المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (30، 31) - تفسير العثيمين: النور

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌نُبْذَةٌ مُخْتَصَرَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين 1347 - 1421 هـ

- ‌نَسَبُهُ وَمَوْلِدُهُ:

- ‌نَشْأَتُهُ العِلْمِيَّةِ:

- ‌تَدْرِيسُهُ:

- ‌آثَارُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌أَعْمَالُهُ وجُهُودُهُ الأُخْرَى:

- ‌مَكانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌عَقِبُهُ:

- ‌وَفَاتُهُ:

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌الآية (4)

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الآية (8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌الآية (16)

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌الآية (23)

- ‌الآية (24)

- ‌الآية (25)

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌الآيتان (30، 31)

- ‌الآية (32)

- ‌الآية (33)

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآية (39)

- ‌الآية (40)

- ‌الآية (41)

- ‌الآية: (42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية: (44)

- ‌الآية (45)

- ‌الآية (46)

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌الآية (49)

- ‌الآية (50)

- ‌الآية (51)

- ‌الآية (52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌الآية (59)

- ‌(الآية: 60)

- ‌الآية (61)

- ‌الآية (62)

- ‌الآية (63)

- ‌الآية (64)

الفصل: ‌الآيتان (30، 31)

‌الآيتان (30، 31)

* قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 30، 31].

* * *

قوْله: {قُلْ} إن الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مأمُور في الأَصْل أن يبلِّغ القرآنَ كلَّه للنَّاس، قَال تَعالَى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، لكنْ ما يُصدَّر منَ الأحْكام أو الأَخْبار بـ {قُلْ} ينُصُّ على تبلِيغِه بخصُوصِه، والنَّصُ على تبلِيغِه بخُصوصِه يدُلّ على أهميَّته، فتكونُ هَذِه الرِّسالَةُ خاصَّة بشيْء معيَّنٍ، غير الرِّسالة العامَّة بتبليغ القُرْآن.

فيكونُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أُمِر أن يَقُول للنَّاس كلَّ القُرآن، بقوْله تَعالَى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ثم هو مأمُورٌ أن يبلِّغ ما يكونُ مُصَدرًا بقوْله تَعالَى:{قُلْ} لأهميَّته ووُجوب العِنايَةِ به.

ص: 164

مثال ذَلِك في الخبر: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

ومثالُه في الأحْكام: مِثْل هَذِه الآيَة: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ، وما ذُكِر هُنا لا شكَّ أنَّه جدِيرٌ بالعنايَة.

وقوْله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} ولم يقُل: "للنَّاس" لأنَّ الإِيمَان هو الَّذي يقْتَضي القَبُول، فالمُؤْمِن هو الَّذي يقْبَل ما كُلِّف به، وفِيه أيضًا منَ الإغْرَاء على الامْتِثال ما فِيه، أي أنَّه لإِيمَانهم فهُم الجَدِيرون بهَذِه العنايَةِ وهَذا التَّوجيه الربَّاني، أمَّا غيرُ المُؤْمِن فلا يمْتَثل.

قَوْلهُ: {يَغُضُّوا} ما جازمها؟ ثلاثة آراء:

الأوَّل: إما أنَّها مجزومة بـ (اللَّام) المقدرة: قل للمُؤْمِنِينَ ليغضوا من أبصارهم، وذكرنا لِذَلك شاهدًا وهو (محمد تَفْدِ نَفْسَكَ كلُّ نفسٍ) يعني: لتفدِ.

الثَّاني: أنَّها جواب للأمر الموْجُود وهو {قُلْ} وأوردنا على ذَلِك ما يضعفه وهو أن مُجرَّد القَوْل لا يلْزَم منه الغض اللهم إلا على فرض أن المُؤْمِن لا بُدَّ أنَّه إِذَا قِيلَ له أن يغض غَضَّ.

الثَّالث: أنَّها جواب لأمر مقدر: قل للمُؤْمِنينَ غُضوا من أبصاركم، يغضوا من أبصارهم، غُضوا يَغضوا.

ما معنى الغض؟ القصر والنَّقص قَوْلهُ: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (من) المُفَسِّر يرى أنَّها زائدة، والصَّحيح أنَّها للتبعيض ولَيْسَت زائدة، والَّذِي يضعف ما ذهب إلَيْه المُفَسِّر: أن المَشْهُور أن (مِنْ) لا تُزاد إلا في النَّفي وشبهه وهَذه في الإِثْبات.

ص: 165

لو قَالَ قَائِلٌ: هل غض البصر واجب دائمًا؟

الجواب: غض البصر لَيْسَ واجبًا دائمًا بل هو جائز، لكن لماذا كَانَ غض البصر جائزًا وحفظ الفرج كله واجب؛ قالوا: لأَن غض البصر من باب إيجاب الوسائل، يعني من باب سد الذرائع، تحْرِيم إطلاق البصر من باب سد الذرائع، ولِذَلك يجوز إِذَا كَانَت المصْلَحة في فعله بخلاف حفظ الفرج.

قَوْلهُ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الكَلام فيها كالكلام في قَوْلهُ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} .

قَوْلهُ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما المُراد بالزِّينَة هُنا؟

القَوْل الأوَّل: على رأي المُفَسِّر أن المُراد بالزِّينَة في قَوْلهُ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أو المستثنى الوجْه والكفَّان.

القَوْل الثَّاني: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} من اللباس الَّذِي لا بُدَّ من ظهوره.

تفسير المُفَسِّر الزِّينَة بأنَّها الزِّينَة الخِلقية الَّتِي زين الله بها البدن هل هَذَا صحيح أو غير صحيح؟

الجواب: غير صحيح، الحاصِل أنَّنا نريد أن نضعف أن الزِّيَنَة المُراد بها الزِّينَة الَّتِي خلق الله عَلَيْها المَرْأَة، والصَّحيح أن المُراد بالزينة: الزِّينَة الخارجية وهي ما تتزين بها المَرْأَة لا الزِّينَة الخِلقية الَّتِي خلق الله عَلَيْها المَرْأَة، والدَّليل قَوْله تَعَالَى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]، وفي آخر هَذه الآيَة:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وقَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، وقَالَ تَعَالَى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

ص: 166

فكل من تأمل الزِّينَة وجدها في الزِّينَة الخارجية لا فيما زين الله به المَرْأَة، وعلى هَذَا يَكُون الاستثناء عائدًا على ما يبدو من الثِّيابِ الَّتِي لا بُدَّ من ظهورها وَذلِك لأنَّها لو حُرِّم عَلَيْها حَتَّى الثِّياب الَّتِي تبدو ولا بُدَّ من ظهورها لوجب عَلَيْها أن تبقى في البَيْت، إِذْ لا يُمْكِن تطبيق هَذَا الْأَمْر إلا بِذَلِك، وهَذَا أمر لم يكلف الله به.

إِذَنْ تبين أن الرَّاجح في قَوْلهُ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما ظهر من اللباس يعني مثل ما مَثَّل به ابن مسعود رضي الله عنه الجلباب والرداء والعباءة وما أشبهه، يعني الشَّيء الَّذِي لا بُدَّ من ظهوره وظهوره ضروري فهو مباح، ويدُلّ لِذَلك أيضًا ما تقدَّم من الأدلَّة على أن الزِّينَة لا تُستعمل إلا فيما يتزين به الْإِنْسَان من لباس وغيره، ويؤيده أيضًا أنَّه قَالَ:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولو كَانَ المُراد الوجه والكفين لقال: إلا ما أُظهر منها، أما ثياب الجمال فهي من الزِّينَة الخفية.

وكَذلِك الحلي وشبهه مما تتحلى به المَرْأَة لا يبدى إلا لمن ذكر الله عز وجل، لأَن الحلي يُمْكِن إخفاؤه لَيْسَ كالعباءة والجلباب وشبههما، لكن الآن في الحَقيقَة تطبيق الْأُمُور الشَّرْعِيَّة عند النَّاس صعب جدًّا، لأَن مَسْأَلة الحلي موجودة الآن بكثرة في بيوت النَّاس، مع زوْجة الأخِ وزوْجة العمِّ، فالمشكلة يصعب التحرز منها.

وقَوْلهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ} ضَرَبَ بالشَّيء على الشَّيء بمَعْنى ألقاه علَيْه لكن مع الإلصاق.

ومنه ضربت بيدي على يدي مثلًا أَو على فخذي أو ما أشبه ذَلِك، هَذَا معنى الضرب على الجيوب.

قَوْلهُ: {بِخُمُرِهِنَّ} جمع خِمار وهو ما تغطي به المَرْأَة رأسها.

ص: 167

قَوْلهُ: {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (الجيوب) جمع جيب وهو طوق الثَّوب، فطوق الثَّوب يسمى جيبًا ولا زال النَّاس إلى الآن يسمونه بهَذَا الاسْم.

أوجب الله تَعَالَى في قَوْلهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ} لأَن (اللَّام) لام الْأَمْر والسُّكون في قَوْلهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ} لَيْسَ سكون إِعْراب ولكنه سكون بناء؛ لأَن الفِعْل متصل بنون النِّسوة فيَكُون مبنيًّا على السُّكون، مهما كَانَ الْأَمْر هُنا فإن الله سبحانه وتعالى أمر أن تضرب المَرْأَة بخمارها على جيبها، ولازم ذَلِك أن ينزل من رأسها إلى الجيب.

فهل المُراد بضرب الخِمَار على الجيب أن يَكُون من تحت الوجه بحيث يبقى الوجه مكشوفًا والجيب مستورًا، أو أن المَعْنى أن تضرب بالخِمَار على الجيب مارًّا بالوجه، لأَن هَذَا هو الأقرب لأَن الخِمَار ينزل من أعلى لأنَّه فوق الرَّأْسِ، ثم الجيب إِذَا وجب ستره فالوجه مِنْ بَابِ أَوْلَى، وكان النّساء في الجاهلية على حسب ما قاله بعض المفسرين كَانَت المَرْأَة تسدل الخِمَار من وراءها ولا يقرب وجهها ولا جيبها، ولهَذَا أمر الله تَعَالَى النِّساء أن يضربن بخمرهنَّ على جيوبهنَّ، وعند من يرى أن المُراد بالزِّينَة الوجه والكفان يَقُول: تضرب بخمارها على جيبها من أسفل فتغطي الجيب وتكشف الوجه مع أن الوجه أعظم فتنة من الجيب.

قَوْلهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[أَي يَسْتُرْنَ الرُّءُوس وَالْأَعْنَاق وَالصُّدُور بِالمَقَانِعِ] اهـ.

المقانع جمع المِقْنَعةُ وهي ما تُقَنِّعُ به المَرْأَة يعني ما نسميه عندنا الآن الغتفة.

قَوْلهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [الخَفِيَّة وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} جَمْع بَعْل: أَي زَوْج] إلى آخِره. اهـ.

