الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (47)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47].
* * *
قَوْلهُ: {وَيَقُولُونَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أَي: المنافِقُونَ {آمَنَّا} صَدَّقْنَا {بِاللَّهِ} بتَوْحِيدِهِ {وَبِالرَّسُولِ} محمد صلى الله عليه وسلم وَأَطَعْنَاهما فِيمَا حَكَمَا بِهِ {ثُمَّ يَتَوَلَّى} يُعْرِض {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} عَنْهُ {وَمَا أُولَئِكَ} المُعْرِضُونَ {بِالْمُؤْمِنِينَ} المَعْهُودِينَ المُوَافِق قُلُوبهمْ لِأَلْسِنَتِهِمْ] اهـ.
قَوْلهُ: {وَيَقُولُونَ} هَذِهِ حكاية عن جماعة سواء كانوا من المُنافِقِينَ؛ كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله، أم من غيرهم.
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} فسَّر المُفَسِّر رحمه الله الإِيمَان بالتصديق، وقد سبق أن هَذَا التفسير قاصِر، وأن الإِيمَان هو التصديق مضافًا إلَيْه القبول والإذعان، وَذلِك بأن يقبل الْإِنْسَان ما جاء به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأن يُذعن له، أما مُجرَّد التصديق فلَيْسَ بإيمان، ولهَذَا نحنُ نعلم أن أبا طالب كَانَ مُصدِّقًا للنبي صلى الله عليه وسلم -وهو بنَفْسِه يُقرُّ علَى نفْسِه بِذَلِك بقَوْلهُ:
لقَدْ عَلِمُوا أنَّ ابْنَنا لا مُكذَّبٌ
…
لَدَيْنا، ولا يُعْنى بِقَوْلِ الأباطِلِ
(1)
(1)
سيرة ابن هشام (1/ 291 - 299).
ويقول:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ
…
مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَريَّةِ دِينَا
(1)
لكنَّه لَيْسَ بمؤمن مع التصديق؛ لأنَّه لم يُذعن ولم ينقد، لم يُذعن للرَّسول صلى الله عليه وسلم ولا انقاد له، كَذلِكَ أيضًا الْكُفَّار الَّذينَ حكى الله عنهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 9]؛ هم مُصدِّقون باللهِ، لكن لما لم يقبلوا ما جاء به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ولم يُذعنوا له لم يَكُونوا مُؤْمِنِينَ؛ فتفسير الاِيمَان شرعًا بمجرد التصديق تفسير ناقص، بل نقول: الإِيمَان هو التصديق مع القبول والإذعان، ولابُدَّ من ذَلِك.
قَوْلهُ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} أعاد حرف الجر في قَوْلهُ: {وَبِالرَّسُولِ} ؛ لأَن الإِيمَان بالرَّسُول إيمان مستقل، يعني: لا بُدَّ لِلإنْسان أن يؤمن باللهِ إيمانًا كاملًا {وَبِالرَّسُولِ} إيمانًا كاملًا كما أن الطَّاعة لله طاعة كاملة وللرَّسول كَذلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قَالَ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ثم قَالَ: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} عطفها على طاعة الله والرَّسُول بدون إعادة العامِل إِشارَة إلى أن طاعة ولاة الْأُمُور تبع لطاعة الله ورسوله، أما طاعة الرَّسُول فهي مستقِلَّة؛ قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وطاعة الله كَذلِكَ؛ مثله أيضًا الإِيمَان باللهِ وبالرَّسُول إِذَا جاء حرف الجر معناه أن هَذَا إيمان مستقل؛ كأن هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ آمنا إيمانًا كاملًا باللهِ سبحانه وتعالى وآمنا إيمانًا كاملًا بالرَّسُول أنَّه رَسُول الله.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: آمنا باللهِ [أي: بتوحيده]؛ هَذَا أيضًا فيه قُصور بل الإِيمَان باللهِ يشمل التوحيد وغيره، فيشمل التوحيد والتصرُّف والتدبير والتَّشْريع
(1)
البداية والنهاية لابن كثير (3/ 42).
وغير ذَلِك، يشمل كل هَذَا وكَذلِك يشمل ما له من الصِّفات، يعني لا يتم الإِيمَان باللهِ إلا بالإِيمَان بصفاته؛ لا بُدَّ من ذَلِك.
وقَوْلهُ: {وَأَطَعْنَا} هَذَا الانقياد يعني أنَّنا مُؤْمِنُونَ وأيضًا مطيعون، لكن ما معنى الطَّاعة؟
الطَّاعة؛ قالوا: مَعْناها موافقة الْأَمْر، بمَعْنى: ألا تخرج عمن أمرك ولا تخالفه، بل توافق أمره؛ إن كَانَ إيجابيًّا فبالفِعْل، وإن كَانَ سلبيًّا فبالترك، هَذه هي الطَّاعة، ولهَذَا كَلِمة طاعة تشمل فعل الأوامر وترك النَّواهي؛ لأَن مَعْناها موافقة الْأَمْر، فمعنى {وَأَطَعْنَا} أي: أنَّنا وافقنا أمر الله ورسوله فلا نخرج عنه، وبعد هَذَا القَوْل:{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: بعد إقرارهم بالإِيمَان باللهِ ورسوله يعرض فريق منهم.
