المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (55) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ - تفسير العثيمين: النور

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌نُبْذَةٌ مُخْتَصَرَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين 1347 - 1421 هـ

- ‌نَسَبُهُ وَمَوْلِدُهُ:

- ‌نَشْأَتُهُ العِلْمِيَّةِ:

- ‌تَدْرِيسُهُ:

- ‌آثَارُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌أَعْمَالُهُ وجُهُودُهُ الأُخْرَى:

- ‌مَكانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌عَقِبُهُ:

- ‌وَفَاتُهُ:

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌الآية (4)

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الآية (8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌الآية (16)

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌الآية (23)

- ‌الآية (24)

- ‌الآية (25)

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌الآيتان (30، 31)

- ‌الآية (32)

- ‌الآية (33)

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآية (39)

- ‌الآية (40)

- ‌الآية (41)

- ‌الآية: (42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية: (44)

- ‌الآية (45)

- ‌الآية (46)

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌الآية (49)

- ‌الآية (50)

- ‌الآية (51)

- ‌الآية (52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌الآية (59)

- ‌(الآية: 60)

- ‌الآية (61)

- ‌الآية (62)

- ‌الآية (63)

- ‌الآية (64)

الفصل: ‌ ‌الآية (55) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ

‌الآية (55)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

* * *

قَوْلهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله [بَدَلًا عَنْ الْكُفَّار {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالمَفْعُول {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بَنِي إسْرَائِيل بَدَلًا عَنْ الجبَابِرَة، {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وَهُوَ الإِسْلام بِأَنْ يُظْهِرهُ عَلَى جَمِيع الْأَدْيَان ويُوَسِّع لهمْ فِي الْبِلَاد فَيَمْلِكُوهَا {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} مِنْ الْكُفَّار {أَمْنًا}. وَقَدْ أَنْجَزَ الله وَعْده لهمْ] اهـ.

قَوْلهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الوعد معناه: أن يمني شخصًا بما يحب، وأما الوعيد: فأن يحذره مما يكره، ففرق بين الوعد والوعيد، الوعد لما يُرجى من المحبوب، والوعيد لما يُخشى من المكروه.

ص: 353

وقد قَالَ الشَّاعر

(1)

:

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُه أَوْ وَعَدْتُه

لمُخْلِفُ إيعادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي

قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللهُ} أي: أنَّه سبحانه وتعالى التزم لهم بما يحبون.

قَوْلهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: جمعوا بين الإِيمَان والعَمَل الصَّالح، الإِيمَان محله الْقَلْب، والعَمَل الصَّالح محله الجوارِح، والإِيمَان وحده لا يكفي، والعَمَل وحده لا يكفي، ولا يَكُون صالحًا إلَّا بالإِيمَان ولو كَانَ ظاهره الصَّلاح؛ فإذا لم يكن مبينًا على إيمان فإنَّه لَيْسَ بصالح، فالَّذينَ يجمعون بين الْأَمْرين: الإِيمَان والعَمَل الصَّالح، لهم هَذَا الوعد؛ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ ومعنى:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أي: يجعلهم خلفاء لغيرهم يخلفون غيرهم في الأَرْض، وكَلِمة {الْأَرْضِ} المُراد بها الجنس، لَيْسَت أرضًا واحدة معينة بل أرض عامَّة، أي: الأَرْض كلها.

وَذلِك لأَن {الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]؛ وقَوْلهُ: {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الَّذينَ يشاء الله أن يورثهم؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وعلى هَذَا؛ فمثلًا أرض العرب لَيْسَت للعرب وأرض لفرس لَيْسَت للفرس وأرض الروم لَيْسَت للروم، الأَرْض لله يورثها من يشاء من عباده؛ فيورثها العباد الصَّالحين الَّذينَ آمنوا وعملوا الصَّالحات؛ فمن كفر باللهِ وعتى عن طاعته فلا حق له في الأَرْض، فالحق لغيره، يورثها الله من يشاء من عباده الصَّالحين.

(1)

المفردات للأصفهاني (ص: 826)، ولسان العرب (30/ 463).

ص: 354

وعلى هَذَا فإذا قَالَ بنو إسرائيل: أرض الشَّام لنا؛ لأَن موسى عليه الصلاة والسلام قَالَ: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]، إِذَا قالوا هَذَا؛ نقول: إن موسى قَالَ هَذَا لأنكم في ذَلِك الوقت أنتم أهل الصَّلاح وأنتم عباد الله الصَّالحون، والأَرْض لله يورثها من يشاء من عباده الصَّالحين، فهي في هَذَا الوقت لكم.

