الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (34)
* * *
قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور: 34].
* * *
قَوْلهُ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْرهَا فِي هذه السُّورَة بَيِّن فِيهَا مَا ذُكِرَ أَوْ بَيِّنَة] اهـ.
قَوْلهُ: "مُبَيَّنَاتٍ"
(1)
هل المَعْنى: بَيَّنت أو بُيِّن فيها ما ذكر؟ المَعْنى بُيِّن فيها ما ذكر، لكن {مُبَيِّنَاتٍ} أي: بَيَّنت.
قَوْلهُ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} (اللَّام) في قَوْلهُ: {وَلَقَدْ} واقعة في جواب القسم وهي للتَّوكيد و (قد) كَذلِكَ للتَّوكيد، وعلَيْه فهَذه جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر واللَّام وقد، وإنما أكد الله سبحانه وتعالى هَذَا بهَذه المؤكدات الثَّلاثة للأهمية، وأننا إِذَا علمنا أن هذه آيَات مبينة فإن ذَلِك سوف يستلزم منا الاعتناء بهَذه الآيات.
وقَوْله تَعَالَى: {أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ} ما المُراد بالآيات هُنا الشَّرْعِيَّة أم الْكَوْنِيَّة؟ الظَّاهِر أنَّها الشَّرْعِيَّة وهي الوَحْي الَّذِي نزل على الرَّسُول صلى الله عليه وسلم؛ لأَن الإنزال يتفق
(1)
حجة القراءات (ص: 498).
معها أكثر مما يتفق مع الْكَوْنِيَّة، وفي قَوْلهُ:{أَنْزَلْنَا} ، أي: بالوَحْي الشَّرعي لأنه ينزل حَقِيقَة من العلو إلى السُّفل؛ ولأَنَّهُ ينزل من الله عز وجل على قلب النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام، فهو نزول حقيقي، وقد حرفه بعضهم إلى أن المُراد بالإنزال: الوَحْي، فقال:{أَنْزَلْنَا} يعني أوحينا، وقال: إن النُّزول لا يَكُون إلا من أعلى ولا يَكُون إلا في جُرم، يُقال: نزل الْإِنْسَان من السطح إلى الأَرْض، والقرآن لَيْسَ كَذلِكَ، ولا شَك أن الَّذِي يَقُول هَذَا الكَلام ينكر علو الله، ولهذَا أهْل السُّنَّة والجَماعَة من جملة ما استدلوا به على علو الله: أن الله أنزل القُرْآن على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: يلْزَم من الإنزال أن يَكُون المُنزِل عاليًا، لكن الَّذِي يفسره بالوَحْي بحجة أن الشَّيء النَّازل ذو جرم، والقرآن لَيْسَ ذا جرم وإنما هو قولٌ ينزل، فهَذَا لا شَكَّ أنه محرف لكلام الله عز وجل.
ونحن نقول: إن القُرْآن ينزل كما قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا، وإن كَلِمة ينزل غير كَلِمة يوحى بل لها معنى آخر خاص، ثم إنه ما المانِع من أن يَكُون النُّزول في الْأُمُور المعنويَّة وَيكُون النُّزول إِذَا أضيف إلى الْأُمُور الحسية فهو لذوات الأجرام، وإذا أضيف إلى الْأُمُور المعنويَّة فله معنى آخر، ألَيْسَ الله يَقُول:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]، والسكينة ليست حجرًا يُلقى في الْقَلْب، بل هي أمرٌ معنويٌّ، فإِذَنْ النُّزول يَكُون في الْأُمُور المعنويَّة.
ثم ما المانِع أن يَكُون القُرْآن أيضًا له جرم، ولكنَّنا لا نعرف هَذَا الجرم؛ لأَن الله يَقُول للرَّسول صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5] المزمل: 5]، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نزل علَيْه الوَحْي وهو راقد على رجل حذيفة حَتَّى كاد يَرُضّها
(1)
،
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم (2832).
وأنه كَانَ ينزل علَيْه الوَحْي وهو على الراحلة فتبرك به
(1)
، فما المانِع من أن يَكُون جُرمًا لكنَّه لَيْسَ كالأجرام المعْرُوفة، والله أعلم.
والله تَعَالَى يجعل الْأُمُور المعنويَّة أمورًا حسية، ألم تر إلى الموت يوم القِيامَة يُمثل بكبش يشاهده النَّاس من أهل النَّار ومن أهل الجَنَّة ويُذبح أمامهم
(2)
، كما أن الأعْمَال توضع في الموازين يوم القِيامَة، والأعمال أصلها معانٍ لا أجرام، والله سبحانه وتعالى على كل شَيْء قدير، وقدرته تَعَالَى فوق عقولنا.
