الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (11)
° قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11].
* * *
قَوْلهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أَسْوَأُ الْكَذِبِ عَلَى عَائِشَة رضي الله عنه أُمِّ المُؤْمِنِينَ، بِقَذْفِهَا، {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} جَمَاعَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمسْطَحٌ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ]. اهـ.
قَوْلهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} (أَلْ) هُنا للعَهْدِ الذِّهني؛ أي الَّذِي هو معْلُومٌ عندهم.
ومفهوم قَوْلهُ: {بِالْإِفْكِ} [أَي: أَسْوَأُ الْكَذِبِ، كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله، نعم، هَذَا أسوأ كذبٍ يَكُون؛ لما يَتَضَمَّنُه من القَدْحِ بأمهاتِ المُؤْمِنين، وبالتالي بالنَّبي صلى الله عليه وسلم كما يتبَيَّن من الآيات في سِيَاقها.
وقَوْلهُ: {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي: جماعةٌ، وقَوْلهُ:{مِنْكُمْ} الخِطَاب للمُؤْمِنِينَ، وكونهم من المُؤْمِنِينَ يدلُّ على أنهم لم يخرجوا من الإِيمَان بِذَلِك؛ أي: بهَذَا القَذْفِ؛ لأنَّه صَدَرَ قبل أن يَتبَيَّنَ الحُكْمُ في هَذَا، وإلا فمَن قَذَفَ واحدةً من زوجاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَائِشَة أو غيرِها، فإنَّه كافرٌ مرتدٌ يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ.
وعَدُّهُ؛ أي: عَدُّ المُفَسِّر رحمه الله عبد الله بن أُبَيٍّ من هَؤُلَاءِ العُصْبة على أساس أن عبدَ الله بن أُبَيٍّ كَانَ يتظاهرُ بالْإِسْلَام، ويتظاهر بأنه مع المُؤْمِنِينَ، ولكنَّه في الحَقيقَة منافقٌ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14]، ثم إن عبد الله بن أُبَيٍّ لم يصرح بالقَذْفِ، وإنَّما لِخُبْثِهِ يجمعه ويشيِّعه بين النَّاس بلفظٍ لَيْسَ فيه تصريحٌ، ومع هَذَا فهو الَّذِي تولى كِبْرَ هَذَا الْأَمْر، كما سيأتي.
فالخِطَاب في قَوْلهُ: {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} للمُؤْمِنِينَ، ولا شَكّ أن مثل حسَّان بن ثابتٍ رضي الله عنه ومسْطَح بن أثاثَةَ وحَمْنَةَ بنتِ جَحْشٍ مُؤْمِنُونَ، وأنهم لم يخرجوا من الإِيمَان بما فعلوا؛ لأنَّه قبل تَبَيُّنِ الحُكْم.
قَوْلهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [لَا تَظُنُّوهُ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ غَيْر الْعُصْبَةِ {شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}]. اهـ.
قَوْلهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ} نهى أن نظن بأن هَذَا الإفْكَ شَرٌّ لنا قبل أن نثبتَ أنَّه خيرٌ؛ لأنَّه لا شَكَّ أن المُؤْمِنِينَ، حين وقع هَذَا الإِفْكُ، أصابَهم ما أصابَهم من الأَذَى، وظنوا أن ذَلِك شَرٌّ، فأَرَادَ الله تَعَالَى أن ينتزعَ هَذَا الظَّنَّ من نفوسهم قبل أن يُبَيِّنَ حُكْمَه؛ لأَنَّ هَذَا أول ما يَنْبَغِي معالجته بالنِّسْبَةِ لِهَذَا الإِفْك، وهو انتزاع ما يظنه بعض المُؤْمِنِينَ من أن هَذَا الإِفْك شَرٌّ، وبعد ذَلِك تأتي المعالجةُ، ولذا يَقُولُونَ: إنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْلَ التَّحْلِيَةِ؛ أي تخلية الشَّيء من القبح والتَّشويه قبل تحليتِه بالشَيْء الجميل؛ لأنك لا بُدَّ أن تزيل الأشواك أولًا قبل أن تفرش.
فلهَذَا نهى الله أن نحسب هَذَا شرًّا حَتَّى يختلع ذَلِك من نفوسنا أولًا ثم تَكُون مستعدة للتحلية، ولإِثْبات ما يُثبت ويُحدَّث عنه في شأن هَذَا الإِفْك، فتبين بهَذَا أنَّه يَنْبَغِي عند معالجة الأَشْيَاء أن نزيل أولًا الأَذَى لنفتح الطَّريق أمام الخَيْر حَتَّى يَلِجَ.
وقَوْلهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} فيه أيضًا أنَّه يَنْبَغِي أن يبدأ بأهم شَيْء، وهو أن يُزال ما في النُّفوس من ظَنِّ أن يَكُون هَذَا الإِفْك شرًّا للنبي صلى الله عليه وسلم ولآل أبي بكر وللمُؤْمِنِينَ عُمومًا؛ لأَنَّ حَقِيقَة الْأَمْر لو وقع هَذَا -وحاشا لله أن يقع- لكان هَذَا شرّا بالنِّسْبَةِ لآل أبي بكر وبالنِّسْبَةِ لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
ولِهَذَا لا يُمْكِن للمُؤْمِيينَ حقًّا أن يَظنُّوا هَذَا الظَّن، وأجِلَّاء المُؤْمِنِينَ من الصَّحابَة أنكروا ذَلِك وقالوا: لا يُمْكِن أن يَكُون، وممن أنكره أسامة بن زيد رضي الله عنهما وغيره، أنكروا أن يَكُون هَذَا، ولكن بعض النَّاس لكثرة التَّرويج والإشاعات، وأيضًا مما ينفثُ الشَّيطان في قلوبهم، حصل منهم بعض الشَّك.
والصَّحابَة المُؤْمِنُونَ انقسموا بهَذَا إلى ثلاثة أقسام:
القِسْم الأوَّل: قسم حصل منه ما حصل من الانحراف في هَذَا الْأَمْر.
القِسْم الثَّاني: قسمٌ منهم أنكر ذَلِك إنكارًا بالغًا وقال: هَذَا لا يُمْكِن.
القسمُ الثَّالثُ: توقَّفَ وشكَّ في الْأَمْر، لكن الأجلاء من الصَّحابَة والمعظم منهم أنكروا ذَلِك، كما ذكره أهْل العِلْم.
قَوْلهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أولًا: كَيْفَ لا نحسبه شرًّا؟ نحنُ نُؤْمِن بِذَلِك لأَنَّ الله قَالَ: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا} وإن كَانَ الْإِنْسَان قد يظن بادئ ذي بدء أنَّه شر، وهَذَا شَيْء معْرُوف، رجل يقذف أهلك أول ما تظنه تعلم أن هَذَا شرٌّ مُوَجَّهٌ إليك، هَذَا أمر مُسلَّم به، فلمَّا قَالَ اللهُ:{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} انتهت المشكلة هَذِه، وقُضِيَ عَلَيْها بنهي الله عز وجل العليم بما سيَكُون، بأنه لَيْسَ بشَرٍّ.
بقي أن يُقال: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} نحنُ نُؤْمِن بهَذَا أيضًا وأنَّه خير لنا، لكن
ما الخَيْر الَّذِي ظهر في هَذَا الإِفْك؟
الجواب: نقول الخَيْر الَّذِي ظهر في هَذَا الإِفْك خيرٌ لَيْسَ له نظير؛ إِذْ ظهرت براءة أم المُؤْمِنِينَ عَائِشَة رضي الله عنها ونزاهتها ظهورًا لا يعادله شَيْء، شهد الله لها بالبراءة من فوق عرشه تبارك وتعالى.
ثانيًا: ظهر بِذَلِك نَقاء وطُهر فِراش النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأنَّه لا يُمْكِن لفِراشه صلى الله عليه وسلم أن يتدنس بهَذَا.
ثالثًا: من الخَيْر، الأجر العَظِيم الَّذِي ترتب على ما أصاب المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الحادثة من الأَذَى والمشقَّة والجهد الجهيد، حَتَّى إنَّه من حِكْمَة الله عز وجل أن الوَحْي انقطع شهرًا كاملًا، لم ينزل على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأجل أن يَتَمَحَّصَ المُؤْمِنُ من المنافقِ، ولأجل أن يشتد اشتياقُ المُؤْمِنِينَ إلى بَيان الله سبحانه وتعالى في هَذِهِ القَضيَّة العَظِيمَة المهمَّة، ولأجل أن يَزدَاد أجرهم بهَذَا في هَذِهِ المدة.
ثم إن فيه أيضًا من الخَيْر رِفْعة شأن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهَذَا فوق قولنا: نزاهة فِراشه وطهارته، لكونِ الله سبحانه وتعالى يدافع بنَفْسِه عنه، ثم فيه أيضًا من الخَيْر تأديبُ المُؤْمِنِينَ وعِظتهم بما يَنْبَغِي أن يَكُونوا علَيْه من عدم إطلاق القَوْل والتجريء على أعْرَاض الأعفاء، إلى غير ذَلِك مما سيتبَيَّن إِنْ شَاء اللهُ في أثناء هَذِهِ القصَّة العَظِيمَة.