قَوْلهُ: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} يعني: ما أولئك المعرضون بالمُؤْمِنِينَ حقًّا، ولكن هَذَا النَّفي، هل هو نفي لِلْإيمَانِ أصله، أو نفي لِلْإيمَانِ كمال؟
فيه تفصيل؛ إِذَا كَانَ التولِّي تولِّيًا مطلقًا فهو نفي لِلْإيمَانِ كله؛ لأي: لأصله، وإذا كَانَ التولي توليًا غير مطلق، بل في بعض الْأُمُور فإنها تختلف، فبعض الْأُمُور إِذَا تركها الْإِنْسَان وأعرض عنها قد يَكُون كافرًا، وقد يَكُون مؤمنًا ناقص الإِيمَان. المُهِمّ أن توليهم يُنافي ما ادَّعَوه من الإِيمَان.
وفي هَذَا دَليل واضح على أن الْإِنْسَان إِذَا قَالَ إنه مُؤْمن وهو متولٍ ومُعرض؛ فهو كاذب في دعواه، وهو إما أن يَكُون لَيْسَ مؤمنًا أصلًا، وإما أن يَكُون مؤمنًا لكن ناقص الإِيمَان.
قَوْلهُ: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} {فَرِيقٌ} مَعْنى: جماعة {مِنْهُمْ} أي: من هَؤُلَاءِ القائلين وفريق آخر باقون على الإِيمَان والطَّاعة لا يُعرضون، فيَكُون ما ادَّعَوه من الإِيمَان حَقِيقَة.
انظر المحترزات في القُرْآن الكَرِيم في أول الآيَة، قَالَ:{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ} لأنه لَيْسَ كل من قَالَ: آمنا باللهِ وأَطَعْنَا لَيْسَ كلهم يتولون بل منهم من هو مُؤْمن حَقِيقَة ولا يتولى، كَذلِكَ إِذَا دعوا إلى الله ورسوله، هل كلهم يتولون؟ لا؛ منهم من ينقاد لحكم الله ورسوله ويتخاصم إلى ورسوله ويقبل حكم الله ورسوله؟ فقَوْلهُ:{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23]، أي: عن المجيء إلَيْه أو عن حكمه، انظر قَوْلهُ:{يَتَوَلَّى} و {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} التولي بالجسم والإعراض بالْقَلْب؛ لأَن المتولي قد يتولى وفيه أمل أن يرجع، لكن إِذَا تولى وهو معرض - والعِيَاذ باللهِ -؛ فالمعرض كاره لِمَا دُعي إلَيْه؛ لأنَّه لم يُعرض عنه إلا وهو يكرهه وهَذَا أَشَدّ في التولي، فالتولي بالجسم والإعراض بالْقَلْب، يعني أنهم يتولون ولَيْسَ من نيتهم الرُّجوع.
وفي الآيَة دَليل على خطر من يتعصب للمذهب أو لقول واحد من أهْل العِلْم إِذَا دُعي إلى الله ورسوله وقِيلَ: هَذَا كتاب الله وهَذه سنة رَسُول صلى الله عليه وسلم، فالواجب التحاكم إلَيْهما والرجوع إلَيْهما.
بعض النَّاس يَقُول: المَذْهب كذا وقال العالم الفلاني كذا وما أشبه ذَلِك، هَذَا فيه شبه من هَؤُلَاءِ المُنافِقِينَ الَّذينَ إِذَا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم تجده متوليًا ومعرضًا، وبعض النَّاس - والعِيَاذ باللهِ - لا يتأنى أبدًا بسرعة يغضب ويقول: أبدًا، لا نريد هَذَا، نريد أن نتبع فلانًا.
وهل فلان هو الرَّسُول؟
الجواب: لا، فلان بشر يأخذ من قَوْل الرَّسُول عليه الصلاة والسلام، تارة يُخطئ وتارة يصيب، فإذا قِيلَ: وأنت أيضًا تخطئ وتصيب؟ أقول: صحيح أنا أُخطئ وأُصيب، لكن هَذَا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تأمله أنت، أنا لا أُلزمك أن تأخذ بما فهمتُ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكني أُلزمك أن تنظر إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم تنظر في قَوْل من قلدت، هل يَكُون موافقًا أو مخالفًا، أما أن تُعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتقول: أبدًا لا أنظر فيهما لأني أتبع فلانًا وفلانًا، هَذَا لا أوافقك عليه.
