الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (32)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} [النور: 32].
* * *
قَوْلهُ: {وَأَنْكِحُوا} لو قرأنا: (وانْكَحُوا) هل يختلف المَعْنى أو لا؟
الجواب: يختلف اختلافًا عَظِيمًا جدًّا، ولهَذَا لو أخطأ أحد في هَذِهِ الآيَة وقال:"وانْكَحُوا" وجب الرد عليه؛ لأَن هَذَا لحن يحيل المَعْنى {وَأَنْكِحُوا} بمَعْنى زوجوا، لكن (وانْكَحُوا) بمَعْنى تزوجوا، فرق عَظِيم بينهما.
قَوْلهُ: {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الخِطَاب للأحرار بِدَلِيل قَوْلهُ: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} .
وقَوْلهُ: {الْأَيَامَى} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: {الْأَيَامَى} جَمْع أَيِّم، وَهِيَ مَنْ لَيْسَ لَهَا زَوْج بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَمَنْ لَيْسَ لَهُ زَوْج وَهَذَا فِي الْأَحْرَار وَالحرَائِر] اهـ.
فقَوْلهُ: {الْأَيَامَى} الأيَّامى: جمع أَيِّم وهي الَّتِي لَيْسَ لها زوج سواء كَانَت ثيبًا مات عنها زوجها أو طلقها، أو كَانَت بِكْرًا فإنها تُسَمَّى أيمًا، وقد أمر الله تَعَالَى بإنكاحهنَّ وهو دَليل على أن المَرْأَة لا تزوج نفسها؛ لأَن قَوْلهُ:{وَأَنْكِحُوا} بمَعْنى زوجوا، فلو كَانَت المَرْأَة تزوج نفسها لم نحتج لأَن نقول لغيرها: زوجها؛ لأنَّها هي
تزوج نفسها، وهَذَا أحد الأدلَّة، ومنه قَوْله تَعَالَى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232].
ولَيْسَ هَذَا موضع البسط في مَسْأَلَة الوليِّ وعدم الوليِّ، إنما هَذَا الخِطَاب توجيه لأولياء أمور النِّساء أن يزوجهنَّ، ولم يبين الله سبحانه وتعالى مَنْ يُنْكَح، يعني من الَّذِي نزوجه؛ لأنَّنا نحنُ مأمورون بالتزويج؟ بينت ذَلِك السنة فقال صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ"
(1)
، فنزوج صاحب الدِّين والخلق، صحيحٌ أن المال مقصود حسًّا وواقعًا، وقد بيَّن النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام أن المَرْأَة تنكح لمالها
(2)
، والرّجل كَذلِكَ ينكح لماله، لكن الأَصْل هو الدِّين والخلق.
وقَوْلهُ: {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} يعني النِّساء غير المتزوجات، لكن الرِّجَال غير المتزوجين كَيْفَ ننكحهم؟ هل معناه إِذَا خطب مني أزوجه، أو معناه أعينه على الزواج أو الْأَمْرين جميعًا؟
الجواب: الْأَمْران جميعًا؛ لأَن الأيَّامى تطلق على الرِّجَال والنِّساء الَّذينَ لم يتزوجوا ولَيْسَ معهم زوجات، بالنِّسْبَةِ للإناث واضح أنَّنا مأمورون بتزويجهنَّ إنما نمنعهنَّ إِذَا خطبهم الْكُفَّار، لكن كَذلِكَ أيضًا الرِّجَال نحنُ مأمورون بتزويجهم، بمَعْنى إِذَا خطب منا الأيم نزوجه، والذي معه زوجة هل نزوجه؟ نزوجه لكن هَذَا أَشَدّ عناية.
(1)
أخرجه الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء إِذَا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، حديث رقم (1085)، عن أبي حاتم المزني.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، حديث رقم (5090)؛ ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين، حديث رقم (1466)، عن أبي هريرة.
يعني لو خطب رجلان امرأة أحَدهما معه زوجة والآخر لا زوجة معه وكلاهما في الدِّين والخلق سواء، من أقدم؟
الجواب: أقدم من لا زوجة له؛ لأنَّه أحوج ولأني أحصن فرجه، والمتزوج قد حصن فرجه من قبل.