قَوْلهُ: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [يَأْجُرُكُمْ اللهُ بِهِ، وَيُظْهِرُ بَرَاءَةَ عَائِشَة، وَمَنْ جَاءَ مَعَهَا مِنْهُ، وَهُوَ صَفْوَانُ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ
…
إِلَى آخِرِهِ]. اهـ.
هَذَا أيضًا من الخَيْر لصَفْوَانَ بنِ المُعَطِّلِ رضي الله عنه، لأنَّه إِذَا أنزل الله براءةَ عَائِشَة من ذَلِك، وكانَ هُوَ الَّذِي رماه المُنافِقُونَ بها، تظهر براءتُه رضي الله عنه.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ بَعْدَ مَا أُنزِل الحِجَابُ". اهـ.
وهَذِهِ الغزوة تسمى غزوةَ المُرَيْسِيعِ أو غزوة بَنِي المُصْطَلِقِ، ولم يبين المُفَسِّر رحمه الله متى كَانَت هَذِهِ الغزوةُ، لكنَّه يتبَيَّن لنا متى كَانَت من قولها: بعد ما أُنزل الحجابُ، والحجابُ نزل سنةَ ستٍّ من الِهجْرَة، وعلى هَذَا فتكون هَذِهِ الغزوة في آخر السَّنَةِ السَّادِسَة، أو في السَّابِعَة.
وأمَّا قَوْل بعض المؤرخين إنَّها في الخَامِسَة أو في الرَّابِعَة فهَذَا وَهْمٌ منهم، والصَّحيح أنَّها كَانَت في آخر السَّادِسَة؛ لأنَّها صرحت بأنَّها بعد ما أُنزل الحجاب، وأيضًا النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام استشار زينب في شأنها، وآية الحجاب نزلت عند زواج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بزينب.
ثم يَقُول المُفَسِّر رحمه الله في سِيَاق القصَّة: [فَفَرَغَ مِنْهَا وَرَجَعَ وَدَنَا مِنَ المَدَينَةِ وَآذَنَ بِالرَّحِيلِ لَيْلَةً، فَمَشَيْتُ وَقَضَيْتُ شَأْنِي، وَأَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَإِذَا عِقْدِي انْقَطَعَ -هُوَ بِكَسْرِ المُهْمَلَةِ: الْقِلَادَةُ- فَرَجَعْتُ ألتَمِسُهُ، وَحَمَلُوا هَوْدَجِي -هُوَ مَا تَرْكَبُ فِيهِ- عَلَى بَعِيري يَحْسَبُونَنِي فِيهِ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ خِفَافًا إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ -هُوَ بِضَمِّ المُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّام- مِنَ الطَّعَامِ؛ أَيِ: الْقَلِيلِ]. اهـ.
تحدثتْ عَائِشَة رضي الله عنها عن قصَّة الإفْكِ، تقول: إنَّها لما رجعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من هَذِه الغزوة في ليلة من الليالي أذنَ بالرحيلِ، فذهبَتْ تقضي حاجَتَها، كشَأْنِ الْإِنْسَان إِذَا أَرَادَ أن يركبَ أو أَرَادَ أن ينامَ أو ما أشبه ذَلِك، ذهبتْ تقضي حاجَتَها؛ أي تبولُ أو تَتَغَوَّطُ، فلمَّا رجعتْ إِذَا بالعِقْد قد انقطعَ، فرجعتْ تَلْتَمِسُه، وقد ذكر المؤرِّخون
أن هَذَا العِقد كَانَ عاريةً عندها لأختها أَسْماء رضي الله عنها فذهبتْ تَلْتَمِسُه؛ أي: تطلبه، فوجدت العِقد.
فلمَّا رجعتْ إلى مكانها إِذَا بالقوم قد حملوا هَوْدَجَها، وما ظنوا أنَّها لَيْسَتْ فيه؛ لأنَّها كَانَت خفيفةً كما قالت رضي الله عنها:"كَانَ النِّساءُ خفافًا ما كَانَ اللحم قد بني عليهنَّ؛ لأنهنَّ إنَّما يأكلن العُلْقَةَ من الطَّعام"؛ أي: القليل.
ثم إن الَّذِي حمل الهَوْدَجَ لَيْسَ رجلًا واحدًا أو اثنين حَتَّى يميزوا خفته، إنَّما حمله جماعةٌ، والعادة أن الجَماعَة لا يحسون بثِقل الشَّيء ولا يهمهم، لِذَلك حملوه على أنَّها فيه وساروا، فلمَّا رجعت ولم تجدهم عرفت أن القوم سيفقِدُونها وسيرْجِعُون إلَيْها كما هو معْرُوف، هي من ذكائِها وعقلِها لم تذهب يمينًا ولا شمالًا، لم تقل: ألحقهم وأبحث، بقيت في مكانها.