فهُنا فرق بين أن أدعوك إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله لتنظر فيهما وتتبعهما، وبين أن أقول: هَذَا كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن ألزمك ما أفهمه أنا، أنا لا أُلزمك به لأني إِذَا ألزمتك به فقد دعوتك إلى ما نهيتك عنه، دعوتك إلى تقليدي.
ولكنَّنا ندعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المُهِمّ ألا تتحجر وتقول: أنا لا أتبع إلا فلانًا، بل يَجب عَليْك أن تتبع ما يدُلّ علَيْه الكتاب والسنة سواء وافق رأي مُقلَّدك أم خالفه، لكن البلية كل البلية هي مَسْأَلَة التقليد المحض، إلا أنَّنا ولله الحمد نبشر النَّاس بأن هَذَا بدأ يضعف في النَّاس، أعني التقليد المحض الَّذِي يَكُون حَتَّى مع ظهور الحَقّ وبَيانه هَذَا بدأ - ولله الحمد - يضعف في النَّاس وصَارَ النَّاس يتطلَّبون الأقوال الَّتِي تَكُون راجحة حسب دَلالَة الكتاب والسنة بقطع النَّظر عن كون فلان أخذ بها أو لم يأخذ بها.
قَوْلهُ: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إِعْراب هَذه الجُمْلَة: (ما) نافية لكنها تعمل عمل لَيْسَ عند الحجازيين وعند جميع النَّحويين، لكن لغة بني تميم لا يُعملونها
عمل لَيْسَ، وفي القُرْآن {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]؛ فأعملها عمل (لَيْسَ)، ولم يقل في الآيَة:"ما هَذَا بشرٌ"، لو لم تعمل لكانت الآيَة:"ما هَذَا بشرٌ"؛ يَقُول الشَّاعر
(1)
:
ومُهَفْهَفِ الأعْطافِ قلتُ له انْتسِبْ
…
فأجابَ: ما قَتْلُ المحِبِّ حَرامُ
هَذَا الشَّاعر تميمي؛ لأنَّه قَالَ له: انتسب، لم يقل: أنا تميمي، بل أجاب:"ما قتل المحب حرام"؛ فعُرف أنَّه تميمي؛ لأنَّه لو كَانَ حجازيًّا لقال: "ما قتل المحب حرامًا"؛ فالحجازيون يُعملون (ما)، والمُراد بالحجازيين والتميميِّين وغيرهم: العرب الأولون الَّذينَ لم تتغير ألسنتهم؛ أما الآن فالألسنة متغيرة في عصرنا، فالحجازيون والتميميون سواء، وليعلم أن قولنا: الكوفيون أو النَّحويون أيضًا لَيْسَ وصفًا للعرب النَّاطقين باللُّغَة العربي، بل وصف للعلماء الَّذينَ تولَّوا العناية بالنَّحو.
الحاصل أن (ما) الحجازية، ترفع الاسْم وتنصب الخبر (أولاء) اسمها لكنَّه لَيْسَ مضمومًا؛ لأنَّه مبني، وأَسْماء الإِشَارَة كلها مبنية هَؤُلَاءِ وأولاء، وما أشبه ذَلِك كلها مبنية.
وقَوْلهُ: {بِالْمُؤْمِنِينَ} (الباء) حرف جار زائد، وهو زائد من حيث الإِعْراب، أمَّا من حيث المَعْنى ففيه تأكيد النَّفي في قَوْلهُ:{وَمَا أُولَئِكَ} .
وقَوْلهُ: {بِالْمُؤْمِنِينَ} خبر (ما) والنَّحويون يَقُولُونَ: إنه خبرها لكنَّه غير مَنْصُوب بها؛ لأَن الباء الزائدة يَكُون العَمَل لها؛ لأَن عملها فيه ظاهر بمباشرتها إياه،
(1)
روح المعاني (12/ 232).
فيَكُون الباء حرف جر زائد و (المُؤْمِنِينَ) اسم مجرور بالباء وعلامة جره الياء نيابة عن الكَسْرة؛ لأنَّه جمع مذكر سالم، وبعضهم يَقُول:(المُؤْمِنِينَ) خبر (ما) مَنْصُوب بها، وعلامة نصبه ياء مقدّرة غير الياء الظَّاهِرة؛ لأَن الياء الظَّاهِرة لمناسبة الباء، وهَذِهِ الياء المقدرة منه من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
على كل حال هَذَا تعمُّق شديد لَيْسَ له داع، إنما يَجب أن نعرف أن (ما) نافية من حيث المَعْنى، و (الباء) حرف جر زائد، والغرض منه تأكيد النَّفي، أي: الإِيمَان عن هَؤُلَاءِ الَّذينَ قالوا: آمنا وأَطَعْنَا، ثم تولوا ولَيْسَوا بمُؤْمِنينَ، وتقدَّم أن نفي الإِيمَان هُنا إما نفي لأصله وإما نفي لكماله.
* * *