ص: 168

في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، استثنى الزِّينَة المُبْدَاة، وفي قَوْلهُ:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} استثنى مَن تُبدى له الزينة، فنهى عن إبداء الزِّينَة في موضعين استثنى من الموضع الأوَّل الزِّينَة المُبْدَاة ومن الموضع الثَّاني من يُبدى له الزِّينَة فهل نجعل الاستثناءين ينصبان على عمل واحد ونقول: فيَكُون المَعْنى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولا يبدين هَذه الزِّينَة أيضًا {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} وحينئذٍ نكون قد خصصنا عُمُوم ما سبق في الآيَة، وَيكُون غير هَؤُلَاءِ الَّذينَ استثنوا يحرم إبداء الزِّينَة لهم مطلقًا الظَّاهِرة والخفية؟

هَذَا احتمال، واحتمال آخر أن نقول: إن الزِّينَة زينتان: زينة ظاهرة تبدى لكل أحد؛ لأَن بُدوها ضرورة لا يُمْكِن التحرز منه، وزينة خفية لا تُبدى إلا لهَوُلَاءِ، وعلى هَذَا مشى المُفَسِّر على أن المُراد بالزِّينَة هَذه غير الزِّينَة الأولى، فالزِّينَة الأولى عامَّة وأُبيح منها ما ظهر لكل أحد، والثَّانية لَيْسَت عامَّة بل المُراد بها الزِّينَة الخفية الَّتِي لا تظهر أو الَّتِي لَيْسَ من الضروري أن تظهر.

هَذه الزِّينَة المُفَسِّر رحمه الله يَقُول: [وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ] بناءً على تفسير قَوْلهُ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوَجه والكفَّين، لكن الصَّحيح أن المُراد بها الزِّينَة الخفية وهي الَّتِي لَيْسَ من الضَّرورة أن تظهر يعني الثِّياب الداخلية كما يَقُول العامَّة هَذه لا تبدى إلا لهَؤُلَاءِ المذكورين {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى آخِره.

قَوْلهُ: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} البُعُولة جمع بَعْل وهو الزَّوج.

قَوْلهُ: {أَوْ آبَائِهِنَّ} وهَذَا يشمل الْأَب الأدنى ومن فوقه كالأجداد.

واعلم أن باب التَّحْريم غير باب الإِرْث، باب الإِرْث الأبوة والبنوة لا تشمل إلا من يتصلون بك بطريق الْأَب يعني بطريق الذكورة، فابن البنت مثلًا وأبو الْأُمّ

ص: 169

لا علاقة لهما بالإِرْث، لكن في باب تحْرِيم النِّكاح وما يتصل به يشمل الآباء من قبل الْأَبّ ومن قبل الْأُمّ، لا فرق بين من بينك وبينهم أنثى ومن لَيْسَ بينك وبينهم أنثى، هُناكَ في باب الأصول والفروع في الإِرْث الَّذِي بينك وبينه أنثى من الآباء لا يرث ولا يدخل في الآباء، لكن هُنا الَّذِي بينك وبينه أنثى والَّذِي لَيْسَ بينك وبينه أنثى على حد سواء.

وعلَيْه فنقول: {أَوْ آبَائِهِنَّ} يشمل الْأَبّ الأدنى والجد من قبل الْأَبّ ومن قبل الْأُمّ.

قَوْلهُ: {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} نفس الشَّيء آباء البُعولة يجوز للمَرْأة أن تبدي لهما الزِّينَة الخفية كما تبدى الزِّينَة الظَّاهِرة لكل أحد، وآباء البُعولة هُنا يشمل أبا الزَّوج وجده من قبل الْأَبّ ومن قبل الْأُمّ، ولهَذَا كَانَ أبو الزَّوج وإن علا مَحْرَمًا للزوجة يعني لزوجة ابنه وإن نزل سواء تزوجها ودخل بها أو تزوجها وطلقها قبل الدُّخول أو مات عنها فإن آباءه محارم لها.

قَوْلهُ: {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} الابن هُنا نقول فيه ما قُلْنا في الأب، يعني أنَّه لا فرق بين الابن للصلب الَّذِي يتصل بالْإِنْسَان بطريق الذكورة والابن الَّذِي يتصل بطريق الأنوثة، فابن البنت مثلًا يدخل في الأبناء ومثله أيضًا أبناء بعولتهنَّ، فابن الزَّوج يجوز للزوجة أن تبدي له الزِّينَة الخفية، وابن بنت الزَّوج كَذلِكَ.

وعلى هَذَا يَكُون جميع من تفرع عن الزَّوج من ذكور وإناث وإن نزلوا يَكُونون محارم لزوجة جدهم، إلا أنَّه في هَذه المَسْأَلة يشترط الدُّخول بالمَرْأَة؛ لأَن هَؤُلَاءِ ربائب، فلو أن رجلًا تزوج امرأة عقد عَلَيْها ثم طلقها أو مات عنها قبل

ص: 170

الدُّخول لم يكن أولاده محارم لها؛ والسَّبب لأنَّ من شرط ذَلِك الدُّخول كما قَالَ اللهُ تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23].

لو قَالَ قَائِلٌ: هل زوج البنت يدخل في الآيَة؟

الجواب: بعل البنت لا يدخل في الآيَة، وقياس الطَّرْد على أبناء بعولتهنَّ منعناه وَذلِك بأن نقول: إِذَا كَانَ ابن زوجها يجوز فزوج ابنتها مثله، لكن قُلْنا: هَذَا لا يُمْكِن لأنَّنا لو فتحنا باب القياس لقُلْنا أيضًا: العم والخال يجوز إبداء الزِّينَة لهما مثل ابن الزَّوج وابن الأخت، وبعض العُلَماء يَقُول إنه يلحق بمن ذكر.

لو قَالَ قَائِلٌ: الرَّبيبة يعتبر الزَّوج بعل أمها فهل يدخل في الآيَة أم لا؟ هل تبدي الزِّينَة لبعل أمها أم لا؟

الجواب: لا يدخل إلا على سبيل الطَّرْد وإلا فلا يدخل، فإن قِيلَ: قد يشق التحرز في مثل هَذَا نقول: تبدي وجهها ويديها وما أشبه ذَلِك، لكن لا تأتي متجملة.

والقاعِدَة عندنا في مَسْأَلة المَحرميَّة أن فرع الزَّوْجَة إن نزلوا هَؤُلَاءِ محارم للزوج، وفروع الزَّوج وإن نزلوا محارم للزوجة، يعني الرَّبيب وهو ولد الزَّوْجَة إِذَا كَانَ له بنات، وبنات بنات يُكشفن لزوج جدتهم.

قَوْلهُ: {إِخْوَانِهِنَّ} سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم.

قَوْلهُ: {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} وإن نزلوا، بنو إخوانهنَّ ماذا يكن لهم؟ عمات، فالعمة يجوز أن تبدي لابن أخيها ما يخفى من زينتها لأنَّه من محارمها.

ص: 171

قَوْلهُ: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} ويكن لهم خالات، إِذَنْ فالخالة يجوز أن تبدي لابن أختها ما يخفى من زينتها؛ لأنَّه من محارمها.

هل بقي أحد من الأقارب المحارِم لم يذكروا في هَذِهِ الآيَة؟

الجواب: الأعمام والأخوال لم يذكروا في هَذِهِ الآيَة مع أنهم من المحارِم، والآيَة صريحة استثناء، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ

} إلى آخِرهِ فعلى هَذَا العم والخال لا يجوز للمَرْأة أن تبدي لهم الزِّينَة الخفية، لأَن الآيَة حصر ولا يبدين زينتهنَّ إلا لهَؤُلَاءِ، وعلى هَذَا لَيْسَ كُلُّ محرم يجوز أن تبدي لهما الزينة؛ قالوا: لأَن إبداء الزِّينَة للعم والخال يخشى منه أن يصف ذَلِك لابنه، لأَن ابن العم يجوز أن يتزوج بنت عمه وابن الخال يجوز أن يتزوج بنت عمته، ولَيْسَ هُناكَ أحد من الأقارب أبناؤه يجوز لهم التزوج بهنَّ إلا العم والخال، وإلا فكل من ذكروا فإن فروعهم لا يُمْكِن أن يتزوجوا هَذِهِ المَرْأَة.

فلِذَلك قالوا: لا تبدي الزِّينَة للعم والخال وإن كانا من المحارِم، وفي هَذَا إِشارَة أو دَلالَة بينة على أنَّه لَيْسَ المُراد بالزِّينَة هُنا كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: ما عدا الوجه والكفين، لأَن ما عدا الوجه والكفين يجوز إبداؤها للعم والخال؛ لأنه من المحارِم، ولكن هَذه الزِّينَة زينة اللباس الخفية، يعني ثياب التجمُّل، فلا تخرج على عمها وخالها بثياب جميلة، فالزِّينَة لَيْسَت الَّتِي تعود إلى ما زين الله به المَرْأَة إنما الزِّينَة ما تتزين به المَرْأَة من الثِّياب، وعلى هَذَا فلا يجوز للمَرْأة أن تتجمل عند عمها أو خالها.

ومَسْألة الزِّينَة لا علاقة لها بمَسْأَلة الحجاب، مَسْأَلة الحجاب وما يَتعلَّق به في سورة الأحزاب، أما سورة النُّور كما تقدَّم فكلها في حفظ الفروج والتزكية والتطهير،

ص: 172

ولذا فالمَرْأَة لا تبدي الزِّينَة للعم والخال خوفًا من أن يحصل ما يحصل، فالعم لا يجوز له أن ينظر من المَرْأَة ما ينظره الأخ.

لو قَالَ قَائِل: الرِّضاعُ لم يُذْكرْ في هَذه الآيَة فهل حكمهم حكم المذكورين هُنا أو لا؟

الجواب: حَقِيقَة الْأَمْر أن إبداء الزِّينَة غير مَسْأَلة المحرميَّة، الآيَة تدُلّ على أن إبداء الزِّينَة مَسْأَلة منفصلة عن مَسْأَلة المَحرميَّة، إِذَا كَانَ العم والخال ما ذكرا مع أنهما من المحارِم دل ذَلِك على أن مَسْأَلة إبداء الزِّينَة غير المَحرميَّة نعم؛ لأَن المَسْأَلة هُنا حساسة جدًّا.

الرضاع كله بجميع أقسامه لم يذكر فألحقه بعض العُلَماء مدعين أن ذكر البعض يدُلّ على البقية وأن العرب في كلامهم أحيانًا يقتصرون على ذكر البعض تنبيهًّا على البقية، لكن هَذَا لَيْسَ بجيد؛ وجه ذَلِك أن ذكر البعض الَّذِي يُراد به إلحاق البقية يُكتفى منه بذكر واحد، وَيكُون هَذَا الواحد على سبيل التمثيل، أما أن يذكر عدد من جنس ويحذف الباقي وبطريق الحصر فهَذَا غير مُسلم.

