الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (57)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 57]
* * *
قَوْلهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [بِالْفَوْقَانِيَّةِ وَالتَّحْتَانِيَّة وَالْفَاعِلُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم] اهـ.
أما قَوْلهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ} فهو خطاب على كلام المُفَسِّر للرَّسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يوجد احتمال ثانٍ، وهو أن يَكُون الخِطَاب لكل مَن يصح خطابه بمثل ذَلِك فيَكُون هَذَا أعم أي:{لَا يَحْسَبَنَّ} أيها المُخاطب، النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام وغيره، وأما على قِراءَة "لَا يَحسَبَنَّ"
(1)
فيقول المُفَسِّر أيضًا: إن الضَّمِير يَعود على الرَّسُول؛ يعني: لا يحسبن الرَّسُول الَّذينَ كَفَرُوا معجزين في الأَرْض.
ولكن عندي أن فيه احتمال أقرب، وهو: أن نجعل يحسبن فاعله {الَّذِينَ} "لَا يَحسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا"، وَيكُون المفعول الأوَّل لـ"يَحسَبَنَّ" محذوفًا، والتَّقدير: لا يحسبن الَّذينَ كَفَرُوا أنفسهم معجزين في الأَرْض، وَيكُون في هَذَا تهديد لهم، أما على ما ذهب إلَيْه المُفَسِّر رحمه الله فيَكُون المُراد بِذَلِك لَيْسَ تهديدَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّار، ولكن المَقْصُود بِذَلِك تثبيت الرَّسُول عليه الصلاة والسلام وطمأنته وتسليته بأن هَؤُلَاءِ الكافرين
(1)
المبسوط في القراءات العشر (ص: 321).
لم يعجزوا الله سبحانه وتعالى، ولكنه يملي لهم وقد يؤخر عقابهم.
وقَوْلهُ: {مُعْجِزِينَ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [لَنَا] اهـ.
المعجز: هو الَّذِي يفعل ما يُعجز غيره، فهل الَّذينَ كَفَرُوا معجزين لله، أي: فاعلين ما يَعْجَز الله عنه؟
الجواب: لا، قَالَ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44].
قَوْلهُ: {فِي الْأَرْضِ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بِأَنْ يَفُوتُونَا] اهـ.
هَذَا تفسير الأعجاز. يعني: نعجز عنهم، فلا ندركهم بل يفوتوننا.
قَوْلهُ: {وَمَأْوَاهُمُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أي: مرجعهم] اهـ. الَّذِي يأوون إلَيْه النَّار، وإنَّما قَالَ:{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} ؛ لأَن هَذَا هو الواقِع، إِذْ أن هَذِهِ الحياة الدُّنْيَا سوف تنقضي والمرجع الَّذِي لَيْسَ بعده شَيْء آخر هو ما يؤول إلَيْه المُؤْمِن والكافر يوم القِيامَة، إما إلى نار وإما إلى جنة، هَؤُلَاءِ {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} - والعِيَاذ باللهِ - مرجعهم.
وقَوْلهُ: {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أي: المَرْجِع هِيَ] اهـ. (اللَّام) واقعة في جواب القسم؛ أي: موطئة للقسم، يعني: والله لبئس المصير، و (بئس) كما هو معْرُوف فعل ذم أو فعل جامد لإنشاء الذم، و {الْمَصِيرُ} فاعله لكن أين المخصوص؟ لأَن (بِئس) و (نِعم) يحتاجان إلى فاعل وإلى مخصوص، الفاعل في هَذِهِ الآية هو المصير، المخصوص محذوف، والتَّقدير: ولبئس هي المصير، ولا يصِح أن
نقول: مستتر، لأنَّنا لو قُلْنا: مستتر صَارَ هو الفاعل، بل نقول: محذوف، فإما أن نقول: ولبئس المصير النَّار، أو: ولبئس المصير هي.
مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكَرِيمَةِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: تمام قدرة الله عز وجل، وأن الكافرين مهما بلغوا من القدرة فلَيْسَوا بمعجزين الله، وكون الله تَعَالَى يُملي لهم لا يدُلّ على عجزه عنهم، بل يدُلّ على حكمته في تأخير الْعَذَاب عنهم.
الفَائِدة الثَّانية: أن أهل النَّار مُخَلَّدون فيها؛ لقَوْله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} ، ولو لم يُخلَّدوا لكان مأواهم ما بعد النَّار، لأَن المأوى معناه المرجع الأَخِير، وهَذَا دَليل على أن النَّار دائمة لهم وأنهم مخلدون فيها، وقد ثبت في القُرْآن الكَرِيم تأبيد أهل النَّار في ثلاث آيات من القُرْآن، هي: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168، 169]؛ هَذَا في سورة النِّساء، أما في سورة الأحزاب فقَوْله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64، 65]، وفي سورة الجن قَوْله تَعَالَى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]. فهَذه ثلاث آيات صريحة تنص على تأبيد خلودهم.