فهَذه الآية فيها دَليل صريح على أن الله أنزل القُرْآن من عنْدَه وأن النُّزول لَيْسَ بمَعْنى الوَحْي فقط، بل هو معنى خاص أخص من الوَحْي.
وقَوْلهُ: {آيَاتٍ} جمعها، وحَقِيقَة الْأَمْر أنَّها كَذلِكَ؛ لأَن القُرْآن لَيْسَ حكمًا واحدًا ولا خبرًا واحدًا، أَخْبار كَثيرَة وأحكام كَثيرَة، فهو {آيَاتٍ} بمَعْنى عَلامَات، عَلامَات على عظمة من أنزلها وعلى صدق من جاء بها صلى الله عليه وسلم.
ووجه كونها آيات، أنك إِذَا تأملت الأَحْكام الَّتِي جاءت بها هذه الآيات وجدتها مطابقة تمامًا فيما هو مراد ودفع الضرة فيما لَيْسَ بمراد، ووجدت أيضًا أن أَخْبارها في غايَة ما يَكُون من المصْلَحة والمنفعة، ووجدت لها تأْثِيرًا بالغًا، ومن جملة تأْثِيرها حفاوة الأُمَم الَّذينَ كانوا يناضلون الإِسْلام فدخلوا في دين الله أفواجًا
(1)
أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراءة على الدابة، حديث رقم (5034)؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ذكر قراءة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سورة الفتح يوم فتح مكة، حديث رقم (794).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وأنذرهم يوم الحسرة، حديث رقم (4730)؛ ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها، حديث رقم (2849)، عن أبي سعيد الخدري.
بمجرد أنهم سمعوا القُرْآن ورأوا آدابه وأخلاقه، ثم إن هَذَا التأْثِير - لمن ألقى السمع أو كَانَ له قلب - تأْثِير لا يوجد له نظير.
فإذا صفي الذهن وأقبل الْإِنْسَان بقَلْبِه على القُرْآن مهما كَانَ حَتَّى ولو كَانَ غير مسلم لا بُدَّ أن يتأثر، قَدِمَ جبير بن مطعم المدينة، فسمع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلمَّا بلغ:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35، 36]، فقال رضي الله عنه: كاد قلبي أن يطير.
ومن ذَلِك الوقت ألقى الله الإِيمَان في قلبه ثم أسلم بعدُ
(1)
، الَّذِي أثار هَذَا الرَّجل كثيرًا أنه سمع القُرْآن، فهَذَا دَليل على أن القُرْآن آيَات عَظِيمة تدُلّ على عظمة من أنزلها، وعلى صدق من جاء بها وَذلِك لما تضمنته من الأَحْكام العادلة الَّتِي تبهر العقول، ولا يُمْكِن لبشر أن يأتي بمثلها.
ومن الأَخْبار الصَّادقة النَّافعة وأَخْبار موجعة للنَّفْس ومريحة لها ونافعة للقلب أيضًا {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
وقَوْلهُ: {مُبَيِّنَاتٍ} أي: تبين الحقّ من الباطل وتفصل بينهما وتميز بينهما، ثم أيضًا تبين الأَحْكام بنفْسِها، لكن منها ما يحتاج إلى بَيان من غيره ومنها ما هو بَيِّن بنَفْسِه، ففي هَذَا إِشارَهَ إلى أنه لا يوجد في الشَّرع أمر مشكِل بحسب الواقِع؛ لأَن الإِشْكال الَّذِي يقع في المَسائِل الشَّرْعِيَّة لَيْسَ لقُصور في النُّصوص ولكن لقُصور في الفَهْم أو قُصور في العِلْم، قد يَكُون الْإِنْسَان قاصِر العِلْم لا يحيط بالنُّصوص كلها،
(1)
أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب تفسير سورة (والطور)، الحديث رقم (4854)، عن جبير بن مطعم.
وقد يَكُون قاصِر الفَهْم، ومن ثَمَّ يحصل الإِشْكال، أما مع العِلْم والفَهْم التام فإنَّه لا يُمْكِن أن يوجد إِشْكال في الشَّريعة، ولِذَلك أحيانًا تعرض لي مَسْأَلة وأجد فيها إِشْكالًا، ثم في زمن آخر تعرض لي نفس المَسْأَلة ولا أجد فيها إِشْكالًا؛ لأَن صفاء الذهن وأحوال الْإِنْسَان لها تأْثِير بالغ في فهم النُّصوص.