لكن يبقى النَّظر في مَسْأَلة إبداء الزِّينَة الَّتِي زينها الله بها يعني الوجه واليدين وما أشبه ذَلِك، فهَذَا له دَليل غير هَذه الآيَة.

فنقول: هَذه الآيَة في زينة اللباس وشبهه، ويَجب إبقاؤها على ما ذكر الله سبحانه وتعالى، وأما مَسْأَلة إبداء الوجه والكفَّين والسَّاق والرَّقَبة وما أشبه ذَلِك فهَذَا يؤخذ من أدلة أُخْرَى.

ولِذَلك الإخوة من الرِّضاع عند النِّساء الآن وعند النَّاس كلهم أن المَرْأَة تتجمل وتتزين لهم، مع أن المَسْأَلة في الحَقيقَة خطيرة جدًّا، وكم من أناس والعِيَاذ باللهِ

ص: 173

فجروا بأخواتهنَّ من الرِّضاعة؛ لأَن الصِّلة لَيْسَت صلة رحم ونسب، فصلة الرِّضاع أضعف من صلة النَّسب والرحم، ولذَلك يحصل عند بعض النَّاس -والعِيَاذ باللهِ- الَّذينَ لا يخافون من الله من تحرك الشَّهوة والتمتع بالنَّظر إلى أخواتهنَّ أو خالاتهم من الرِّضاع ما هو معْلُوم.

لِذَلك كره بعض العُلَماء للمَرْأة أن تبدي زينتها لمحارمها من الرِّضاع وقال: إن ذَلِك خطأ، ولهَذَا لم يتعرض الله سبحانه وتعالى في هَذه الآيَة للرضاعة إطلاقًا أبدًا ولَيْسَ هَذَا من باب التَّحْريم وإلا فالتَّحْريم يَقُول النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام:"يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ"

(1)

.

فالمَسْأَلة هُنا إبداء زينة وقد علم الآن بحسب هَذَا الحصر أنَّها لَيْسَ لها علاقة بمَسْأَلة المَحرميَّة، المَحرميَّة إبداء الوجه واليدين وما أشبه ذَلِك هَذَا ثابت بالنَّص ولهَذَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لزوجاته:"انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ"

(2)

وأباح لإخوانهنَّ مِنَ الرِّضاعة أن يدخلوا على زوجاته، مع وُجوب الحجاب، فمَسْأَلة النَّظر إلى الوجه والكفين وما أشبه ذَلِك غير مَسْأَلة إبداء الزينة، هَذه مَسْأَلة مستقِلَّة عن هَذه، ولهَذَا يَجب أن نعرف هَذَا الفَرْق، وأن هَذه المَسْأَلة لا علاقة لها بمَسْأَلة المَحرميَّة لا طردًا ولا عكسًا، كَيْفَ لا طردًا ولا عكسًا؟ لأنَّنا نظرنا إلى أن الأعمام من المحارِم ولم يستثنوا هَذَا بالنِّسْبَةِ للطرد.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت، حديث رقم (2645)، عن ابن عباس، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، حديث رقم (1445)، عن عَائِشَة.

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت، حديث رقم (2647)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، حديث رقم (1445)، عن عَائِشَة.

ص: 174

وبالعَكْسِ نظرنا فوجدنا أن فيها أناسًا لَيْسَوا من المحارِم كملك الْيَمِين والتَّابعين غير أولي الإربة أو الطفل الَّذينَ لم يظهروا على عورات النِّساء.

وعلى هَذَا فيَكُون الحُكْم في هَذه الآيَة مستقلًّا عن مَسْأَلة المَحرميَّة، فما استثني من إبداء الزِّينَة وجب استثناه وما لا فلا.

فهَذه المَسْأَلة لَيْسَ لها علاقة بمَسْأَلة المَحرميَّة وإنما هي مَسْأَلة مستقِلَّة تعود إلى أمر حساس دقيق، لأنَّنا قُلْنا: إن هَذه الصُّورة كلها في حماية الأعْرَاض وتطهير النُّفوس وإبعادها عن الدنس، ولذَلك تجد احترازات بالغة الأهمِّيَّة، فالَّذِي يظهرُ لي من سِيَاق الآيَة أنَّه يَجب إبقاؤها عَلى عُمومِها وعلى خصوصها أيضًا، وأن ما استثني فيها فله حكم الاستثناء وما لم يذكر فيها فهو باقٍ على النَّهي، فالعِلَّة الوَحْيدة هي أن الله لم يستثنه، والمَسْأَلة كما تقدَّم لَيْسَت مبينة على المَحرميَّة فمن استثناه الله استثنيناه ومن لم يستثنه لم نستثنه.

قد يَقُول قائل: إِذَا كَانَ أبناء الأخ وأبناء الأخت يجوز إبداء الزِّينَة لهم لأَن المَرْأَة عمتهم أو خالتهم، لماذا لا يَكُون العكس؟ ألَيْسَت المَرْأَة للعم هي بنت أخيه، وللخال هي بنت أخته، فإذا كَانَ يجوز لها إبداء الزِّينَة لابن أخيها ولابن أختها أفلا يجوز العكس لأَن الصِّلة واحدة؟ نقول: لا، لأَن ابن أخيها وابن أختها تشعر هي بأنَّها لها العلو عليهما؛ لأنَّها عمة وخالة لهما، فهما يحترمانها ولَيْسَت هي الَّتِي تحترمهما، لكن مَسْأَلة العم والخال يشعران بعلو مرتبتهما على بنت أخيهما وبنت أختهما فهي تحترمهما وهما لا يحترمانها، فلِذَلك يَكُون القياس هُنا غير وجيه، والآيَة لَيْسَ فيها مجال للقياس أبدًا لأَن فيها تفصيل بالأعيان: إلا فلان وفلان وفلان، لَيْسَت قواعد عامَّة.

ص: 175

قَوْلهُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} هَذه اختلف المفسرون فيها، فمنهم من قَالَ: إن الإضافة للنوع، ومنهم من قَالَ: إن الإضافة للجنس.

الَّذينَ قالوا: إن الإضافة للنوع قالوا: إن المُراد بنسائهنَّ المؤْمِنات لأنَّه قَالَ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} فالمُراد بـ {نِسَائِهِنَّ} ما كَانَ من نوعهنَّ، فالإضافة من باب إضافة الشَّيء إلى نوعه، يعني نساء المُؤْمِنات فخرج بقَوْلهُ:{نِسَائِهِنَّ} الكافرات بناء على أن الإضافة نوعية لا جنسية وأن المُراد بنسائهنَّ، أي: المُسْلِمات، ولذا قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[وَخَرَجَ بِنِسَائِهِنَّ الْكَافِرَات فَلَا يَجُوز لِلْمُسْلِمَاتِ الْكَشْف لَهُنَّ وَشَمَلَ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، الْعَبِيد] اهـ.

وبعضهم قَالَ: من باب إضافة الجنس يعني أنَّه أضيف النِّساء إلَيْهنَّ باعتبار الجنس، يعني: أو النِّساء اللاتي من جنسهنَّ، يعني من النِّساء فلا تخرج الكافرات بل يشمل الكافرات والمُسْلِمات، وقد ذكروا أن الصَّحابَة رضي الله عنهم لما فتحوا الأمصار كَانَ فيها قوابل من الكافرات يولدن النِّساء فأقرهنَّ الصَّحابَة على ذَلِك

(1)

، وهَذَا مما يدُلّ على أن المُراد بنسائهنَّ النِّساء دون المُسْلِمات، يعني لَيْسَ بقيد المُسْلِمات، نعم إن خيف منها ضرر هَذَا شَيْء ثانٍ، وخوف الضرر حَتَّى في المُسْلِمات.

فَعلَى القَوْلِ الأوَّل لا يجوز للمَرْأة المُسْلِمة أن تبدي زينتها للكَافرة؛ لأنَّها لَيْسَت من نوعها ولأن الكَافرة في الحقيقَة غير مؤتمنة، قد تغري بها الفُسَّاق والْكُفَّار إِذَا رأتها تتجمل وتتزين وتبدي الزينة، والقول الثَّاني: أن المُراد بنسائهنَّ الجنس، يعني النِّساء اللاتي من جنسهنَّ، وعلَيْه فيجوز للمَرْأة أن تبدي ما خفي من زينتها لجميع النِّساء من مؤمنات وغير مؤمنات، وهَذَا هو الأقرب، واحتمال أن هَذه المَرْأَة

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم (انظر: تفسير ابن كثير 3/ 378).

ص: 176

الكافرة تغري بها الفُسَّاق والْكُفَّار وارد، لكن هَذَا الاحتمال أيضًا وارد في المُسْلِمة فإن المُسْلِمة وأقول: المُسْلِمة غير المُؤْمِنة لأَن المُسْلِمة ربما يحصل منها ذَلِك.

وهَذه مسائل في الحَقيقَة دقيقة جدًّا وقد ترد حَتَّى مع النّساء بعضهنَّ بعضًا، ولذَلك الساحقة بين النِّساء موجودة؛ لأَن المَرْأَة تعشق المَرْأَة وتتعلق بها كما يَتعلَّق الرَّجل بالمَرْأَة ويحصل منها هَذَا الفِعْل المحرم.

قَوْلهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [فَيَجُوز لهمْ نَظَره إلَّا مَا بَيْن السّرَّة وَالرُّكْبَة فَيَحْرُم نَظَره لِغَيْرِ الْأَزْوَاج] اهـ.

المُفَسِّر رحمه الله مشى على أن المُراد بالزِّينَة هُنا ما زين الله به المَرْأَة، يَقُول: من هَؤُلَاءِ الَّذينَ استثنوا {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي: الْعَبِيد لأنَّه لا يُمْكِن أن تتحرز من خادمها وملك يمينها، ومع ذَلِك هو لَيْسَ بمحرم، يعني لو أَرَادَ أن يسافر بها لم تسافر إلا بمحرم، لكن يجوز أن تبدي الزِّينَة الخفية له؛ لأَن هَذَا أمر لا يُمْكِن التحرز منه، وكَذلِك الإماء اللاتي ملكهنَّ النِّساء، ولا بُدَّ أن يَكُون تامًّا فإن كَانَ لها عبد مشترك فإنَّه لا يجوز لها إبداء الزِّينَة له؛ لأنَّه لا يُقالُ حينئذٍ: ملكته وإنما ملكت بعضه.

ولهَذَا لا يجوز للرَّجُلِ أن يَتَسَرّى بالأَمة المشتركة، إِذَا كَانَت أمة مشتركة بينه وبين شخص لا يجوز له أن يتسرى بها لأنَّها لَيْسَت ملكه، كما أنَّه لا يجوز للمَرْأة أن تبدي شيئًا من فشتها الخفية لمملوك بينها وبين غيرها؛ لأنَّه لا يصدق علَيْه أنَّه ملكها بل إنه مشترك.