ومن العجيب أنَّها من طُمَأْنِينَتِها ورَبَاطَةِ جَأْشِهَا نامت في هَذَا المكان، ولما نامت كَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطِّلِ رضي الله عنه في أُخْرَيات القوم، وكان كثير النوم وثقيلَ النوم أيضًا، فلمَّا استيقظ لحَقَ القومَ، فلمَّا أقبل على مكانهم وجد سوادَ شخصٍ فَآوَى إلَيْه، وحصل ما حصل.
ثم يَقُول المُفَسِّر رحمه الله في سِيَاق القصَّة: [وَوَجَدْتُ عِقْدِي وَجِئْتُ بَعْدَمَا سَارُوا، فَجَلَسْتُ فِي المَنْزِلِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الجيش فَادَّلَجَ -هُمَا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالدَّالِ، أَي نَزَلَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ للاسْتِرَاحَةِ- فَسَارَ مِنْهُ (أي: من مكانه) فَأَصْبَحَ فِي مَنْزِلِهِ (أي: في منزلِ الجيش) فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَان نَائِمٍ -أَي: شَخْصَهُ- فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ
حِينَ عَرَفَنِي -أَي: قَولهُ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ- فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي؛ أَي: غَطَّيْتُهُ بِالمُلَاءَةِ، وَاللهِ مَا كَلَّمَنِيَ بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أناخَ رَاحِلَتهُ وَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجيْشَ بَعْدَمَا نَزُلوا مُوغِرِينَ
…
إِلَى آخِرِهِ]. اهـ.
لما رأى صَفْوَانُ بْنُ المُعَطِّلِ رضي الله عنه سواد الشَّخص أقبل إلَيْه، فإذا بأم المُؤْمِنِينَ عَائِشَة رضي الله عنها نائمة ولم تُغَطِّ وجهها؛ لأنَّها لَيْسَ حولها أحد، فعرَفها رضي الله عنه، وكان قد رآها قبل الحجاب فقال: إنا لله وإنا إلَيْه راجعونَ، ثم أناخ بعيره ووطئ على ركبته حَتَّى ركبت، وذهب يقود بها حَتَّى أتى الجيش، ولم يكلِّمْها بكَلِمةٍ، وإنَّما استرجع رضي الله عنه خوفًا مما وقع، توقَّع أمرًا فوقع؛ لأَنَّ امرأة في فلاة من الأَرْض وحدها ويأتي بها رجل متأخِّر عن الجيش وهي متأخِّرة عنه، هَذَا لا شَكَّ أنَّه بليةٌ وابتلاءٌ من الله عز وجل.
ولهَذَا رأى أنَّها مصيبةٌ فاسترْجَع، ولكن لعفته وتعظيمه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وتعظيمه أم
المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها لم يكلمها ولا بكَلِمة حَتَّى لم يقل: اركبي، ولا قَالَ: ما الَّذِي خلَّفك؟
ولا قَالَ: لا بأس عَليْك، ما تكلم بكَلِمة إطلاقًا احترامًا لفِراش النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
ثم يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، أَي: مِنْ أَوْغَرَ وَاقِفِينَ فِي مَكَانٍ وَغرٍ مِنْ شِدَّةِ الحرِّ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِيَّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدَ اللهِ ابْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ. قَوْلهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ]
(1)
. اهـ.
(1)
أخرجه البُخاريّ، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، حديث رقم (2661)؛ ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، حديث رقم (2770)، عن عَائِشَة رضي الله عنها.
لما حَصَلَ الَّذِي حصلَ، وجد عبد الله بن أُبي بن سَلُولَ ونُظَرَاؤُه من المُنافِقِينَ مُتَنَفَّسًا يتنفسون منه الصُّعداء للقَدْح في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يتكلمون: ما الَّذِي أتى به؟ ما الَّذِي خلَّفه؟ ما الَّذِي خلَّف عَائِشَة؟ ثم صاروا يجمعون الحَديث ويصوغونه ويزخرفونه حَتَّى شاع الخبر وانتشر.
تَألَّمَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام ولابُدَّ أن يَتَألَّمَ، تَألَّمَ في الحَقيقَة من وجهين:
أولًا: لأنَّ عَائِشَة رضي الله عنها فِراشُه وأَحَبُّ نسائِه إلَيْه، وهو يحبها وهي تحبه.
ثانيًا: أنَّها ابنةُ أَعَزِّ النَّاس إلَيْه أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه فكَيْفَ يقع هَذَا الْأَمْر وكَيْفَ يَكُون؟ ولذا ضاقت على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الضَّائقة، حَتَّى إنَّه مع شدة صبره ومع فهمه لأهله ونزاهتهم وبعدهم عما رُموا به دخل علَيْه مما دخل، فصَارَ يستشير بعض أصْحابه: هل يُفارِق عَائِشَة أو لا يُفارقها؟ فمنهم من يشير علَيْه بعدم المفارقة ويقول: أهلك يا رَسُول الله لا نعلمُ إلَّا خيرًا، ومنهم من أشار علَيْه بالمفارقة لما رأى تأذيه صلى الله عليه وسلم وقال: إنَّه إِذَا فارقها يستريح.
