قُلْنا.

قَوْلهُ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} وإذا قُلْنا إن الزَّكاة تصرف لهم فالزَّكاة مال الله، وأنه أمر للسادة بالكَيْفِيَّة المذكورة، وأمر لغير السَّادة أيضًا أن يعينوا المكاتب في

ص: 217

مكاتبته ولِذَلك جُعل له سهم من الزَّكاة، فيجوز لِلإنْسان أن يصرف من زكاته شيئًا للمكاتبين، وهَذَا هو الصَّحيح.

وقَوْلهُ: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} انظر قَوْلهُ: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} لم يقل: "من مالكم" إِشارَة إلى أنكم وإن آتيتموهم فالمِنّة لله سبحانه وتعالى؛ لأَن المال مال الله سواء قُلْنا: إنه مال شرعي لله وهو الزَّكاة -هَذَا إِذَا قُلْنا بأن الْأَمْر موجه لغير الأسياد- أو أن المال الَّذِي هو مال لله غير شرعي مال الله قدرًا، وهو مال الْإِنْسَان الَّذِي يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه فإنَّه في الحَقيقَة مال الله، وكأنَّ في الآية إِشارَة إلى أنه لا فضل لكم، واحمدوا الله سبحانه وتعالى أن أعطاكم مالًا فأعطوا هَؤُلَاءِ المكاتبين من مال الله الَّذِي آتاكم.

خُلاصَة الكَلام أن في هذه الآية مشروعية المكاتبة هُنا إِذَا طلبها العَبْد، والْأَمْر فيها للوُجوب على القَوْل الصَّحيح، ولكنه مشروط بعلم الخير، والخيْر هو الصَّلاح في الدِّين والكسب، وفي الآية أيضًا دَليل على وُجوب إتيان المكاتب من المال سواء كَانَ الخِطَاب موجهًا للسيد أو موجهًا لعموم النَّاس، أما إِذَا كَانَ الخِطَاب موجهًا لعموم النَّاس فإنهم يعطون من الزَّكاة، وأما بالنِّسْبَةِ للسيد فيعطيه من المال الَّذِي في يده؛ لأَن الله سبحانه وتعالى هو الَّذِي مَنَّ به عليه.

قد يَقُول قائل: لماذا تمنعون أن يعطي السَّيِّد من زكاته مكاتبه، مع أنكم تجيزون أن يعطي غريمه إِذَا كَانَ الْإِنْسَان يطلب شخصًا دراهم وأعطاه من زكاته فلا حرج؟

الجواب: يقال: الفَرْق بيِّن، الغريم إِذَا أعطيته ربما يَستَفِيد وربما لا يَستَفِيد، وربما أيضًا يتصرف فيه كما يُرِيد، لكن المكاتب سيَستَفِيد مهما كَانَ إما يَعود المكاتب رقيقًا ويَعود المال إلَيْه، هَذَا هو الفَرْق بينهما.

ص: 218

قَوْلهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أَي: إِمَاءَكُمْ {عَلَى الْبِغَاءِ} أَي: الزِّنَا {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} تَعَفُّفا عَنْهُ، وَهَذ الْإِرَادَة مَحَلّ الْإِكْرَاه فَلَا مَفْهُوم لِلشَّرْطِ] اهـ.

قَوْلهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الفتيات كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: الإماء: ولَيْسَ المُراد بالفتيات هُنا الصَّغيرات من النّساء يعني حَتَّى الحرائر، لا، هَذَا غير وارد، إنما المُراد بالفتيات الإماء.

والبِغَاء الزِّنَا، سمي بغاءً لأنَّه يُطلب، يعني مطلوبًا، فالبِغَاء بمَعْنى الطلب والابتغاء بمَعْنى الطلب، فالزُّنَاة -والعِيَاذ باللهِ- والزَّانيات يطلبون هَذَا الْأَمْر.

وقَوْلهُ: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} تحصنًا عن الزِّنَا؛ أي: تعففًا عنه وامتناعًا منه، وهَذه الإِرادَة محل الإِكْراه، فلا مفهوم للشرط.