لكن لما جاء الإِسْلام وكفرتم به صرتم لستم أهلًا لها، وصَارَ أهلها الصَّالحون؛ وهم المُؤْمِنُونَ بمحمد صلى الله عليه وسلم المتبعون له، ثم احتلها من بعد اليهود النَّصَارَى الروم؛ لأنهم كانوا هم الصَّالحون بعد اليهود، ثم احتلها من بعد الروم المُسْلِمُونَ؛ لأنهم هم عباد الله الصَّالحون؛ فأرض الشَّام كتبت للصالحين، قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، ورثها بنو إسرائيل من الجبارين؛ لأنهم كانوا أهل الحَقّ، ثم ورثها النَّصَارَى من اليهود؛ لأنهم أهل الحَقّ، ثم ورثها المُسْلِمُونَ من النَّصَارَى؛ لأنهم أهل الحقّ.

وعلى هَذَا فاليهود الآن لا حق لهم في فلسطين ولا غيرها من أرض الله، لَيْسَ لهم حق في الأَرْض أبدًا، لا هم ولا أي كافر؛ لأَن الأَرْض إنما يستحقها عبادُ الله الصَّالحون، لكن إن صلح المُسْلِمُونَ ورجعوا إلى دينهم الحقيقيِّ الَّذِي يورثهم الله به أرضه فإننا نجزم جزمًا بأنهم سوف يسترجعون الأَرْض، قَالَ تَعَالَى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .

فنحن نجزم بأن المُسْلِمِينَ الآن لو رجعوا حَقِيقَة إلى دين الله بالإِيمَان والعَمَل الصَّالح فسوف يطردون اليهود من الأَرْض، بل سوف يطردون الأمريكان من

ص: 355

أماكنهم والروس من أماكنهم، نجزم بهَذَا جزمًا، لكن ما دام المُسْلِمُونَ على هَذَا الوصف فإنَّه حسب القواعد الشَّرْعِيَّة والنُّصوص لا يستحقون النَّصر؛ لأنَّهم لم يقوموا بجهاد أنفسهم فكَيْفَ يقومون بجهاد غيرهم ليدخلوه في الإِسْلام، الآن أقيموا الإِسْلام فيما بينكم، أقيموا دين الله فيما بينكم ثم بعد ذَلِك سوف ينصر الله دينه إِذَا قمتم به، لأَن الله لا ينصر فلانًا لأَنَّه فلان أو ينصر هَذِهِ الطائفة، لأنهم عرب أو ينصر هَذِهِ الطائفة، لأنهم فرس، بل ينصر من قام بهَذَا الدِّين.

صلاح الدِّين الأيوبي أصله غير عربي، ومع ذَلِك نصره الله على النَّصَارَى، لأَنَّه قام بدين الله، فالدِّين نفسه هو الَّذِي ينصر، هو الَّذِي سيشق عن نفسه، إن كمل فهو سلاح، وإن لم يكمل فلا يقوى لِلإنْسان سلاح ولا يسْتَطيع أن يحكم النَّصر بما في يده من صلاح أبدًا، إِذَا كَانَ سلاح الدّين بيد الْإِنْسَان يبقى هُناكَ السلاح المادي، لكن أيهما أقوى مادة؟

معْلُوم أن المُسْلِمِينَ أضعف الأُمَم مادة في الوقت الحاضر، لأنهم أمم متفرقة ومتناحرة والعداوات بينهم كَثيرَة والبغضاء بينهم كَثيرَة، هَذَا يدعو إلى كذا، وهَذَا يدعو إلى كذا، وهَذَا له منهج خاص، كلهم متفرقون وقد قَالَ اللهُ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وهَذَا الْأَمْر منطبق تمامًا على المُسْلِمِينَ في الوقت الحاضر فلا اجتماع على الإِسْلام، ولا دين قيم مقام للمُسْلِمين، قد يوجد في شرذمة قليلة لكنها لا تمثل المُسْلِمِينَ، يوجد فيها شَيْء من الصَّلاح ومن الإِيمَان والعَمَل الصَّالح لكن على ضعف أيضًا.

