الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (19)
° قال اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور: 19].
* * *
قَوْلهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بِاللِّسَانِ] اهـ.
قَوْلهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قُلْنا: إن مثل هَذَا التَّرْكيب أي: كونه يأتي بالجُمْلَة على جملتين يُفيد ذَلِك التَّأكيد انظر {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لم يقل: "إن للذين يحبون أن تشيع الْفَاحِشَة عَذاب" بل جعلها جملتين صُغرَى وكُبْرَى، فقَوْلهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جملة وقَوْلهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هَذِهِ الصُّغْرى، سميت صُغرَى لأنَّها قائمة مقام الاسْم المفرد إِذْ هي خَبرُ، والأَصْل في الخبر أن يَكُون مفردًا.
تقول مثلًا: "الطالب فاهم" فاهم خبر المبتدأ وهو مفرد، وتقول:"الطالب له فهم" صَارَ الخبر جملة، والجميع جُملتان كُبْرَى وهو مجموعهما، وصُغرَى وهي الجُمْلَة الَّتِي صَارَت خبرًا.
فـ {الَّذِينَ} الأولى إِعْرابها اسم (إنّ) فهي في محل المبتدأ {يُحِبُّونَ} صلة الموصول {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} مفعول يحبون {لَهُمْ} خبر مقدم و {عَذَابٌ} مُبْتَدَأ مؤخر والجُمْلَة خبر (إنّ).
وهَذَا يُفيد التَّوكيد، فهَذ الجُملَة أوكد مما لو قِيلَ: إن للذين يحبون أن تشيع الْفَاحِشَة عَذابًا أليمًا، مثلًا هَذَا أبلغ لأنَّها تَكُون كأنَّها جملتان مكررتان.
قَوْلهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} {الَّذِينَ} اسم من الأَسْماء المَوْصولَة، ومعْرُوف في علم الأصول أن الاسْم الموصول يُفيد العُموم، فيَكُون قَوْلهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} عامًّا.
وقَوْلهُ: {تَشِيعَ} بمَعْنى تَنتشرُ وتَظهرُ، وقول المُفَسِّر رحمه الله:[باللِّسَان] هَذَا تفسير للشُّيوع يعني تَشِيعُ بالقَوْل وتظهر ويتداولها النَّاس، ولكن الأظهر أنَّها أَعمُّ من الشُّيوع باللِّسَان وأنَّها تشيع بالفِعْل بحيث يشاهدهم النَّاس، وبالقَوْل بحيث يشاع عنهم ذَلِك، فهَؤُلَاءِ {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} سواء يحبون أن تشيع بالقَوْل -كما أشار المُفَسِّر رحمه الله باللِّسَان- أو يحبون أن تشيع بالفِعْل بمَعْنى أن يظهر أمرهم ويتبَيَّن ويُرَون ويُشَاهَدون.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [بِنِسْبَتِهَا إِلَيْهِمْ] اهـ. هَذَا بناء على أن المُراد بالشّيوع: شيوع اللِّسَان، والأصح أنَّه أعم أي بنسبتها إلَيْهم فيما يُقَالُ فيهم أو برؤيتها منهم فيما فعلوا.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [وَهُمُ العُصْبَةُ] اهـ. هَذَا لَيْسَ بصحيح لأنَّه أَرَادَ أن يفسر العامّ بالخاصِّ لأَنَّ {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} هل هو خاص بالعصبة الَّذينَ جاءوا بالإِفْك أو عامّ في كُلِّ أحدٍ؟
الجواب: عَامٌّ في كُلِّ أحدٍ إلى يوم القِيامَة حَتَّى مثلًا من أحب أن تشيع الْفَاحِشَة في المُؤْمِنِينَ في زمنه فهو داخل في هَذِهِ الآية، وتَخْصِيص الآية بشَيْء لا دَليل علَيْه هَذَا لا يجوز، وقد قَالَ أهْل العِلْم: إن العبرة بعُموم اللَّفْظ لا بخصوص السَّبب.
ويَجب أن نعرف أن صُورَة السَّبب قَطْعيَّة الدخول لأنَّه لا يُمْكِن أن نخرجها عن العُموم وهو وارد من أجلها، يعني أنَّه إِذَا ورد لفظ عام على سبب خاص فإن السَّبب الَّذِي وردت من أجله قطعيّ الدخول في هَذَا العامّ وغيره من أفراد العُموم لَيْسَ قطعيًّا ولكنه ظاهر فيه.