ولهذَا أنا أرى أنه يَنْبَغِي لطالب العِلْم أن يقيد المَسائِل النَّافعة الَّتِي تعرض له ويخشى أن ينساها ولا يعتمد علَى نفْسِه، ويقول: هذه الفَائِدة واضحة ولا حاجة لتقييدها؛ لأنه قد يأتي يوم من الأيام ما فتح الله عَليْك بالأمس غير موجودٍ الآن، إما لتخلف السَّبَب أو لِوُجود المانِع، والْإِنْسَان بشر تتقلب به الأَحْوال فيُمْكِن أن تعرض له مشكلة في بيته فيخرج إلى النَّاس غضبان ولا يتحمَّل أي كَلِمة من النَّاس، ويُمْكِن أن يرضى في بيته ويخرج إلى النَّاس ويتحمَّل كل كلام منهم، فالْإِنْسَان بشر في جميع أحواله يتقلب ويتغير.
فإن القُرْآن -ولله الحمد- مُبيِّن ومُبَيَّن أيضًا، ولكن الخفاء الَّذِي يحصل لِلإنْسان إنما هو من نفسه لا من حيث الأدلَّة وَذلِك لأحد أمرين كما تقدَّم، فمن أجل أحد هَذَيْنِ الْأَمْرين يحصل الخفاء في الأَحْكام الشَّرْعِيَّة، أما الآيات الَّتِي أنزلها الله فهي آيات مُبَيَّنة مُبَيِّنة لَيْسَ فيها إِشْكال.
وقد ذكر شيخ الإِسْلام رحمه الله عِبارَة في (العقيدة الواسطية) قَالَ: "وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الحقِّ"
(1)
، هذه في الحَقيقَة عِبارَة تكتب بماء الذَّهب، وإن كَانَ الذَّهب لا يستعمل مدادًا لكن قصدي هذه عِبارَة ممتازة، من تدبر القُرْآن طالبًا الهُدَى منه تبين له طريق الحَقّ فلابُدَّ من هَذَيْنِ الْأَمْرين.
(1)
العقيدة الواسطية: اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة (ص: 74).
قَوْلهُ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} و"ومُبَيَّنَاتٍ" قراءتان سبعيتان
(1)
. قَوْلهُ: {وَمَثَلًا} : قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [خَبَرًا عَجِيبًا وَهُوَ خَبَر عَائِشَة {مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أَي: مِنْ جِنْس أَمْثَالهمْ، أَي: أَخْبَارهمْ الْعَجِيبَة، كَخَبَرِ يُوسُف وَمَرْيَم] اهـ.
يعني أنزل الله أيضًا مثلًا من الَّذينَ خلقوا من قبلكم، المُراد بالمَثَل والله أعلم هُنا ما هو أعم من الواقِع، يعني أمثالًا من الَّذينَ خلوا، ولَيْسَ هَذَا خاصًّا بخبر عَائِشَة رضي الله عنها ومريم ويوسف بل هو أعم من ذَلِك، لكن المُفَسِّر ذكره، كعادته رحمه الله أنَّه يذكر الآيات عامَّة على المَعْنى حسب السِّيَاق، صحيح أن السِّيَاق قد يقيد المطلَق وقد يخصّص العامّ لكن بِدَلِيل، أما إِذَا لم يكن دَليل على أن هَذَا خاص فالأولى العُموم.
وما ذكره في قَوْلهُ: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} في الحقيقَة قد يَكُون أعم مما ذكره المُفَسِّر رحمه الله.
إِذَنْ نزول القُرْآن أحكام شرعيَّة عُبر عنها بالآيات المبينات وأَخْبار صادقة فيها العبرة عُبر عنها بقَوْلهُ: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالًا ممَّن خلا من قبلنا فيما يَتعلَّق بالْعِفَّة والصيانة وفيما يَتعلَّق بالْأَمْر بالدِّين والإِيمَان والقدوة الحسنة، قَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة لوط قَالَ:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].
(1)
حجة القراءات (ص: 498).
فالْإِنْسَان العاقِل يفيق؛ لأَن سَنَّة الله واحدة والله جَلَّ وَعَلَا البشر بالنِّسْبَةِ إلَيْه سواء إلا بالتَّقوى.
فإذا أهلك الله أمة من الأُمَم السَّابِقة بمخالفته فهل يمتنع أن يهلك هذه الأُمَّة أيضًا؟
لا يمتنع إلا أنه يُستثنى من ذَلِك الإهلاك العامّ، الإهلاك العامّ رُفع عن هذه الأُمَة
(1)
.