وممن أشار بِذَلِك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه قريب النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، فقد رأى من النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مشقَّةَّ عظِيمةً وأذىً كبيرًا فقال: لعله إِذَا طلقها يستريح ويطمئن، لكن كبار الصَّحابَة رضي الله عنهم قالوا: هَذَا أمر لا يُمْكِن، وممن أشار علَيْه بأن يمسكها ولا يطلقها أسامةُ بن زيدٍ رضي الله عنهما.
عَلَى كُلِّ حَالٍ بَقِيَ الْأَمْرُ هكذا في زعزعةٍ وقلق وشدة إلى تمام الشَّهر، عَائِشَة رضي الله عنها ما كَانَت تعلم بما يقول النَّاس، ولا تدري عنه شيئًا؛ لأنَّها كَانَت مريضةً،
وكانت في بيت والدها، ولم تعلم إلَّا في آخر الْأَمْر؛ إِذْ خرجت تقضي حاجتها فعثرت، فقالت أُمُّ مِسْطَح: تَعِسَ مِسْطَحٌ؛ لأنَّها أيضًا لَيْسَ في قلبها إلَّا ما حصل.
وإنَّما خَصَّتْ مِسْطَح بن أُثاثَةَ من بَيْنِ الَّذِينَ قالوا ما قالوا: لأنَّهُ كَانَ ابنَ خالة أبي بكر، وكان المفروضُ أنَّ مثله يُدافع عن هَذِهِ القَضيَّة لقرابته، لكن كَانَ أمر الله قَدَرًا مَقْدُورًا، فلمَّا قالت: تَعِسَ مِسْطَحٌ؛ استغربت عَائِشَة رضي الله عنها من قَوْل أم مِسْطَح، فسألت: ما الْأَمْر؟ فأخبرَتْها بالْأَمْر، وقالت: إن النَّاس يَقُولُونَ في هَذَا الْأَمْر منذ كذا وكذا، فازداد ألمها ومرضها حَتَّى جعلت تبكي ولا تنام رضي الله عنها، وحُقَّ لها أن تفعل هَذَا؛ لأَنَّ الْأَمْر عَظِيم، فجاء النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام ذات يوم إلَيْهم.
وتقول عَائِشَة رضي الله عنها: إنَّها أيضًا قد استنكرتْ من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّها كَانَت تعتاد منه لِينَ الجانب والتَّحَفِّي عنها بالسُّؤال إِذَا مرضت، أما هَذِهِ المرة فلم يتحفَّ بل يَقُول:"كيْفَ تِيكم؟ " ويجلس قليلًا ثم يخرج.
وفي يوم من الأيَّام جاء النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: كَيْفَ تِيكم على العادة، فبينما هو جالس إِذْ نزل علَيْه الوَحْي بالفرج من الله عز وجل، وببراءة عَائِشَة رضي الله عنها، فلمَّا سُرِّيَ عنه، فإذا هو يضحك عليه الصلاة والسلام فقال لها:"أَبْشِرِي يَا عَائِشَة" فقالت: مِنْكَ أَوْ مِنَ اللهِ عز وجل؟ قَالَ: "بَلْ مِنَ اللهِ" فقالت: الحمْدُ للهِ
(1)
.
ثم انتهت قصةُ الإفْكِ، ولكن حَصَلَ ما حصلَ فيها من هَذَا البَلاء العَظيم.
قَوْلهُ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} ، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[أَي عَلَيْهِ {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} فِي ذَلِك]. اهـ.
(1)
تقدَّم تخريج الحديث كاملًا.
قَوْلهُ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} أي: من هَؤُلَاءِ العصبة {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أَي: عَلَيْهِ] فتكون (اللَّام) بمَعْنى (على) هَذَا ما رآه المُفَسِّر، لكن إِذَا كَانَت مضمنة معنى (على) فلماذا عُدل عنها إلى (اللَّام)؟
الجواب: لِتُفِيدَ الاستحقاقَ؛ أي: لبَيان أن هَؤُلَاءِ العُصبة الَّذِينَ ارتكبوا ما ارتكبوا مستحقون لما عليهم من الإثم.