وبَيان ذَلِك أن دَلالَة العامّ على كُلِّ فرد من أفراده دَلالَة ظنية يعني لَيْسَت قطعًا إِذْ يجوز أن يَكُون بعض الأفراد قد خصص بحكم يخالف هَذَا العُموم، ولهَذَا نقول: دَلالَة اللَّفْظ العامّ على عمومه ظنية؛ لاحتمال أن يَكُون بعض أفراده قد خص إلَّا صُورَة السَّبب، أي: الصُّورة الَّتِي هي سبب هَذَا العُموم هي قطعية الدُّخول؛ كما تقدَّم.
فمثلًا لو قَالَ قَائِل: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، هَذِهِ الآية لا يدخل فيها أوس بن الصَّامت الَّذِي ظاهر من زَوْجَته وهو سبب النُّزول ماذا نقول له؟
نقول: هَذَا غير صحيح قطعًا هو داخل.
ولو قَالَ قَائِل: إن الرَّجل الَّذِي رآه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قد ظلل علَيْه والنَّاس حوله وهو صائم في السَّفَر فقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ"
(1)
، لو قَالَ قَائِل: هَذَا الرَّجل لا يدخل في هَذَا الحَديث؟
الجواب: نقول: غير صحيح ولا يُمْكِن لأَنَّ الصُّورة الَّتِي هي سبب العُموم
(1)
أخرجه البُخاريّ واللفظ له، كتاب الصوم، باب قول النَبِيّ صلى الله عليه وسلم لمن ظلل
…
، حديث رقم (1946)؛ ومسلم، كتاب الصوم، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر
…
، حديث رقم (1115)، عن جابر بن عبد الله.
قطعية الدُّخول وغيرها لَيْسَ قطعيًّا لكنه ظني.
المُفَسِّر رحمه الله الآن فسر هَذَا العامّ بالخاصِّ، وهَذَا لا يجوز، فإذا وجد لفظ عام يَجب الأخذ بِعُمومِه وإن كَانَ دلالته على جميع أفراده كما تقدَّم ظنية، لكن يَجب الأخذ بِعُمومِه حَتَّى يرد دَليل على التَّخْصِيص، فنقول: هَذِهِ الآية عامَّة في العصبة وغيرها.
قَوْلهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بِالحَدِّ للقَذْفِ {وَالْآخِرَةِ} بِالنَّارِ لحق اللهِ]. اهـ.
وفي نسخة: (بِحَدِّ القَذْفِ) والمَعْنى واحد، نعم {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} من عَذاب الدُّنْيَا ما ذكره المُفَسِّر رحمه الله وقد يَكُون لهم عَذاب أَشَدّ، لكن الآن المتبادر أن الْعَذَاب الأليم في الدُّنْيَا هو العُقوبَة والعَذاب كما أشرنا إلَيْه سابقًا معناه العُقوبَة و {أِليم} بمَعْنى مؤلم، وأمَّا عَذاب الْآخِرَة فهو عند الله أيضًا.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [أنَّه الحْدّ للْقَذْفِ وَعَذَابُ الْآخِرَة لحق اللهِ] هَذَا يشكل علَيْه أنَّه قد ثبت عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن من أصاب من هَذِهِ الذُّنوب شيئًا وعوقب علَيْه في الدُّنْيَا كَانَ كَفَّارة له
(1)
، ولهَذَا قالوا: إن الحُدُود كَفَّارة لأصْحابها، الحُدُود كحدّ الزِّنَا وحدّ السَّرقة وغيرها، إِذْ إن الله تَعَالَى لا يجمع علَيْه عقوبتين.
لو قَالَ قَائِلٌ: الحَديث عامٌّ والآية خاصَّة؟
الجواب: الحَديث عامٌّ على عُمومه، والآية ظَاهِرها أنَّه يجمع له بين الْأَمْرين،
(1)
أخرجه البُخاريّ، كتاب الحدود، باب توبة السارق، حديث رقم (6801)؛ ومسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، حديث رقم (1709)، عن عبادة بن الصَّامت.
والحديث يدُلّ على أنَّه لا يجتمع له الْأَمْران، والتَّوفيق بينهما أن نقول: إنه إِذَا فاته عَذاب الدُّنْيَا أصيب بعَذاب الْآخِرَة.