فإِذَنْ قَوْلهُ: {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} بالنِّسْبَةِ للرجال لو كَانَ معهم زوجات مأمورون بالنِّكاح لكن إنما نص على الأيم لأنه أحوج، كَذلِكَ أيضًا يدخل في ذَلِك مساعدة الأيَّامى على الزواج أي: أن الْإِنْسَان يساعدهم، فإن هَذَا من الأعْمَال الَّتِي يؤجر الْإِنْسَان عَلَيْها؛ لأَن الزواج مقصود شرعًا وطبعًا، فإذا تزوج الْإِنْسَان فقد فعل ما أمر الله به وأدرك ما تطلبه نفسه أيضًا، ومع ذَلِك إِذَا ساعدناهم على هَذَا الْأَمْر فنحن ممتثلون لقَوْله تَعَالَى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} لأننا في الحَقيقَة زوجناه، فمساعدتنا له بالزواج هَذَا تزويج.
لو قَالَ قَائِلٌ: ما الحُكْم إِذَا أَرَادَت المَرْأَة زوجًا غير صالح؟
الجواب: إِذَا أبتْ الزَّوْج الصَّالح وأَرَادَت الزَّوج غير الصَّالح لا يقبل منها، لكن لو طلبت كُفْئًا لكن الولي يرى أن غيره أولى والذي طلبت لَيْسَ فيه قدح في دينه فيَجب أن يتبع ما تريد.
قَوْلهُ: {وَالصَّالِحِينَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: "أي المُؤْمِنِينَ {مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وَعِبَاد مِنْ جُمُوع عَبْد" اهـ.
يعني: وأنكحوا الصَّالحين؛ أي: المُؤْمِنِينَ من عبادكم وإمائكم وقول المُفَسِّر رحمه الله: [وَعِبَاد مِنْ جُمُوع عَبْد] هَذَا بالنِّسْبَةِ للمملوكين يعني هَذَا خطاب للأسياد، يعني زوجوا الصَّالحين من عبادكم وإمائكم.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: {الصَّالِحِينَ} (المُؤْمِنِينَ) حمل المُفَسِّر الصَّلاح هُنا على صلاح الدِّين وصلاح الدِّين بالإِيمَان والعَمَل الصَّالح، لكن يحتمل أن يَكُون شاملًا لصلاح الدِّين والدُّنْيَا، يعني إِذَا كَانَ لِلإنْسان رقيق صالح في دينه صالح في دنياه، بمَعْنى أنه صالح لأَن يزوج لكونه بلغ سن الزواج ولكونه عارفًا بأمور الزواج ولكونه عاقلًا لا يحصل من تزويجه مفسدة وتعطيل لحق امرأته.
المُهِمّ أنه يَنْبَغِي أن يفسر قَوْلهُ: {الصَّالِحِينَ} بصلاح الدِّين وصلاح الدُّنْيَا يعني صالحًا لأَن يَتزوج ولأن يُزوج، أما أن يَكُون عنْدَه مثلًا معتوه مجنون فهَذَا لا نؤمر بتزويجه على الإطلاق، بل إننا ننظر إِذَا لزم من عدم تزويجه مفسدة زوجناه وإلا فلا؛ لأَن هَذَا جناية على غيره.
فالحاصِل: أن الصَّالح من العباد يزوج مطلقًا، وغير الصَّالح إن دعت الحاجة إلى تزويجه لكونه يلْزَم من عدم تزويجه مفسدة، والدَّليل لَيْسَ هذه الآية، ولكن من القاعِدَة العامَّة في الشَّريعة وهي دَرْأ المفاسد.
وقَوْلهُ: {مِنْ عِبَادِكُمْ} عباد: جمع عبد، والمُراد الأرقاء لنا، وسماهم الله عبادًا لأنهم ذليلون لنا ونحن أسيادهم، ذليلون قدرًا وشرعًا، أما شرعًا فواضح أنَّه عبدي أبيعه وأشتريه وآمره وأنَّهاه، وقدرًا كما هو معْلُوم أن الْعَبِيد أو العباد الأرقاء يرون أنفسهم في قُصور عن أسيادهم وهَذ من نعمة الله أن الله أذلهم لأسيادهم وإلا لو أن العَبْد تمرد على سيده، كانوا يَقُولُونَ: الجمل إِذَا هاج والعبد إِذَا صاج والسيل إِذَا جاد، هَؤُلَاءِ لَيْسَ لأحد بهم قِبل.
قَوْلهُ: {وَإِمَائِكُمْ} جمع أَمَةٍ وهي الرقيقة المملوكة، وفي هَذَا إِشارَة إلى أن العَبْد لا يزوج نفسه؛ لقَوْلهُ:{وَأَنْكِحُوا} أي: زوجوا، هَذَا إِذَا كَانَ الخِطَاب موجهًا
للأسياد، أما إِذَا كَانَ الخِطَاب موجهًا لعموم النَّاس بمَعْنى أن الْإِنْسَان لا يترفع عن تزويج العَبْد والأَمة، لكن هَذَا بعيد، الظَّاهِر أن الخِطَاب هُنا للأسياد يعني زوجوا الصَّالحين للزواج في دينهم ودنياهم، زوجوهم من إماء وعبيد.