وقَوْلهُ: {مَا اكْتَسَبَ} في هَذَا العَدْل من الله عز وجل في المُجازاة على السَّيئة، وأن الْإِنْسَان لا يحمَّلُ إلَّا ما اكتسب بلا زيادةٍ، وفيه أيضًا دَليل على أنهم لَيْسَوا مشتركين في إثم واحد في هَذِهِ المَسْأَلة، بل كُلُّ واحدٍ له إثمُه الكامل فيما اشترك فيه من هَذِهِ القَضيَّة.
وقَوْلهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} ، يَقُول المُفَسِّر رحمه الله:[أَي تحَمَّلَ مُعْظَمَهُ، فَبَدَأَ بِالخَوْضِ فِيهِ وَأَشَاعَهُ، وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، هُوَ النَّارُ فِي الْآخِرَة]. اهـ.
وقَوْلهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أتى بالجُمْلَة على هَذِهِ الصِّفة للمُبالَغةِ، لم يقل:"وَلمنْ تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَذَاب عَظِيم" بل قَالَ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} جعلها في الحَقيقَة جملتين في جملة؛ لأَنَّ {الَّذِي} مُبْتَدَأ و {لَهُ} خبرٌ مقدمٌ و {عَذَابٌ عَظِيمٌ} مُبْتَدَأ ثانٍ، فكأن الجُمْلَة صَارَت جملتين، لبَيان الأهمِّيَّة والتَّاكيد والإِشَارَة إلى أن توليه لهَذَا الشَّيء أمر عَظِيم.
قَوْلهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} تولى الشَّيء بمَعْنى احتفى به وأولاه عنايته.
وقَوْلهُ: {كِبْرَهُ} أي: معظمه فكِبْر الشَّيء بمَعْنى معظمه، يعني ابتدأ به وصَارَ
يُغَذِّيه ويُنَمِّيه ويَذكره في المجالس ويُوغِرُ الصُّدور به، وهو عبد الله بن أُبي -لعنه الله- وهو جدير بمثل هَذِه الخِسَّة؛ لأنَّه منافقٌ بل هو رأسُ المُنافِقِينَ، وهو يتمنى أن يقع مثل هَذَا الْأَمْر ليجدَ فيه مَنْفَذًا للطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبفِراشه وبخاصة أصْحابه.
وقَوْلهُ: {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، معنى الْعَذَاب العُقوبة، و {عَظِيمٌ} أي عَظِيمٌ في قدره، وعَظِيم في نوعه وجنسه، وعَظِيم في أمده، فإنَّه -والعِيَاذ باللهِ- في الدَّرْكِ الأسفل من النَّار، ولا يوجد أحد من أهل النَّار أسفل من المُنافِقِينَ، ورأس المُنافِقِينَ في هَذِهِ الأُمَّة عبد الله بن أُبي، فيَكُون هو أسفل مَنْ في الدَّرْكِ الأسفل من النَّار؛ ولذَلك عَظُمَ عَذابه -والعِيَاذ باللهِ- في شكله ومدته وفي قدره.
بقي: هل حُدَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تكلموا؟
الجواب: ما حَدَّ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام منهم إلَّا المُؤْمِنِينَ فقط، وهم: حسَّانُ بن ثابت رضي الله عنه، ومِسْطَح بن أثاثَةَ، وحَمْنَةُ بنت جَحْشٍ أختُ زينَبَ بنت جَحْشٍ زوج الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.
وزينبُ رضي الله عنها مع أنَّها ضَرَّةُ عَائِشَة رضي الله عنها، لما سألها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن عَائِشَة أَثْنَتْ عَلَيْها خيرًا، وأما أختها فهلكت فيمن هلك، فحَدَّهُم النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام حَدَّ القَذْفِ ثمانين جَلْدَةً.
وأمَّا المُنافِقُونَ فلم يحدهم النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام، رُبَّما لأَنَّ الحدَّ تطهيرٌ وكَفَّارة، والمُنافِقُونَ لَيْسَوا أهلًا للتَّطهير ولا للكَفَّارة، فعبد الله بن أُبي كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعلم نفاقَه، وهَذَا تعليلٌ واضح من حيث المَعْنى، لكن من حيث الواقِع قد يَكُون غير واضح؛ لأَنَّ المُنافِقِينَ يظهرون أنهم مُسلِمونَ، فكان يَنْبَغِي أن تجري عليهم أحكامُ الإِسْلام الظَّاهِرة وتُوكَلُ سرائرُهم إلى الله عز وجل.
وقال آخرون: لم يَحُدَّهُم النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لأنهم لم يصرحوا، ولكنهم كانوا يجمعون الحديث ويصوغونه بعبارات تعطي هَذَا المَعْنى لكن بدون تصريح.