الحاصل أن الحَديث في الحُدُود الشَّرْعِيَّة، لكن محبَّة إشاعة الْفَاحِشَة أو شيوع الْفَاحِشَة لَيْسَ هو القَذْف الموجب للحد، هَذَا إنما يوجب التَّعْزِير، والتَّعْزِير قد يختلف ويصير هَؤُلَاءِ مستحقون للعَذاب في الْآخِرَة، يعني قد لا يعزرون ويتخلف التَّعْزِير بسبب من الأَسْباب.
وأما عَذابهم في الْآخِرَة فباق، يعني لو تخلف عَذاب الدُّنْيَا لم يتخلف عَذاب الْآخِرَة، على أن المُراد بالْعَذابِ قد يَكُون ما هو أعم من الجلد وشبهه فقد يَكُون الْعَذَاب بأن يُجعل في قلبه ألمًا وحزنًا وقلقًا وما أشبه ذَلِك.
فعلى هَذَا نقول: إن الآية هَذه فيمن يحب أن تشيع الْفَاحِشَة لا فيمن أشاعها، لكن هل علَيْه حدٌّ في الدُّنْيَا أعني الَّذِي يحب أن تشيع الْفَاحِشَة فقط مع أنَّه هو ما أشاعها؟ نعم لَيْسَ علَيْه حد؛ لأَن مُجرَّد محبَّة الْإِنْسَان لشيوع الْفَاحِشَة في المُؤْمِنِينَ لَيْسَ بِقَذْف، فلا يُقام علَيْه الحد، لكن يُعذب أو يُعاقب بما يسميه أهْل العِلْم التَّعْزِير.
فالتَّعْزِير يردعه وأمثاله عن هَذَا العَمَل، فإذا أُقيم علَيْه الحدّ لمعصية من المعَاصِي فإنَّه يَكُون كفارة له كما ثبت ذَلِك عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فالحد يَجب إقامته؛ لأَن الحُدُود فرائض لا بُدَّ من إقامتها، والتَّعْزِير بعض العُلَماء يَقُول: لا يَجب، ومنهم من يرى أنَّه يرجع إلى اجتهاد الْإِمَام، فالْإِمَام إِذَا رأى أنَّه لا يُقام فلا يقيمونه، فإذا فرضنا أن الْإِمَام اجتهد سواء أخطأ في اجتهاده أم أصاب ولم يُقِم الحدّ علَيْه هَذَا معناه أنَّه يُعاقب في الْآخِرَة ولابُدَّ.
لو قَالَ قَائِل: إِذَا عُزِّر بمحبته للْفَحْشَاء هل يُعذب في الْآخِرَة؟
الجواب: إِذَا عُزِّر بمحبته للْفَحْشَاء فلا يُعذب في الْآخِرَة؛ لأَن الله لا يجمع بين عقوبتين على العَبْد بذنب واحد، لكن إِذَا فاته التَّعْزِير إما لكون الحاكم اجتهد أو لكونه أخفى نفسه أو ما أشبه ذَلِك يبقى عَذاب الْآخِرَة.
لو قَالَ قَائِل: كَيْفَ نعرف أنَّه يحب أن تشيع الْفَاحِشَة؟
الجواب: نعرف أنَّه يحب أن تشيع الْفَاحِشَة إما بإظهاره كأنْ يقولَ: عسى الله يبين عورة فلان؛ لأنَّه إن أشاعها هو بنَفْسِه صَارَ مشيعًا، وإن كَانَ ما أشاعها فهو يحب ذَلِك، وأيضًا نعرف أنَّه يحب بأن يتتبع النَّاس ويقول: ماذا قالوا في هَذَا؟ ماذا عملوا؟
لو قَالَ قَائِل: هل التَّعْزِير يُكفِّر الذُّنوب؟
الجواب: لو عزره الأمام فإننا نقول: بمقتضى أن الحَدّ يكفر؛ فالتَّعْزِير يكفر أيضًا إِذَا كَانَ مستوفيًا؛ لأَن حَقِيقَة الْأَمْر أن الْإِمَام بالنِّسْبَةِ للتعزير قد يتركه إطلاقًا مع وُجوبه وقد يفعله مع التهاون وقد يفعله على وجه الكمال، بمَعْنى أنَّه يعاقب هَذَا المعتدي عُقوبَة تامَّة تَكُون كالحد الشَّرعي؛ لأننا نعلم أن الحَدّ الشَّرعي عُقوبَة تامة لأنه من الله، لكن التَّعْزِير قد ينقص عن مقابلة الذَّنب أو الجرم فيَكُون ناقصًا وقد يَكُون مساويًا ويَكُون تامًّا، وقد لا يُؤاخذ به الْإِنْسَان إطلاقًا، كأن يَكُون الحاكم مثلًا إما ظالم أو له قرابة مع هَذَا الشَّخص فيحابيه.
