الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (29)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29].
* * *
قَال المُفسِّرُ رحمه الله: [{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ} أَي مَنْفَعَة {لَكُمْ} بِاسْتِكْنَانٍ وَغَير كَبُيُوتِ الرُّبُط وَالْخَانَات المسَبَّلَة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تُظْهِرُونَ {وَمَا تَكْتُمُونَ} تُخْفُونَ فِي دُخُول غَيْر بُيُوتكُمْ مِنْ قَصْد صَلَاح أَوْ غَيْره وَسَيَأْتِي أَنَّهُمْ إذَا دَخَلُوا بُيُوتهمْ يُسَلِّمُونَ عَلَى أنفُسهمْ].
قوْلُه تَعالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} والجُناح الإِثم، فيُستفَاد منْه أن الأوَامِر السَّابقة للوُجوب، لأنَّها هِي الَّتي يأْثَم الإِنْسان بمخالَفَتِها.
قوْلُه تَعالَى: {أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} ، وقَال المُفَسِّر:[أي منفعة]، والصَّواب أن المراد هنا بالمتَاع أعمُّ منَ المنفَعة، بل هي المنافِع والأعْيَان، ككَوْن هَذا البَيْت مخزنًا فِيه أموالٌ، فهَذا أيضًا ليْس عليْكَ جُناحٌ أن تدْخُلَه بدُون اسْتِئْذانٍ، وإن كان البَيْت لغَيْرك، لأنَّ وُجودَ متاعِك فِيه بإذْن صاحب البَيْت فهَذا إذنٌ لك في الدُّخول، وفي هَذِه الحالِ لا يظْهر أنَّه يجب لأنَّ البَيْتَ غيرُ مأذونٍ.
فالبُيوت على ثلاثَة أقسامٍ:
القِسم الأوَّل: بُيوت مسكُونَةٌ فِيها أهلُها، فالواجِب فيها الاسْتِئْذان والسَّلام.
القسْم الثَّاني: بُيوت ليْس فيها أحدٌ، لكنَّها مسكُونَةٌ، فهَذِه أيضًا لا بُدَّ فيها منَ الاسْتِئْذان، ولا ندخُلُها حتَّى يُؤذَن لنا.
القسْم الثَّالث: بُيوت غيرُ مسكونَةٍ، فهَذِه إن كانَ فِيها متاعٌ لَنا فلَيْس علَيْنا جُناحٌ فِي دُخولهِا، وظاهِرُه إنْ لم يكُنْ لَنا فِيها متَاعٌ فإنَّه لا يَجوزُ دُخولهُا؛ والسَّبب أنَّها وإنْ كانت غيرَ مسكُونَةٍ لو دخلْنَاها وليْس لَنا فِيها متَاعٌ لأوْجَب ذَلِك التُّهمَة من جهَةٍ، ويُوجب أيضًا المخاصَمة مَع صاحِبها، إذ البَيْتُ لهُ وليْسَ لغيرِه دخولُه أو التَّصرُّف فيه بدُون إذْن صاحِبِه.
قوْلُه تَعالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} ، وقد قَال في الآيَة قبلها:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، و {يَعْلَمُ} فعل، أمَّا {عَلِيمٌ} فاسْمٌ وهِي باعتِبَار وصفِ اللهِ بالعِلْم، فالعِلْم صفة أزليَّةٌ أبديَّةٌ ولَيْست بحادثَةٍ، فعِلْم الله عز وجل لا يتجدَّد، فهو كَان ولم يزَلْ عالمًا بما كَان ومَا هُو كائِنٌ وما سيَكُون.
أمَّا قوْله {يَعْلَمُ} فقد قَال العُلَماء: إن الجمْلَةَ الفعليَّةَ تدُلُّ على التَّجدِيد والحدُوث، وحينَئذٍ يشكُل عليْنا هَذا؛ لأنَّ القَاعِدَة عندَنا أنَّ علْمَ الله أزليٌّ أبديٌّ.
فنَقُول: إن المرادَ هُنا ربْطُ عِلْم الله بالعَمل، وربْطُ علمِه تَعالَى بالعَمَل يقَع كَثيرًا في القُرْآن، كما في قوْلِه تَعالَى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]، وقوْله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وما أشْبه ذَلِك.
فهَذا يدُلّ على أنَّ علْم الله تَعالَى مقْرون بالعَمل، وليس قرْنه بالعَمَل مِن أجل أنَّه تجدَّد بعْد وقُوع العَمل، لكِنْ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يعلَمُ بالشَّيْء قبْل وجودِه أنَّه سيَقع، ويعْلَم بالشَّيْء بعْدَ وُجودِه أنَّه قد وَقع.
فالعِلْم المقارِن غيْرُ العِلْم السَّابق، فالعِلْم المقارِن هو الَّذي يترتَّب علَيْه الجزاء، والعِلْم السَّابق لا يترتَّب علَيْه جزاء؛ ولهَذا قَال:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} ، فهَذا منَ العِلْم المقارِن الَّذي يترتب علَيْه الجزَاء بالإثَابَةِ على الموافَقة، والعُقوبَة على المخالَفة.
فقوْله هنا: {يَعْلَمُ} قُرن للعِلْم بما يُبديه الإِنْسانُ ويكْتُمه، يدُلّ على أنَّه العِلْم الَّذي يترتَّب علَيْه الجزاء؛ ولهَذا قَال:[{مَا تُبْدُونَ} تُظْهِرُونَ {وَمَا تَكْتُمُونَ} تُخْفُونَ فِي دُخُول غَيْر بُيُوتكُمْ مِنْ قَصْدِ صَلَاح أَوْ غَيْره]، وهَذا التَّفسير وإِنْ كان موافِقًا للسّياق، لكنَّه تقييدٌ للَّفظ، بيْنَما العِبْرة بالعُمومِ، فكلُّ مَا نُبديه من قوْلٍ وفِعْل، وكلُّ ما نُخفِيه من قوْل وفِعْل فإنَّ اللهَ تَعالَى عالِمٌ به، والغَرضُ مِن بَيان عِلْم اللهِ بذَلِك هو التَّحذِير منَ المخالَفَة والتَّرغِيب في الموافَقَة.
أمَّا كوْنُه تحذيرًا منَ المخالَفَة فظاهِرٌ، وأمَّا كوْنُه ترغيبًا في الموافَقَةِ فذَلِك لأنَّني لو علِمْتُ أنَّ ما عمِلْتُ من خيرٍ فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعلَمُه وسيُجازِيني علَيْه فإنِّي أنشَط على العَمل، وأقُومُ به.
* * *