وقول المُفَسِّر رحمه الله: [فَيَجُوز لهمْ نَظَره إلَّا مَا بَيْن السُّرَّة وَالرّكْبَة فَيَحْرُم نَظَره لِغَيْرِ الْأَزْوَاج]، هُنا المُفَسِّر مشى على ما أشرنا إلَيْه سابقًا أن المُراد بالزِّينَة ما زين الله به

ص: 177

المَرْأَة، يَقُول: إن هَؤُلَاءِ المستثْنَيْن يجوز للمَرْأة أن تبدي لهم ما بين السُّرَّة والرُّكبة، هَذَا على رأيه، يعني مثلما يجوز للمَرْأة أن تبدي لإخوانها وابن أخيها وابن أختها وابن زوجها يجوز أن تبدي صدرها وبطنها وثدييها وكل شَيْء ما عدا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، يعني: يجوز تأتي بسروالها وتخرج على أبي زوجها وما أشبه ذَلِك، لكن هَذَا فيه نظر وفيه فتنة عَظِيمة، لو قُلْنا بجَواز هَذَا لحصل به فتنة كَبيرَة جدًّا، امرأة مثلًا شابة زوجة ابنه تأتي إلَيْه بهَذِهِ المثابة ولنفرض أيضًا أنَّه هو رجل شاب هَذَا لا أحد يَقُول به بشرط أن تؤمن الْفِتْنَة، يعني حَتَّى على رأي المُفَسِّر لا بُدَّ من أمن الْفِتْنَة، فإن لم تؤمن الْفِتْنَة حرم، لكن حَتَّى إِذَا أومنت الْفِتْنَة فإن هَذَا فتح باب لها بلا شَك، ولهَذَا الصَّحيح في هَذه المَسْأَلة بقطع النَّظر عن كون هَذَا المُراد بالآيَة أو غير المُراد بالآيَة.

فالصَّحيح أنَّه لا يجوز للمَرْأة أن تكشف للمحارم إلا ما جرت العادة به فقط، لأَن ما جرت العادة به لا يحتشم منه ولا يبالى به، في عرفنا الآن تخرج الكَفَّ والذِّرَاعَ والسَّاقَ وَالرَّأْسَ والرَّقَبَةَ كُلُّ هَذَا يخرج عادة للمحارم ولهَذَا لو زاد على هَذَا الْأَمْر لوجدت النَّاس ينكرونه؛ لأنَّه إِذَا جاز كشف السَّاق فالذراع مِنْ بَابِ أَوْلَى، وانتقال الْإِنْسَان في التفكير من السَّاق إلى ما فوقه أقرب من انتقاله من الذراع إلى ما تحته.

فعَلَى كُلِّ حَالٍ الصَّحيح في هَذه المَسْأَلة أن يرجع في هَذَا إلى ما جرت به العادة إلا في الشَّيء الَّذِي لا يُمْكِن كشفه إلا بفتنة متوقعة أو لازمة فهَذَا لا يجوز.

يبقى النَّظر في غير المحارِم ممَّن تبتلى بهم المَرْأَة وهم غير محارم والمَرْأَة تبتلى بهم مثل أخي الزَّوج إِذَا كَانَ الْإِنْسَان عنْدَه في البَيْت أخ، وطبعًا كُلُّ واحدٍ من الأخوين له زوجة، على المَشْهُور من المَذْهب أنَّه لا يجوز أن تبدي لا كفًّا ولا وجهًا ولا قدمًا

ص: 178

ولا غيره، وأن هَذَا الرَّجل مثل الرَّجل الَّذِي في السُّوق، ولو أخذنا بهَذَا في الحَقيقَة لَلَحِق النَّاس حرج كبير تقول للمَرْأة: إِذَا صَارَ أخو زوجك موجودًا لازم لا يظهر منك ولا ظفر ولا شعرة؛ هَذَا في الحَقيقَة فيه مشقَّة وحرج، ولهَذَا الصَّحيح في هَذه المَسْأَلة أن مَسْأَلة الكف والقدم مما يشق التحرز منه، لا بأس به.

أما الوجه فلا يجوز؛ لأَن التحرز منه ممكن بخلاف الكف والرجل، وهَذه امرأة تعمل في البَيْت تغسل الأواني مثلًا وتفرش وتكنس كَيْفَ تتحرز من أخي زوجها؟ تقول: إِذَا أردت مثلًا تغطين الأواني وأخو زوجك موجود ضعي غطاء على اليدين، هَذَا فيه صعوبة، لهَذَا نقول: إن ما يشق التحرُّز منه من إظهار القدم والكف فالصحيح أنَّه لا بأس به، وقد مشى على ذَلِك بعض فقهاء الحنابلة، وقال في الإنصاف: إنه ما يسع النَّاس العَمَل إلا بهَذَا، وهَذَا صحيح ما يسع النَّاس العَمَل إلا بهَذَا الشَّيء والله الموفق.

المُفَسِّر رحمه الله يَقُول: [وَخَرَجَ بِنِسَائِهِنَّ الْكَافِرَات فَلَا يجوز لِلْمُسْلِمَاتِ الْكَشْف لهنَّ وَشَمَلَ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الْعَبِيد].

لو قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَقُول المُفَسِّر: شمل {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الْعَبِيد، وهل هُناكَ أحد غير الْعَبِيد، فما الجواب؟

الجواب: نعم، على القَوْل بأن المُراد بنسائهنَّ المُسْلِمات فإن {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يشمل الأَمة الكافرة فيجوز إبداء الزِّينَة لها وإن لم تكن من نسائهنَّ لأنَّها مملوكة، أما إِذَا قُلْنا: إن المُراد بنسائهنَّ جميع النِّساء فإن قَوْلهُ: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يختص بالذكور فقط؛ لأَن النِّساء معْرُوفات من قَوْلهُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} لكن المُفَسِّر رحمه الله اضطر أنْ يقولَ ذَلِك لهَذَا السَّبب، على أن من أهْل العِلْم من قصر قَوْلهُ: {مَا مَلَكَتْ

ص: 179

أَيْمَانُهُنَّ} على النِّساء الكافرات فقط وقال: إن العَبْد لا يجوز لسيِّدته إبداء الزّينَة له، وإنما المُراد بما ملكت أيمانهنَّ لأجل أن تدخل الأَمة المملوكة إِذَا كَانَت كافِرة؛ لأنَّها خرجت بنسائهنَّ ودخلت فيما ملكت أيمانهنَّ.

لكن الصَّحيح أن (نسائهنَّ) كما أشرنا إلَيْه سابقًا المُراد به الجنس، وأن جميع النِّساء من مسلمات وكافرات يجوز إبداء الزِّينَة لهنَّ إلا إِذَا خشي المحذور، إِذَا خشي المحذور فهَذَا لا يجوز ولو كَانَت مسلمة كما نهى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المَرْأَة أن تنعت المَرْأَة لزوجها حَتَّى كأنه يشاهدها

(1)

، أي تقول له: فلانة كذا وكذا وكذا، وتصفها حَتَّى كأنه يشاهدها، فإن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم نهى المَرْأَة أن تنعت المَرْأَة لزوجها على هَذَا الوجه، فإذا خشي المحذور فهَذَا شَيْء ثانٍ، لكن هَذه الأَشْيَاء بدون محذور.

قَوْلهُ: {أَوِ التَّابِعِينَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [فِي فُضُول الطَّعَام {غَيْرِ} بِالجَرِّ صِفَة وَالنَّصْب اسْتِثْنَاء {أُولِي الْإِرْبَةِ} أَصْحَاب الحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ {مِنَ الرِّجَالِ} بِأَنْ لَمْ يَنْتَشِرْ ذَكَرُ كُلٍّ] اهـ.

قَوْلهُ: {أَوِ التَّابِعِينَ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [{التَّابِعِينَ} فِي فُضُولِ الطَّعَام]، فالمُراد بهم الخدم وشبههم الَّذينَ يتبعون أهل البَيْت، أو المُراد بالتَّابعين أيضًا الَّذينَ يأتون إلى النَّاس ليأكلوا من فضول طعامهم وإن لم يَكُونوا خدمًا لهم، فهو شامل لهَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ، فالتَّابع هو الَّذِي يتبع أهل البَيْت إما لكونه خادمًا عندهم وإما لكونه يتلقى فضول الطَّعام منهم، فهَؤُلَاءِ يجوز إبداء الزِّينَة لهم بشرط ألا يَكُون لهم إربة يعني حاجة في النِّساء.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تباشر المَرْأَة المَرْأَة فتنعتها لزوجها، حديث رقم (5240)، عن ابن مسعود.

ص: 180

وقول المُفَسِّر: [بِأَنْ لَمْ يَنتشِرْ ذَكَرُ كُلٍّ] لَيْسَ العَلامَة ألا ينتشر ذكره بل العَلامَة ألا يُعرف منه ميل إلى النِّساء، لأَن من النَّاس من يميل إلى النِّساء، وإن كَانَ ذكره لا ينتشر، فالعَلامَة أن لا يوجد منه ميل إلى النِّساء إطلاقًا لا عند قيام ذكره ولا عند عدم قيامه.

فالكلام على أنَّه لا يشتهي النِّساء ولا يميل إلَيْهنَّ فهو كالمَرْأَة، ولمشقَّة التحرز منه أباح الله سبحانه وتعالى للنِّساء أن يبدين زينتهنَّ له، فصَارَ التَّابع معناه الَّذِي يتبع أهل البَيْت لتلقي فضول طعامهم إما لكونه خادمًا فيهم أو غير خادم، لكن اشترط الله سبحانه وتعالى في التَّابع ألا يَكُون له إربة في النِّساء، والعَلامَة أنَّه يُعلم أنَّه لا يميلُ إلى النِّساء ولا يرغب فيهنَّ، والغالِب أنَّه لا يقوم ذَكَرُهُ، لكنَّه لَيْسَ بلازم قد يَكُون الْإِنْسَان ممَّن يميل إلى النِّساء ويحبهنَّ ويألفهنَّ لكن لا يقوم ذكره.

لِذَلك الصَّحيح في هَذه المَسْأَلة أنَّنا نعلم عدم حاجته وعدم ميله إلى النِّساء، ولهَذَا كَانَ في بيوت آل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رجل مخنث، يعني من غير أولي الإربة لم يَكُونوا يعلمون به حَتَّى إنه في يوم من الأيَّام قَالَ لرجل من محارم إِحْدَى زوجات النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا فتحتم الطائف فعليكم بابنة غيلان الثَّقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان

(1)

، هم في أول الْأَمْر يحسبونه لَيْسَ بشَيْء، لكن هَذَا الَّذِي يصف المَرْأَة هَذَا الوصف يدُلّ على أنَّه يميل إلى النِّساء، فمنعه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من الدُّخول على أهل بيته لأنَّه يتبَيَّن أنَّه يميل إلى النِّساء، فإذا وُجد أن هَذَا التَّابع يصف النِّساء ويذكر جمالهنَّ وما أشبه ذَلِك علم أنَّه صحاب حاجة، وأما مَسْأَلة قيام الذكر فهَذه لَيْسَ بعلامة.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، حديث رقم (5887)؛ ومسلم، كتاب السلام، باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، حديث رقم (2180)، عن أم سلمة.