فالآية الْكَرِيمَةِ فيها أن الله تَعَالَى نهى أن نكره الفتيات على البِغَاء بشرط: أن يردن التَّحصُّن، فإن لم يردن التَّحصُّن فظاهر الآية أن نُكرههنَّ، لكن المُفَسِّر يَقُول: إن محل النَّهْي هو الشَّرط، ولا يتصور الإِكْراه إلا إِذَا أردن التَّحصُّن، وعلى هَذَا فلا مفهوم للشرط، هَذَا ما ذهب إلَيْه المُفَسِّر رحمه الله، وفيه نظر.

ظاهر قَوْل المُفَسِّر رحمه الله: [وَهَذه الْإِرَادَة مَحَلّ الْإِكْرَاه فَلَا مَفْهُوم لِلشَّرْطِ] يعني الإكْراه لا يتصور إلا مع وجود هذه الإِرادَة، فلا مفهوم للشرط، يعني: إِذَا كَانَ الإِكْراه لا يتصور إلا بهَذه الإِرادَة، فالشَّرط لا مفهوم له؛ لأنه لبَيان الواقِع الَّذِي هو واقع الإِكْراه، هَذَا ما ذهب إلَيْه المُفَسِّر رحمه الله، لكن فيه نظر ظاهر؛ لأنه قد يكرهها على البِغَاء وهي لا تريد التَّحصُّن.

ص: 219

إِذَنْ ما هو الرأي في هذه المَسْأَلة، يعني: ما هو القَوْل الراجح؟

الجواب: نقول: ذكر العُلَماء ثلاثة أوجه غير ما ذكره المُفَسِّر:

الأوَّل: أن هَذَا بناء على الأغلب أنهم يكرههنَّ وهنَّ يردن التَّحصُّن، ومعْلُوم أن القَيْد إِذَا كَانَ لبَيان الغالِب لا مفهوم له، يعني: أن الله ينهاهم عن أمر قد وقعوا فيه وهو أنهم يكرهون فتياتهنَّ على الزِّنَا وهنَّ يردن التعفف عنه، فيَكُون هَذَا بناءً على الغالِب فلا مفهوم له، وهَذَا ما ذهب إلَيْه ابن كثير، على أن القَيْد -أي: الشَّرط- هَذَا لبَيان الغالِب لا لبَيان الواقِع.

الثَّاني: قَالَ بعض العُلَماء: إن الشَّرط هَذَا بمَعْنى (إذ) ولا تكرهوا فتياتكم على البِغَاء (إذ) أردن تحصنًا؛ أي: لأنهنَّ يردن التَّحصُّن، وهَذَا القَوْل في الواقِع قد يَكُون راجعًا إلى القَوْل الَّذِي قبله وهو أننا نُخَّرج الشَّرط بناء على الغالِب، يعني أن الله ينهى عن حالة معينة كَانَ النَّاس يفعلونها في الجاهلية، ولهذَا لا يجوز تمكينها من الزِّنَا فضلًا عن الإِكْراه، لكن النَّهْي وارد على قَضيَّة معينة كانوا يفعلونها في الجاهلية، هَذَا على رأي من يرى أن هَذَا القَيْد يتنزل على الغالِب أو على الحال الَّتِي كَانَت أسبق منه.

الثالث: أن المَقْصود من الشَّرط المبالغة في تبكيتهم ولومهم وتوبيخهم كَيْفَ أن الفتيات وهنَّ مماليك يردن التَّحصُّن وأنتم تريدون عكسه؟ ! لكن هَذَا مقصود به المبالغة في تبكيت هَؤُلَاءِ الأسياد الَّذينَ يكرهون الفتيات على البِغَاء، مع أن المفروض أنهنَّ لو أردن البِغَاء لكنتم تريدون التَّحصُّن والتعفف.

والتخريج الَّذِي مشى علَيْه المُفَسِّر حيث زعم أن صُورَة الإِكْراه لا تتأتى إلا بهَذِهِ الإِرادَة؛ أي: صُورَة الإِكْراه لا يُمْكِن أن تَكُون إلا إِذَا أردن التَّحصُّن.