فالحاصِل: أن هَذَا الوعد الَّذِي وعده الله حق لكنَّه للذين آمنوا وعملوا الصَّالحات وهَؤُلَاءِ هم عباد الله الصَّالحون الَّذينَ قَالَ فيهم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي

ص: 356

الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، فإذا قَالَ الَّذينَ يجاهدون اليهود: نحنُ سنطرد اليهود ونقيم على هَذِهِ البلاد المقدسة الَّتِي احتلوها برجسهم دولة إسلامية تقود النَّاس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم مثلوا ذَلِك بأنفسهم قبل أن يفتحوا هَذِهِ البلاد حينئذٍ نتيقن لهم النَّصر، وفيما عدا ذَلِك فالنَّصر غير مضمون، بل قد يَكُون بالعَكْسِ الهزيمة هي المضمونة؛ لأَن من قام بشَيْء وجاهد به وهو على خلافه فإن ذَلِك نوع من خداع الله عز وجل، ومن يخادع الله يخدعه.

قَوْلهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} تقدَّم أن الأَرْض المُراد بها الجنس يعني لَيْسَت أرضًا معينة كأرض مكة يستخلف الله فيها المهاجِرينَ بدلًا عن المشرِكينَ بل المُراد كل الأَرْض.

قَوْلهُ: {كَمَا اسْتَخْلَفَ} هَذَا في الحقيقَة مثل قَوْلهُ: {وَلَكِنْ لِطْمَئِنَّ قَلْبِى} [البقرة: 260] يعني: ذكر من باب التَّوكيد وطُمأنِينَة الموعود بما وعد به، يعني كأنه قَالَ: انظروا إلى هَذَا الوعد الَّذِي وعدكم الله فقد تحقق فيمن قبلكم.

قَوْلهُ: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [من بني إسرائيل بدلًا عن الجبابرة] اهـ.

هَذَا صحيح وأيضًا من بني إسرائيل بدلًا عن الفراعنة؛ فإن الله تَعَالَى يَقُول: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] ويقول أيضًا: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} وهم بنو إسرائيل في ذَلِك الوقت {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، وقَالَ تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)

ص: 357

وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25 - 26]؛ هَذِهِ الجنات والعُيون والزُّروع والمقام الكَرِيم الَّتِي هي جنة الدُّنْيَا تركوها وأورثها الله تَعَالَى لبني إسرائيل، كَذلِكَ المُسْلِمُونَ.

وقَالَ اللهُ تَعَالَى في اليهود الَّذينَ قضى عليهم بالقضاء على بني قريظة وبالتالي فتح خيبر، قَالَ تَعَالَى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27] يعني: ما وطئتم عَلَيْها أبدًا أورثكم الله إياها، وهَذَا وعد حق، وقد علمنا في التاريخ أن المُسْلِمِينَ حينما كَانَ يمثلون الإِسْلام حَقِيقَة ملكوا مشارق الأَرْض ومغاربها، ودانت لهم الأُمَم إدانة كاملة، وفي الحَقيقَة أنهم فتحوا تِلْك البلدان قبل كل شَيْء بالدِّين والأخلاق.

فإن من سَبَرَ أحوال المُسْلِمِينَ دخل في الإِسْلام بدون أي قتال، ولكن مع ذَلِك استعانوا بالسلاح لئلا يقف أحد في وجه دعوتهم، واستعمال السلاح في الإِسْلام ما هو إلَّا مدافعة عن الإسْلام فقط لا إرغامًا للنَّاس أن يدخلوا بالسيف؛ لأَن الله يَقُول:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ويقول:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، يعني: صدًّا عن سبيل الله وقيامًا ضد الدعوة الْإِسْلَامية {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، وهو الظَّاهِر وهو الغالِب.

فعلى كل حال، نقول: إن من سَبَرَ أحوال التَّاريخ فيما قبل هَذِهِ الأُمَّة وفي هَذِهِ الأُمَّة عرف تصديق هَذَا الوعد، وأنه وعد تحقق، ونزل وأنه إنما تخلف فيما تخلف النَّقص؛ إما في الإِيمَان وإما في العَمَل الصَّالح؛ فتخلف النَّصر في أُحد لترك العَمَل الصَّالح؛ وهو الامتثال؛ حيث قَالَ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام: "لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ،

ص: 358

إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا، فَلَا تُعِينُونَا"

(1)

، ولكنهم برحوا.

