الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (53)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53].
* * *
قَوْلهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [غَايَتُهَا {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} بِالجِهَادِ {لَيَخْرُجُنَّ قُلْ} لَهُمْ: {لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} لِلنَّبِيِّ خَيْرٌ مِنْ قَسَمِكُمْ الَّذِي لَا تَصْدُقُونَ فِيهِ، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}] اهـ.
قَوْلهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} حلفوا به {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} هَذِهِ الآيَة استوعبت كل أركان القَسَم؛ لأَن القسم دائمًا يحذف منه بعض أقسامه، لكن هَذِهِ الآيَة استوعبت الأقسام كلها: المُقْسَمُ به، وحرف القسم، وفعل القسم، والمُقْسَمِ عليه. فعل القسم:{وَأَقْسَمُوا} ، حرف القسم:(الباء) في {بِاللَّهِ} ، المقسم به:(الله)، المقسم عليه:{لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} ؛ هَذِهِ الجُمْلَة هي جواب القسم، وهي المقسم عليه.
أقسم هَؤُلَاءِ: لئن أمرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يعني: بالجهاد، والدَّليل أن المُراد الجهاد قَوْلهُ:{لَيَخْرُجُنَّ} ؛ لأَن الخروج المُراد به الجهاد؛ فهم أقسموا هَذَا القسم: أن الرَّسُول لو أمرهم لخرجوا، هَذَا القسم قسم نذر؛ لأَن القسم إِذَا تضمَّن إلزامًا من الْإِنْسَان لله صَارَ جامعًا بين القسم والنَّذر.
وعلى هَذَا لو قَالَ قَائِلٌ: والله لأصلِّينَّ ركعتَيْن وقصده بِذَلِك الالتزام، ماذا يَكُون هَذَا؟
الجواب: يَكُون قسمًا ونذرًا، مثل: عليَّ أن أصلي ركعتين، لكن أبلغ من ذَلِك قَوْلهُ:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التَوبة: 75]. وأما إِذَا قصد الْإِنْسَان بالقسم تحقيق الشَّيء دون التزامه؛ فإنَّه لَيْسَ بنذر، ففرق بين الْإِنْسَان الَّذِي يلتزم ويرى أن نفسه ملزمة بهَذَا الشَّيء وبين الْإِنْسَان الَّذِي يُرِيد تحقيق الشَّيء لكن بدون أن يرى نفسه ملزمة، مثلًا لو قَالَ: والله لأفعلن كذا أو لأخرجن إلى السوق أو لألبسن الثَّوْبَ وما أشبه ذَلِك ولَيْسَ قصده أن يُلزم نفسه، بل قصده أن يحقق، وأن يفعل من غير أن يَكُون ملزمًا، قصده أنْ يقولَ: أنا سأفعل، ويحقق أنَّه سيفعله، فهَذَا لَيْسَ بقسم، فالقسم إن تضمَّن إلزامًا صَارَ قسمًا ونذرًا أو نذرًا مقسمًا عليه.
قَوْلهُ: {لَا تُقْسِمُوا} لا حاجة لأَن تقسموا وتقولوا: والله لئن أمرتنا لنخرجن، وإنما إِذَا أُمِرتم فاخرجوا بدون قسم.
قَوْلهُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [خَيْرٌ مِنْ قَسَمِكُمْ] اهـ.
المُفَسِّر رحمه الله جعل حسب سِيَاقه {طَاعَةٌ} مُبْتَدَأ و {مَعْرُوفَةٌ} صفة له، وخَبَرُها محذوف تقديره (خير من قسمكم)، ولكن هَذَا لَيْسَ بظاهر، بل الظَّاهِر أن {طَاعَةٌ} مُبْتَدَأ والخبر محذوف تقديره:(عليكم)، أي: عليكم طاعة معْرُوفة، أو {طَاعَةٌ} خبر والمبتدأ محذوف، أي: طاعتكم معْرُوفة، فمعنى ذَلِك أن الْإِنْسَان علَيْه أن يطيع طاعة معْرُوفة.