ص: 220

فيقال: تتأتى بهَذ الإِرادَة وبإرادة أُخْرَى؛ لأَن صُورَة الإِكْراه تقع في غير هذه الإِرادَة، يعني يُمْكِن أن يكرهها وهي لا تريد التَّحصُّن، إِذَا أكرهها على شخص معين، لكن لا تريد هَذَا الشَّخص بعينه الَّذِي أكرهها عليه، مثل أنْ يقولَ مثلًا: تزنين مع هَذَا الرَّجل لكن هي لا تريد هَذَا الرَّجل تريد رجلًا آخر، فإذا أكرهها على أن تزني بهَذَا الرَّجل تحقق الإِكْراه مع أنَّها لا تريد التَّحصُّن في الحَقيقَة، فيُمْكِن الإِكْراه وإن لم ترد التَحصُن.

فقولهم: إن الإِرادَة هي محل النَّهْي؛ لأنه لا إكراه بدون إرادة التَّحصُّن، يقال: لا، يُمْكِن أن يَكُون إكراه بدون إرادة التَّحصُّن، مثل أن تَكُون هي في ذَلِك الوقت لَيْسَ لها رغبة في الجِماع، أو في مكان لا ترغب أن تجامع فيه أو في زمان لا ترغب أن تُجامع فيه، أو لا تريد من أكرهت علَيْه أو ما أشبه ذَلِك، فلَيْسَ الإِكْراه خاصًّا بالزِّنَا حَتَّى نقول: إن هَذَا الشَّرط لبَيان الواقِع، فلا مفهوم له، أو لا تريد أن يقع منها هَذَا الْأَمْر في هَذَا الوقت، أو على هذه الحال، أو في مكان لا ترغب أن يجامع فيه، أو أنَّها تريد أن تراغم السَّيِّد ولا توافقه، أو ما أشبه ذَلِك، يعني لَيْسَ امتناع الفتاة من الزِّنَا محصورًا في إرادة التَّحصُّن؛ إِذْ إنه قد يَكُون له أغراض أُخْرَى.

الحاصل أن الإِكْراه لَيْسَ خاصًّا بالزِّنَا حَتَّى نقول إن هَذَا الشَّرط لبَيان الواقِع فلا مفهوم له.

وفي قَوْلهُ: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِشارَة إلى انحطاط رتبة من أراد ذَلِك؛ أي: من أَرَاد عرض الدُّنْيَا، وهَذَا صحيح.

و(اللَّام) في قَوْلهُ: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هل هي للتَّعليل أو للعاقبة؟ الظَّاهِر أنَّها للتَّعليل، وأن الَّذينَ يُكرهون فتياتهم على ذَلِك إنما يُريدُونَ عرض الحياة

ص: 221

الدُّنْيَا أي: متاعها، وسمي متاع الدُّنْيَا عرضًا لأنه يزول، وهَذَا أمر واقع، فإن متاع الدُّنْيَا كما وصفها الله عز وجل قليل، فيزول عنك وتزول عنه، إِذَنْ فهو عرض يعني أمرًا عارضًا يزول.

وفي قَوْلهُ: {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِشارَة إلى أن هُناكَ حياة أُخْرَى وهي حياة الْآخِرَة، والدُّنْيَا هل هي من الدُّنو المعنويّ أو من الدُّنو الزَمَنِيّ أو منهما جميعًا؟ منهما جميعًا، فهي من الدُّنو الزمني لأنَّها سابقة على الْآخِرَة، ومن الدُّنو المعنوي لأنَّها أقل بكثير من الْآخِرَة، قَالَ تَعَالَى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]، وأخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الجَنَّةِ خَيرٌو مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها"

(1)

"، موضع السوط يعني ما يقارب مترًا خير من الدّنْيَا وما فيها، أي دنيا هي؟ هل هي دنياك الَّتِي تعيشها أنت أو كل الدُّنْيَا؟ كل الدُّنْيَا من أولها إلى آخِرها مهما طاب عيشها، فموضع سوط أحدنا في الجَنَّة خير منها وما فيها، فهي دنية بالنِّسْبَةِ للمرتبة.