ص: 181

ذكر المُفَسِّر رحمه الله (كُلٍّ) فقال: "بِأَنْ لَمْ يَنتشِرْ ذَكَرُ كُلٍّ] لو قَالَ: "ذكره" لم يكن هُناكَ إِشْكال، لكن قَوْلهُ:[ذَكَرُ كُلٍّ] يقْتَضِي عددًا.

قَوْلهُ: {أَوِ الطِّفْلِ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بِمَعْنَى الأَطْفَال {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} أي: يَطَّلِعُوا {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لِلْجِمَاعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُبْدِينَ لهمْ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ] اهـ.

قَوْلهُ: {أَوِ الطِّفْلِ} قَوْل المُفَسِّر رحمه الله: [الطفل بِمَعْنَى الأَطْفَال]، فهو اسم جنس بمَعْنى الأطفال، والدَّليل على أنَّه بمَعْنى الأطفال قَوْلهُ:{الَّذِينَ} حيث وصفه بالجمع ولا يُوصف المفرد بالجمع، لكن فيه دَليل على أن اسم الجنس إِذَا حُلي بـ (أل) يَكُون للعموم ولو كَانَ مفردًا.

وقَوْلهُ: {يَظْهَرُوا} بمَعْنى يطلعوا {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} للجماع، والمَعْنى أنهم لا يعرفون ما يَتعلَّق بالعورات، فقَوْلهُ:{لَمْ يَظْهَرُوا} أي: لم يطلعوا بحيث لا يدرون ماذا يُصنع بالعورات ولا هي لهم على بال، فهَؤُلَاءِ الأطفال يجوز أن تُبدى لهم الزينة، هَذَا المراد، لَيْسَ المُراد الاطِّلاع بالعين لأَن الاطِّلاع بالعين هَذَا يَكُون في الأطفال وغيرهم، لكن المُراد أنهم لا يدرون.

وقول المُفَسِّر: [يُبْدِينَ لَهُمْ مَا عَدَا مَا بَيْن السُّرَّة وَالرُّكْبَة] بناء على أن المُراد بالزِّينَة هُنا ما زين الله به المَرْأَة لا أنَّها اللباس.

تقدَّم في هَذه الآيَة اثنا عشر صنفًا يَقُول الله تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} اثنا عشر صنفًا

ص: 182

هَؤُلَاءِ هم الَّذِي تبدى لهم الزِّينَة الخفية ومن عداهم لا تُبدى لهم، هَذَا هو ظاهر الآيَة؛ لأَن الله سبحانه وتعالى يَقُول:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا} والاستثناء هَذَا مفرغ يقْتَضِي أن من سوى هَؤُلَاءِ لا يجوز إبداء الزِّينَة لهم، لكنَّ بعض العُلَماء ألحق بهم بقية المحارِم من مصاهرة أو نسب أو رضاع؛ لأنَّه يُوجد من المحارِم من النَّسب من لم يُذكر مثل الأعمام والأخوال وأيضًا من المصاهرة من لم يُذكر؛ لأَن قَوْلهُ:{أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} معناه تَكُون زوجة ابن أو {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} تَكُون زوجة أب، أي أن زوجة الْأَبّ تبدي لأبناء زوجها الزِّينَة، وزوجة الابن تبدي لآباء زوجها الزينة.

لو قَالَ قَائِلٌ: هَؤُلَاءِ الاثنا عشر هل هم على حد سواء فيما يُبدى من الزِّينَة أو لَيْسَوا على حد سواء؟

الجواب: لَيْسَوا على حد سواء بلا شَك، ولهَذَا بدأ الله بالزَّوج لأنَّه أعلى من تُبدى له الزِّينَة بمطلقها، والباقين يُمكن أن يُقالَ: على الترتيب، ويُمْكِن ألا يُقالَ: على الترتيب بل يُنظر إلى ما جرت به العادة؛ لأَن حَقِيقَة الْأَمْر أن الأخ مثلًا إِذَا كَانَ عند أخته دائمًا في البَيْت لَيْسَ كما لو لم يكن يأتيها إلا نادرًا، أي الحالين أَشَدّ تحشمًا بالنِّسْبَةِ لها؟ إِذَا كَانَ لا يأتي إلا نادرًا تجدها تستحي منه وتحتشم أكثر مما إِذَا كَانَ دائمًا عندها، فيَنْبَغِي أن يُقالَ في ترتيبهم، أما الزَّوج فهو عَلَى كُلِّ حَالٍ في القمة، وأما البقية فعلى حسب ما يدعو إلَيْه العرف والعادة بالنِّسْبَةِ لإبداء الزِّينَة كاملة أو متوسطة أو أدنى ما يُقالُ إنَّهُ زينة.

المَسْألة الثَّانية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} هل يَجب على المَرْأَة أن تحتجب عن الرجل، يعني: هل يحرم عَلَيْها أن تنظر إلى الرَّجل أو لا يحرم، يعني إِذَا

ص: 183

قُلْنا: إن المُراد بالزِّينَة هُنا ما زين الله به المَرْأَة أو ما زين الله به الرَّجل فهل يَجب عَلَيْها أن تغض الطرف عن الرَّجل أو لا يَجب؟

هَذه المَسْأَلة فيها خلاف بين أهْل العِلْم، منهم من قَالَ: إنه لا يجوز للمَرْأة أن تنظر إلى الرجل، كما لا يجوز للرَّجُلِ أن ينظر إلى المَرْأَة؛ لأَن الآيَة واحدة قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} وأيدوا قولهم هَذَا بحديث أم سلمة والمَرْأَة الأُخْرَى الَّتِي لما دخل ابن أم مكتوم قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"احْتَجِبَا مِنْهُ" قالوا: يا رَسُول الله! إنه رجل أعمى، فقال:"أَفعَمْيَاوَانِ أَنتُمَا؟ ! "

(1)

فلمَّا أوردا علَيْه أنَّه أعمى قَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أنْتُمَا، وأمرهما بالاحتجاب، لكن هَذَا الحَديث لا يصِح عند أهْل العِلْم؛ لأنه من رِوايَة نبهان مولى أبي سلمة وهو مجهول، ولذَلك ضعفه الْإِمَام أحمد رحمه الله.

ولذَلك الصَّحيح أنَّه يجوز للمَرْأة أن تنظر إلى الرَّجل إِذَا لم يكن هُناكَ فتنة أو شهوة، ويدُلّ لِذَلك أحاديث صحيحة صريحة منها حديث عَائِشَة رضي الله عنها حينما كَانَت تطلع إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد والنَّبي صلى الله عليه وسلم يسترها وهي تنظر إلَيْهم حَتَّى إنها هي الَّتِي تركت هَذَا الشَّيء

(2)

، وهَذَا دَليل واضح على جَواز نظر المَرْأَة إلى الرجل.

(1)

أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قوله عز وجل:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ، حديث رقم (4112)؛ الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في احتجاب النساء من الرِّجَال، حديث رقم (2778)، وأحمد (6/ 296)(26579)، عن أم سلمة.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الحراب والدرق يوم العيد، حديث رقم (950)؛ ومسلم كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، حديث رقم (892)، عن عَائِشَة.

ص: 184

كَذلِكَ أيضًا قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ"

(1)

، وهَذَا أيضًا صريح واضح في أن المَرْأَة يجوز أن تنظر إلى الرجل.

وأيضًا قَالَ فقهاؤنا رحمهم الله: لو كَانَ يحرم على المَرْأَة أن تنظر إلى الرَّجل لوجب على الرِّجَال أن يحتجبوا مثلما أن المَرْأَة تحتجب عن الرَّجل لئلا ينظر إلَيْها، فنقول أيضًا: الرَّجل يتحجب عن المَرْأَة لئلا تنظر إلَيْه؛ لأنَّه لا يتم الواجب إلا بهَذَا؛ لأنَّه إِذَا صَارَ وجه الرَّجل مكشوفًا فالمَرْأَة لا بُدَّ أن تراه، لا يُمْكِن أن تعدم رؤيتها له إلا إِذَا احتجب مثلما أنَّها هي تحتجب، ولا قائل من أهْل العِلْم أنَّه يَجب على الرَّجل أن يحتجب عن المَرْأَة.

ولهَذَا الصَّحيح في هَذه المَسْأَلة مذهب الْإِمَام أحمد أنَّه يجوز للمَرْأة أن تنظر إلى الرجل، ولكن كل هَذِهِ المَسائِل وغيرها تجوز بشرط أَمْن الْفِتْنَة، أما إِذَا كَانَ هُناكَ فتنة فإنَّه لا يجوز أن تنظر ولا إلى صُورَة الرجل، حَتَّى صُورَة الرَّجل الَّتِي تَكُون في بطاقة أو الَّتِي تظهر في التلفزيون لا يجوز أن تنظر إلَيْها إِذَا كَانَ يُخشى منها الْفِتْنَة، وكَذلِك بالنِّسْبَةِ للرَّجُلِ أيضًا، وهَذه مَسْأَلَة سنبحثها بحثًا مستقلًّا فنقول: هل يجوز للرَّجُلِ أن ينظر إلى صُورَة المَرْأَة الأجنبية منه أو لا يجوز؟

الرأي الأوَّل: متى جاز النَّظر إلى وجهها بغير صُورَة جاز النَّظر إلى صورتها، يعني متى جاز النَّظر إلى المَرْأَة لكونه محرمًا أو خاطبًا جاز النَّظر إلى صورتها، ومتى مُنع منع النَّظر.

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، حديث رقم (1480)، عن فاطمة بنت قيس.

ص: 185

الرأي الثَّاني: يجوز النَّظر إلى صُورَة المَرْأَة لأنَّها لا تساوي النَّظر إلى المَرْأَة، فهَذه الصُّورة لَيْسَت هي المَرْأَة، والنَّهي إنما ورد عن المَرْأَة فقط، نعم لو حصل فتنة مثل ما يفعله بعض النَّاس والعِيَاذ باللهِ، أنا أذكر مرة أن مجلة تسمى النَّهضة الكويتية، لكنها نهضة إلى الشَّرِّ، هَذه المجلة وضعت مسابقة لملكة الجمال وصورت حسب ما تصورت أجمل من جاءها من النِّساء، طبعًا مثل هَذَا في ظني أن كثيرًا من النَّاس الَّذينَ لَيْسَ عندهم خوف من الله سيقتنون هَذه الصُّور: صور الجميلات، يتمتعون بالنَّظر إلَيْها أو لأي غرض آخر، فهَذَا لا شَكَ في تحْرِيمه.