وفي هذه الآية إِشْكال من جهتين:
الجهة الأولى في قَوْلهُ: "عباد"، والجهة الثَّانية في قَوْلهُ:"إماء" فإن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَقُول: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي"
(1)
، وهنا قَالَ:{عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ"
(2)
، فهل بين الحديث وهَذهِ الآية تعارض أو لا؟
الجواب: الحقيقَة ظاهرهما التعارض، لكن التَّوفيق بينهما واضح، فالخِطَاب في قَوْلهُ:{عِبَادِكُمْ} من الله لِلإنْسان سمى رقيقه عبدًا له كما يصح أن أقول: هَذَا عبد فلان، وأضيفه إلى فلان، هذه أمته وما أشبه ذَلِك، لكن المحذور والذي وقع النَّهْي عنه إضافة السيد عُبُودِيَّة وإِمَائِيَّة هَؤُلَاءِ إلى نفسه هَذَا هو المحذور؛ لأنه يتضمَّن الغرور بنَفْسِه والتكبر على عبده والترفع علَيْه عنْدَما يَقُول: يا عبدي تعالَ، ويا أَمَتِي تعالي، لا شَك أنه يشعر بعظمة وعلو، والعبد يشعر أمامه بذل وخضوع، ولا يَنْبَغِي أن يَكُون الْأَمْر هكذا، ولهذَا جاء النَّهْي عنه.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الألفاظ من الآداب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظ العبد والأَمة والمولى، حديث رقم (2249)، عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، حديث رقم (900)؛ ومسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إِذَا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة، حديث رقم (442)، عن ابن عمر.
أما إِذَا كَانَ الْأَمْر بالعَكْسِ بأن جاءت الإضافة من غير السيِّد فهَذَا لا بأس به، كما أن العَبْد أيضًا منهي أنْ يقولَ: ربي لسيِّده، وليقل: مولاي، لكن لو أنك قلت: يا عبد كلم ربك، ادعُ ربك لي، هَذَا يجوز، نفس الشَّيء إِذَا خاطب العَبْد سيِّده بالرُبوبِيَّة نقول: هَذَا منهي عنه؛ لأَن السيِّد يتعاظَم والعبد يتواضَع، ولهذَا جاء في الحديث حديث جبريل في أمارات الساعة قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، فَقَالَ:"أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبّتهَا"
(1)
، هكذا ثبت بهَذَا اللَّفْظ المعْرُوف (رَبّتهَا) لكن في رِوايَة أُخْرَى:"أَنْ تَلِدَ الْأمَةُ رَبَّهَا"
(2)
.
فالحاصِل: أنَّه يَجب أن نعرف الفَرْق بين الإضافة إلى ضمير المتكلِّم والإضافة إلى غيره، فالإضافة إلى ضمير المتكلِّم منهي عنها، بالنِّسْبَةِ للسيد لا يَقُول: عبدي وأمتي، والعبد لا يَقُول: ربي، وأما الإضافة إلى غير ياء المتكلِّم فهَذه جائزة، والفَرْق بينهما من حيث المَعْنى واضح.
قَوْلهُ: {إِنْ يَكُونُوا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أَي: الْأَحْرَار {فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله} بِالتَّزوُّجِ {مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ} لِخَلْقِهِ {عَلِيمٌ} بِهِمْ] اهـ.
قَوْلهُ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} أي المتزوجين.
وقول المُفَسِّر: [أَي: الْأَحْرَار] لماذا خصها بالأحرار مع أنَّه في الآية يَقُول: {الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} ثم قال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} ؟
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بَيان الإيمان والْإِسْلَام والإحسان، حديث رقم (8)، عن عمر بن الخطاب.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بَيان الإيمان والْإِسْلَام والإحسان، حديث رقم (9)، عن أبي هريرة.
الجواب: لأَن الْعَبِيد والإماء لا يتصور منهم الغنى والفقر؛ لأنهم لا يملكون والدَّليل على أنهم لا يملكون قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَاله لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ"
(1)
، ماله للذي باعه لم يقل له، فالعبد لا يملك، فهو فقير لا يُمْكِن أن يصير غنيًّا، لكن قد يقال: إن الغني يَكُون لسيده.
* * *
(1)
أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، حديث رقم (2379)؛ ومسلم، كتاب البيوع، باب من باع نخلًا عليها ثمر، حديث رقم (1534)، عن ابن عمر.