إِذَنْ الدُّنْيَا زمنًا ومعنى، أو إن شئت فقل: مرتبة وهي المَعْنى، فكَيْفَ يُرِيد الْإِنْسَان هَذَا العرض الزائل من هذه الحَياة الدُّنْيَا على حساب الحياة الْآخِرَة، لا شَكَّ أن هَذَا نقص في العَقْل أو نقص في الإِيمَان، أما رجل مُؤْمن لا يُمْكِن يفضل الدُّنْيَا على الْآخِرَة إطلاقًا، ولهَذَا خطب أمير المُؤْمِنِينَ عمر بن عبد العزيز رحمه الله ذات يوم ووعظ النَّاس وقال:"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْآخِرَة فَأَنْتُمْ حَمْقَى، وَإِنْ كُنْتُمْ مُكَذِّبِينَ بِهَا فَأَنْتُمْ هَلْكَى"

(2)

، هَذَا صحيح، يعني المخالف لشريعة الله بين أمرين:

(1)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث رقم (3250)، عن سهل بن سعد الساعدي.

(2)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 290).

ص: 222

إما رجل لا يؤمن بالْآخِرَة فهو هالك، وإما رجل يؤمن بالْآخِرَة ويخالف فهو أحمق ولا يحسن التصرف.

فعَلَى كُلِّ حَالٍ لا يليق بالْإِنْسَان أن يبتغي عرض الدُّنْيَا على حساب الْآخِرَة.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} نَزَلَتْ فِي عَبْد الله بْن أُبَيّ كَانَ يُكْرِه جَوَارِيَهُ عَلَى الْكَسْب بالزِّنَا] اهـ.

يُمْكِن أن تَكُون نزلت في عبد الله بن أُبَيّ أوْ فِي غيره لكن المُفَسِّر لم يذكر له سندًا، وقد ذكر بعض المفسرين أنَّها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ، ولكن يَنْبَغِي أن نعرف أن العبرة بعُموم اللَّفْظ لا بخصوص السَّبَب سواء عبد الله بن أُبَيّ أم غيره، وأشار بعض العُلَماء إلى أن العبرة بعُموم اللَّفْظ على الحالة الَّتِي نزلت أو الَّتِي ورد من أجلها العُموم لَيْسَ بعُموم كل الأَحْوال، عُمُوم اللَّفْظ بالنِّسْبَةِ لتقييدها بالشَّخص لكن على الحالة الَّتِي ورد من أجلها هَذَا النَّص، والفَرْق مفهوم، يعني: العبرة بعُموم اللَّفْظ لا في جميع الأَحْوال بل بعُموم اللَّفْظ بالنِّسْبَةِ لتقيده بالشَّخص، فلا يختص بالشَّخص الَّذِي ورد من أجله بل يعمه وغيره على الحالة الَّتِي وردت، مثال ذَلِك قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"

(1)

.

لو أخذنا هَذَا على عمومه في الأشخاص والأَحْوال لكان الْإِنْسَان لا يصوم في السَّفَر مطلقًا، ولَيْسَ من البر أن يصوم، ولكنَّنا لا نأخذه على عُمُوم الأَحْوال بل على عُمُوم الأشخاص في مثل هذه الحال الَّتِي ورد من أجلها، وقد ورد الحَديث

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له، كتاب الصوم، باب قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لمن ظلل

، حديث رقم (1946)؛ ومسلم، كتاب الصوم، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر

، حديث رقم (1115)، عن جابر بن عبد الله.

ص: 223

حينما رأى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم زحامًا ورأى رجلًا قد ظُلّل علَيْه فقال: "مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: صَائِمٌ، قَالَ:"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ".

فإذا وصلت الحال بالصائم في سفره إلى مثل هَذَا الرَّجل قُلْنا له: لَيْسَ من البر، وما عدا ذَلِك فلا نقول: إنه لَيْسَ من البر؛ لأَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصوم في السَّفَر ولا يصنع شيئًا لَيْسَ ببر، وكان أيضًا يُقِرّ أصْحابه على أن يصوموا في السَّفَر إِذَا لم يصلوا إلى حال هَذَا الرجل، فالعبرة بعُموم اللَّفْظ.