لو قَالَ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ هَذَا الوعيد فيمن يحبون أن تشيع الْفَاحِشَة في المُؤْمِنِينَ فكَيْفَ يَكُون حال من أشاع الْفَاحِشَة؟
الجواب: الَّذِي يشيع أَشَدّ من الَّذِي يحب أن تشيع لأَن الَّذِي يشيع يحب ويفعل، إِذْ ما أشاع الشَّيء إلا لمحبَّته لشيوعه فيَكُون قد أحب وفعل، والَّذِي أَحَبَّ قد لا يفعل ومع ذَلِك له عَذاب أليم.
قَوْلهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [انْتِفَاءَهَا عَنْهُمْ {وَأَنْتُمْ} أَيُّهَا العُصْبَة بِمَا قُلْتُمْ مِنَ الإِفْكِ {لَا تَعْلَمُونَ} وُجُودهَا فِيهِمْ] اهـ.
قول المُفَسِّر رحمه الله: [{يَعْلَمُ} انْتِفَاءَهَا عَنْهُمْ] سواء هَذَا أو قصة أُخْرَى لأَن الصَّحيح العُموم، يعني انتفاء الْفَاحِشَة الَّتِي أحب هَؤُلَاءِ أن تشيع في المُؤْمِنِينَ يعلم أنَّها لَيْسَت فيهم أو أنَّها فيهم.
قَوْلهُ: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} هَذَا النَّفي هل هو على إطلاقِه، يعني لا تعلَمون شيئًا أو لا تعلَمون ما يعلمُه الله؟
الجواب: الأَخِير، يعني لا تعْلَمُون ما يعلَمُه الله وإلا فعند الْإِنْسَان علم، قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]، وقَالَ تَعَالَى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، لكن لا تعْلَمُون ما عند الله من العِلْم، ولا تعلَمُون كعِلْم الله لأَن عِلْم الله واسع شامل تام.
وعِلْم الْاِنْسَان قاصِر ناقص محدود بخلاف علم الله سبحانه وتعالى، وفي هَذَا إِشارَة إلى أنَّه لا يجوز لِلإنْسان أن يتكلم بمثل هَذه الْأُمُور حَتَّى يَكُون لديه علم، وإذا كَانَ لديه علم أيضًا فإنَّه يَجب أن يتبع المَصالِح في ذَلِك.
لو فرَضْنا أنِّي أدْرِي أن هَذَا الرَّجل أصاب فاحِشَةً فهل من المسْتَحْسَن أن أرفعها إلى الْإِمَام لتبين وتبرز أو من المسْتَحْسَن ألا أرفعها؟
الجواب: هَذَا يَتعلَّق بالمصلَحةِ إِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي وقعت منه الْفَاحِشَة رجلًا معْرُوفًا بالعفة وبالصَّلاح وأن الْأَمْر بدر منه هكذا هفوة فإنَّه لا يَنْبَغِي أن يرفع إلى الْإِمَام ويُشْهر بل يُسْتر علَيْه ويُنصح، وإذا كَانَ الرَّجل معْرُوفًا بالشَّرّ والفَسَاد كَانَ من الواجب أن يبين أمره ويظهر ويشهر.
ومثل ذَلِك أيضًا مَسْأَلة العَفو عن الجناة هل العَفو أولى من الأخذ بالحقِّ أو الأخذ بالحقِّ أولى من العَفو؟ ينبني على هَذَا التفصيل إِذَا كَانَ في العَفو صلاح فالعَفو أفضل، وإلا فالأخذ بالحقِّ أفضل.
وكل الآيات الَّتِي تندب إلى العَفو مقيدة بقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، فقيد الله تَعَالَى العَفو بالإصْلَاح وأيضًا من النَّاحية المعنويَّة يُقالُ: العَفو إحسان، والإصْلَاح واجب، أي: وطلب الإصْلَاح واجب، وإذا تعارض الواجب والإحسان يُقدم الواجب.