فعبد الله بن أُبي خبيثٌ وخدَّاع لم يكن يصرح، كَانَ يجمع الحَديث ويقول: ماذا تقولون في امرأةٍ خلا بها رجل وجاء يقود راحلتها، وما أشبه ذَلِك، ومن شروط إقامة حَدِّ القَذْف أن يصرح القاذِف بالزِّنَا؛ فلِذَلك لم يَحُدَّهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يَكُون الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ترك حَدَّهُم لهَذَا أو لغيره، فقد يَكُون مثلًا ترك حَدَّ عبد الله بن أُبي؛ لأَنَّه رأس المُنافِقِينَ وكان زعيمًا في قومه، فيخشى أن يَكُون بِذَلِك فتنة كَبيرَة، وحَدُّ القَذْف على القَوْل أنَّه يجوز للآدمي إسقاطه، فإنَّه يسقط إِذَا أسقطه مَنْ هو له، لكن الَّذِي يظهر -والله أعلم- أن السَّبب في ذَلِك أن المنافق كعادته يلوذ ولا يسْتَطيع أن يصرح، فعادته الخداع في كُلِّ شَيْء، فتجدهم لا يُصرِّحونَ ولكن يحومون حول الشَّيء حَتَّى يملئُوا قلوب النَّاس منه، ولهَذَا الصَّحابَة هم الَّذِينَ صرحوا بما ظنوه وإن كَانَ ظنًّا باطلًا، فحَدَّهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَدَّ القَذْفِ.
مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكَرِيمَةِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: أن الَّذينَ جاءوا بالإِفْك أُناسٌ من المُؤْمِنِينَ؛ لقَوْلهُ: {مِنْكُمْ} والأَصْل أن الإضافة حقيقيةٌ، ولأنهم لم يخرجوا من الإِيمَان بهَذَا الإِفْك.
الفَائِدة الثَّانية: أن المُنافِقِينَ مُؤْمِنُونَ باعتبار الظَّاهِر؛ إِذْ إنَّ من الَّذينَ جاءوا بالإِفْك منافقين، ومع ذَلِك قَالَ اللهُ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، وجه ذَلِك أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يعامل المُنافِقِينَ بحسب ظاهر حالهم على أنهم مُسلِمونَ،
ولهَذَا لم يفرق بينهم وبين نسائهم ولم يقتلهم ولم يأخذ منهم الجِزْية، فهَؤُلَاءِ خرجوا من الإِيمان لكن ظاهرهم أنهم مُسلِمونَ.
فإذا قُلْنا: إن الإضافة بحسب الظَّاهِر لم يتعين أن يخرجوا من الإِيمان، لكن لمَّا قُلْنا: إن المُنافِقِينَ مُؤْمِنُونَ باعتبار الظَّاهِر.
فلا يُمْكِن أن نأخذ من الآية الفائدتين معًا، إمَّا أن تُؤخذ فَائِدَة أنهم لم يخرجوا من الإِيمَان، وتُترك فَائِدَة أن المُنافِقِينَ مُؤْمِنُونَ باعتبار الظَّاهِر، أو تُؤخذ فائدةُ أن المُنافِقِينَ مُؤْمِنُونَ، وتُترك فائدةُ أنهم لم يخرجوا من الإِيمَان.
الفَائِدة الثَّالِثَة: أن قَذْف أمهاتِ المُؤْمِنِينَ كغيرهم يُوجِبُ حَدَّ القَذْفِ ولا يُوجِبُ حَدَّ الكُفر، إلَّا مَنْ قَذَفَ عَائِشَة بما رُميَتْ به، فإنَّه يكفرُ؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ للقرآنِ، ولهَذَا قَالَ بعض العُلَماء: إن مَنْ قَذَفَ عَائِشَة بما برَّأها الله به في الكتاب كَفَرَ، وجعلوا البقية لهنَّ حُكْمُ غيرِهنَّ؛ لعموم قَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
لكن الصَّحيح أنَّه يكفر لا من أَجْلِ قَذْفِ المَرْأَة ذاتِها، لكن من أَجْلِ حَقِّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.
الفَائِدة الرَّابِعَة: أن الْإِنْسَان محُاسَبٌ على ظنِّه الَّذِي يَجْزِمُ به؛ لقَوْله تَعَالَى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} ، وحَقِيقَةً لا ندري هل هم ظنُّوا أنَّه شرٌّ، أو أن الله نهاهم عن أمر مُتَوَقَّع أن يظنوه، وإن كَانَت لَيْسَت صريحةً، لكن يوجد احتمالٌ، حسبوه أو يتوقع أن يحسبوه شرًّا لهم.
الفَائِدة الخَامِسَة: أن الخيْرَ قد يَكُون فيما يَتَوَقَّعُ الْإِنْسَان منه الشَّرَّ، ومنه قَوْله
تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]؛ لأَنَّ قَوْلهُ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} عامٌّ.