وقَوْلهُ: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} (من) هذه شرطية، وأَسْماء الشَّرط من صيغ العُموم، فَكَما أن الأَسْماء المَوْصولَة من صيغ العُموم كَذلِكَ أَسْماء الشَّرط، يعني: أي إِنْسَان يُكره فتاته {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفي قَوْلهُ:{مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} إِشارَة إلى أنه لا بُدَّ من تحقق الإِكْراه، يعني بعد التحقق من الإِكْراه وألا يَكُون في قلبها أي ميل إلى ما أكرهها علَيْه فإن الله من بعد هَذَا الإِكْراه {غَفُورٌ} للمُكْرَهة لا للمُكْرِه، المُكْرِهُ عاص فلَيْسَ أهلًا للمَغْفِرة، ولهذَا نقول: إن جملة الشَّرط هُنا {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لم تعد إلى ما يَعود إلَيْه فعل الشَّرط؛ لأَن فعل الشَّرط يَعود على المُكْرِه لا المُكْرَه.

لكن جواب الشَّرط لم يعد على المُكْرِه بل على المُكْرَه وَذلِك للتلازم بين المُكْرِه والمُكْرَه إِذْ لا مُكْرِه إلا بمُكْرَه، فلِذَلك صح أن يَكُون جواب الشَّرط لَيْسَ عائدًا إلى ما يَعود علَيْه فعل الشَّرط، إنما هو عائد إلى شَيْء ملابس له وملازم له وهو المُكْرَه.

فالقاعِدَة العامَّة أن جواب الشَّرط يَعود على ما يَعود علَيْه فعل الشَّرط، لكن لَيْسَ ذَلِك بلازم بل قد يَعود على ملابسه وملازمه كما في هذه الآية، ولهَذَا نقول:

ص: 224

إن الله من بعد إكراههنَّ غفور لهنَّ لا غفور لهم أي المكرِهين، بل لهنَّ أي: المكرهات {رَحِيمٌ} بهنَّ.

وفي قَوْلهُ: {غَفُورٌ} إِشارَة إلى أن هَذَا الذَّنب لا عُقوبَة فيه.

وفي قَوْلهُ: {رَحِيمٌ} إِشارَة إلى أن الله سيجعل لهنَّ فرجًا؛ لأَن الرَّحمة بها حصول المَطْلوب وزوال المرهوب، لِذَلك نقول: إن في هذه الآية إِشارَة إلى الفَرَج لمن أكره على فعل محرم، وأن الله تَعَالَى سيجعل له فرجًا، ويؤيد ذَلِك قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"

(1)

.

فإذا قَالَ قَائِل: كثيرًا ما نسمع أن من النَّاس من أكره على أمر محرم ولم يحصل له الفرج بسرعة.

فنقول: إن هَذَا لا ينافي الآيَة، إِذْ قد يَكُون من جملة الفرج أن الله يهون الْأَمْر علَيْه في قلبه، وَيكُون التخلص الحسي من هَذَا الإِكْراه بعد ذَلِك بسبب من الأَسْبَاب فوق ما نعلمه.

مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكرِيمَةِ:

الفَائِدتان الأُولَى والثَّانية: أن المُكْرَه على فعل الشَّيء لا يلحقه إثْمُه، ويَكُون في هَذَا رد على من فرق من أهْل العِلْم بين الإِكْراه على القَوْل والإِكْراه على الفِعْل، فمن العُلَماء من فرق بين الإِكْراه على الفِعْل والإِكْراه على القَوْل، وقال: إن الإِكْراه على القَوْل لا يترتب علَيْه مقتضاه، والإِكْراه على الفِعْل يترتب علَيْه مقتضاه.

ولكن الصَّحيح أنَّه لا فرق وأن كل من أكره على قَوْل أو فعل فإنَّه لا حكم لفعله

(1)

أخرجه أحمد (1/ 307)(2804)، عن ابن عباس.