فنقول: إِذَنْ النَّظر إلى الصُّورة لا يساوي النَّظر إلى الحَقيقَة، ولَيْسَ هو الَّذِي ورد فيه النَّهي، ولكن متى تضمن ذَلِك فتنة لكونه يَتعلَّق بها أو يقتنيها فإن ذَلِك يَكُون حرامًا وإلا فلا يظهر التَّحْريم.

وبالنِّسْبَةِ للنظر إلَيْها في التلفزيون، في الحقيقَة الفَرْق بينها وبين الصُّورة الأولى أنَّها تتحرك وفي الغالِب إِذَا كَانَ التلفزيون ملونًا فإنَّه يحكي حالها أكثر وكَذلِك الصَّوْت، وكَذلِك التغنج والتمايل والرقص وما أشبه ذَلِك.

لكن إِذَا قدَّرنا أن امرأة عادية طبيعية تذيع مثلًا هل يحرم النَّظر إلَيْها أو لا يحرم؟

والله أنا أرى أن النَّفس لا تتعلق بها ولو رأتها في التلفزيون مثل ما تتعلق بها لو رأتها حَقِيقَة، وأرى أن هُناكَ فرقًا بين أن ينظر إلى امرأة في التلفزيون أو ينظر امرأة حقيقية، في الحَقيقَة بعض النَّاس يَقُول: إن الصُّورة في التلفزيون أَشَدّ من الصُّورة في البطاقة؛ لأنَّها تحكي الحركة والصوت فتكون الْفِتْنَة أعظم، ولكن عندي أيضًا أن

ص: 186

هَذِهِ تمتاز على الصُّورة الَّتِي بالبطاقة - كما تقدَّم - بأنَّها تتحرك ولها صوت، وهَذَا أدعى للفتنة، لكنها تختلف عنها بأنَّها لا تثبت، والصُّورَة الَّتِي في البطاقة تثبت، والْإِنْسَان يُمْكِن أن يجعل عنْدَه صُورَة بالبطاقة كلما اشتهى أن يتمتع بالنَّظر إلَيْها ذهب إلَيْها ونظر، لكن هَذِهِ لا يُمْكِن لأنَّها قد فاتت حيث إنه أغلق التلفزيون وذهب، وكما تقدَّم لا يُمْكِن أن يَتعلَّق قلب الْإِنْسَان بهَذه الصُّورة مثلما يَتعلَّق بالمَرْأَة.

معْلُوم أن الوصف مهما بلغ لا يُمْكِن أن يَكُون مثل الصُّورة، لا شَك أن الصُّورة أَشَدّ حكاية للحَقِيقَة، لكن كلامنا إِذَا لم يكن هُناكَ فتنة ولا ضرر.

وصف نساء المُسْلِمينَ للكفار هَذَا ضرره عَظِيم، ولذَلك نحنُ نقول: لَيْسَ عندنا شك أن الصُّورة إِذَا صَارَت تبتذل وتكون صُورَة بنت فلان مثلًا بأيدي الفُسَّاق هَذَا من المحرمات الَّتِي لا شَك فيها، ولهَذَا نرى أنَّه من أعظم الخطر ما يفعل الآن بالأعراس تصوير النِّساء حَتَّى لو كَانَت الَّتِي تصور من النِّساء؛ لأَن هَذِهِ الصُّور تبقى في أيدي النِّساء، ومن يأمن المَرْأَة أن تعطيها فلانًا أو فلانًا أو ولدها أو أخاها أو زوجها، لكن نقول: ربما يُحتج علَيْنا بالحَديث الَّذِي أوردته وهو نهي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المَرْأَة أن تنعت المَرْأَة لزوجها كأنما يشاهدها

(1)

.

فإذا كَانَ الرَّسُول نهى المَرْأَة أن تباشر المَرْأَة فتنعتها لزوجها كأنما ينظر إلَيْها، فالصُّورَة مثل هَذَا بل أَشَدّ، هَذَا هو الَّذِي يُمْكِن أنْ يُقالَ: إن الصُّورة تدخل فيه؛ لأَن النَّعت في الحَقيقَة -يعني ذكر الأوصاف- لا يحكي المَرْأَة كما تحكيه الصُّورة، ولكن لَيْسَ بظاهر لي؛ لأَن الحقيقَة حكاية الصِّفة بالنِّسْبَةِ للإغراء أَشَدّ لا سيَّما إِذَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تباشر المَرْأَة المَرْأَة فتنعتها لزوجها، حديث رقم (5240)، عن ابن مسعود.

ص: 187

كَانَ الرَّسُول يَقُول: "تَنْعَتهَا لِزَوْجِهَا"، قد يُقالُ: إن كون الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَقُول: "تَنْعَتهَا لِزَوْجِهَا" هَذَا لَيْسَ لبَيان الواقِع وأن الغالِب أن المَرْأَة لا تصف النِّساء إلا لزوجها.

وقد يُقالُ: إنه لَيْسَ لبَيان الغالِب، ولكن لما يترتب علَيْه من المفاسد حيث يظن الزَّوج أن هَذِهِ المَرْأَة لا تريده، ولذَلك تصف له النِّساء لعله يَتعلَّق بهنَّ هَذَا من جهة، ومن جهة أُخْرَى ربما يَتعلَّق قلب الزَّوج نفسه إِذَا وصفت له زَوْجَته هَذِهِ المَرْأَة ويرغب عن زَوْجَته الَّتِي معه، ويتحول إلى الجديدة.

عَلَى كُلِّ حَالٍ وبعد هَذِهِ المناقشة لا أستطيع أن أجزم بتحْرِيم النَّظر إلى المَرْأَة في التلفزيون أو في الصُّورة إِذَا لم يكن في ذَلِك محذور، فإن كَانَ في ذَلِك محذور فلا شَك أنَّه لا يجوز، وأيضًا قد يُقالُ: إن الشَّيء البعيد المنال قد لا تتعلق به نفس الْإِنْسَان لا سيَّما الْإِنْسَان العاقِل؛ لأنَّه كَيْفَ يطمع الْإِنْسَان العاقِل بما لا يُمْكِن أن يناله بخلاف الأَشْيَاء الَّتِي يُمْكِن أن ينالها، ولهَذَا -والله أعلم- أُبيح للمحارم أن يكشفن وجوههنَّ للمَحرم؛ لأَن نفسه لا يُمْكِن أن تتعلق بهنَّ أبدًا إلا والعِيَاذ باللهِ إذا قُلبت فطرته، وأما الرِّجَال الأجانب فلا، هَذَا من الحِكْمة، فالمدار على الْفِتْنَة أو خوفها.

وأما إِذَا كَانَ الْإِنْسَان طبيعيًّا ولا يهتز قلبه ولا مشاعره بهَذَا الَّذِي يشاهد فالتَّحْريم وتأثيم النَّاس به أمر فيه إِشْكال، والآن صور النِّساء منتشرة، حَتَّى بعض الأقمشة أظن فيها صور نساء يلصق علَيْه بطاقة صُورَة امرأة، وفي الصُّحف أيضًا وهَذه مشكلة، يعني تأثيم النَّاس بشَيْء لا يتحققه الْإِنْسَان، أمر صعب، فلا يجوز لِلإنْسان أن يؤثم النَّاس إلا بشَيْء يعرف أنَّه يغلب على ظنه أو يقطع به، وأما شَيْء يشك فيه فلا يَنْبَغِي أن يؤثم النَّاس به، ولا شَك أن التحرز من هَذَا أولى.

ص: 188

ولكن المَسْأَلة لَيْسَت هي مَسْأَلَة التحرز، الأولوية مَسْأَلَة التَّحْريم نقول: هل حرام عَليْك أن تنظر أو لَيْسَ حرامًا؟ أما إِذَا كَانَ الْإِنْسَان يجوز له أن ينظر إلى المَرْأَة نفسها فهَذَا واضح أنَّه يجوز أن ينظر إلى صورتها كما في مَسْأَلة الخاطب، فلو أن رجلًا أَرَادَ أن يخطب امرأة فبدلًا من أن يذهب إلَيْها وجد لها صُورَة فإنَّه يراها ولا بأس بِذَلِك، وإن كَانَت الصُّورة في الحَقيقَة لا تحكي الواقِع تمامًا كما هو مشاهد الآن، تشاهد صُورَة لشخص أحيانًا تَكُون صورته مشوهة، وأحيانًا تَكُون صورته أحْسَن من الواقِع أيضًا، وأحيانًا تَكُون صُورَة مطابقة للواقع، الحَقيقَة أن الصُّورة هَذِهِ لا تحكي الواقِع تمامًا.

الحاصل أن خوف الْفِتْنَة هو المناط، أي هَذَا هو السَّبب سدًّا لهَذ الذريعة وهَذَا مطرد، فكل شَيْء حرم تحْرِيم الوسائل فإنَّه تبيحه المصْلَحة لَيْسَ الضَّرورة؛ لأَن الحرام لذاته لا تبيحه إلا الضَّرورة، والمحرم تحْرِيم الوسائل تبيحه المصْلَحة، ولِذَلك يجوز في بعض الأَحْيان إِذَا كَانَت المصْلَحة أكثر، فمثلًا تحْرِيم ربا الفَضْل محرم تحْرِيم وسائل، وتبيحه الحاجة كمَسْأَلَة العرايا.

ومَسْأَلَة النَّظر التَّحْريم فيها من باب تحْرِيم الوسائل كما قاله أهْل العِلْم، ولذَلك تبيحه المصْلَحة والحاجة مثل نظر الطبيب للمريضة ونظر الخاطب للمخطوبة ونظر الشَّاهد للمشهود عَلَيْها ونظر المعامل، حَتَّى المعامل يجوز أن ينظر لمن تعامله، مثل امرأة جرت العادة أن تبيع وتشتري أغراضًا من الدكان، فيجوز أنْ يقولَ لها: اكشفي الوجه يُمْكِن أن يأتي غيرك وإن شككت أنظر إلى وجهك مرة ثانية، يجوز هَذَا.

نص العُلَماء على جَواز هَذِهِ المَسْأَلة لأَن هَذَا لَيْسَ من باب تحْرِيم الذات، بل تحْرِيم الوسائل، ويدُلّك على أن هَذَا محرم تحْرِيم الوسائل بالنِّسْبَةِ للمحارم جَواز

ص: 189

الشريعة للمَرْأة أن تكشف لمحرمها؛ لأَن الذريعة في هَذِهِ المَسْأَلة شبه منعدمة، ولِذَلك لو قدر أن وجد محرم والعِيَاذ باللهِ (مقلوب الفطرة) وأنه ينظر إلى محارمه نظر الأجنبيات؛ وجب منعه منهنَّ، ولا يستغرب أن ينظر أحد من الرِّجَال إلى محارمه نظرة الأجنبيات، لا يستغرب ذَلِك.