وكثيرٌ من الأَشْيَاء يكرهها الْإِنْسَان في أمور الدُّنْيَا، ويتبَيَّنُ له الخَيْرُ فيها، ويُمْكِن أن نعبر عن هَذَا بأنَّ على الْإِنْسَان ألَّا يأخذَ بظواهر الْأُمُورِ، بل علَيْه أن يتَأنَّى ويتأمَّلَ وينظرَ ويفكرَ، فقد يحسَب الشَّيء شرًّا وهو خيرٌ له، فتبَيَّنَ براءةُ عَائِشَة وصفوانَ، وبراءةُ فِراشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وحصولُ الأجر العَظِيم لما حصل من الأَذَى لعَائِشَة رضي الله عنها بل للنبي صلى الله عليه وسلم، بل ولآل أبي بكرٍ وللصحابة رضي الله عنهم جميعًا- لا شَكَ أنَّه من الخَيْر.
الفَائِدة السَّادِسَة: أنَّ القَرَائِنَ لها تأْثِيرٌ، وأن الْإِنْسَان يحكمُ بالظَّنِّ بحسب القَرَائِنِ؛ لقَوْلهُ:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} ، فهَذَا يدُلّ على أن القَرَائِنَ لها تأْثِيرٌ في الأَحْكام، وأن الْإِنْسَان يَجب علَيْه أن يبنيَ ظنَّه على قرائنَ.
الفَائِدة السَّابِعَة: كمالُ غَيْرَةِ الله عز وجل على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه جَلَّ وَعَلَا يدافعُ عن نبيه وعن فِراشِ نبيه هَذِه المُدافعة البَليغة، وهَذَا أيضًا من الخَيْر، ولهَذَا قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لما قَالَ اللهُ تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
قَالَ سعدُ بن عُبَادَةَ رضي الله عنه: كَيْفَ أجد إنسانًا على أهلي وأنتظرُ حَتَّى آتيَ بأرْبَعة شهداء، والله لَأَضْرِبَنَّهُ بالسَّيف غير مُصْفِحٍ؛ يعني بِحَدِّهِ، فقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللهِ إِنِّي لَأَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي"
(1)
.
(1)
أخرجه البُخاريّ، كتاب الحدود، باب من رأى مع امرأته رجلًا فقتله، حديث رقم (6846)؛ ومسلم، كتاب اللعان، حديث رقم (1499)، عن المغيرة بن شعبة.
الفَائِدة الثَّامِنة: أن الأَوْلَى تَصْفِيَةُ الشَّيءِ وتَنْقِيَتُه، ثم جَلْبُ الصِّفاتِ المحمودة على القاعِدَة المعْرُوفة عند أهْل العِلْم: التَّخْلِيَةُ قَبْلَ التَّحْلِيَةِ، نظف المكان أولًا ثم افْرشه.
الفَائِدة التَّاسِعَة: كَمالُ عَدْلِ الله -جَلَّ وَعَلَا-؛ لأنَّه لا يحمِّلُ الْإِنْسَان أكثر مما يستحقُّ، ولا يحمِّلُ أحَدًا وِزْرَ أَحَدٍ، فهَذ الآيَة دليلٌ على مسألتين: أن الْإِنْسَان يُجازى بقَدر عمله، وأنَّه لا يُجازى بذَنْب غيره؛ لقَوْله تَعَالَى:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} .
الفَائِدةُ العاشرةُ: أنَّ مَصلحةَ الجَماعَةِ مُقَدَّمَة على مَصلحةِ الفَرْد، أما كون مصلَحَةِ الجَماعَةِ مُقَدَّمَةً على مصلَحَةِ الفرد، فهَذَا لا إِشْكالَ فيه، لكن هل يُستفاد هَذَا من الآيَة؟ يُمْكِن.
الفَائِدة الحَادِيَة عشرةَ: أنَّ المُؤْمِنِينَ يُجْزَوْنَ بالإثْمِ في الدُّنْيَا؛ لأنهم يُقامُ عليهمُ الحدُّ، أما المُنافِقُونَ فعَذابُهم في الْآخِرَة، ولا يقام عليهمُ الحدُّ؛ لقَوْله تَعَالَى:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فهَذَا جعل له الإثم، والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ثَبَتَ له عَذابٌ عَظِيمٌ.
الفَائِدة الثَّانية عشرة: أن زعماء الشَّرِّ يُعذَّبون أكثر من مقلِّديهم ولهَذَا قَالَ: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} جعله الله عز وجل عَظِيمًا لأَنَّ فاتح الشَّرِّ والعِيَاذ باللهِ كُلُّ مَن عمل بشره فعلَيْه مثل وزره، كما أن فاتح الخَيْر كُلُّ مَن عَمِل بخير فله مثل أجره ولهَذَا قَالَ:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
* * *