والطَّاعة المعْرُوفة من المُؤْمِنِينَ تَكُون بدون حلف؛ لأَن الَّذِي يحلف على أن
يفعل كأنه لا يُرِيد أن يفعل، يفعل لكنَّه يَلْزَم نفسه، فالطَّاعة المعْرُوفة الانقياد بدون قسم وهَذَا أولى من تقرير المُفَسِّر، وهو أن نقول: عليكم طاعة معْرُوفة أو طاعتكم طاعة معْرُوفة، يعني: الطَّاعة المعْرُوفة للمُؤْمِنِينَ، وهي التزام أحكام الشَّرع بدون قسم.
قَوْلهُ: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مِنْ طَاعَتكُمْ بِالْقَوْلِ وَمُخَالَفَتكُمْ بِالْفِعْلِ] اهـ.
هَذَا لَيْسَ بصحيح، فقَوْلهُ:{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: بكل ما تعملون سواء أقسمتم علَيْه أم لم تُقسموا عليه، قَوْلهُ:{بِمَا تَعْمَلُونَ} (ما) اسم موصول يُفيد العُموم، أي: جميع الأعْمَال.
{خَبِيرٌ} بمَعْنى عليم، إلا أن الفَرْق بينه وبين العليم أن الخبير هو العليم ببواطن الْأُمُور، فيَكُون أدق من العِلْم المطلَق، فهو خبرة بالبواطن.
إِذَنْ قَوْلهُ: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} عام لكل ما يعمله الْإِنْسَان بقَلْبِه أو لسانه أو جوارحه، لا يخفى على الله سبحانه وتعالى من ذَلِك شَيْء.
مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكَرِيمَةِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: كراهة النَّذر؛ لقَوْله: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا} ، وهَذَا نهي.
وقد اختلف أهْل العِلْم في النَّذر؛ هل هو مكروه أو حرام؟ على قولين:
فمن أهْل العِلْم من يرى أن النَّذر مكروه، ومنهم من يرى أنَّه محرم، وكأنَّ شيخ الإِسْلام يميل إلى التَّحْريم وهو أقرب، فالقول بالتَّحْريم أقرب من القَوْل بالكراهة؛ لأَن الله تَعَالَى نهى عنه بقَوْلهُ:{قُلْ لَا تُقْسِمُوا} والأَصْل في النَّهْي التَّحْريم،
والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال:"إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ"
(1)
، والمَعْنى يَقْتَضيه أيضًا؛ لأنَّه كَانَ في عافية فكونه يُلزم نفسه بأمر لم يَلْزَم الله به؛ هَذَا من باب تكليف النَّفس بما لم تُكلَّف به.
ثم أيضًا المَعْنى يَقْتَضيه؛ فإن كثيرًا من النَّاس النَّاذرين يندمون على نذرهم، لا سيَّما إِذَا كَانَ النَّذر فيه نوع من المشقَّة، مثل رجل حلف إن شَفى الله مريضه أن يصوم من كل شهر عشرة أيام، وشفى الله مريضه؛ الآن يَجب أن يصوم عشرة أيام من كل شهر لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ"
(2)
.
وكثير من النَّاس النَّاذرين لا يُوفون بنذْرِهم من أجل أنهم يرون أن فيه مشقَّةً، ويقول: الحمد لله حصل لي المَطْلوب وشفى الله مريضي أو نجحت، فلا يوفِّي لله بما وفَّى الله له به، الله يوفِّي له بما اشترط على ربه، وهو - والعِيَاذ باللهِ - لا يوفِّي له، ولكن ما هي النَّتيجة والعاقبة؟ العاقبة عَظِيمة جدًّا، قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} ولم يتصدقوا {وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، ولم يَكُونوا من صالحين، والذي حصل {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا} أي بسبب ما {أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التَوبة: 75 - 77]، وهَذِهِ نتيجة - والعِيَاذ باللهِ - سيئة عَظِيمة جدًّا أن يجعل الله نفاقًا في قلب هَذَا النَّاذر الَّذِي لم يفِ بما عاهد الله تَعَالَى عليه؛ لأنَّه عاهد الله على هَذَا الشَّيء.
(1)
أخرجه مسلم بلفظه، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئًا، حديث رقم (1639)، وأصله في البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة، حديث رقم (6696)؛ عن عَائِشَة.