فأنا قد سُئلت هَذِهِ الأيَّام عن رجل له أخت صغيرة من الْأَب لها سبع أو ثمان سنين، تقول المَرْأَة ولا أدري هل هي صادقة أو لا، تقول: أخوها من أبيها ذهب بها إلى بيته وفَجَرَ بها والعِيَاذ باللهِ، وهَذَا لَيْسَ بغريب، بعض النَّاس تَكُون طباعه طباع الكلاب ينزو على أمه ولا يبالي.

فالحاصِل: أنَّنا نقول: إن تحْرِيم النَّظر أصله لَيْسَ تحْرِيمًا لذاته، لأَن المحرم الزِّنَا والْفَاحِشَة، لكن النَّهي عن قربان الزِّنَا لأجل ألا يَكُون لنا وسيلة إلَيْه، فتَحْريم النَّظر مِنْ أجل هَذَا مِنْ باب تَحْريم الوَسَائل.

قَوْلهُ: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} قَوْلهُ: {وَلَا يَضْرِبْنَ} يَعود على المُؤْمِنات.

قَوْلهُ: {بِأَرْجُلِهِنَّ} ضَرَبَ برجله يعني حرَّكها على الأَرْض بقوة.

قَوْلهُ: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مِنْ خَلْخَال يَتَقَعْقَع] اهـ، يعني بصوت القَعْقَعْة لأَن المَرْأَة إِذَا صَارَ عَلَيْها خَلْخَال وقد ستره السَّراويل فهو لا يَبين للنَّاس، لكن بعض النِّساء للفتنة -والعِيَاذ باللهِ- تضرب برجلها حَتَّى يُسمع الخَلْخَال ويعرف أن عَلَيْها خلخالًا، فنهى الله سبحانه وتعالى المُؤْمِنات أن يفعلن ذَلِك؛ أي: أن يَضْربن بأرجلهنَّ لِيعلمَ ما يخفين من زينتهنَّ، والنَّهي هُنا للتَّحْريم، ولهَذَا قَالَ:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} .

ص: 190

و (اللَّام) في قَوْلهُ: {لِيُعْلَمَ} هل هي للتَّعليل أو للعاقبة؟ المَعْنى يختلف، فإذا قلت: إنها للتَّعليل صَارَ النَّهْي منصبًّا على ما إِذَا قَصَدت ذَلِك؛ أي: ضربت برجلها لأجل أن يُعلمَ، وعلَيْه فلو ضربت برجلها على حشرة مثلًا أو على عقرب أو ما أشبه ذَلِك وسمع الخلخال فإنَّه لا حرج عَلَيْها في ذَلِك، لأنَّها لم تقصد أن يعلم ما تخفي من زينتها، وإذا جعلنا (اللَّام) للعاقبة، يعني: لا تضرب برجلها فإن عاقبة هَذَا الضرب أن يعلم ما تخفي من زينتها، فصَارَ النَّهْي عن الضرب بالرّجل مطلقًا سواء أَرَادَت ذَلِك أم لم ترده، لا شَكَ أنَّنا إِذَا نظرنا إلى المحذور من هَذَا الضرب وهو عِلْم ما أُخْفِي من الزِّينَة فإن هَذَا محذور.

لا فرق بين أن تَكُون المَرْأَة قاصدة له أم غير قاصدة، هَذَا المحذور سيحصل إِذَا ضربت حَتَّى سُمِع صوتُ الخَلْخَال، وعلى هَذَا فيُرجَّح أن يمُون اللَّام للعاقبة، ذَلِك لأَن المحذور سيقع، وإذا نظرنا إلى أن المَرْأَة إِذَا لم ترد هَذَا الشَّيء فقد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنياتِ"

(1)

، وهي ضربت برجلها لا لهَذَا الغرض فلا تَكُون آثمة به.

ولام التَّعليل وردت كثيرًا في القُرْآن كقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقَوْله تَعَالَى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، هم لم يلتقطوه لِذَلك إنما التقطوه ليَكُون قرة عين لهم، لكن العاقبة صَارَت هكذا.

فعَلَى كُلِّ حَالٍ الَّذِي يظهر أن ترجيح كون اللَّام للعاقبة أولى، وَذلِك لأَن المفسدة والْفِتْنَة حاصلة سواء أَرَادَات أو لم ترد، إِذَا كَانَ لا يجوز لها أن تضرب

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، حديث رقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال

"، حديث رقم (1907)، عن عمر بن الخطاب.

ص: 191

بالرّجل خوفًا من ظهور صوت الخلخال فما بالك بمن تظهر الخلخال نفسه وتظهر الأسورة في اليدين وتظهر القلادة على العنق فيَكُون هَذَا أَشَدّ وأولى بالنَّهْي والتَّحْريم، ولذَلك عمل النِّساء الآن لا شَك أنَّه محرم.

وإننا في الحَقيقَة نحنُ وهنَّ معرضون لِذَلك، كَيْفَ نرى هَؤُلَاءِ النِّساء ينتهكن ما نهى الله عنه سبحانه وتعالى علنًا ولا نجد أحدًا ينهاهنَّ ويقول: هَذَا حرام، المَرْأَة في ظني تتقصد إظهار اليد ليرى ما عَلَيْها من الحلي؛ ولِذَلك تجدها أحيانًا لا تظهر إلا اليد الَّتِي في الحلي، وهَذَا أيضًا من العَمَل المشين الَّذِي استعمله النِّساء.

فكونها تملأ إِحْدَى اليدين بالحلي وتجعل اليد الأُخْرَى بيضاء أو لَيْسَ فيها إلا ساعة فيها سير أيضًا ففي النَّفس من هَذَا شَيْء؛ لأَن الظَّاهِر أنَّه من جنس الَّذِي يمشي بنعل واحدة، وقد نهى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرَّجل بنعل واحدة

(1)

، لما في ذَلِك من عدم العَدْل بين الرجلين، والعَدْل مأمور به، فكونها مثلًا تريد أن تملأ يدًا من الحلي ويدًا خالية هَذَا في النَّفس منه شَيْء، فنقول: الأولى أن تلبس الحلي على حد سواء في اليدين، اللهم إلا إِذَا كَانَت إِحْدَى اليدين فيها ساعة وأَرَادَت أن تنقص من الأسورة بقدر ما تأخذه الساعة من المساحة فهَذَا ربما يقال: إنه عدل ولَيْسَ فيه شَيْء.

عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ الله سبحانه وتعالى نهى أن تضرب المَرْأَة برجلها خوفًا من أن يعلم ما تخفي من الخلخال لظهور صوته، وما علَيْه النِّساء اليوم أَشَدّ وأعظم، ولهَذَا لا يجوز للنِّساء أن يفعلن ذَلِك، حَتَّى عند القائلين بأن الوجه والكف لَيْسَ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة، حديث رقم (5855)؛ ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب لبس النعل اليمنى أولًا والخلع، حديث رقم (2097)، عن أبي هريرة.

ص: 192

بعورة يرون أن الذراع عورة، وأنه لا يجوز للمَرْأة أن تبدي ذراعها المحلى بالأسورة، لكن الْأَمْر مشكِل.

قَوْلهُ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مِمَّا وَقَعَ لَكُمْ مِنْ النَّظَر المَمْنُوع مِنْهُ وَمنْ غَيْره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تَنْجُونَ مِنْ ذَلِك لِقَبُولِ التَّوْبَة مِنْهُ، وَفِي الآيَة تَغْلِيب الذُّكُور عَلَى الْإِنَاث] اهـ.

قَوْلهُ: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} هَذَا أمر من الله سبحانه وتعالى لعباده المُؤْمِنِينَ موجه لكل النَّاس توبوا أيها المُؤْمِنُونَ، وإنما وجه الخِطَاب للجميع لأَن هَذِهِ المُنْكرات إِذَا أُظْهِرَت عم بلاؤها الجميع، فلهَذَا وجه الله الخِطَاب للجميع {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} ثم تأمل تأكيد هَذَا الْأَمْر بقَوْلهُ:{جَمِيعًا} : {أَيُّهَ} النِّداء: {أَيُّهَ} كل هَذِهِ مغريات توجب إغراء الْإِنْسَان، أو هي لإغراء الْإِنْسَان على التَّوبة وأن تَكُون التَّوبة جماعية، لا يكفي أن يتوب واحد، والباقي يعلن فسقه ومخالفته.

ثانيًا: {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} النِّداء سبق أنَّه يدُلّ على أهميته، ولهَذَا وجه الخِطَاب بالنِّداء لبَيان الاعتناء به، وأيضًا وصف المُؤْمِنِينَ دَليل على أن الإِيمَان يقضي بتوبة المُؤْمِن وأنه لا يهمل ولا يغفل عن الذُّنوب، وأن عدم التَّوبة نقص في الإِيمَان.

ما هي التَّوبة؟

التَّوبة هي الرُّجوع من معْصِيَة الله إلى طاعته، وهي نوعان:

النَّوع الأوَّل: التوبة المطلقة يستحق التائب بها أن يوصف بأنه منْ التَّوابين الَّذينَ يحبهم الله، وهي التَّوبة من جميع المعَاصِي بحيث يقلع الْإِنْسَان عن كل معْصِيَة يعملها قولية كَانَت أو فعلية أو عقدية، هَذِهِ هي التَّوبة المطلَقة الَّتِي يستحق فاعلها الثَّناء وأن يَكُون من التَّوابين الَّذينَ يحبهم الله عز وجل.

ص: 193

النَّوع الثَّاني: التوبة المقيدة من ذنب معين فهَذِهِ لصاحبها من الثَّناء ما يستحقه، والصَّحيح أن هَذِهِ التَّوبة توبة مقبولة، فإذا تاب الْإِنْسَان من ذنب وهو مُصر على غيره فتوبته منه على القَوْل الراجح صحيحة ومقبولة؛ لأَن الإِيمَان يتبعض، والأعمال تتبعض، والله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم ولا يخذل، فهَذَا الرَّجل الَّذِي تاب من ذنب وهو مُصِرّ على غيره الصَّحيح أنَّه تقبل توبته وأنه لا مانع من ذَلِك، لكن لا يستحق ما سبق من كونه تائبًا على وجه الإطلاق ومن التَّوابين الَّذينَ يستحقون الثَّناء المُطلق، فله من الثَّناء بحسب ماحصل له من التَّوبة.

هَذَا الْأَمْر {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} يتوجه إلى أي القسمين المقيد أو العامّ؟

الجواب: العامّ المطلَق، يعني توبة مطلقة عامَّة من جميع الذُّنوب لأجل أن يحصل الفلاح، و (لعل) في قَوْلهُ:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} للتَّعليل؛ أي: أن التَّوبة سبب للفلاح، والفلاح في الحَقيقَة لَيْسَ كَلِمة هينة، الفلاح مثل الفوز، هو عِبارَة عن النَّجاة من المرهوب وحصول المَطْلوب، قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ، ففي قَوْلهُ:{زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} [آل عمران: 185]، النَّجاة من المرهوب، وفي قَوْلهُ:{وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} حصول المَطْلوب.