وتخلَّف النَّصر في غزوة حُنَين لنقص الإِيمَان، وهو الاعتماد على الله عز وجل بل اعتمدوا على قوتهم وكثرتهم، وقالوا: لن نُغلب اليْوم من قلة، فغلبوا من قلة، فهَذَا دَليل على أنَّه متى تخلف أحد الوصفين: الإِيمَان أو العَمَل الصَّالح، فإنَّه يتخلف من هَذَا الوعد بقدر ما تخلف من هَذَيْنِ الوصفين.

الْأَمْر الثَّاني: مما وعد الله به المُؤْمِنِينَ: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وهَذَا هو قرة أعينهم قرة أعين المُؤْمِنِينَ أن الله يُمْكِن لهم دينهم الَّذِي ارتضى لهم، وأن يَكُون الإِسْلام هو المتمكِّن وهو الظَّاهِر وهو الغالِب هَذِهِ قرة عيون المُسْلِمِينَ، وهي إن لم تكن مثل الأولى فهي أولى منها، بالنِّسْبَةِ للمُؤْمن حقًّا الَّذِي يُرِيد الإِيمَان والْإِسْلَام، فلو سُئل المُؤْمِن: ماذا تتمنَّى؟ لم يقل: أتمنى أن يَكُون لي سيارة فخمة وقصر مشيد وما أشبه ذَلِك، قَالَ أتمنى أن أجد الإِسْلام هو العالي وهو المتمكن في الأَرْض، هَذِهِ أمنيته، وهَذه أمنية عليا لكل مُؤْمن.

وفي قَوْلهُ: {دِينَهُمُ} الإضافَة إلَيْهم فيها نوع من التَّخصِيص نوع من الفخر والإعزاز، يعني: الدِّين الَّذِي اختاروه لأنفسهم وصَارَ خاصًّا بهم.

ثم في قَوْلهُ: {الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} في هَذَا أيضًا ميزة أُخْرَى بأن هَذَا الدِّين الَّذِي اختاروه هو الدِّين الَّذِي ارتضاه الله لهم أيضًا، فصَارَ هَذَا الدِّين ميزة وغبطة

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، حديث رقم (3039)؛ عن البراء بن عازب، ولفظه: جعل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الرِّجَالة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلًا عبد الله بن جبير، فقال:"إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حَتَّى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حَتَّى أرسل إليكم".

ص: 359

للمُؤْمِنِينَ من ناحيتين، أولًا: أنَّه هو الَّذِي سلكوه واختارُوه لأنفسِهم، والشَّيء الثَّاني: أن الله ارْتضاهُ لهم أيضًا ليدينوا لله به، فيَكُون فيه مزيتان: مزية من جهة السالك في قَوْلهُ: {دِينَهُمُ} ، ومزية من جهة الشَّارع في قَوْلهُ:{الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ؛ فهم رضوا هَذَا الدِّين، وربهم رضيه لهم، فكان هَذَا الدِّين الَّذِي ارتضوه لأنفسهم ورضيه الله لهم، فأعز شَيْء عليهم أن يُمْكِن الله لهم هَذَا الدِّين، وهَذه نتيجة ثانية لِلْإيمَانِ والعَمَل الصّالح: الأوَّل: الاستخلاف في الأَرْض، والثَّاني: أن يُمْكِن الله لهم الدِّين ويثبته ويقويه ويجعله الأعلى على غيره.

قَوْلهُ: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: (فيها قراءتان: التخفيف "وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ"

(1)

والتشديد {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} ، وهما بمَعْنى واحد أو مع اختلاف يسير).

قَوْلهُ: {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} أتى بقَوْلهُ: {مِنْ بَعْدِ} ولم يقل: بخوفهم أمنًا لِتُحقق الخَوْف الأوَّل، ثم يأتي من بعده الأَمْن وظهور نعمة الأَمْن، وفَائِدَته بعد الخَوْف أبلغ من ظهور أمنٍ على أمن، لأَنَّه لا تعرف قيمة الأَشْيَاء إلَّا بضدها، فإذا قدر أن هَذَا الْإِنْسَان في خوف ثم أبدل بعد الخَوْف أمنًا ظهر لِهَذَا الأَمْن من الأثر في نفْسِه ما هو أبلغ مما لو كَانَ أمنًا على أمن، ولذَلك الآن هَؤُلَاءِ الشَّباب من بنينا الَّذينَ عاشوا في هَذَا الظل الوارف والنَّعيم الوافر من الإطعام من الجوع والأَمْن من الخَوْف؛ هل يقدِّرون نعمة الله هَذَا الأَمْن؟ أبدًا لا يقدرون نعمة الشِّبع، بالنِّسْبَةِ إلَيْهم كأنه أمر عادي خلقوا علَيْه ولن يتبدل، لكن من ذاق ألم الجوع ورهبة الخَوْف ممَّن سبقونا ثم أدركوا هَذَا النَّعيم يعرفون قدر هَذَا النَّعيم، الَّذينَ كانوا يبيتون ليالي

(1)

البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة (ص: 225).