وإلا فأصل العُقوبَة واردة في هذه الأُمَّة كغيرها، بل قَالَ بعض العُلَماء: إنه لم يوجد من بعد إهلاك فرعون، واستدلوا على ذَلِك بقَوْلهُ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43]، قالوا: فبعد ما نزلت التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم ما كَانَ ذاك في الأُمَم السَّابِقة يعني إهلاكًا، هَذَا هو الواقِع في الحقيقَة سواء الآية تدُلّ علَيْه أم لم تدُلّ، إنما هَذَا هو الواقِع.
قَوْلهُ: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} مثل قصة يوسف عليه الصلاة والسلام رمى بما رمي به وأنجاه الله مِنِ امرأة العزيز الَّتِي رمته بالْفَاحِشَة، والغريب أن امرأة العزيز هي الَّتِي راودته عن نفسه، وغلقت الأبواب وهيأت كل شَيْء، ولكنه عليه الصلاة والسلام بعد أن هم مع توفر الأَسبَاب وانقطاع المَوانِع ووجود الطلب والهمة بعد ذَلِك امتنع، قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، وهَذَا أعلى ما يَكُون في الْعِفَّة، خلافًا لمن ذهب يحاول في كَلِمة {وَهَمَّ} ويقول: إن المُراد بقَوْلهُ: {هَمَّتْ بِهِ} بالزِّنَا {وَهَمَّ بِهَا} ليبطش بها.
(1)
أخرجه النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب إحياء الليل، حديث رقم (1638).
لكن يقال: كمال الْعِفَّة أن تحصل مع وجود الطَّلب؛ ولهَذَا قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام في الَّذينَ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه قَالَ: "وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ"
(1)
.
لا يوجد مانع إلا هَذَا، فلَيْسَ عندهما أحد، والشَّهْوَة متوفرة والعزيمة موجودة، ومعنى العزيمة الهم، لكن منعه خوف الله عز وجل، الحاصل أن يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن همت به وهم بها وجُد الآن الطلب والسبب وانتفى المانِع حينئذٍ {رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فتح الله علَيْه فانصرف ثم تبين أن الخائن أخيرًا امرأة العزيز.
ظهر ذَلِك علنًا حَتَّى من يوسف عليه الصلاة والسلام، فمن قوة صبره ومن حكمته لما دُعي أن يخرج من السجن قَالَ:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، لم يخرج حَتَّى بان أمره، وهَذَا يعتبر من الصَّبر العَظِيم، وإلا فإن طبيعة الْإِنْسَان إِذَا كَانَ مسجونًا وقالوا له: اخرج، فإنَّه لا يتردد في الخروج، لكن هو عليه الصلاة والسلام أبى حَتَّى يَكُون بريئًا وفعلًا هَذَا الَّذِي حصل.
بالنِّسْبَةِ لمريم رضي الله عنها حصل نفس الشَّيء، اليهود اتهموها لكن هل قالوا إنها زانية؟ عَرَّضوا تعريضًا قالوا:{يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [مريم: 28]، يعني، أبوك لَيْسَ امرأ سوء وأمك لَيْسَت بغيًا فمن أين جاءك البِغَاء؟ هَذَا كلامهم.
ولهذَا اختلف العُلَماء هل يُحد بالقَذْف إِذَا عرَّض أو لا يُحد؟
والصَّحيح أنه إِذَا كَانَ التَّعريض واضحًا يُحد، بل بعض العُلَماء يَقُول: إن
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش، حديث رقم (6806)؛ ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم (1031)، عن أبي هريرة.
التَّعريض بالزِّنَا أعظم من التَّصريح به لأنه يتضمَّن قذفًا ولومًا، مثل لو جاءك خصم وقال لك أنا الحمد لله لي أب، فهَذَا أعظم من التَّصريح.
قَوْلهُ: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} [النور: 12] ، إلى آخره {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} [النور: 16] إلى آخِره، وَتَخْصِيصهَا بِالمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمْ المُنتفِعُونَ بها] اهـ.
المُفَسِّر رحمه الله ذكر هذه الآيات بناءً على عادته وهو تَخْصِيص العامّ بالسِّيَاق لأَن عادته كما تقدَّم أنَّه يخصّص العُموم بالسِّيَاق.
والصَّحيح أن العُموم لا يخصّص بالسِّيَاق وأنه يشمل ما تضمنه السِّيَاق وغيره وعلى هَذَا فهو مَوْعِظَة للمتقين في هذه الآيات الَّتِي عدها وفي غيرها، فالقرآن الكَرِيم مَوْعِظَة لكن لا يَنتفِع به إلا المتقون الَّذينَ اتخذوا وقاية من عَذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
* * *