ص: 225

ولا لقوله، يدُلّ على ذَلِك مع هذه الآية قَوْله تَعَالَى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]، في هذه الآية الْكَرِيمَةِ هل قَوْلهُ:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} أي على الكفر بالقَوْل أو الكفر بالفِعْل أو بهما جميعًا؟ بهما جميعًا، ولم تخصص الآية القَوْل، ففي هذه الصُّورة الإِكْراه على البِغَاء، والبِغَاء فعل.

ولو سلمنا جدلًا أن قَوْله تَعَالَى في سورة النَّحل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} خاص بالإِكْراه على القَوْل -لو سلمنا جدلًا مع أننا لا نسلم- فإن هذه الآية لا يُمْكِن فيها التَّأويل ولا التَّخصِيص لأَن القَضيَّة في فعل.

فإن قَالَ قَائِل: فماذا تصنعون فيما يذكر من حديث صاحب الذباب الَّذِي مر على صنم هو وصاحب له وقال أصْحاب الصَّنم لأحدهما: قَرِّب، قَالَ: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل فقتلوه، وقالوا للثاني: قرب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فلم يقتلوه

(1)

؟

نقول في هَذَا: إن هذه القصَّة لا تصح، ثم لو فرض أنَّها صحيحة عن بني إسرائيل فإن ديننا ولله الحمد قد وضع الله فيه من الآصار والأغلال الَّتِي كَانَت على بني إسرائيل ما أوجب أن يَكُون دين السهولة والَيْسَر، ولهذَا كَانَ من صِفات الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عليهم، فكثير من الآصار والأغلال الَّتِي كَانَت على الأُمَم السَّابِقة رفعت عن هذه الأُمَّة.

(1)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 203).

ص: 226

لو قَالَ قَائِلٌ: لو أكرهت المَرْأَة وهي صائمة على الجِماع؛ أي: جامعها زوجها وهي صائمة بغيرِ اختيارِها ولم تتمكَّن أن تتخلَّص منه فما الحُكْم؟

الجواب: لا شَيْء عَلَيْها، لا تفطر ولا تكفر، وكَذلِك لو أكرهها على الجِماع وهي في إحرامها، يعني وهي محرمة، كَذلِكَ أيضًا لَيْسَ عَلَيْها شَيْء لا بالنِّسْبَةِ للنسك ولا بالنِّسْبَةِ للفدية، وهَذ قاعِدَة عامَّة مقررة في الدِّين الْإِسْلَامي، لكن يلاحظ أن قَوْلهُ:{مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} تقدَّم أن فيه إِشارَة إلى تحقق الإِكْراه، وأنه لو كَانَ في المكره أدنى ميل فقد يتخلف جواب الشَّرط، فتتخلف المغْفِرة والرَّحمة إِذَا كَانَ بعدما أُكْرِه مال إلى الشَّيء، فهَذَا يحصل فيه تخلف الشَّرط، ومن ثَمَّ زعم الفُقَهاء رحمهم الله أن الرَّجل لا يُمْكِن أن يُكْرَه على الزِّنَا، وقالوا: إن الرَّجل إِذَا أُكْرِه على الزِّنَا وجب علَيْه إقامة الحد، وإذا اُكْرِه على الوطء في رمضان وجب علَيْه كفارة والقضاء، وكَذلِك في النُّسك، وما السَّبَب؟

قالوا: الإِكْراه في الجِماع لا يُمْكِن؛ لأنه لَيْسَ بفاعل إلا عن ميل، ما يفعل إلا بعد انتشار ذكره، ولا ينتشر ذكره إلا إِذَا مال، وعلى هَذَا فلا يتحقق الإِكْراه، والله سبحانه وتعالى يَقُول:{مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لكن خصوصًا في الحَدّ تدرأ الحُدُود بالشُّبُهَات، هَذَا وإن كَانَ فيه نظر، لكن عَلَى كُلِّ حَالٍ الْإِنْسَان إِذَا كَانَ شابًّا وأكره أن يزني بامرأة جميلة شابة قد ينتشر ذكره، لكن الحَقيقَة أن الْإِنْسَان مع الكراهة الشَّديدة للشَيْء لا يُمْكِن أن ينتشر.

* * *

ص: 227