وبهَذَا يُعرف ضعف قَوْل من قَالَ من أهْل العِلْم: إنه لا تأبيد لأهل النَّار، واشتبه علَيْه قَوْلهُ:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107]، ولم يشتبه علَيْه قَوْله تَعَالَى في أهل الجَنَّة:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]؛ لأَنَّه قَالَ:
{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، وقال في أهل النَّار:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
لكن لَيْسَ معنى قَوْلهُ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أنَّه سيرفع عنهم هَذَا الْعَذَاب، بل لما كَانَ هَذَا انتقام منه وهَذَا العَمَل لَيْسَ من الْأَمْر الَّذِي يختاره الْإِنْسَان حَتَّى تُذكَرُ منة الله علَيْه باستمراره، قَالَ في هَؤُلَاءِ:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فلا يمنعه شَيْء أن يفعل ما يُرِيد، وقال في أهل الجنَّة:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
وأما قَوْله تَعَالَى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} ، فيُقال: الآيَة لَيْسَت صريحة، فقَوْلهُ:{أَحْقَابًا} متعَلِّقة بما بعدها، يعني:{أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ} [النبأ: 23، 24]، وهَذَا ضعيف عندي، أو يُقال:{أَحْقَابًا} أي: مددًا طويلة، وهَذَا لا يُنافي التَّابيد؛ لأَن التَّأبيد لا ينقص عن الأحقاب، فالتَّابيد أحقاب، مهما طالت، أي: أحقاب طويلة. والأحقاب: جمع (حُقب)، وهي المدة من السنين، يعني: أحقابًا أحقابًا أحقابًا متوالية، إلى ما لا نهاية له. فلو قُلْنا مثلًا: الحقب ثمانون سنة، وقُلْنا: الأحقاب يعني مددًا طويلة، كل حُقب ثمانون، ثمانون، إلى ما لا نهاية له، ونعم، لو قَالَ:"أحقابًا عددها كذا" كَانَ له وجه، فحتى المدة المؤبدة هي أحقاب في الحَقيقَة.
ومهما كَانَ الْأَمْر ومهما فهِمنا من كَلِمة (أحقاب) ومن التَّحقيب، فإنها لا تُعارِض الأدلَّة الصَّحيحة في التأبيد.
الفَائِدة الثَّالِثَة: عظم قبح النَّار وشُؤمها، لأَن الله تَعَالَى وصفها بهَذَا الوصف وذمها بقَوْلهُ:{وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
واعلم أن ما ذمَّه الله عز وجل أو ما مدحه فإنَّه أمر عَظِيم، فالعَظِيم لا يرى الشَّيء العَظِيم إلَّا وهو صحيح أنَّه عَظِيم، لكن غير العَظِيم قد يرى ما لَيْسَ عَظِيمًا عَظِيمًا،
أما العَظِيم فإنَّه لا يعظِّم إلَّا ما يستحق التَّعظيم، ولا يمدح إلَّا ما هو عَظِيم جدًّا، ولا يذمُّ إلَّا ما هو مذموم وذمه شديد.
لو قَالَ قَائِلٌ؛ في وصف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللهُ تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، هل هَذَا العظم بالنّسْبَةِ لأخلاق البشر أو ماذا؟
الجواب: الرَّسُول عليه الصلاة والسلام عَظِيم بالنِّسْبَةِ لأخلاق البشر، لكن هَذَا العِظَم عظم إلى الحَدّ الَّذِي يصل إلَيْه البشر، لكن ربما أنا أقول: هَذَا الرَّجل على خلق عَظِيم، لأني جلست معه مدة قليلة ووجدت منه أخلاقًا فاضلة ولَيْسَ الحال كَذلِكَ، أما إِذَا قَالَ ذَلِك إِنْسَان عَظِيم يعرف الْأُمُور ويقدر الْأُمُور عرفنا عظمه، وأما عظم ما في الجنَّة فإن الجنَّة فيها ما لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سِمِعَتْ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بشر، وما ذكر الله من الجنَّة والنَّار فلَيْسَ مما نتصوره بل أعظم وأعظم، لأَن فيها شَيْء لا ندركه في الدُّنْيَا، ولِهَذَا هي من الْأُمُور الَّتِي لا يعلمها إلَّا الله، أي: حقائق ما في الجنَّة وما في النَّار من الْأُمُور الَّتِي لا يعلمها إلَّا الله.
ولِهَذَا حسب مفهومِنا أن الْإِنْسَان إِذَا أُدخل في النَّار يحترق ويموت، لكن في نار الْآخِرَة لا، يذوق الْعَذَاب ويتألم، وقول من قَالَ: إنهم - والعِيَاذ باللهِ - لا يدركون حرّها ويتأقلمون معها، هَذَا قَوْل باطل بلا شَك، ولِهَذَا يَقُول الله تعالى:{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] فدَلَّ ذَلِك على أنهم يحسون ويتألمون.
* * *