ص: 360

لا يقتاتون إلَّا من ورق الشَّجر إن تيسَّر لهم، ولا يأكلون اللَّحم إلَّا من خِفاف الإِبل المشويَّة إن تيسَّرت، هَؤُلَاءِ هم الَّذينَ عرفوا قدر هَذِهِ النِّعمة، والآن أصبحت اللحوم تلقى على المزابل من عدم أكلها.

فعلى كل حال: الأَمْن بعد الخَوْف أَشَدّ ظهورًا منه من الأَمْن على الأَمْن؛ لأنَّه لا يظهر في الحقيقَة استمرار الأَمْن بين قوم لم يذوقوا رهبة الخَوْف، هَذَا قد لا يُشعر به، والَّذي يشعر بظُهور نعمة الأَمْن إنما يَكُون ذاقها من بعد الخَوْف، ولا شَك أن الَّذينَ خوطبوا بهَذه الآيَة أولًا قد ذاقوا رهبة الخَوْف؛ لأنهم كانوا خائفين من أعدائهم الْكُفَّار لما لاقوه من الأَذَى الشَّديد القولي والفِعْلي، حَتَّى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة إلَّا خائفًا متخفيًا عليه الصلاة والسلام، حَتَّى أظهره الله عز وجل فاتحًا منصورًا مؤزرًا فإذا تصور الْإِنْسَان إبدال الخَوْف بالأَمْن يجد أن للخوف أثرًا كبيرًا في نفْسِه.

قَوْلهُ: {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مِنْ الْكُفَّار {أَمْنًا} وَقَدْ أنجَزَ الله وَعْده لهمْ بِمَا ذُكِرَ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بقَوْلهُ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}] اهـ.

الحمد لله، نعم أنجز الله وعده وقد قَالَ النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام وهو على باب مكة عام الفتح معلنًا للتوحيد الَّذِي كَانَ يُحارب في مثل ذَلِك المكان، قَالَ:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أنجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"

(1)

، وقد تحقق - ولله الحمد - فكانت الأصنام في جوف الكَعْبة وحول الكَعْبة، وهَذَا يُنافي تمامًا شهادة أن لا إله إلَّا الله، وقد كَانَ المُسْلِمُونَ منهم من لا يُمَكَّن من البَيْت أو من الصَّلاة حوله، وإذا صلى حوله سُخر منه وأوذي، حَتَّى إن إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم كَانَ ساجدًا وكان حوله أَبو جهل ومَنْ معه من شرار قريش فقالوا: ألا رجل يأتي بسلا

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1218)؛ عن جابر بن عبد الله.

ص: 361

جَزُور بني فلان، فيلقيه على محمد صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فانبعث أشقى القوم فجاء به ووضعه على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم -وهو ساجد، فجعلوا يضْحَكُون ويهزؤون به، حَتَّى إن بعضَهم يسقط من الضَّحك والسُّخرية، إلى أن جاءت فاطمة ابنته وكانت صغيرة لا يجرؤون على أن يمنعوها، فأخذت هَذَا من على ظهره صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فأقول: هَذَا البَيْت الَّذِي كَانَ حال المُسْلِمِينَ فيه على هَذَا الوضع بعد مدة وجيزة -ولله الحمد- وقف النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام على عتبة الباب حكمًا في قريش الَّذينَ هم فعلوا به ما فعلوا وقال لهم: "مَا ترَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟ " قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، وفي هَذَا المقام الَّذِي يسْتَطيع أن ينتقم كما يُرِيد عليه الصلاة والسلام، قَالَ لهم:"أَقُولُ كَما قَالَ يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"

(2)

؛ فأي تمكين أقوى من هَذَا التمكين وأي عَزَّ أعلى من هَذَا العز، فصدق الله وعده تبارك وتعالى في مدة وجيزة - ولله الحمد -، وإلَّا فمن كَانَ يفكر أنَّه في خلال ثمان سنوات من خروج النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام إلى عام الوفود، كما هو معْرُوف، ثم يرجع فاتحًا منصورًا مؤزرًا.

يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [وَقَدْ أَنْجَزَ الله وَعْده لهمْ بِمَا ذُكِرَ وَأَثَنَى عَلَيْهِمْ بقَوْلهُ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}].

المُفَسِّر يرى أن هَذِهِ الجُمْلَة استئنافية للثناء عليهم، ويحتمل أن تَكُون هَذِهِ الجُمْلَة استئنافية لَيْسَ الغرض منها ثناء بل الغرض منها استمرار الصِّفة من الإِيمَان

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، حديث رقم (2934)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النَّبِيّ لَهُم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم (1794)، عن عبدِ الله بن مسعود.

(2)

رواه ابن إسحاق في السيرة (4/ 31 - 32)، وعنه الطَّبري في التاريخ (3/ 120).

ص: 362

والعَمَل الصَّالح، يعني: أن هَذَا التمكين وهَذَا الاستخلاف وهَذَا التبديل بالأَمْن بعد الخَوْف يَكُون إِذَا استمروا على عبادة الله سبحانه وتعالى من غير إشراك به، فتكون الجُمْلَة هَذِهِ حالية أو استئنافية، والغرض منها بَيان أن هَذَا الوضع الحاصل أو هَذَا الوعد الَّذِي وعد الله به حاصل ما استمروا على عبادة الله وعدم الإشراك به، ونضيف هَذِهِ الصِّفة، وهي إخلاص التوحيد لله والبقاء علَيْه الَّذِي هو شرط للتمكين مع قَوْله تَعَالَى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 40، 41]؛ هَذِهِ أربع صِفات مع هَذِهِ الصِّفة وهي العِبادَة بدون إشراك، فتكون أَسْبَاب النَّصر الَّتِي وعد الله به خمسة: عبادة الله بدون إشراك الَّتِي أعلاها التوحيد، ثم إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، والْأَمْر بالمعْرُوف، والنَّهْي عن المُنْكر.

فهَذه هي أَسْبَاب النَّصر الحقيقية الَّتِي بها ينصر الله عباده، وما عدا ذَلِك فلَيْسَ بسبب من أَسْبَاب النَّصر، ويلاحظ أن إعداد القوة داخل في ضمن هَذِهِ الأَشْيَاء، لأَنَّه من جملة عبادة الله حيث أمر الله به، وكل ما أمر الله به فهو من العِبادات، أما رجل يَقُول: أتمنى النَّصر لكن لا يقيم الصَّلاة من أين يأتيه النَّصر؟ ويقول: إنه يتمنَّى النَّصر لكنَّه لا يأمر بالمعْرُوف ولا ينهى عن المُنْكر، فمن أين يأتيه النَّصر؟ لا بُدَّ من أمر بمعْرُوف ونهي عن منكر، ولنثق أنَّه لا يُمْكِن أن يقوم للمُسْلِمين قائمة إلَّا بالْأَمْر بالمعْرُوف والنَّهْي عن المُنْكر؛ لأنَّهم إن لم يأمروا بالمعْرُوف وينهوا عن المُنْكر لزم ولابُدَّ التفرق بينهم، أنا أقول: إِذَا لم يأمر النَّاس بالمعْرُوف وينهوا عن المُنْكر، فإنَّه يَلْزَم لزومًا حتميًّا مؤكّدًا أن يتفرقوا، لأَن مشرب النَّاس لَيْسَ واحدًا وهدفهم لَيْسَ واحدًا، هَذَا أمر بالضَّرورة، فمثلًا الَّذِي ارتد عن الإِسْلام إِذَا لم نرده إلى الإِسْلام

ص: 363

صَارَ مفارقًا لنا يسلك غير ما نسلك، ولِهَذَا قَالَ اللهُ تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ثم قَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]؛ فدَلَّ هَذَا على أنَّه بترك الْأَمْر بالمعْرُوف والنَّهْي عن المُنْكر يَكُون التفرق، وهو أمر واقع طبيعي.