فعلى هَذَا إِذَا تعارض إصلاح الخلق أو العَفو عن هَذَا المجرم نقول: إن الإصْلَاح أولى لهذَا المجرم، ولو عفوت عنه ذهب يفعل إجرامًا بغيرك، وإذا عفا آخر يذهب يفعل إجرامًا آخر وهَكَذا، فنقول: لا يَنْبَغِي العَفو هُنا إن لم نقل بتحْرِيمه، وعلى هَذَا يتنزل فعل بعض النَّاس.
فبعض النَّاس إِذَا صدمه إِنْسَان مثلًا أو صدم له مالًا أو صدم له نفسًا تجده يبادر بالعَفو وهَذَا خطأ عَظِيم، فالواجب النَّظر هل هَذَا الرَّجل الَّذِي تهَوَّرَ مثلًا وصدم هَذَا الآدمي أو هَذ البهيمة أو هَذَا المال وأفسده هل هو إِنْسَان متهوِّر شرير، فإن كَانَ كَذلِكَ فإنَّه لا يَنْبَغِي العَفو عنه، وهل أيضًا من المصْلَحة أن نعفو عنه؟ أو ربما إِذَا عفونا أصبح النَّاس لا يبالون بهَذَا الشَّيء.
ولو أن كُلَّ من جرى منه مثل هَذَا الْأَمْر هُدِّد وحُبس وغُرِّم المال لم يكن النَّاس على هَذَا الوجه الَّذِي نرى الآن، لكن مع الأسف أن بعض الإخوان تجده تأخذه العاطفة ويأخذه الزهد في الدُّنْيَا أمام الصَّدمة العَظِيمَة الَّتِي أصابته ثم يبادر ويسمح، عنْدَما يُصاب بهَذه المصيبة الفادحة ترخص الدُّنْيَا كلها عنْدَه يَقُول مثلًا: إِذَا راح عزيزي لا يهمني، الدُّنْيَا كلها صَارَت عندي لَيْسَت بشَيْء، ثم يبادر ويسمح وهَذَا خطأ، فالواجب التعقل.
ولهذَا الحَقيقَة أن الأخذ بالعاطفة دون العَقْل من شيم النِّساء ولَيْسَ من شيم الرِّجَال ولا من شيم أهل الإصْلَاح أيضا، فإن الواجب في هَذه الْأُمُور أن ينظر ما هو الأَصْلح بالنِّسْبَةِ لهَذَا الشَّخص الخاص وبالنِّسْبَةِ للعموم.
مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكرِيمَةِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: أن محبَّة الخَيْر للمُسْلِمين ودفع الضرر والفَواحِش عنهم فيه ثواب؛ لأنه إِذَا كَانَ في محبَّة الْفَاحِشَة عَذاب عَظِيم ففي كراهة شيوع الْفَاحِشَة ثواب، ويكن أن نأخذ هَذَا من قَوْل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:"وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، قَالُوا: أَوَ يأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيكُونُ لَهُ أَجْر؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، كَذَلِكَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ"
(1)
يعني يُؤخذ القياس من العكس.
الفَائِدة الثَّانية: أنَّ مَنْ أَشَاعَ فاحشة فله عَذاب عَظِيم في الدُّنْيَا والْآخِرَة أو ثبوت هَذَا العقاب لمن أشاع الْفَاحِشَة لأنه إِذَا ثبت فيمن أحبها فكَذلِكَ فيمن أشاعها مِنْ بَابِ أَوْلَى.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بَيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم (1006)، عن أبي ذر.
الفَائِدة الثَّالِثَة والرَّابِعَة: التَّحذِير من محبَّة إشاعة الفَواحِش، ولَيْسَ المَقْصُود من ذَلِك الإخبار بأنهم يُعذبون بل المَقْصُود من ذَلِك التَّحذِير من محبَّة الْفَاحِشَة في المُؤْمِنِينَ فكَيْفَ بمن يشيعها بنَفْسِه.
