الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (52)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52].
* * *
قَوْلهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ} .
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [يَخَافُهُ {وَيَتَّقْهِ} بِسُكُونِ الهَاء وَكَسْرهَا، بِأَنْ يُطِيعُهُ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} بِالجنَّةِ] اهـ.
هَذه الآيَة من أجمع الآيات وأخصرها {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بانقياده لأحكام الله ورسوله، وسبق أن الطَّاعة موافقة الْأَمْر نهيًا كَانَ أو أمرًا، يعني طلب إيجاد أو طلب ترك.
قَوْلهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} الطَّاعة لله ورسوله، والخَشْيَة عبادة والتَّقْوى عبادة؛ لا تَكُون إلا لله وحده، ولهَذَا قَالَ:{وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} .
قَوْلهُ: {وَيَتَّقْهِ} - بسكون الهاء وكسرها - "وَيَتَّقِه" و"وَيَتَّقهِ"
(1)
.
وقَوْلهُ: {وَيَخْشَ اللَّهَ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [يخافه]، ولكن هَذَا التفسير قاصِر؛ لأَن الخَشْيَة أَشَدّ من الخَوْف، والفَرْق بينهما:
(1)
حجة القراءات (ص: 503).
أولًا: أن الخَشْيَة لا تَكُون إلا عن علم؛ لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]؛ فالعالم هو الَّذِي يخشى الله؛ لأنَّه يخافه عن علم بحَقِيقَة المخوف وحال الخائف، فهو يعلم حال المخوف ويعلم حال الخائف.
ثانيًا: أن الخَشْيَة إنما تَكُون لعظم المخشي، وإن كَانَ الخاشي عَظِيمًا، والخَوْف يَكُون من ضعف الخائف؛ والفَرْق بينهما ظاهر.
ثالثًا: الخَشْيَة خوف بهيبة وتعظيم وإجلال، وهي متفرعة عن الفَرْق الثَّاني، والخَوْف لا يَكُون كَذلِكَ، أي: لا يَكُون عن رهبة وتعظيم وإجلال، ولذَلك يُقال: خاف من الذئب، ولا يُقال خشي منه أو خشيه إلا على سبيل التوسع.
فهَذه الفروق الثَّلاثة توجب ألا تَكُون الخَشْيَة بمَعْنى الخَوْف على وجه المُطابقة، نعم على وجه التقريب، لا بأس أن الْإِنْسَان يَقُول: إن الخَشْيَة بمَعْنى الخَوْف ليقربها إلى أفهام السامعين لا على أن الخَوْف هو المَعْنى المطابق للخشية.
قَوْلهُ: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} نتكلَّم عن القراءات الَّتِي فيها:
{وَيَتَّقْهِ} ، وفيها:"وَيَتَّقِه"، وفيها قِراءَة ثالثة لحفص لم يذكرها المُفَسِّر رحمه الله، وهي:{وَيَتَّقْهِ} - بسكون القاف وكسر الهاء -.
أما قِراءَة "وَيَتَّقِهِ"، بالكسر؛ سواء أشبعنا الهاء أم لم نشبعها، وهما قراءتان أيضًا:"وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ" و"وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ"؛ ففيها قراءتان: الإشباع، وعدمه. هَذِهِ القِراءَة واضحة ولَيْسَ فيها إِشْكال؛ لأنَّها متمشية على ما نعرف من القواعد العربيَّة (يتقه) مثل (يرمه): معطوفة على فعل الشَّرط {يُطِعِ} وهو مجزوم والمعْطُوف على المجزوم مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العِلَّة، يعني: حذف الياء، والكَسْرة
قبلها دَليل عَلَيْها، والهاء في قَوْلهُ:"وَيَتَّقِهِ" مفعول (يتَّق)، وهي: ضمير مبني على الكَسْرة، لكن على قِراءَة "وَيَتَّقِه" - سكون الهاء - على خلاف الَّذِي نعرف من اللُّغَة العربيَّة، فنقول: سكنت للتخفيف، لأَن "وَيَتَّقِه" أخف من "وَيَتَّقِهِ" فهي مسكنة للتخفيف.
على قِراءَة حفص {وَيَتَّقْهِ} سكنت مع أنَّها مجزومة بحذف حرف العِلَّة؛ لأَن (يتَّقي) لا شَك أنَّه فاعل ناقص آخِره حرف عِلَّة، فالإِشْكال الآن في تسكين القاف مع أن الفِعْل معتل آخِره لَيْسَ حرفًا صحيحًا، والمعتل يجزم بحذف حرف العِلَّة؛ فلماذا سكن؟
يُقال: إما أنَّه سكن تخفيفًا {وَيَتَّقْهِ} أو سكن على تناسي حرف العِلَّة، كأن حرف العِلَّة نسي وصَارَ فعلًا صحيحًا، والفِعْل الصَّحيح يجزم بالسكون.
والتَّقْوى: تقدَّم كثيرًا في تفسير التَّقْوى بأنَّها اتخاذ وقاية من عَذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فما الرَّبط بينها وبين الخَشْيَة؟
يقال: التَّقْوى في الحَقيقَة نتيجة الخَشْيَة؛ لأَن من خشي الله اتَّقاه، الَّذِي يخافه بهيبة وتعظيم وإجلال لا بُدَّ أن يتقيه، فالرَّبط بينها وبين الخَشْيَة أنَّها فرع عنها ونتيجة منها، فمن خشي الله اتَّقاه بلا شَك؛ لأَن نفس الخَشْيَة عبادة فتحصل التَّقْوى، فكون الْإِنْسَان في قلبه خوف من الله وتعظيم له هَذِهِ عبادة من أعظم العِبادات، والطَّاعة في الغالِب لا تَكُون إلا عن محبَّة، فحينئذٍ تَكُون الخَشْيَة؛ لأنَّه لا يُمْكِن لِلإنْسان أن يطيع أحدًا في شَيْء إلا عن محبَّة للآمر أو للمأمور أو خوفًا منه، أما إِذَا كَانَ يبغض الْأَمْر فلا يُمْكِن أن يطيعه وهو يسْتَطيع أن يتخلص منه؛ لأَن من لم يحب شخصًا فلن يطيعه إلا خوفًا منه.