قَوْلهُ: {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} {شَيْئًا} نكرة في سِيَاق النَّفي؛ فتعم أي شَيْء مما يُشرك به، ولَيْسَ الشِّرك خاصًّا بعبادة الوثن بأن يركع الْإِنْسَان ويسجد لشجر أو حجر أو قبر أو شمس أو قمر، لا، الشِّرك أعم من ذَلِك كله؛ حَتَّى إنه إِذَا أُطيع الْإِنْسَان في معْصِيَة الله يَكُون ذَلِك شركًا؛ قَالَ تَعَالَى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].

قَالَ عدي بن حاتم رضي الله عنه: يا رَسُول الله، إنا لسنا نعبدهم! قَالَ:"أَليْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمُ اطرامَ فتسْتَحِلُّونَهُ، وَيحرِّمُونَ عَلَيْكُمُ الحَلَالَ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ "، قَالَ: نعم، قَالَ:"فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ"

(1)

.

الرَّجل يفضل الدُّنْيَا ويقدمها على الْآخِرَة؛ هل هو مشرك أو لا؟ نعم، مشرك؛ لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ"

(2)

؛ لأَن أصل العِبادَة مأخوذ من الذُّلِّ، ومنه قولهم: طريق مُعَبَّد، يعني مذللًا لسالكيه يمشون عليه، فكون

(1)

أخرجه التِّرمِذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، حديث رقم (3095)؛ عن عدي ابن حاتم، واللفظ للطبراني في الكبير (17/ 92)(218).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يُتَّقى من فتنة المال، حديث رقم (6435)؛ عن أبي هريرة.

ص: 364

الْإِنْسَان يذل للدرهم والدِّينار حَتَّى يقدمه على طاعة الله عز وجل، هَذَا نوع من الشِّرك، ولِهَذَا سمَّاه النَّبيّ عليه الصلاة والسلام عابدًا له.

كَلِمة: {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} لَيْسَت بالكَلِمة الهيِّنة، إِذَا كنا نتصور مَعْناها كما جاء في الكتاب والسنة، أما إِذَا ضيقنا مَعْناها وقُلْنا لا يشركون به شيئًا، أي: لا يعبدون شجرًا ولا حجرًا، صَارَت ضيقة، ولا معنى للعُموم فيها.

فإِذَنْ عبادة الله حقًّا لا تَكُون إلَّا بانتفاء الشِّرك مطلقًا، بحيث لا يشرك باللهِ أحدًا، لَيْسَ الشَّرك في العِبادَة فقط، بل في نفس العِبادَة والإِرادَة وغير ذَلِك، فإذا حقق هَذَا الْأَمْر فقد تحقق الإِخْلاص، وقد تقدَّم أن بعض السَّلف كَانَ يَقُول: ما جاهدت نفسي على شَيْء مجاهدتها على الإِخْلاص، وهَذَا حَقِيقَة، فالإِخْلاص: أن لا يشرك الْاِنْسَان باللهِ شيئًا لا في العِبادَة الَّتِي لله وحده ولا في الإِرادَة وهَذَا أمر يصعب جدًّا على الْإِنْسَان أن يحققه، ولكن بعون الله سبحانه وتعالى والاستعانة به يحصل المَطْلوب.

قَوْلهُ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [هُوَ مُسْتَانْف فِي حُكْم التَّعْلِيل] اهـ.

هَذَا غريب من المُفَسِّر رحمه الله، جعله في الأوَّل ثناء علَيْه ثم جعله تعليلًا، وفي الحقيقَة لا شَك أنَّه تعليل كما قررناه، لكنَّه متضمن للثناء، لأَن من عبدِ الله استحق الثَّناء.

مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكرِيمَةِ:

الفَائِدةُ الأُولَى: الحث والتَّرغيب على الاِيمَان والعَمَل الصَّالح.

ص: 365

الفَائِدة الثَّانية: الوعد لمن اتصفوا بهَذَيْنِ الوصْفَيْن أن يستخلِفَهم الله تَعَالَى في الأَرْض كما استخلف الَّذينَ من قبلهم، يعني: يجعلهم خُلَفاء لأهلِها في إِرثها من بعدهم.

الفَائِدة الثَّالِثَة: حسن التَّعليل؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى ذكر الشَّواهد على وعده بالْأُمُور الواقِعة، لقَوْله:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ فإن الله سبحانه وتعالى أَرَادَ بهَذَا المثال، وهو قَوْلهُ:{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} طمأنة هَؤُلَاءِ الموعودين بذكر الْأَمْر واقعًا فيمن قبلهم، فيَكُون في ذَلِك زيادة تشجيع لهم على ذَلِك.

