الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (51)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
* * *
لمَّا بين الله عز وجل حال المُنافِقِينَ وأنهم إِذَا كَانَ الحَقّ لهم في حكم الله ورسوله أتوا إلَيْه مذعنين، يعني: منقادين مطيعين فصاروا إنما يتبعون أهواءهم فقط بيَّن حال المُؤْمِنِينَ، فقال:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .
أولًا: إِعْراب قَوْلهُ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{قَوْلَ} مَنْصُوب، والمعْرُوف أن (كَانَ) ترفع الاسْم وتنصب الخبر، وهنا الَّذِي يليها مَنْصُوب وجوابه أن هَذَا هو خبرها مقدمًا، أعني {قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} خبرها مقدمًا، واسمها المَصْدَر المنسبك من (أن والفِعْل) في قَوْلهُ:{أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يعني: ما كَانَ قولهم إلا هَذَا القَوْل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .
وقَوْلهُ: {إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} أي: إلى كتابه وإلى {وَرَسُولِهِ} إلَيْه شخصيًّا في حياته وإلى سنته بعد وفاته {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقال فيه ما سبق في الآيَة نظيرها {بَيْنَهُمْ} الضَّمِير يَعود على الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإنما أسند الحُكْم إلَيْه؛ لأَن حكمه تبليغ عن الله عز وجل فيَكُون حكمه منتظمًا لحكم الله أيضًا؛ إِذْ هو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
وقَوْلهُ: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يشمل ما تنازعوا فيه من الخُصومَات وما اختَلفُوا فيه من الأَحْكام، فإن الحاكم هو الرَّسُول عليه الصلاة والسلام في الخصومات الَّتِي تحدث بين المتشاجِرين وفي الأَحْكام الَّتِي يختلف فيها النَّاس، قَالَ اللهُ عز وجل:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقَالَ اللهُ تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]؛ فالمُؤْمِنُونَ إِذَا دعوا إلى الله والرَّسُول ليحكم بينهم فقولهم: أنْ يقولَوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا، أنْ يقولَوا: سَمِعْنَا بآذاننا وأَطَعْنَا بجوارحنا، فهم يسمعون وينقادون.
والطَّاعة شاملة لفعل الأوامر وترك النَّواهي، فهي شاملة للأمرين جميعًا، عكس الَّذينَ يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وهم لا يسمعون، أو يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وعصينا، فيَقُولُونَ: سَمِعْنَا وهم لا يسمعون، أو يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وعَصَيْنَا، فيَقُولُونَ: سَمِعْنَا ولا ينقادون أو يُصرِّحونَ بالعصيان يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وعَصَيْنَا، المُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا.
قَوْلهُ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[فَالْقَوْل اللَّائِق بِهِمْ {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} بِالْإِجَابَةِ] اهـ.
يعني: أنَّه ما كَانَ قولهم اللائق، فظاهر كلام المُفَسِّر رحمه الله أن المَسْأَلة على سبيل التَّقدير والفرض؛ أي: لا يفترض إلا أنْ يقولَوا هَذَا، ولكن الحَقيقَة أن هَذَا هو الواقِع، لَيْسَ هو بالقَوْل اللائق فقط بل هو القَوْل اللائق الواقِع، فالمُؤْمِنُونَ إِذَا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم فقولهم أنْ يقولَوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا، مثل ما قَالَ اللهُ عنهم:{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، وكوننا نجعل هَذَا قولًا لائقًا، أي: مقدرًا ومفروضًا خلاف ظاهر القُرْآن؛ فإن قَوْل المُؤْمِنِينَ إِذَا دعوا إلى الله ورسوله
يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا، سمعًا وطاعة وعلى الرحب والسعة، فهَذَا قولهم اللائق الواقِع منهم، إِذَا دعوا إلى الله ورسوله لا يَقُولُونَ: رأي فلان خلاف ذَلِك، ورأي فلان خلاف ذَلِك، والنَّاس على خلاف ذَلِك وما أشبه ذَلِك، لا يَقُولُونَ هَذَا، بل يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا، وهَذَا الواجب على المؤمن، فمن لم يقل هَذَا فلَيْسَ بمؤمن، إما أنَّه قد انتفى عنه الإِيمَان بالكلية أو هو ناقص الإِيمَان.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَأُولَئِكَ} حِينَئِذٍ {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} النَّاجُونَ] اهـ.
قَوْلهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {هُمُ} ضمير فصل، وقد تقدَّمت فوائده الثَّلاثة: الحصر والتَّأكيد وتمييز الخبر من الصِّفة {وَأُولَئِكَ} أي: الَّذينَ يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا إِذَا دعوا إلى الله ورسوله هم المفلحون.
يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (أي النَّاجون)، والأصح أن الفلاح لَيْسَ نجاة فقط، بل نجاة من المرهوب وحصولٌ للمطلوب، فالمُفلح هو الَّذِي نجا مما يكره وأدرك ما يحب.
إِذَنْ هَؤُلَاءِ هم الَّذينَ نجوا من المرهوب لانتفاء العصيان منهم، وأدركوا المَطْلوب لحصول تمام الطَّاعة منهم، فبالطاعات حصول المَطْلوب واجتناب المعَاصِي النَّجاة من المرهوب، وحصر الفلاح في هَؤُلَاءِ يدُلّ على أن من سواهم غير مفلح، لكن إن انتفى عنه الإِيمَان كله انتفى عنه الفلاح كله، وإن انتفى عنه بعض الإِيمَان انتفى عنه بعض الفلاح.
إِذَنْ وظيفة المُؤْمِن فيما إِذَا دُعي إلى حكم الله ورسوله أو فيما إِذَا اطَّلع هو بنَفْسِه على حكم الله ورسوله وظيفته أنْ يقولَ: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا، يلتفت يمينًا أو شمالًا
أو يؤول أو يحرف، لا، بل يَقُول: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا انقيادًا تامًّا وسمعًا تامًّا؛ لأَن بِذَلِك يتحقق الإِيمَان، والْإِنْسَان الَّذِي ينقاد لحكم الله سبحانه وتعالى بهَذه السهولة وبهَذه المطابقة هو الَّذِي يستريح ولا يحصل عنْدَه قلق؛ لأَن من عوَّد نفسه التردد في قبول الأَحْكام الشَّرْعِيَّة ولو في حكم واحد؛ فإن النَّفس تجبره على أن يتردد في كثير من الْأُمُور الشَّرْعِيَّة، يَقُول الله عز وجل:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
فالْإِنْسَان إِذَا عوَّد نفسه قبول الحَقّ من أول وهلة وبدون أي قلق أو تردد في تنفيذه فإنَّه يسهل علَيْه بعد ذَلِك الانقياد لجميع الأوامر وعدم الالْتِفات والتردد، ولكنه إِذَا فعل، ولو مرة، وتردد في أمر من الْأمُور من الأَحْكام الشَّرْعِيَّة، بعد أن يثبت عنْدَه الحُكْم وأن هَذَا حكم الله ورسوله، فإن تردده في قبوله خطر علَيْه جدًّا؛ لأنَّه يؤدي إلى التردد في الأَحْكام الأُخْرَى المستقبلة، دعنا من التردد في الثُّبوتِ، التردد في الثُّبوتِ شَيْء آخر، فالمكلف له أن يتردد في الثُّبوتِ إِذَا كَانَ الحديث ضعيفَ السَّنَد مثلًا أو ما أشبه ذَلِك.
ونظير ذَلِك في الحُكْم القدري أيضًا، الْإِنْسَان الَّذِي لا يمرن نفسه على الصَّبر على أحكام الله وعلى قضائه وقدره يبقى قلقًا دائمًا متعبًا من الأَحْكام القدرية الَّتِي لا تلائمه، فإذا تمشى مع القضاء والقدر وصَارَ إن أصابه خير اطمأن به وإن أصابه شر صبر علَيْه ورضي بالقضاء والقدر؛ فإنَّه بِذَلِك يستريح ولا يقلق أبدًا، تجد الْإِنْسَان الَّذِي يُرِيد من الله عز وجل أن يَكُون قضاؤه وقدره فيما يلائمه تجده دائمًا في قلق؛ لأَن القضاء والقدَر لَيْسَا على ما تريد، كما أن الشَّرع أيضًا لَيْسَ على ما تريد، الشَّرع لَيْسَ على ما يُرِيد النَّاس.
والقضاء والقدَر لَيْسَ على ما يُرِيد النَّاس، فمن تمشى مع هَذَيْنِ الحُكْمين فإنَّه سوف يجد الفلاح والطُّمأنينة والحَياة الطيبة، ومَن قَلِق منهما أو من أحَدهما فإنَّه سيبقى في قلق، إن كَانَ من الْأَمْر القدري بَقِي في قلق وحزن؛ لأَن الْأُمُور لا تأتي على ما يَنْبَغِي، وإن كَانَ من الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كَذلِكَ أيضًا ينفتح علَيْه باب التردد في قبول أحكام الله وتنفيذها.
مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكَرِيمَةِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: بَيان صفة الانقياد للمُؤْمِنِينَ، وجه ذَلِك أنهم {إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا لا يتِلْكؤون ولا يترددون.
الفَائِدة الثَّانية: ما يترتب على هَذَا السمع والطَّاعة من الفلاح الَّذِي هو الفوز بالمَطْلوب والنَّجاة من المرهوب.
* * *