لو قَالَ قَائِل: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} هل المُراد أن يشيع فعلها وتكثر الفَواحِش في المُؤْمِنِينَ أو المُراد أن يشيع خبر الْفَاحِشَة؟
الجواب: كلاهما صحيح، وإن كَانَ المَعْنى الأَخِير لم يخطر على بالي أن المُراد من انتشار الْفَاحِشَة أن يشيع فعلها، لكن لو قَالَ قَائِلٌ: إنه هو ظاهر اللَّفْظ في قَوْلهُ: {تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} ولم يقل: خبرها، وإشاعة خبرها يؤخذ من سِيَاق القصَّة؛ لأَن القَضيَّة فيمن جاءوا بالإِفْك أي فيمن أشاعوا الخبر، لكن قطعًا هَؤُلَاءِ الَّذينَ أشاعوا الخبر يحبون أن تشيع الْفَاحِشَة بين المُؤْمِنِينَ ولِذَلك نشروها فيَكُون ذَلِك مقياسًا لغيرهم.
فعَلَى كُلِّ حَالٍ يظهر أنَّ الآية عامَّة لهَذَا ولهذَا، أن يشيع خبرها وتنتشر إِذَا فُعلت وأن يشيع فعلها وتكثر الفَواحِش في المُؤْمِنِينَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ الَّذينَ يحبون هَذَا وهَذَا {لَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ فِي اَلدُّنيَا وَالآخِرَةِ} {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]، لكن لما كَانَ عَذاب الْآخِرَة أَشَدّ من جهة تأْثِيره على الْإِنْسَان فيَجب على المُؤْمِن أن يَكُون شعوره بعَذاب الْآخِرَة أَشَدّ من شعوره بعَذاب الدُّنْيَا، لكن لضعف إيماننا نشعر بعَذاب الدُّنْيَا أكثر مما نشعر بعَذاب الْآخِرَة، ولهذَا يذكر الله عَذاب الدُّنْيَا لأنَّه مباشر لِلإنْسان ويُمْكِن أن يؤثر علَيْه أكثر مع ضعف إيمانه.
قد احترقت طائرة قريبًا فعندنا يتصوَّر الْإِنْسَان نفسه أنَّه من أصْحاب هَذه الطائرة الَّتِي احترقت وأغلقت عليهم الأبواب وهم يتصَارَخون: هل إلى خروج من سبيل فلا بُدَّ أنه ينزعِج، ولو تصوَّر نفسَه مع أهل النَّار:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37]، وقَالَ تَعَالَى:{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 8 - 9]، هل يشعر بهَذَا الشُّعور؟ الواقِع لا.
فالنَّاس يقرؤون القُرْآن وفيه مثل هَذه الآيات ولكنهم لا ينفعلون، مثلًا لو تصوروا أنفسهم مع هَؤُلَاءِ، ولهذَا يُذكر أن رجلين حاولا أن يركبا في هَذه الطائرة ولكن لم يحصل لهما ذَلِك ولما احترقت مَرِضَا لأنهما انزعجا حيث تصورا أنفسهما لو كانا مع هَؤُلَاءِ لاحترقا.
فأقول: المُؤْمِن حَقِيقَة يشعر بعَذاب الْآخِرَة أكثر، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، كَانَ عمر رضي الله عنه إِذَا قرأها مرض حَتَّى يُعاد
(1)
، الله أكبر، اللهم ارحم حالنا.
وعلَيْه فنأخذ من هَذَا فَائِدَة وهي وُجوب سد ذرائع الفَواحِش؛ لأنه إِذَا كَانَ الَّذِي يحب كثرتها في النَّاس يُعذب فكَيْفَ بمن حاول أن يكثرها بفعله فإنَّه يعذب مِنْ بَابِ أَوْلَى، عَلَى كُلِّ حَالٍ هَذَا فَهْم بعيد لكن له وجه.
الفَائِدة الخَامِسَة: فضل الله على المُؤْمِنِينَ في حماية أعْرَاضهم حيث توعد من أحبَّ أن تشيع الْفَاحِشَة فيهم.
(1)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 631).
الفَائِدة السَّادِسَة: إِثْبات علم الله عز وجل؛ لقَوْلهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} .
الفَائِدة السَّابِعَة: وُجوب ردِّ الأَشْيَاء إلى الله عز وجل وحكمها؛ لقَوْلهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} .
الفَائِدة الثَّامِنة: قُصور علم المخْلُوق؛ لقَوْلهُ: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ولذَلك نفى الله عنه العِلْم؛ لأَن ما أوتي من العِلْم قليلٌ، وإن كَانَ الْإِنْسَان عنْدَه علم لكنَّه قليل لِذَلك نفاه الله عز وجل.
* * *