وأما من نذر معْصِيَة فلا يجوز الوفاء بها؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معْصِيَة الخالق، فنفسك وإن ألزمتك بفعلها فلا تطعها، كما أنك لا تطيع أمريك إِذَا ألزمك بأمر فيه معْصِيَة الله، كَذلِكَ أيضًا لا تُطع نفسك إِذَا ألزمتك بأمر فيه معْصِيَة الله. وقد ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ:"وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله فَلَا يَعْصِهِ"
(1)
، ومع ذَلِك فعلى النَّاذر كَفَّارة يمين، حَتَّى لو قَالَ مثلًا: لله علي نذر فقط، ولم يقل شيئًا، مال الَّذِي يَجب عمله؟ يَجب علَيْه كَفَّارة يمين، ويهَذَا نعرف خطورة النَّذر.
وأما ما يتوهَّمه بعض النَّاس من أن النَّذر يحصل به المَطْلوب؛ فإن الرَّسُول عليه الصلاة والسلام نفى هَذَا الوهم بقَوْلهُ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ"
(2)
؛ فمريضك قد قُدِّر له أن يُشفى قبل أن تنذر، ولَيْسَ نذرك سببًا للشفاء بالتَّأكيد؛ فالله عز وجل أكرم الأكرمين لَيْسَ يتوقف كرمه على شَيْء يخرجه الْإِنْسَان، إِذَا أنعم الله عَليْك بالنِّعمة فاشكره عَلَيْها بما جاءت به الشَّريعة.
وأما أن تقول: نذرت لله من أجل أن يشفيه، كأنك تقول: إن الله لا يشفي ها المريض إلا إِذَا نذرت له، ثم تأتي البلوى، فيحصل الْأَمْر عنْدَه لا به، وهَذَا من الابتلاء؛ لِذَلك يَنْبَغِي لنا، بل يَجب علَيْنا، أن نحذر من النَّذر، وأن نبين للنَّاس أن النَّذر لا يأتي بخير، والنَّبيّ عليه الصلاة والسلام، وهو لا ينطق عن الهوى في هَذِهِ الْأُمُور - أخبر بأنه لا يأتي بخير.
وكم من طالبٍ نَذَرَ أنَّه إِذَا وفقه الله للنجاح أنَّه يصوم ثلاثة أيام ونجح ولم يفِ بنذره ولم يصم، وهي ثلاثة أيام فقط؛ لأَن النَّفس في الحَقيقَة ضعيفة الإِيمَان
(1)
تقدَّم وهو جزء من حديث عَائِشَة السابق.
(2)
أخرجه مسلم: كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا، رقم (1639).
لا يهمها أن تُخالف، يَقُول: حصل المَقْصُود ولا يهمني، على كل حال هَذَا النَّذر يستدل على تَحْريمه بقَوْلهُ:{لَا تُقْسِمُوا} .
الفَائِدة الثَّانية: وُجوب تقييد الطَّاعة بالمعْرُوف، يعني أن تَكُون طاعة بالمعْرُوف، وهل المُراد بالمعْرُوف هُنا المعْرُوف بين النَّاس أو من الشَّرع؟ طاعة معْرُوفة من الشَّرع لَيْسَت الَّتِي بين النَّاس؛ لأَن النَّاس قد يعرفون شيئًا يظنونه طاعة ولَيْسَ بطاعة.
الفَائِدة الثَّالِثَة: أنَّه لا تجوز الزِّيادة على الشَّرع في الطَّاعة ولا النَّقص؛ لقَوْله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} بدون غلو ولا تقصير.
الفَائِدة الرَّابِعَة: إحاطة علم الله بكل شَيْء؛ لقَوْله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: بكل ما تعملونه حاضرًا ومستقبلًا، والفَائِدة من ذكر علم الله بما نعلم لَيْسَ مُجرَّد أن يخبرنا بأنه سبحانه وتعالى يعلم، لكن الفَائِدة من ذَلِك هي الترغيب أو التخويف إلا إِذَا اقتضى السِّيَاق أن المُراد أحَدهما فقط، وإلا فكونك تعلم أن الله يعلم كل ما تعمل؛ فإن ذَلِك ينشطك على عبادتك.