الفَائِدة الرَّابِعَة: أن الأَرْض لله يورثها من يشاء من عباده، وهو الَّذِي يستخلف فيها النَّاس بدل غيرهم، ولَيْسَ للنَّاس في هَذِهِ الأَرْض ملك، الملك في الأَرْض لله يؤتيه من يشاء لقَوْله تَعَالَى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} .

الفَائِدة الخَامِسَة والسَّادِسَة: أن الإِيمَان والعَمَل الصَّالح سبب لتمكين الدِّين في الأَرْض، وأن المخالفة سبب لنزع الدِّين من الأَرْض؛ لقَوْله:{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} فيفهم منه أنهم لو فسقوا ولم يؤمنوا ولم يعلموا صالحا ما مُكِّن لهم الدِّين الَّذِي هو لهم والذي ارتضاه الله تَعَالَى لهم، ويتفرع على الفَائِدة السَّابِقة التَّحذِير البالغ من المخالفة والفُسوق، وأن ذَلِك سبب لنزع الدِّين منهم، وهَذَا هو المطَّرد في سنن الله سبحانه وتعالى؛ فإن النِّعم إِذَا لم تُشكر زالت، وأكبر نعمة أنعم الله بها علَى عِبَادِه هي نعمة الدِّين، فإذا لم تُشكر فإنها تزول كغيرها من النِّعم.

ص: 366

الفَائِدة السَّابِعَة: كمال الدِّين الْإِسْلَامي حيث قَالَ: {الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} فهو الدِّين الَّذِي ارتضاه لعباده، وهو أكمل الأديان ولذَلك ختمت به الرسالات.

الفَائِدة الثَّامِنَة: أن الإِيمَان والعَمَل الصَّالح سبب لاستمرار الأَمْن ولزوال الخَوْف، إِذَا كَانَ هُناكَ أمن سابق فهو يستمر ولزوال الخَوْف، فإذا كَانَ هُناكَ خوف فإنَّه يزول؛ لقَوْله:{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} .

الفَائِدة التَّاسِعَة: أن الْأُمُور الهامة يَنْبَغِي تأكيدها بأنواع المؤكِّدات، فإن هَذَا الوعد من الْأُمُور الهامة لما يترتَّب علَيْه من المَصالِح والمنافع في الدُّنْيَا والْآخِرَة، ولِهَذَا أكَّده الله تَعَالَى بالقسم واللَّام والنُّون، كما في قَوْلهُ:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ، وقَوْلهُ:{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} ، وأكَّده أيضا بمؤكِّد معنوي لَيْسَ بأداة لفظية، وهو قَوْلهُ:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فإن المُراد بهَذَا التَّشبِيه كما أسلفنا تأكيد هَذَا الوعد بذكر شواهده، فيَكُون ذَلِك أيضا تأكيد معنوي على تأكيد لفظي؛ فالأول كما تقدَّم المؤكِّد اللَّام والنُّون والقسم، هَذِهِ مؤكِّدات لفظية، لكن قَوْلهُ:{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فيه مؤكِّد معنوي؛ حيث إنه يذكر ما يقوِّي الْقَلْب ويثبِّته.

الفَائِدة العاشرة: أن الإِيمَان والعَمَل الصَّالح هو عبادة الله؛ لقَوْله: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} ، وعلَيْه يَكُون تحقيق التوحيد من أَسْبَاب هَذَا الوعد الَّذِي وعد الله به.

الفَائِدة الحَادِيَة عشرة: التَّهدِيد للكَافِرين؛ لقَوْله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فإن هَذَا تهديد لمن كفر بعد هَذَا الوعد أو بعد هَذَا الواقِع،

ص: 367

فمن كفر سواء كَانَ وقع له ما ذُكر من الاستخلاف في الأَرْض والأَمْن أو لم يقع له، ولكنه وُعد به؛ فإن كفره بعد ذَلِك يجعله فاسقًا.

الفَائِدة الثَّانية عشرة: عظم هَذَا الفسق الَّذِي يحصل بعد هَذَا الوعد أو بعد هَذَا الواقِع، ووجه عظمه حصر الفسق في هَؤُلَاءِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} هو مع أَنَّه يُوجَد أناس فاسقون غيرهم، لكن لِعِظَم فسقهم حصر الفسق فيهم.

* * *

ص: 368