لو قَالَ قَائِلٌ: إِذَا قُلْنا: إن التَّقْوى اتِّخاذ وقاية من عَذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ألَيْسَت هَذه الطَّاعة؟
الجواب: هي في الحَقيقَة الطَّاعة، ولكن ليكن عندنا قاعِدَة لا بُدَّ أن نفهمها، وهي: أن بعض الكَلِمات تفسَّر بمَعْنى عند الانفراد وبمَعْنى آخر عند الاقتران، فقد تَكُون عند الانفراد شاملة لهَذَا المَعْنى، وقد تَكُون عند الاجتماع بعضًا منه، وأمثال ذَلِك كثير؛ مثلًا: الفَقِير والمِسْكين، عند الانفراد الفَقِير يشمل المِسْكين، والمِسْكين يشمل الفَقِير، لكن عند الاجتماع يَكُون الفَقِير بعضًا من المِسْكين، والمِسْكين بعضًا من الفَقِير، بمَعْنى أنَّنا نقول: الفَقِير كذا والمِسْكين كذا؛ لأجل ألا يحصل التَّرادُف بين الكلمتين؛ فتضيع فَائِدَة العَطْف.
لو قَالَ قَائِلٌ: الكَلِمات الَّتِي إِذَا اجتمعت افترقت، هل يَكُون بينها صلة حال الافتراق؟
الجواب: ما دام أن الكَلِمة إِذَا انفردت تكُون بمَعْنى الثَّانية لا بُدَّ أن يَكُون بينها صلة؛ فالفَقِير والمِسْكين بينهما صلة، وهي الحاجة، وكَذلِك التَّقْوى: ترك النَّواهي والطَّاعة فعل الأوامر بينهما صلة، وهي الامتثال.
لو قَالَ قَائِلٌ: هل التَّرادُف المطلَق يوجد في اللُّغَة العربيَّة؟
الجواب: التَّرادُف المطلَق لا يُمْكِن أن يوجد في اللُّغَة العربيَّة؛ لأنَّه تكرار بلا فَائِدَة لا سيَّما مع وجود العَطْف، أما مع عدم وجود العَطْف فقد يَكُون من باب التَّوكيد؛ لأَن العَطْف يقْتَضِي المُغايَرَة، فالاتفاق في الحُكْم والتغاير في المَعْنى، أي: أن الكَلِمة المعْطُوفة غير الكَلِمة المعْطُوف عَلَيْها لكن الحُكْم واحد، مثلًا: قام زيد وعمرو
وبكر وخالد، فالحُكْم على الجميع واحد، لكن عمرو وبكر وخالد غير زيد، فالمُغايَرَة تَكُون في المَعْنى.
أما موافقة الحُكْم فيما بين المعْطُوفات بعضها مع بعض فهو ضروري، فأصل العَطْف معناه أن هَذَا انعطف على ذاك فأصبح له حكمه، لكن هَذَا غير هَذَا، فلا تأتي وتقول: قام زيد وزيد، ويَكُون زيد الثَّاني هو الأوَّل، لكن يجوز أن تقول: قام زيد وزيد، وَيكُون زيد الثَّاني هو الأوَّل من باب التَّوكيد.
قَوْلهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (الفاء) في قَوْلهُ: {فَأُولَئِكَ} واقعة في جواب الشَّرط؛ لأَن الجُمْلَة اسمية، وإذا كَانَت الجُمْلَة اسمية في جواب الشَّرط وجب قرنها بالفاء، ولا تسقط الفاء إلا عند الضَّرورة، مثل قَوْل الشَّاعر
(1)
:
مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها
…
.........................
ولم يقل: فالله يشكرها.
وقَوْلهُ: {هُمُ الْفَائِزُونَ} فيها ما سبق في ضمير الفصل، والذي سبق أن مِنْ فَوَائِدِ ضمير الفصل والحصر والاختصاص والتمييز بين الخبر والصفة والتَّوكيد، وقَوْلهُ:{الْفَائِزُونَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بِالجَنَّةِ]. اهـ. يعني هَؤُلَاءِ الفائزون بالجَنَّة والنَّجاة من النَّار أيضًا، كما قَالَ اللهُ عز وجل:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، واقتصار المُفَسِّر على الجَنَّة فقط؛ لأَن من دخل الجَنَّة فقد نجا من النَّار.
(1)
تفسير القرطبي (2/ 258).
فهَذه الآيَة من أجمع الآيَات، لأنَّها جمعت إجمالًا أَسْبَاب الفوز، وهي هَذِهِ الْأُمُور الثَّلاثة: طاعة الله، وخشيته، وتقواه. فمتى حصلت هَذه الْأُمُور لشخص فإنَّه يَكُون من الفائزين.
ويُستَفاد من هذِه الآيَةِ أنَّ الطَّاعة والخَشْيَة والتَّقْوى هَذِهِ الثَّلاث فَائِدَتها الفوز بالجَنَّة والنَّجاة من النَّار.
* * *