[والفلاح أيضا هنا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ما قيده الله][*] بالدُّنْيَا ولا بالْآخِرَة فدل ذَلِك على أن الفلاح بالتَّوبة يَكُون في الدُّنْيَا وفي الْآخِرَة، وهو كَذلِكَ فإن التائب يحصل له الفلاح في الدُّنْيَا وفي الْآخِرَة.

ولماذا أتى المُفَسِّر رحمه الله بهَذه الجُمْلَة، وفي الآيَة تغليب الذكور على الإناث، مع أن هَذَا كثير في القُرْآن؟

الجواب: لأَن الخِطَاب موجه للنِّساء في هَذِهِ الآيَة، لو كَانَ من الأَصْل موجهًا للذكور ما احتيج إلى هَذِهِ الجُمْلَة الَّتِي ذكرها المُفَسِّر، لكن لما كَانَ الخِطَاب في الآيَة

[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع، واستدركناه من (التفسير الثمين)

ص: 194

الْكَرِيمَةِ موجهًا إلى النِّساء ثم قَالَ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} لم يقل: توبوا إلى الله جميعًا أيها المُؤْمِنات نقول: هَذَا لأجل التغليب.

ثم إن توجيه الخِطَاب مع أنَّه للذكور -فإنَّه يشمل النِّساء بلا شَكٍ- ففيه إِشارَة والله أعلم إلى رعاية الرَّجل للمَرْأة، وأنه لا بُدَّ من أن يتوب هو نفسه يُعَدِّل أهله وقد قَالَ اللهُ تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

فنقول: توجيه الخِطَاب إلى الذكور مع أن الآيَة كلها خطاب للنِّساء فيه إِشارَة إلى رعاية الرَّجل للمَرْأة وأن المَرْأَة لا تستقيم إلا باستقامة الرجل، والواقِع شاهد لِذَلك الآن، ما أسباب تفريط النِّساء عندنا؟ هنَّ طبعًا مائلات لهَذَا الشَّيء، فالسبب المباشر النِّساء، لكن عدم رعاية الرِّجَال لهنَّ هَذَا هو الَّذِي أوجب لهنَّ هَذَا التوسع الَّذِي لا يقره الشَّرع، لِذَلك لو كَانَ كل واحد من النَّاس قد جند نفسه لحماية امرأته لم يحصل هَذَا الشَّرُّ، والعجيب أن الْإِنْسَان منا تجده مُجَنِّدًا نفسه لحماية ماله؛ الصُّندوق خزانة حديدية وله مفتاحان والمفاتيح في جيبه دائمًا، ولو كَانَ عنْدَه مثلًا واحد في الألف خوف على هَذَا المال قَالَ: أضعه في البنوك؛ حماية له، ويحسب، وينظر، ماذا نقص اليوم، وماذا حصل؟

والأهل الَّذينَ هم في الحقيقَة حياة الْإِنْسَان لا يهتم بهم، أولاده سارحين، وبناته سارحات، ولا ينظر، لو أنَّنا اعتنينا بأهلنا نصف ما نعتني بأموالنا لحصل شَيْء كثير، مع العِلْم بأنَّنا نعتني بأموالنا لغيرنا، لا لنا؛ لأَن هَذَا المال المُكَدَّس لن يتبعك، سوف يرجع، لكن أهلك إِذَا أصلحهم الله على يديك كنت في الحَقيقَة تصلحهم لنفسك؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَان انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ

ص: 195

ثَلَاثٍ: - وذكر منها - ووَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"

(1)

.

مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكرِيمَةِ:

الفَائِدةُ الأُولَى: وُجوب التَّوبة؛ لقَوْلهُ: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} ، ولا حاجة إلى ذكر شروط التَّوبة لأنَّها سبقت عدة مرات وانها خمسة شروط، ففي الآيَة دَليل على وُجوب التَّوبة.

الفَائِدة الثَّانية: محبَّة الله للتوبة؛ لأنَّه أمر بها، والله عز وجل لا يأمر إلا بشَيْء يحبه، وأيضًا من عنايته بها أكدت بهَذه التَّأكيدات {جَمِيعًا} {أَيُّهَ} {الْمُؤْمِنُونَ} وقد ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ:"للهُ أَشَدّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَح: اللهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ"

(2)

.

الحقيقَة نحنُ الآن نتخيل هَذَا الفرح لكن هل نحنُ نتصوره؟ لا نتصوره، يعني مهما بلغت مخيلتنا من القوة وإدراك الْأُمُور الغائبة لا يُمْكِن أن نتصور حقيقته، الآن نتخيل أنَّه فرح عَظِيم لأنَّه عِبارَة عن فرح بالحَياة بعد الموت، لكن عنْدَما يقع لِلإنْسان هَذَا الشَّيء يجد أنَّه لا نظير له ولا يُمْكِن أن يوجد له نظير، فالله

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الْإِنْسَان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم (1631)، عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، حديث رقم (6308)؛ ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، حديث رقم (2747)، عن أنس بن مالك.

ص: 196

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع كمال غناه عنا وكمال حاجتنا وفقرنا إلَيْه يفرح بتوبة عبده المُؤْمِن أَشَدّ من فرح هَذَا الرَّجل براحلته، ولهَذَا أمر الله تَعَالَى بالتَّوبة مع العناية بها بتأكيدها بهَذه الوجوه الثَّلاثة.

الفَائِدة الثَّالِثَة: كرم الله تَعَالَى وفضله، نأخذ الكرم والفضل من محبته للتوبة، يعني كونه يحب أن يتوب النَّاس حَتَّى لا يعاقبهم يدُلّ على كرمه وفضله وأن رحمته سبقت غضبه، بخلاف من لا رحمة عنْدَه، لنفرض مثلًا مدرسًا أو ملكًا أمر بشَيْء أو نهى عن شَيْء، قد يَكُون بعض الَامرين أو النَّاهين يحب من النَّاس المخالفة لأجل أن يعاقبهم، فيُظهر بِذَلِك سيطرته عليهم، من أجل أن يعرفوا أنَّه له أمر وله نهي وله سلطة وله سيطرة، والله جَلَّ وَعَلَا مع كمال هَذَا الْأَمْر له كمال السلطان، مع ذَلِك يحب من عباده أن يتوبوا حَتَّى لا يعاقبهم، وبهَذَا نستدل على كمال رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده وفضله وإحسانه.

الفَائِدة الرَّابِعَة: أن التَّوبة من مُقتَضيات الإِيمَان؛ لقَوْلهُ: {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} ، صحيح أن الإِيمَان لا بُدَّ أن يحمل صاحبه على التَّوبة، ولهَذَا قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(1)

، انظر متى ينتفي عنه الإِيمَان؟ حين يزني، لا يُمْكِن لإنسان مُؤْمن حَقِيقَة إلا ويترك ما حرم الله علَيْه ويفعل ما أوجب الله عليه، واعلم أنَّه إِذَا وقعت منك معْصِيَة فإن ذَلِك من لازم نقص إيمانك، ولهَذَا كَانَ مذهب أهْل السُّنَّة والجَماعَة رحمهم الله أن الإِيمَان يزيد بالطَّاعة وينقص بالمعصية، هَذَا مذهب أهْل السُّنَّة والجَماعَة ونحن منهم إِنْ شَاء اللهُ.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب إثم الزناة، حديث رقم (6809)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب بَيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس، حديث رقم (57)، عن أبي هريرة.

ص: 197

فعَلَى كُلِّ حَالٍ أقول: إن التَّوبة من مُقتَضيات الإِيمَان، وأن من فرط فيها فهو دَليل على نقص إيمانه، وإذا كَانَ المفرط بالتَّوبة يستدل بعمله هَذَا على نقص الإِيمَان فالفاعل للمعصية الَّذِي يباشر المعْصِيَة مِنْ بَابِ أَوْلَى، ولهَذَا أشرنا إلى الحَديث الَّذِي قَالَ فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ".

الفَائِدة الخَامِسَة: أن من لم يتب فهو ناقص الإِيمَان؛ لأَن التَّوبة من مُقتَضيات الإِيمَان، وعلى حسب مَعْصِيَته يَكُون نقص إيمانه.

الفَائِدة السَّادِسَة: أن التَّوبة سبب للفلاح؛ لقَوْلهُ: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح هو النَّجاة من المرهوب وحصول المَطْلوب.

الفَائِدة السَّابِعَة: إِثْبات الأَسْباب حيث جعل الله التَّوبة سببًا للفلاح، ففيه رد على من أنكروا الأَسْباب، وقالوا: إن الأَسْباب مُجرَّد عَلامَات لا موجبات، وهَذَا مذهب الأشعرية الَّذينَ يرون أن الأَسْباب عَلامَات لا موجبات، فهم يَقُولُونَ: الرَّجل إِذَا كسر الزجاجة لم تنكسر بكسره وإنما انكسرت عند كسرها، والنَّار إِذَا أحرقت لم تحرق يعني لم يحترق الشَّيء بسببها وإنما احترق عندها لا بها، الْإِنْسَان إِذَا أكل حَتَّى شبع لم يشبع بالأكل شبع عند الأكل لا به، لو وضع عنْدَه كثير من الطَّعام ولم يأكل هل يشبع أو لا؟ لا يشبع.

عَلَى كُلِّ حَالٍ هَذَا قَوْل باطل لَيْسَ له إطلاقًا محل من الصِّحة، وحتى العَقْل ينكره، لكن أقول: هَذِهِ الآيَة وكثير من الآيَات تثبت الأَسْباب وتدل على أن الأَسْباب مؤثرة في مسبباتها.

ولو قَالَ قَائِلٌ: إِذَا جعلتم الأَسْباب مؤثرة في مسبباتها ألستم أثبتم مع الله خالقًا وموجدًا؟

ص: 198

الجواب: لا، لم نثبت موجدًا؛ لأنَّنا لا نقول إن الأَسْباب تستقل بتأْثِيرها، بل الأَسْباب إنما كَانَت أسبابًا بإرَادة الله سبحانه وتعالى، ولهَذَا أحيانًا يوجد السَّبَب تامًّا ولا يؤثر لِوُجود مانع معْلُوم أو غير معْلُوم، فلا يُمْكِن أنْ يقولَ قائل: إنكم إِذَا أثبتم الأَسْباب أثبتم مع الله شريكًا في الإِيجَاد والتكوين نقول: لا، الَّذِي جعل هَذَا السَّبَب سببًا مقتضيًا لمسببه هو الله عز وجل، ولهَذَا نرى كثيرًا ما تتخلف المسببات مع وجود الأَسْباب التَّامَّة مما يدُلّ على أن قدرة الله عز وجل فوق كل شَيْء وأن هَذِهِ الأَسْباب لَيْسَت مستقِلَّة، لكن لا يُمْكِن أن ننكر أمرًا أثبته الشَّرع وأثبته الواقِع من أن الأَسْباب تؤثر في المسببات.

* * *

ص: 199